الجواهريلم يتحمس الشاعروالناقد والصديق محمد بدوي .. وتساءل لماذا الجواهري .. وهو الذي قام بمدح الرئيس السوري حافظ الأسد ( سلاماً أيها الأسد .. سلمت وتسلم البلد ).. ؟ !
والحقيقة أن الجواهري مدح أيضا الملك حسين في قصيدة شهيرة ( يا سيدي أسعف فمي ).. ومدح الملك فيصل الأول ملك العراق، وعمل في بلاطه ثلاث سنوات ( 1927 - 1930 ) ، ومدح عبد الكريم قاسم وكان قريباً منه، ومدح القائد البريطاني مونتجمري في قصيدة ( تونس ) ، ومدح العديد من الحكام، لكنه ظل شريداً منفياً شأن معظم العراقيين من مدينة إلي مدينة .. أقام في براغ سبع سنوات، وأقام في إيران، والأردن، ومصر، ولبنان، ولندن، سُحبت منه الجنسية العراقية، ثم أعيدت له، ظل لاجئاً سياسياً في دمشق حتي وافاه الأجل .. وفوق قبره بدمشق غطت خارطة العراق المنحوتة علي حجر الجرانيت وكلمات ( يرقد هنا بعيداً عن دجلة الخير )..
قبل عشرين عاما في شارع أبي نواس في بغداد ، سألت السائق : هذا دجلة؟ راح يردد قصيدة الجواهري كاملة :

حييت سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين .

في بغداد أيضاً، كنت أحضر عرضاً مسرحياً عن المتنبي، أدهشني الرجل الجالس خلفي، كان يردد القصائد جميعاً، يحفظ المتنبي كاملاً (!!)..
في طفولة الجواهري كان عليه أن يحفظ كل يوم، خطبة من ( نهج البلاغة ) وقصيدة للمتنبي، وكان أبوه يمتحنه فيما أنجز !
الجواهري ابن الفُراتيْن ( ابنه والنهر ) وثالثهما، كما يحب أن يُسمي، وهو أيضاً ابن الكوفة والنجف الأشرف، تماماً كالمتنبي الذي مدح أيضاً الحكام والأمراء وعاش من منفي إلي منفي، الخيل والليل والبيداء تعرفه ، مدح كافور الأخشيدي حاكم مصر، لكن كافور رحل، وبقي المتنبي علامة في الشعر العربي ... ورحل كل الحكام، وبقي الجواهري، المتنبي الثاني أو متنبي العصر الحديث كما يصفه النقاد، علامة أخري في تاريخ الشعر العربي ..
عاش قرناً من الزمان ( 1899 - 1997 ) عصياً وصعباً ومتمرداً، ورغم المدائح والحكام فقد كانت قصيدته عصية علي التدجين، وكان الشاعر المشغول بالشعر وحده، وكرامة الإنسان، كان مشروعه الشعري مشروعاً نهضوياً وجمالياً بالأساس ..
هي الذكري الثانية عشر بعد المائة لميلاد الجواهري، أو هي الذريعة التي ندعيها لنحتفل بالجواهري قيمة شعرية عظيمة في ثقافتنا العربية ..
لا تعجبوا أن القوافي حزينة فكل بلادي في ثياب الحداد
وما الشعرإلاصفحة من حياتها وما أنا إلا صورة لبلادي.

عبلة الرويني

******

الجواهري في ذكراه
اثر علي ماء وعين علي السماء

لا يتسع الأثر الشعري لأكثر من شاعر واحد في كل حقبة زمنية معينة،ثمة اصطفاء طبيعي هو نوع من الانتخاب الطبيعي ربما ذلك الذي قال به داروين ذات مرة، يجعل الشاعر يتسرب من بين أصابع القدر تتسابق معه القوافي والرؤي والدلالات الناجمة من استرداد طيفه الخاص بالفرادة الشعرية او من مفارقة سواه من مجايليه مثلا او من السابقين عليه،ولعل محمد مهدي الجواهري » 26يوليو 1899 - 1يناير 1997 « نموذج خاص للشعرية العربية بالرغم من تصميمه علي أن يكون واقفا ومنتصبا بشكل عمودي علي صهوة الشعر العربي لفترة قاربت القرن من الزمان ،كان فيها الجواهري حارق حُقب ومكتشف فروسيات في القصيدة العربية لا تقل شأنا عن الديوان العربي القديم من حيث صلادتها ومتانة الألفاظ فيها وقاموسه المعجمي العربي الفصيح زرع خللا في تقبل الشعرية لما هو بالضد من شكلها الحداثي ومن أسلوبها النثري الذي كان جميع الشعراء يتسابقون باتجاهه بموهبة وبلا موهبة ، بينما بقيت شعرية الجواهري تتقدم بصرحها ضمن المواصفات التقليدية للشعر العربي القديم حتي صارت هذه هي مزية الجواهري وحداثته الغريبة التي كانت مزيجا من التراث العربي الإسلامي والفقه الديني والمعجمية اللغوية إضافة إلي إتقانه مبكرا للبحور العربية ومصادر البلاغة العربية ولو عرفنا نوعية الحضانة الأسرية التي ولد فيها الجواهري وكبر وترعرع وهي تعود في أصلها وفصلها إلي عائلته وهي عائلة عربية نجفية عريقة، نزلت النجف الأشرف منذ القرن الحادي عشر الهجري، وكان أفرادها يلقبون ب"النجفي " واكتسبت لقبها الحالي " الجواهري نسبة إلي كتاب فقهي قيم جدا وشاع في ربوع الوطن وكان مؤلف هذا السفر المهم هو الشيخ محمد حسن النجفي، وأسماه " جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام " ويضم44 مجلداً، لقب بعده ب"صاحب الجواهر " ، ولقبت أسرته ب"آل الجواهري " ومنه جاء لقب الجواهري وهو لقب اعتمد الكتابة جوهرا والإبداع عنوانا، ربما لا تقدم لنا حياة الجواهري حتي تلك التي كتب عنها بقلمه في مذكراته المعروفة بذكرياتي الشئ الكثير في معرفة المكونات السيكلوجية لموهبة الجواهري الشعرية ربما تكون عائلته الدينية سببا في اختياره شكل القصيدة العمودية نهجا أساسيا في تعاطي الشعر علي نوع من الكلف ربما هو الأكثر قربا لحياة دينية جادة أم لعل أسلوب تعليمه الابتدائي الذي كان يتلخص في حفظ القرآن وتعلم النحو والصرف والبلاغة والفقه ولعل من الغرابة أن نقع علي أسلوب تعليم فتي صغير القراءة بحفظ خطبة للإمام علي من كتابه نهج البلاغة يعقبها حفظ قصيدة للمتنبي ثم العودة إلي نهج البلاغة وهكذا

