فيلٌ في قرية النمل
عندما أكبر، أريد أن أصبح فيلا. أريد أن يصير عندي أنفٌ طويل، طويلٌ جدا، أهدم به منزل البندري وكل صديقاتها. البندري ستصبح نملة حين تكبر. النملة، تقول البندري، لديها صديقات وأقارب كثيرون، يعملون أشياء كثيرة معًا. أنا ليس لدي صديقات. عيناي صغيرتان، وكل يومٍ تقول البندري:
-يا مرام، أين أنفك؟
فتبدأ البنات، جميعهن، بالكركرة والزحف على الأرض بحثًا عن أنفي. لا أحد يحبني. كنت أريد أن أصبح نملة، أيضًا. المعلمة قالت أن النمل يعمل كثيرًا، وفي وقت الشتاء يَبْقى في منزله تحت الأرض ليأكل ما جمعه. النمل يستطيع أن يختبئ في الثياب وداخل الدواليب، ويدغدغ الأطفال بعض المرّات. كما يقول النمل أسرارًا كثيرة دون أن يسمعه الناس. حين يغضب النمل، بوسعه أن يقرص الأشرار فيصيروا كالبالون الأحمر. لكن النمل يعيش في مجموعات ضخمة، وأنا أعيش مع راكان وأمي.
عندما كبر أبي، أصبح ثورًا. يقول راكان -حين تكون أمي مكشرة- بأنه سيصبح ثورًا مثل أبي، وفي الأوقات الأخرى يقول بأنه سيصبح مثل أبي: كاتبًا بطلا.
هل كان أبي ثورًا، أم كاتبًا، أم بطلا!؟
لا أدري. كنتُ أرضع من ثدي أمي، على الدوام، في ذلك الوقت، وأملأ الحفاظ بكل تلك الأشياء التي يفعلها الصغار. أمي، كلما سألتها، ضحكت ثم بكت ثم زعقت على راكان الذي يُبقي حجرته مغلقة ويخرج مع أصدقائه.
راكان كبير، يدرس في المتوسطة، ويعرف أكثر من أمي. ذات مرة، بينما كنت أبحث عن مجلات "ميكي" أسفل فراشه، عثرت على علبة فيها عيدان طرية ذات رائحة غريبة.
- لا، ليست حلوى!
قال لي وهو غاضبٌ من تلصصي على مخبأ كُتُبه السريّ. و "نعم!" سيجيبني على سؤالي القديم: ماذا أصبح أبي؟
أجلسني على الفراش. وسحب فوطة حمراء عن ظهر الكرسيّ.
- اسمعي، كان أبونا طائرا، يحب السماء والماء والأراضي الخضراء. لا يتوقف عن الطيران أبدا. عثر على أمنا في مزرعة كالجنّة فتزوجها.
عندها،
تنفس بصوت عالٍ.
- فقد أجنحته، وجاء بها إلى هنا: وطنه الافتراضي!
قلب شفته مثل الأطفال الذين سيبكون.
- لم يجد غير بيوت مغلقة، وإشارات صفراء، ورمل أحمر. راح يكتب، ويكتب، يهاجم الأقفال، والإشارات، وينكش الرمل. أصبح ثورا...
دوّر فوطته الحمراء في الهواء، هاتفًا: "إل تورّو، إل تورّو!" ثم سكن فجأة:
- كل ثورٍ عنده طائرٌ في قلبه.
- كيف؟
قلت له، متضايقة وحزينة، فربّت على كتفي وطلب مِنّي أن أحفظ كلامه جيّدًا. "عندما نكبر،" قال، "نفهم الكثير".
أمي لا تفهم! هي أخبرتني ذلك بنفسها. قالت:
- لقد اختفى، المتوحشون أخذوه،..موتوه، سجنوه..، نسوه..، لا أفهم ولا أعرف ولم يعد يهم...
