زياد خداش
(فلسطين)
 

لو طلبت تاكسي أجرة من أي مكان في رام الله، او من طولكرم، او مجدل شمس، او من حيفا او الناصرة او اية مدينة فلسطينية اخرى، وقلت لسائقه بصوتك المتعب المجوف، بعد ان يسألك الى اين يا استاذ: الى محمود، فسيأتي بك الى قبر محمود درويش فوراً، هذا ما حدث مع الشاعر مريد البرغوثي، ليس هذا فقط ما سيحدث، سيوصلك السائق الى طرف التلة وتفاجأ به ينزل من السيارة ويمشي معك دون أي كلام، يقف بجانبك حزينا امام محمود ومتمتماً بالحسرة وبالفاتحة. هذا ما حدث معي، وحين تلحق به لتناوله اجرته معتذراً للنسيان، يدفع يدك بهدوء حزين قائلاً:
“له له يا استاذ، الله يسامحك”. هذا ما حدث مع صديقي مؤيد وزوجته واطفاله الاربعة القادمين من القدس، وعليك أن لا تفاجأ حين تفاجأ بعجوز ثمانينية ترتدي ثوباً ريفياً تزحف الى تلة محمود لاهثة، وتقف امام قبره مع حفيدتها لتقرأ الفاتحة، وتنظر الى محمود من بين فجوات لهاثها المتسارع، وحين تسألها مغالباً ارتعاشك:
هل تعرفين محمود يا أماه؟
حاول أن تتماسك وتمنع دفقة ساخنة من دمع ملح حين تجيبك:
 “أنا ما بعرفه يمّا، بس ابن ابني محمد اللي استشهد في الانتفاضة هاي قبل ست اسنين، أبو البنت اللي معي هاي( اشارت الى البنت) كان يحبه كثير كثير، وكان دائما يردد قصايده، انا جيت ازور حبيب ابني، الله يرحمهم الاثنين”.

 لا مجال للاستغراب امام حكايات ومشاعر الناس هناك، كل شيء ممكن الحدوث على تلة الحبيب النائم. في جوف ليل امس، وانا اخطو باتجاه محمود، اول شارع قصر الثقافة الموصل الى تلته، رأيت التلة كتاباً ضخماً، مفتوحاً، وملون الصفحات، تتنزه في سطورها بمرح غامض اشجار وحجارة وناس ومطر ومدن واطفال ومدارس وامهات وعشاق وعشيقات وكتب وشهداء وملائكة وعصور، وقصص، ولوحات فنية، واصدقاء وفلاسفة وقبور. ولم تنقشع الرؤيا إلا على صوت سيارة صديق يقترح توصيلي الى هناك. اشياء غريبة تحدث هناك، الاستغراب يزول فوراً حين الوصول، فهناك كل شيء يتم تصديقه بعفوية طاغية، يصبح كل شيء مفهوماً وعادياً. فمثلاً نحن لا نتساءل مندهشين:

أين ذهب فنجان القهوة الايطالية الذي وضعناه، ليلة امس، بجانب وجهه؟ واين اختفت رسالة الحب التي وضعتها بنت فحماوية صغيرة عند قدميه؟ لأننا نعرف جيداً أن محمود شرب ذلك الفنجان، وقرأ تلك الرسالة. حين نغادر التلة نستغرب مما يحدث، كأن منطق حكايات التلة اللامنطقي يصبح منطقياً جداً حين نكون هناك. ويصبح لا منطقياً حين نغادر. للتلة منطقها ولغتها وحكاياتها وناموسها الخاص. كل شيء مفتوح للاحتمالات والقصص والمشاعر، من يصدق الكائنات التي تلبس هيئة شجر التين المنغولي الذي يحيط بمحمود؟ ألسن هن الجليليات الأمهات الطيبات والعاشقات المجنونات، يحرسن هواء المكان من مبحوحي الأصوات، ومن ثرثرة أحباب النص الصارخ ونمل عبيد البلاغة؟ على تلة الحبيب صباحاً جداً، ما الذي يمكن أن يكوّنه الضباب الخفيف غير نص أخير فكّر محمود بكتابته، لكنه أجّله انشغالاً بمرضه وسفره. كان محمود يسمي الضباب( الظلام الأبيض)، كان مغرماً به وفي تفكيكه وصحبته وفهمه وتوظيفه في نصوصه. ينام الظلام الأبيض على كتف محمود الآن ممتناً وحانياً ومودعاً سره، وكاشفاً خلاصته، وذارفاً أمانيه وأشواقه، ومشهراً يأسه. “ آه لو أجّلت موتك قليلاً” يقول الظلام الابيض ملتاعاً. “بالزنبق امتلأ الهواء، كأن موسيقى ستصدح”، في المقهى الاخير ما زلت اذكر يديه الناعمتين اللتين تغار منهما ايدي البنات، قالت لي صديقة: “كنت أخبئ يديّ أمامه خجلاً”، ووجهه الطفولي المليء بالهواء وأعياد الميلاد وهو يغني هذا السطر الساحر من نص سيلقيه غداً في آخر امسياته، بقصر الثقافة، يدا محمود هما اللتان غنتا هذا السطر، غنتاه بصوت يوشك ان يصبح بكاء او رقصاً او صلاة او طيرانا. كنت اتبادل النظر الخاطف مع صديقي ومحمود يستمر في غناء السطر: “ بالزنبق امتلأ الهواء كأن موسيقى ستصدح”. الجالسون خلفنا انتبهوا، أوه ما أجمل هذا المشهد: محمود درويش يغني، ارى يديه تنفصلان عنه، تمشيان بعيداً عنه، تلمسان ذرى الشجر واطراف البحيرة وجدائل الصبايا المفعمات بالشغف المحير، تمسحان عن كل شيء غباره واكاذيبه ومرضه وتصنعان بكارته، وتفجران حقيقته وطزاجته. يدان من زنبق تصبحان اغنيتين للزنبق او لحنين للوجود، او هواء مفاجئاً لسجين او ميت، او طفلتين توشكان على قطف زنبقتين من حديقة مجاورة لمعتقل ابيهما، او مدرستين صغيرتين تخرجان بكامل التلاميذ والتلميذات وبلا كتب او واجبات في ربيع رائع في نزهة الى جبل من قصائد - زنابق. يا محمود، يا عيد الزنابق: بك امتلأ هواء بلادي، كأن بلادي ستنتصر.

عن (كيكا)
30-9-2008