هذا الأسلوب الشاق والشيق والذي يجمع نهج القول وصعوبة المعاني في بلاغة الإمام علي بن أبي طالب إلي جانب حفظ قصائد شاعر لا يشق له غبار هو المتنبي جمع بين بلاغتين بلاغة الخطابة والسمو بها إلي أعلي مراتب القول والتوجيه والاستعارات البلاغية العالية إضافة إلي بلاغة شعر المتنبي وتنوعه المعجمي واعتداده بالنفس وغلبة النرجسية عليه ربما يكون نوعا من التركيب الجمالي بين نوعين من الخطاب وهو الموجه الذي سيحفر في ذهنية الجواهري فيما بعد مثل ازدواج التعبير بين الرصانة"الأخلاقية والزهدية"و"للعب المجازي اللاهي قليلا " وسوف تنتج هذه المرحلة امتزاجها اللذيذ فورا الذهاب إلي كتابة الشعر مبكرا بعد أن ملك الصبي مفاتيح الكلمة وقوة التعبير والخلفية النحوية المناسبة لها، ومع ذلك فإن الجواهري لم يكن منذ بداياته مجرد " صبي كتاب " او حافظ أصم لما يقرأه من كتب او يحفظه من دروس ،بل إن هناك ميولا يسارية كانت تنمو في داخله وتوجه رؤيته نحو العالم حتي انه هجر الحياة الدينية التعبدية الطهرية ونزع العمامة ولم يحتفظ منها إلا بقبعة الصغيرة ذات الطراز البغدادي التي صارت علامة فارقة لشخصيته التي لا تخلو من سطوة وأسطورية,
وكان الجواهري قد نزل إلي السياسة مبكرا وخاض ردحا منها يذكر إن الجواهري شارك في ثورة العشرين العراقية وكانت له إسهامات شعرية رافضة للظلم والعدوان منذ بداياته وبغض النظر عن سعة مواقفه السياسية والأدوار المهمة التي لعبها إلي جانب كبار السياسيين في العراق بداية من البلاط الملكي مرورا بثورة 14تموز 1958والانقلاب البعثي الذي وقع عام 1968وغيرها من المواقف فإن الجواهري كان عصيا علي التصنيف ومن الصعب الوقوف علي التزام سياسي معين لديه ولعل هذه من المميزات الأساسية لطريقة تفكير الجواهري وعناده الشخصي في أن يكون تابعا إلي حركة سياسية بعينها او إلي حزب سياسي معين ومن هنا فإن الجواهري صار من نافلة القول بإقرانه بهذه الحركة السياسية او تلك ،ولعل هذا ما جعل قصائده تنهل من المواقف الوضعية والأحداث التاريخية التي مرت عليه وتأثر بها وعاشها وعايشها وتفاعل معها .