تخيط أمي الثياب طيلة النهار. وفي المساء تغطيني وتنام. راكان قليلا ما يفتح باب حجرته. صديقات البندري يجتمعن في الفسحة، على العشب، ليتأملن الحشرات ويخططن لما سيفعلنه في المستقبل حين يصبحن نمالا. معلمتي تخفي عينيها بالنظارة عندما لا أجد شريكة في حصة التمارين الرياضية، أو أثناء قيام الجميع برسم صور حلوة لأنهم تقاسموا كل الألوان -عدا الأسود- فيما بينهم. في محل القطط والعصافير، يدير البائع رأسه كلما أتيت لأنه هو أيضًا لا يحبني. هناك أطفال وأمهات وآباء كثيرون، يحبهم البائع. أناس عندهم أنوف طويلة على وجوههم ولهم عيونٌ ليست مثل عيني، ينظرون بها إلى بعضهم البعض، فيصبحوا جميلين وأصدقاء. أنا سأكبر بسرعة، وأصبح فيلا. فيلٌ عملاق له بشرة رصاصية متينة، وعينان مخيفتان، وأنف طويل. سأعثر على أبي، وأطلق ذلك الصوت الذي يشبه صوت المزمار. سأهدم كل منازل النمل والناس. النمال الشريرة سأدعسها بأقدامي الأربعة، وبأنفي سأنشرها في الهواء.
*****
صافرة الإنذار
خُلِعَتْ ذراعا "لولو" عن بوابة المنزل بعد أن صلب أبوها وأخوها وابن الجيران عامودها على ظهر المقعد البارد للحافلة. في يديها عشرة أعوام نافرة، وفي روحها يهيم عام جديد لم يجد إصبعا يتنفس تحت إظفاره. ولِدت على حافّة (صافرة)، هكذا أخبرها أبوها وهو يرطب ذكريات أزمة الخليج بالضحك مهدئا روعها. أما علاء، فعلى مدى يومي عطلة آخر الأسبوع راح يهيج هواجسها بعويل زعم أنه صوت الحرب. في الليل نتأت خيالات سيارات الإسعاف ودوريات الشرطة وقنابل تشبه مفرقعات العيد -إلا في أنها تصبغ الأرض باللون الأحمر-، ومزقت نومها الكوابيس...
ما هي صافرة الإنذار يا أبله؟
يسطع وجه صديقتها، الجريئة... والمديرة، كما لو أنها تثاءبت لا أعلنت الخبر الأشد صعقا في حياتهن، تنقل وزنها للفخذ الآخر...
إشارة نعرف من خلالها أن هناك قنبلة أو صاروخا يقترب..فنختبئ...
أين سنختبئ يا أبله؟
قلت لكنّ، الصافرة تجريبية!! يعني، فقط، سنمتحن أنها تعمل..
وتسللت الجرأة إلى لولو...
لماذا تمتحنونها يا أبله؟
ولما لم تجب، تناسل السؤال..
نعم لماذا..
ما هو السبب!
لماذا يا أبله؟
احتد صوتها..
قلت لكن لنمتحن أنها تعمل!!!
يعني هناك حرب يا أبله؟
طالبة جديدة، شقراء الشعر، سألت.
لا أحد يعرف!
قفزت فتاة صامتة أغلب الوقت.
بلى..هناك حرب! أنا رأيت في الأخبار أنه ستحصل حرب.
ثم عادت لزمّ شفتيها.
ربما...
طيب، وأين سنختبئ يا أبله لو حصل؟
لا يوجد مكان حتى الآن...
ارتفعت درجة القلق..
لكن يا أبله نموت...
لا، لن نموت إن شاء الله. ربي سيحمينا. يجب أن نتوكل دائما على الله.
أبله صالحة علمتنا أننا حتى عندما نتوكل يجب أن نفعل شيئا..
صحيح يا أبله! هذا تواكل، هكذا قالت!!
تقاربت نظراتها مع نظرات الأستاذة في زاوية الصف، واشتدّ وتر شفتيها..
لا نستطيع أن نفعل شيئا لأننا لا نملك مالا كافيا للبناء.
أختي الكبرى موظفة، وعندها (فلوس) كثيرة..
بحماس نهضت فتاة..
أنا، نفسي، عندي حصالة ممتلئة..
أنا أيضا..
وتكاثرت الأصوات حتى صرخت أستاذة الرياضيات بحدة..
يكفي يا بنات! المديرة يجب أن تمر على باقي الصفوف لتعلمها بالخبر..
إلى الدرس يا مهذّبات..
ابتسمت المديرة، ثم توارت كتلتها وراء الباب.
يعني، لن تكفي (فلوسنا) يا أبله؟
طأطأت الأفواه كلامها..
لا...
وقبل أن تتمرغ الوجوه بالشحوب هتفت الجريئة..