لو أنَّ مقاليدَ الجَماهير في يدي
سَلَكتُ بأوطاني سبيلَ التمرُّدِ
إذن عَلِمَتْ أنْ لا حياةَ لأمّةٍ
تُحاولُ أن تَحيا بغير التجدُّد
لوِ الأمرُ في كَفِّي لجهَّزتُ قوّةً
تُعوِّدُ هذا الشعبَ ما لم يُعوَّد
لو الأمرُ في كفِّي لاعلنتُ ثورةً
علي كلِّ هدّام بألفَي مشيِّد
علي كُلِّ رجعيٍّ بألفَي منُاهضٍ
يُري اليوم مستاءً فيبكي علي الغد
ولكننَّي اسعَي بِرجلٍ مَؤوفةٍ
ويا ربَّما أسطو ولكنْ بلا يَد
وحوليَ برّامونَ مَيْناً وكِذْبَةً
متي تَختَبرهُم لا تَري غيرَ قُعدد
لعمرُكَ ما التجديدُ في أن يري الفَتي
يَروحُ كما يَهوَي خليعاً ويغتَذي
ولكنَّه بالفكر حُرّاً تزَينهُ
تَجاريبُ مثل الكوكَبِ المُتَوقِّد
مشَتْ إذ نضَتْ ثَوبَ الجُمود مواطنٌ
رأت طَرْحَهُ حَتماً فلم تَتردَّد
وقَرَّتْ علي ضَيْم بلادي تسومُها
من الخَسف ما شاءَتْ يدُ المتعبِّد
فيا لك من شعبٍ بَطيئاً لخيرِه
مَشَي وحثيثاً للعَمَي والتبلُّد
متي يُدْعَ للاصلاح يحرِنْ جِماحُه
وان قيد في حبل الدَجالةِ يَنْقد
زُرِ الساحةَ الغَبراء من كل منزلٍ
تجد ما يثير الهَمَّ من كلِّ مَرقد
تجد وَكرَ أوهامٍ ، وملقَي خُرافةٍ
وشَتّي شُجونٍ تَنتهي حيثُ تَبتدي
هم استسلموا فاستعبَدتْهم عوائدٌ
مَشت بِهمُ في الناس مشيَ المقيَّد
لعمْركَ في الشعب افتقارٌ لنهضةٍ
تُهيِّجُ منه كل اشأمَ أربد
فإمّا حياةٌ حرّةٌ مستقيمةٌ
تَليقُ بِشَعبٍ ذي كيان وسؤدُد
وإمّا مماتٌ ينتهَي الجهدُ عِندَهُ
فتُعذَرُ ، فاختر أيَّ ثَوْبيَك ترتدي
وإلا فلا يُرجي نهوضٌ لأمّةٍ
تقوم علي هذا الأساس المهدَّد
وماذا تُرَجِّي من بلاد بشعرة
تُقاد ، وشَعب بالمضلِِّّين يَهتدي
اقول لقَومٍ يجِذبون وراءهُم
مساكين أمثالِ البَعير المعبَّد
اقاموا علي الأنفاس يحتكرونها
فأيَّ سبيلٍ يَسلُلكِ المرءُ يُطردَ
وما منهمُ الا الذي إنْ صَفَتْ له
لَياليه يَبْطَر ، او تُكَدِّرْ يُعربِد
دَعوا الشعبَ للاصلاح يأخذْ طريقَه
ولا تَقِفوا للمصلحينَ بمَرْصَد
ولا تَزرعوا اشواككم في طريقه
تعوقونه .. مَن يزرعِ الشوكَ يَحصِد
أكلَّ الذي يشكُو النبيُّ محمدٌّ
تُحلُونَه باسم النبيِّ محمّد
وما هكذا كان الكتابُ منزَّلاً
ولا هكذا قالت شريعةُ لَموعد
اذا صِحتُ قلتُم لم يَحنِ بعد مَوعد
تُريدون إشباعَ البُطون لمَوعد
هدايتَك اللهمَّ للشعب حائراً
أعِنْ خُطوات الناهضين وسدِّد
نبا بلساني أن يجامِلَ أنني
أراني وإنْ جاملتُ غير مُخَلَّد
وهب أنني أخنَتْ عليَّ صراحتي
فهل عيشُ من داجَي يكون لسرمَد
فلستُ ولو أنَّ النجومَ قلائدي
أطاوع كالأعمي يمين مقلدي
ولا قائلٌ : اصبحتُ منكم ، وقد أري
غوايَتكم او انني غير مهتدي
ولكنني ان أبصِرِ الرشد أءتمرْ
به ومتي ما احرزِ الغي أبعد
وهل انا الا شاعر يرتجونَه
لنصرة حقٍ او للطمةِ معتدي
فمالي عمداً استضيمُ مواهبِي
وأورِدُ نفساً حُرَّةً شرَ مَورد
وعندي لسانٌ لم يُخِّني بمحفِلٍ
كما سَيْف عمروٍ لم يَخنُه بمشْهَد
أكبـرت يومـك أن يكـون رثــاء الخالـدون عهدتهــم أحيـــاء
أَوَيرزقـون ؟ أجـل ، وهذا رزقهـم صنـو الخلـود وجاهـة وثـراء
قالـوا الحيـاة فقـلت ديـن يقتضي والمـوت قيل فقـلت كان وفـاء
يا قائـد الجيش الشهيـــد أمضـه شـوق فـزار جنـوده الشهـداء
أكبـرت يومـك أن يكـون رثــاء أجعلت منـه موعــداً ولقـاء ؟
أبرفـرف الخلـد استفـزك طـائف لتسامـر الخلصـان والخلطـاء ؟
أم رمت جمـع الشمـل بعد تفرق ؟ أم أن تثـير كعهــدك الشعـراء
يا أيها " النسـر " المحـلق يتقـــي فيما يميـل عواصفـاً هـوجـاء
ينقض عجــلاناً فيفـلت صــيده ويصـيده إذ يحسن الإبطـــاء
أثنـي عليـك .. وما الثنــاء عبادة كم أفســد المتعبــدون ثنــاء
دية الرجـال إساءتـان … مقــلل وأسـاء ، جنب مكثـر وأســاء
لا يعصـم المجـد الرجـال ، وإنما كان العظيـم المجــد والأخطاء
وإذا النفـوس ترفعت لـم تفتكــر لا الانتقاص بها ، ولا الإطــراء
لا يأبه البحر الخضــم روافــداً يلقي ، ولا زبــداً يطيـر غثـاء
لم يخـل غاب لـم يحـاسب عنـده أسـد، بما يأتــي صبـاح مساء
تحصـي عليه العاثـرات ، وحسبـه ما فـات من وثباتـه الإحصـاء
قد كنت شـاخص أمـة ، نسماتهـا وهجيـرها ، والصبح ، والإمساء
ألقت عليك غياضهــا ، ومـروجها واستودعتـك الرمل ، والصحراء
كنت ابن أرضـك من صميم ترابهـا تعطـي الثمـار ، ولم تكن عنقاء
تتحضن السـراء من أطبـاعهــا وتلـم رغـم طبـاعك الضـراء

* * *

قالـوا : أب بـر فكـانت أمـــة ألِفاً ، ووحــدك كنت فيها البـاء
خبطت كعشـواء عصوراً ، وانثنت مهزومــة ، فأثرتهــا شعـواء
وأنـرت درب الجيـل شاءت دربـه حيـل الطغـاة عميـةً تيهــاء
وعرفت إيمانــا ًبشائــر وعيـه إذ كان يعــرف قبلهـا إغـواء
وانصعت في سـود الخطـوب لئيمة تسدي طلائعـه يـداً بيضـــاء
وبـرمت بالطبقات يحـلب بعضهـا بعضاً ، كما حـلب الرعـاة الشاء
ووددت لو لـم تعتـرف شريهمــا لا الأغنيــاء بها ولا الفقــراء
وجهدت أن تمضـي قضـاءك فيهما لتشيد مجتمعــا يفيض هنـــاء
أسفاً عليـك ، فلا الفقيــر كفيتــه بؤساً ، ولا طـلت الغنـيَّ كفـاء
قد كان حــولك ألف جـارٍ يبتغـي هدمـاً ، ووحـدك من يريـد بناء

* * *

لله صـدرك ما أشـد ضـلوعــه في شــدة ، وأرقهـن رخــاء
تلج السياسـة في تنـاقض حـالهـا فتطابـق العـزمـــات والآراء
كـرا وإحجامـاً ، ورقــة جـانب وصـلابةً ، وسـلاسـةً ودهـاء
وأريت في " أسـوان " قـدرة ساحـر يسعي ليوسـع ميتـاً إحيـــاء
وبعثته حيـــاً ودسـت مشـككاً وصفعت همـــازاً بـه مشـاء
وقمـرت شـر مقامــر وكسبتــه وسلبتــه أوراقــه الســوداء
ورددت كيــد مكايـد فـي نحـره واصطــدته بشبــاكه إغـراء
ولففت رأس " الأفعــوان " بــذيله وقطعتـه ، وخطبتهــا بتــراء
وصنعت معجـزة " القنـاة " ورعتهم وسقيتهم حمـم الجحيــم المـاء
وعصـرت طاقات الجموع ، ورزتها فوجـدتهـا وَلادةً عشــــراء
وجسست أوتـار النفـوس فـوقعت لك طُـوَّعـاً أنغامهـا السمـراء
ألقت إليـك قلوبهـا وعــروقهــا سمحـاء ما شـاء النـدي معطاء
فإذا نطـقت ملـكت مهجـة سامـع وخشوعهـا ، والسمـع والإصغاء
وإذا سكت أشـاع صـمتك رهبــةً حتي يخـال كتيبــةً خـرسـاء

* * *

أثني عليك … علي الجموع يصوغها الـزعماء ، إذ هي تخلق الزعماء
ورؤي " حـزيـران " وحسبـك أنـه يحيـي لنا بـرؤي " عاشــوراء "
ناهضـت فانتهضـت تجـر وراءها شمـم الجبال عزيمـة ومضــاء
واقتدتهـا فمشت يســدد خطــوها أن كنت أنت دليلهـا الحـــداء
ونكست فانتكست … وكنت لـواءها يهـوي ، فما رضيت سواك لـواء
ثقة يحـار بها النهـي ، ومعـــزة تاهت علي هـام السهـي خيـلاء
قالوا عمـيً في العـاطفات ونــدرة بعث الزعيــم عـواطفاً عميـاء
كانـوا وعـاةً يأخـذون طـريقهـم للموت ، لا غفّــلاً ، ولا أُجراء
خـار الضـعاف دروبهم ، وتخيرت همـم الرجـال مشقــة وعنـاء

* * *

ما كان ذنبك أن يطـول علي السري ليل يطيـل صباحــه الظلمـاء
يطـوي عليه الناكصـون جناحهـم ويضـم تحت جنـاحـه العمـلاء
كلا ، ولا ذنب الجمــوع بـريئـة عـذراء من غصب العفاف بـراء
ما كان ذنب كليكمـا عـدد الحصـي أمـم تهين بوطئهـا الحصبــاء