لا تخفن يا بنات! نحن بلد غني جدا. أصلا كل بلاد العالم تحتاج لنا، وتدفع لنا المال لكي تشتري البترول. البترول هو الذي يجعل السيارات والشاحنات والطائرات تعمل. بل وأشياء كثيرة تصنع منه. أنا رحت لمعرض أرامكو، في الظهران، مع أبي. أصلا نحن أغنى ناس في العالم، ونستطيع أن نبني مخابئ لكلللل البلاد... كلللللها...
وسرت في حجرة الصفّ ابتسامة، سريان الخدر الدافئ اللذيذ...
...
المطبات كثيرة هذا الصباح الشرير، تذمرت لولو في قلق... زاد عمودها التصاقا بموضعه من الحافلة الضخمة، وأخذت تعد الخطوط التي في راحة يدها. بكل الطرق الممكنة حاولت أن لا تنظر إلى الشارع والمناظر اليومية المعتادة. العصافير الصغيرة ستبدو مضطربة اليوم، ولا شك. أمهاتها التي تجوب السماء طلبا للطعام، كل نهار، بالتأكيد قد سمعت عن صافرة الإنذار التجريبية والحرب الوشيكة. وإذا كانت القنابل ستسقط من السماء، هكذا حدثت لولو نفسها، فإن العصافير وصغارها ستكون أول من يموت. لم تستطع أن تنظر إلى الأعشاش والرعب يحفر في دماغها كل هذه الصور الغريبة. شجر عاري. نخل متكسر. قشور بيضاء تنضح صفارا ممزوجا بدماء أجنة لم تكتمل. مَدْرسة مهشمة الزجاج، مخلوعة السقف، تتفسخ عن رؤوس هائشة الشعر لطالبات انبطحن كالأصنام بلا حراك...
وخطر على بالها الجربوع المنتصب على أربع مناورا، في الصحراء، صبية عابثين. تخيلت نفسها وصديقاتها وقد جمدن على الأرض بأطراف أربعة وضفائر معقوفة للأعلى. هل سيفشلن، تساءلت، كما يفشل الجربوع في التماهي مع كثبان الرمل -جمادات الصفّ في هذه الحالة- فتصطادهنّ الصواريخ واحدة بعد أخرى؟ أم أنهن، يا ترى، سيكتسبن من مقعد مقلوب وجدار ساقط ولحم عصفور منقوع بالدم حيلة خادعة تنطلي على الحرب فتسحب قنابلها راضية قنوع؟
...
في الساعة الثانية عشرة ظهرا، ستصيح جميع صافرات المملكة.
هكذا ضبطت ساعتها، ولم تتردد في إبقاء خاصية الصوت تعمل. مسها في العميق شعور بهامشية كل ما سيجري قبل الثانية عشرة ظهرا. من ضمنه، أن تعنفها أستاذة لأن ساعتها تصدر أصواتا موسيقية أثناء الدرس. في الفسحة لم تشارك صديقاتها الحوار الساخن. فكرت في أنها لم تجلس مع نفسها من قبل، وقد لا تواتيها فرصة من بعد.
بعد؟
وقررت أنها ليست تصدق أباها ولا أخاها ولا ابن الجيران، ولا حتى المديرة بنظارتها السميكة ورأسها الكبير، في زعمهم أن الصفارة تجريبية فقط، وأن شيئا لن يحدث اليوم. إن أمرا ستجتمع عليه كل قرية وكل مدينة في البلاد، كما سمِعَتْ، وتضبط عليه ساعتها، يستحيل أن يكون عاديا. إن الصلاة، التي هي أهم وأعظم عبادة، تقيمها المدن والقرى في أوقات متفرقة. بل إن المسجد في الحارة المجاورة، حيث خالتها، كان لا يقيم المغرِب في رمضان إلا ووالد لولو وأخاها قد عادا من مسجدهم وتربعا تحت أبخرة الحساء والدسم... فماذا إذا، غير خطير وقاصم، ستجتمع عليه الأشتات في لحظة مشتركة واحدة؟
لقد قرأت في وجه البواب، عمّ طه، شيئا جديدا. على خلاف عادته وقف بباب حافلتهم اليوم، وساعدها وزميلاتها على الهبوط.
ماذا يجري يا جماعة!؟
بمرحه المعهود راح يربت على رؤوسهن.
اضحكن لنهاركن الحالي. اليوم معلوم، والغد مجهول..
اليوم ستصيح صافرات الإنذار..
أجابته فتاة..
وإذا؟ أنتن شجاعات والخائفة تأتي إلى حصن عمو طه الكبييييييير!!
وقهقه عاليا وهو يشير إلى غرفة من المعدن المتصدع الجوانب.
يا عمّي...
بتردد زحفت لولو إلى الحوار..
هل هناك مخبأ سريّ في المدرسة؟
مدرستكم!؟ هههههههههههههههه. لا!
ولكنهم سيبنون يا عمّي، صح؟
حكّ ذقنه...
هل طلبت منك المديرة أن تكلم العُمّال ليبنوه؟؟
لا، لا!! لم تطلب مني شيئا كهذا. مستحيل أن تطلب!! الترميم اللازم للمدرسة لم تستطع أن تدبر له مالا فأوقِف، فكيف ببناء جديد؟ ثم..أنا نفسي..أرأيتن عمو المسكين..لم يستلم راتبه منذ أشهر!!
لكنهم سيبنون!! أنا متأكدة...
بلهجة أقرب إلى الابتهال هتفت لولو...
نعم!
ناصرتها صديقتها...
صديقتنا قالت أننا عندنا مالٌ كثير..ونستطيع أن نبني مخابئ لكل قرية وكل مدينة..وكل أحد..وكللل شيء!!
لا أحد يملك أن يبني مخبأ للمستقبل..لم يملك أحد من قبل..ولن!
ودسّ بصره في وفود الحافلات المتلاحقة..
للمال شأن..وللمستقبل شؤون أخرى...
ثم ابتعد طاعنا شفتيه بسيجارة.
...
تيت..
اجتاح وعيها تيار كهربائي..
تيت..تيت..تيت...
أصمتت ساعتها، ورفعت رأسها لتجد الصف قد اعترته قشعريرة رهيبة.
ساعة الحائط تشير إلى الثانية عشرة إلا..ثلاث دقائق..
ساعتي متقدمة، قالت لولو، مزدردة ما تخثر في حلقومها من النبض.
الثانية عشرة إلا دقيقتين.
تك..تك..
ثمانية وخمسون (تكّة) أخرى...
ت..ك..ت..ك..
ومائة وثمانية عشر نبضا آخر..
الثانية عشرة....تماما!
صــــَرَخ الـ...................صمت.
صمت..صمت.. وثمانية وخمسون صمتا آخر...
الثانية عشرة ودقيقة..
ودقيقتان..
و ثلاث..
و...
ربع ساعة كاملة.
تطاولت الأعناق خارج حجرات الدرس، وتعانقت الأسئلة في الممرات.
هل الساعات متقدمة، أم أن النذير هو الذي تأخر؟
أجمعت الساعات على أنها التزمت الدقة، في حين أخلف الصوت موعده..بمسافة.
ربع ساعة أخرى، ثم دبت في الممر قدما المديرة وأعلنت للملأ أن صافرة الإنذار التي في الجوار لم تعمل كما يبدو.. و...
وانفجرت حناجر الطالبات بصياح يجرف في اندفاعه دوي إسعاف، وعويل دورية للشرطة، ونواح أطفال ومنكوبين. اندلعن من الحجرات بهستريا ما بعد الخوف...
مفلتة حبل الترقب الأخير، تبعتهن لولو فوق موجة عنيفة من الضحك...
أبله..أبله..
ركضت وراء المديرة المُدبِرة.
إذا حلت الحرب، ولم تصنعوا لنا مخابئ، لماذا لا نصبح صافرات إنذار؟
تبعتها أخرى..
علِّقونا على الأسطح. هناك، قالت أمي، موضع الصافرات!!
تبعتهما أخريات...
ويييييييييييو..وييييييييييييو..سنصيح جميعا..
اجتمعن في حلقة واسعة، واختفت المديرة وراء المنعطف.
سنظهر في كل الصحف..وكل المجلات..
البنات اللاتي أنذرن المدينة..سيقولون!!
البطلات اللاتي ضحّين من أجل الوطن!!!
سنموت لأجله..
واااااااااااااااااااو!!
لأجل المستقبل سنموت...
وظنت لولو أنها سمعت قهقهة العمّ طه...
بل نحن سنكون المستقبل...
تضاحكن...
وفي المدى البعيد، رأت لولو أنها حين فتحت حنجرتها للسماء، لتصيح، سقط في فمها عصفور أحمر.