* * *

يا مصـر ، نحن الحالمون كما ادعوا حاشـا ، وبئست نزعـة تتراءي
إنا رئـات فـي حنـايـا أمــــة راحت بنا تتنفس الصــــعداء
لم تـأت بدعـاً في البيـان وإنمــا كنا لما حلمت بــه أصـــداء
لسنـا مـلائكةً ولـكن حسبنـــا إغــراؤها ، لنقــاوم الإغـراء
نلقـي بما وهـبت لنـا من وحيهـا عن كل مـا تهب الحيـاة عـزاء
لا هـم عفـوك إننـا مـن قلــةٍ خلقت لتعطـي حقهـا الأشيــاء
خلقت لتــدرك مـا يخامـر نـملةً في زحفهـا ، وحمامــةً ورقـاء
لتعيش مأسـاة الخليقــة كلهـــا ولتستبين دواءهـــا والــداء
وارحمتـا للمبصــرين تــكلفوا أن يســدلوا عما يــرون غشاء
دوت حماسـات الرجـال ، وأرزمت حتـي لنستبق الجمـال رغــاء

* * *

ما أشجـع " الآسـاد " تعجـز كلهـا عن أن تنـازل حيــةً رقطـاء
خمس مئـوون .. مـلة وعـروبـة تعطـي الصـغار ثلاثة ً لقطـاء
تلهـو و " ثانـي القبلتيـن " مباحـة وتعيِّد " المعـراج " و " الإسـراء "
وتزخـرف الحـلقات كل عشيــة لتقيــم " زاراً " أو تشـن دعـاء
وتكـدس الـذهب الحـرام كأهــله تجـد الحيــاة مـذلةً وثــراء
وتطـارد الفـكر الشـريف كأنهــا منه تطـارد " هيضــة " ووبـاء
ويشارك " الدسـتور " وعي مناضـل بالمجـرمين عقوبــة وجـزاء
وتفلسف الجـور العسيف وتجـــلد الـدين الحنيف ليستحيـل غطـاء
من فـوق أعنـاق المشـانق تـدلي خيـر الـرءُوس شهامـةً ووفـاء
وتـكاد أقبيـة السجـون غضاضـةً وأسيً تصـيح لتـرحـم السجناء
وتعـود تعجب كيف كان مكانهــا من حيث تنطـلق الحيــاة وراء
فيـم التعجب ؟ لا نحمـل وزرنــا قـدراً ، ولا ما نحـن فيه قضـاء
رحنـا نقص من الجنـاح قــوادماً وخـوافياً قص الغـريــر رداء
ونـزف لا الأرض الوطيئة نرتضي وكـراً ولا يرقـي الجنـاح سماء
ساءلت نفسـي لا أريـد جـوابهـا أنا أمقت الضــراع والبكــاء
أتـري " صـلاح الدين " كان محمَّقـاً أن يستشيط حميــةً وإبــــاء
أم عادت " القـدس " الهـوان بعينه؟ أم عـاد ديـن المسلميـن ريـاء

* * *

يا ابـن " الكنانـة " وابن كل عظيمة دهيـاء تحسن في البـلاد بـلاء
أعـزز علينـا أن تســاء منبئـاً ما كنت تكـره مثلهـــا أنبـاء
ذبـح " الفــداة " ورحت أنت ضحيةً عنهــم ، وما أغني الفـداء فداء
ذبـح " الفـداة " وليت ألفـي ذابـح عن أصبـع منهــم يـروح وقاء
واخزيـه " الأردن " صـبغ مــاؤه من خيــر أعــراق لديه دماء
لا طـاولت شمس النهــار ضفافه وتسـاقطت رجمــاً عليه مسـاء
نـذروا لأشـلاء الغــزاة بغـربه فتساقطــوا " شـرقيـه " أشـلاء
تلك العظــام سيستطير غبارهــا يعمي الملــوك ، ويطمر الأمراء
وإذا عجبت فأن يضـــم رهيمهـا من حولـه " الفـرقاء " والفـرقاء
لجأوا لأدبـار " الحلــول " فسميت وسطــاً ، وسمـي أهلها وسطاء