*****
الأسد
وقفت ريما بجانب سارة. على بُعدِ مترين من الطفلتين، كان الأسد جالسا خارج عرينه الاصطناعي.
ريما، انظري. الأسد يراقبك!
مطّت ريما شفتيها، وانحنت على حذائها تعالج حباله.
عادي! فليراقبني حتى يشبع.
شهقت سارة، وظل فكها السفليّ مائلا للأسفل بعض الوقت. أصابعها المعقوفة حول القضبان الحديدية للقفص زاد نفور الدم منها. بقلق صارت تُقلّب النظر ما بين الأسد وصديقتها.
لكن هذا ملك الغابة. هكذا قالت أبله موضي قبل قليل!
أبله موضي لا تعرف شيئا.
قالتها وهي تعاود الوقوف رافعة أنفها بزهو. حين لم يبدر من سارة جوابا غير ازدياد فكها السفلي هبوطا إلى الأسفل، عقدت يديها على صدرها وقالت وهي تنظر إلى عيني الأسد مباشرة:
وأصلا، أمي قالت انه في الغابة لا يعتبر كذلك.
ما هو إذا!؟
حيوان عادي، مثلهم.
طيب، من الممكن أنه ملك..لكن متواضع!
حكّت ريما رأسها، ثم أزاحت خصلة من الشعر عن وجهها.
أصلا، العنود بنت عمي قالت أنها رأت رجلا يضربه بالعصا.
شهقت سارة. قربت أذنها إلى ريما، وهمست لها بصوت خفيض:
هل مات الرجل!؟
لا.
قالتها ووجهها يكاد يلاصق وجه صديقتها. ملامحها أخذت تزحف من الصلابة إلى الليونة.
الأسد بدأ يبكي، وكان سيموت.
الأسد يستطيع البكاء!؟
نعم. وتقول العنود أن كللل القفص امتلأ بالدموع.
على شفتي سارة تشكل قوس مائل للأسفل. هتفت بغضب مشوب بالحماس:
لماذا لم يهجم الأسد على الرجل، ويصرخ بصوت عال ليخيفه!؟
الرجل ما كان يخاف من الأسد. بالعكس. الأسد كان خائفا كالأرنب.
صمتت برهة لتعاين وجوه أصدقائها والتي كانت تقترب إلى مساحة الحوار بفضول متنام.
وأصلا، الرجل هو الذي صاد الأسد وجاء به من الغابة.
تزايدت همسات الأطفال، وازداد صوت ريما ارتفاعا واعتدادا.
بل وتقول العنود، أن الرجل قال للأسد أنه غبي..وضعيف.. وأن صيده كان أسهل من صيد الدجاج والبط.
بصوت واحد شهق الأطفال.
نهض الأسد بغتة ودنا منهم.
بملامح معجونة بالشفقة والحنان دنوا منه.
يا أطفال ابتعدوا عن القفص!
هتفت (أبله) موضي وهي تغلق هاتفها الجوال لتجري ناحية القفص.
يا حرام...
مسكين...
انظروا إلى عينيه.. دموعه لم تجف.
شرعت (أبله) موضي تجرهم -فردا فردا- بعيدا عن القفص. لكن القلوب كانت منجذبة إلى الأسد، ما أن تُبعد عنه حتى تعود فتقترب. حاولت أن تجرش نفاد صبرها وهي تشرح لهم:
يا أطفال، الأسد خطير..ابتعدوا عنه!
ريما، الأسد يأكل البرسيم؟
نايف!! أخرج يدك من القفص!
ريما، الأسد ممكن نجلس على ظهره؟
ابعدوا يا أطفال!
ريما، الأسد يبيعونه في السوق؟
يا أطفال، الأسد أنيابه حادة..انتبهوا، سيفتح فمه!!
ريما، الأسد أسنانه حقيقية أو لعبة؟
الأسد خطير، ابتعدوا وإلا...
وقبل أن تنهي جملتها زأر الأسد. صرخ الأطفال بصوت واحد مشحون رعبا. بابتسامة حنون سارعت إلى جموعهم المنتشرة بعيدا عن القفص، تربت على رؤوسهم وتشرح لهم بنبرة ألطف:
هذا الأسد هو ملك الغابة يا أحبائي...
لكن أحدا منهم لم يكن ينظر إليها أو ينصت. برهبة وإكبار تعلقت أنظارهم بزنجي ضخم الجثة، عريض الأكتاف، كان قد دخل إلى القفص رافعا سوطه.