* * *

يا مصــر ، يا حلـم المشارق كلها من عانت الأحــلام والأهــواء
يا بنـت " نيلك " من عذوبـة جرسه نغمـات جـرسك رقـة وصـفاء
حضن الحيـاة صبيـة فمشت بــه ومشـي بها يتباريـان ســواء
يقظـي ليقظــان يهـز سريرهـا لم تقـو في شطـآنــه إغفــاء
وربيبـة " الهـرمين " شـاخا إذ هما يتبنيانـك صـــبوةً وفتــاء
تلقيـن في السـراء سـحرك كــله وتموعيـن بصــبرك الضـراء
وتمونيـن الدهــر سبعـاً خصبـة يكفــي بها سبعــاً له جدبـاء
مشت القـرون وخلفت أسحـارهـا ترمـي عليـك الطـل والأنـداء
والصبـح يصبـغ وجنـةٍ مشبوبـة ً والليل يكحـل مقـلةً وطــفاء
والشمس تلفـح سـمرة ًعـربيــة ً والنجــم يـرقص قامـة ً هيفاء
ودرجت في حقل " الحضـارة " غضة وبــدأته تفاحــة خضــراء
ولممت عن جنبيـه أزهــار الربي وجلوتهـن جنائنـا ً غلبــــاء
أسكنتهن الشعــر والشعــــراء والعلـم ، والعلمـاء ، والحكمـاء
شعـي برغـم الداجيات ، وزحزحي منها ، وزيـدي بهجــةً ورواء
وتماسكـي ، فلقـد صـمدت لمثلهـا وأمـر ، ثـم أطـرتهن هبــاء
شعـي فقـارات ثـلاث تجتلـــي عبر العصـور سراجك الوضـاء
يا " مصـر " أحـرفك الثلاثة كن لي لولا الغلـو الوجــد والإغمـاء
عشـرين عاماً لم أزرك ، وساعــة منهن كانت منيــةً ورجـــاء
لم .. ؟ لست أدري غيـر أن قصائـداً عشـرين لم تشـفع لديـك لقـاء
ناغيت فيها شعب مصــر وهجتـه ورجوتــه أن يـركب الهيجـاء
وشجبت " فرعونـاً " يتيـه بزهـوه ينهـي ويأمــر سـادراً ما شاء
وظللت أحسـد زائريـك ، وخلتنـي رتعـاء ، تحســد أختها العجفاء
من كل حـدب ينسـلون ، ولـم أكن ـ وهـواك ـ فيهـم نسلة نكراء
وهبـي ثقيل الظـل كنت فلـم أطق أفما أطقت ـ فـديتك ـ الثقـلاء
دللت فيـك أُبـوة عهــدي بهــا علــم اليقيـن تـدلل الأبنــاء

* * *

يا " مصـر " لي وطـن أجل عطاءه ويحب فيَّ سماحــةً وعطــاء
يغشي الــدروب علي حتـي إننـي لأكـاد أفقـد في الزحــام رداء
سرنا علي درب الكفـاح مـن انجلي فجـر الكفــاح بـجوه وأضـاء
متجاوبيـن مــدي الأبيـد أهـزه إيثـــارة ، ويهـزنـي إيحـاء
للموت أحــدو والشهــادة أهــله أتــري وجدت لأذبح الشهـداء ؟
وبمصـر لي وطـن أطــار بجوه ما لا أطــار بغيــره أجـواء
أجد العوالــم كلهـا فـي سفحــه سبحــان خالــق كونـه أجزاء

* * *

يا سـدرة في المنتهـي لـم تعتـرف إلا الظـلال الخضـر والأفيــاء
عاطي ظـلالك " ناصـرا " فلطالمـا عاطــي الجمـوع ظـلاله وأفاء
وعليك يا فخـر الكفــاح تحيــةً في مثـل روحــك طيبـةً ونقاء
إن تقض في سـوح الجهــاد فبعدما سعــرت فيها الرمـل والرمضاء
ولقد حملت من الأمـانــة ثقلهــا لم تلقهــا برمــاً ولا إعيــاء
نم آمنـاً ستمــد روحــك حـرة وسط الكفـاح رفـاقـك الأمنـاء
.. الزرقة الكثيفة الشديدة العتمة تتسرب من خلال القضبان الغليظة وتغرقني .. اصعد الي السطح دون عناء يذكر .
اضواء نمنمية تسبح في الزرقة الداكنة مشوشة الانارة ، في القعر فانوس صغير يتأرجح ويقترب ..
.. الزرقة ليل، والاضواء النمنمية نجيمات متباعدة .. فانوس القعر نجمة الراعي ، وانا افتح عينيّ بكسل .. اسمع مع حوار النقيق المتقطع همسات منغـّمة .
.. ادفع الاغطية عني واجلس علي حافة السرير مرخيا ساقّيّ ، أنصت بإمعان ..
.. النقيق يتواصل والهمس ينقطع .. الهمس يعود غناء .. حدواً .. اسرح بعيداً في متاهات ضبابية شفافة
دون أخيلة واضحة المعالم .
.. انهض وامسح عينيّ ..
أتكيء علي حافة السياج الخشبي واسند ذقني الي راحة كفي .
.. زرقة حبر الليل تسيل .. تذوب في عتمة دجلة ،
لاحدود بينها وبين الستارة المنسدلة المرصّعة بالماسات الصغيرة المتلامعة والجوهرة الكبيرة الساقطة من اعالي الزرقة السماوية الكثيفة الي القعر .
ازيز جنادب يتجاوب .. صوت مجذاف يقترب .. تختلط اصوات ضرباته بالنقيق، واضواء ذابلة ، وانعكاسات متكسرة تتحرك فوق سطح الماء ..
يعود الحادي لغنائه المهموس .
أتأمل الحادي منسرحا فوق شازلونج في الشرفة شبه دائرية الممتدة داخل النهر ومسرحّاً بصره في الافق
اللا محدود للظلمة .. يتوقف الحادي عن الغناء وينصت .. النقيق يتواصل مع حوار الجنادب وانغام ضربات المجداف .
.. الانغام تقترب من حافة الشرفة .. تعبر ساحة الدار المكشوفة .. تنساب - صاعدةً - فسحة الدور الثاني حيث اقف .
.. وجهي يَندي بنثّ قطرات ماء المجذاف .
سلامٌ علي جاعلات النقيق ..
سلامٌ علي جاعلات النقيققققْ ..
النقيق .. الهوي .. الهوي ..
بريدَ الهوي
.. جاعلات النقيقْقققِ .. بريد الهويآآآ ..
علي الشاطئيييين .. بريدَ الهوي .. بريدَ الهويآآ
سلامٌ علي جاعلات النقيقِ .. علي الشاطئييييين
سلامٌ علي جاعلات النقيقَ علي الشاطئينِ بريدَ الهوي
يستمر الحدّاء في الغناء منتقلا من صورة لأخري وتختلط انغامه بانغام الجنادب ونقيق الضفادع وضربات
المجداف وصيحة ديك مبشر بأن " بأنْ قد مضي الليل ُ إلا إني " ..
ينهض الحدّاء فينقطع الغناء .. يتوجه الي حافة الشرفة . يقف منصتا دون حراك ومجيلا بصره بين آن وآخر
من اضواء الجسر المترائي علي اليمين الي موقع الشاطيء الرملي الذي يشّف بين ستارة الليل الكثيفة وحبر
النهر الداكن ، ثم يسارا حيث يتمايز شعر سعالي النخيل المشتبك، كتلة مكثفة من ظلمة الليل .
.. اسمع انغام الحادي تتعالي برفق من جديد ..
علي الجسر ما انفكَ من جانبيييه ..
علي الجسر ما انفكَ من جانبيه .. .. علي الشاطئيييين ..
علي الجسرِ ما انفكَ من جانبيه
أأأأأأأأ الهوي ي آآ
يتيح الهوي ..
.. الهويآآآ
يتيحُ الهوي ..
من عيونِ المهآآآ

علي الجسرِ ما انفكَ من جانبيهْ
يتيحُِ الهوي ..
من عيونِِ المهاِ
عليا النخلْ
علي النخلِ
ذي السعفات الطوالْ

ويستمر الغناء واستمر في السرحان في الظلمة وفي متابعة الحادي الذي يخترق الظلمة بقامته الفارهة والذي يٌنظِّم بايقاعاته سمفونية الفجر المقترب .
- ايه دنيا !
يلقي الحدّاء نظرة اخيرة سريعة من الشرفة علي بانوراما دجلة الليل ،ويستدير ويخطو ، ويبدو أن تأملاته لم تنقطع تماماً و هويرتقي السلالم ، دون أن ينتبه الي موضع اطلالتي عليه من متكئي علي سياج ممر الدور العلوي ، ولا في انني كنت اتابعه في حدوه وتغنيه بالابيات المنظومة .
- انت هنا ؟ يسأل مبتسماً وفي دهشة .. منذ متي وانت هنا ؟ .. ما الذي صحّاك في مثل هذه الساعة والفجر لم
يَبن بعد ؟
انه يعرف انها لم تكن المرة الاولي لمثل هذه الاطلالة والمتابعة ، ولا في انني ساذهب وارتدي ملابسي علي
عجل لاسبقه الي الممر قرب باب الدارلمرافقته .. او الاصح اللحاق به في خروجه اليومي عند الفجر .
لقد فات وقت محاولة الاقناع ، بثنيي ، لامنعي عن هذا الامر، والعودة الي سريري ، فقد مر علي ذلك زمن ، وكاد يصبح لحاقي به ،عادة يومية اثناء العطل المدرسية . بل لقد اصبحتْ وربما ومن المرة الاولي مرافقةً ، تقابل بالجذل، .. وإن لم يخل من استغراب مصحوب بحنان ، يحاول جاهدا ان لا يكون معلناً تماماً .
خطواته واسعة ، لم احاول ان اجاريها . لا ولم احاول ان يكون موقعي ، في شبه هرولتي ، مجاورا له في سيره .. إلا ما ندر، حين ياخذني إما فضول ، او رغبة في ان اشعره ، انني لا ازال موجودا، وأن لا حاجة به الي الالتفات الي الخلف للاطمئنان انني لست بعيدا عنه كل البعد .. حينها ارفع راسي وانا ما ازال مواصلا خطوي السريع واتمعن في وجهه . فأما اجده مبحرا في عالم بعيد المتاهات او منشغلا في دمدمة حدائه المنغم الخافت .
الظلام لا يزال سائدا ، إلا ان اضواء المصابيح اليسيرة المتباعدة، تلقي ظلالها الشبحية علي الشارع اكثر مما تنيره ، فتبعث فيه الكثير من الغموض ، واجواء من الخرافات والاساطير ..
هذه الازقة الجانبية الغارقة في العتمة .. كم فيها الآن من الطناطل والسعالي ، تلك التي تناقلنا حكاياها انا وصحابي في الليالي ، ونحن نجلس عل عتبة دار احدنا .. كم فيها من ارواح هائمة . خصوصا في تلك الازقة الضيقة المؤدية الي ارصفة دجلة وشرائعها .. ،هناك حيث الغرقي يخرجون من اعماق دجلة ملتفين بألاعشاب وملطخين بكتل غريّن القاع اللزج الكثيف ، وبعين واحدة محدّقة ، وتقحوّر الاخري التي اكلتها الاسماك ..
حين اصل الي مشهد الغريق الهائم ، يتصاعد الوجيب في صدري وتصخب به اذناي .. اسرع اكثر مقترباً من ساقّي والدي .
.. انظر من جديد الي الزقاق ، فاما ان يكون شبح الغريق قد هرب واختفي ، او انه يبدأ الآن في الاستدارة عائداالي مكانه من ظلامات النهر القريب .
ها هي اضوية الجسر الجديد تتلألأ .. لقد انتصر النور اخيراً !
عند مدخل رصيف الجسر يستدير والدي نحوي ، فافهم الرسالة المعتادة
.. اقترب علي عجل فيمسك بيدي ويبتسم ونواصل السير سوية ،
جنبا الي جنب ويدا بيد .
ثم عند الربع الاول من الجسر يترك كفي ويبطأ سيره .
نواصل العبور شبه متلاصقين ..
حين نصل نهاية الجسر ، يمسك بكفي من جديد لنستدير داخلين سوق السراي .
يبدأ بعض باعة الكتب فيه بفتح ابواب دكاكينهم ، فتصبح بقع اضويتها كافية لانارة اجزاء من السوق .
.. حينها يترك كفي من جديد ، وكل منا يعود الي مساره وعوالمه ..
- صباح الخير استاذ ،يرفع احد الباعة صوته .
- صباح الخير والسلامة ابني
- صبحكم الله بالخير ابو فرات ، تنطلق التحية من دكان ثان .
- صبحكم الله بالخير حجي ، يجيب الوالد رافعاً يده بالتحية وهو يواصل سيره
- " أبوفرات .. كبة تلوك لهل الحلك الذهب ، خلي استفتح بيك رزقي اليوم ! "
- " تشكرْ ابو بهية .. صارْ . . لِفْ اثنين ودزهنْ للجريدة .. تفضل !
- " خليها عليّه ابوفرات . . الله يزيدك، هاي هواية انطيتني ! "
- " لُطفكْ كان أَزيَدْ .. هذا إِستفتاحْ ابو بهية وانشالله بيها البركة . " ننعطف علي شارع المكتبات وتستمر تصابحات الخير، .. وتتزايد حين نستدير علي شارع الرشيد، مقتربين
من مقهي " حسن عجمي " .
يدخل المقهي دون أن يلتفت صوبي ويلقي التحايا ، ويتوجه الي ركنه المعهود قرب الزاوية اليمني .

اقف عند المدخل الواسع ماسحاًً ببصري تفاصيل المقهي ..
.. علي اليسار من المدخل، تصطف اباريق الشاي المختلفة الحجوم علي رفوف متدرجة ، الوانها زاهية
ونقوشها في الغالب اوراد متباينة الاحجام ، واغصان مورقة ، واشكال نجمية ودائرية متداخلة ..
علي يمين الاباريق ، هنالك سماور نحاسي ضخم يضيء بلمعانه ، وآخر مماثل تماما له علي اليسار . .. تصطف امام اباريق الشاي ومن الجانبين سماورات اصغر ، تتدرج في ارتفاعها .
في ارجاء المقهي تنتشر تخوت من خشب عاتم ،بصفوف متقابلة، عدا تلك التي تستند علي جدران المقهي
الثلاثة .
. . يغطي سطوح التخوت وظهورها سجاد ايراني .
ارضية المقهي مرصوفة بالطابوق الفرشي النظيف والمندّي دائما . أما انارته فهي مما يسمح بالهدوء
والتأمل ،وقراءة الجرائد بالطبع ،وهي تأتي من فوانيس كهربائية نحاسية مزخرفة تتدلي من اماكن عديدة من
السقف .
يجلس " حسن عجمي " بجسمه الضخم الممتليء وراء طاولة فوقها صوان ٍ نحاسية مختلفة الأحجام، يضع فيها الخارجون حساباتهم من القطع المعدنية .
.. وجهه وادع بشوش علي الدوام ..
يستقبل حسن عجمي رواده بالتحايا ويودعهم ،وهو جالس وراء طاولته، بالسلامة او بمعية الله . . يقوم احيانا لنجدة " الجايجي " العجوز، والمنشغل دائما في ملءِ اباريق الشاي بالماء المغلي من احد السماورين الضخمين ، او بدلق الشاي من ابريق لآخر، او بغسل اقداح الشاي الصغيرة - الاستكانات - وصحونها ، وبالطبع في ملئها وفق طلبات الزبائن، والتي ينادي مساعده صانع المقهي بها بصوت عالي منغّم : " واحد شاي واثنين حامض وواحد زهورات "
.. صانع المقهي يقوم بإيصال الطلبات الي رواد المقهي .. اما الماء فيدور به ساق ٍ خاص يدور باستمرار بين التخوت حاملا دورق الماء في يمينه ومنغّماً رنات الاقداح العديدة ،التي يحملها بيساره .
ما يسترعي اهتمامي ، ليست كل هذه التفاصيل التي احبها اكثر من اي مكان آخر ارتاده مع والدي .. ..
.. الفرحة المشرقة دائما هي في ببغاوات حسن عجمي الثلاث بالوانها الصاخبة، ولغوها المدمدم ذو النبرة الجادة .. انها تصدر اوامراً، اوتلقي حكماً ومواعض .. واياًهي المفردات التي ترددها ، فقد كانت دائماً تدمدم بها علي عجل شديد .
.. اخطو بحذر وببعض الخجل من الحاج حسن .
.. يبتسم مشجعاً .. هويعلم كل العلم انني اقترب لا منه ، ولكن من ببغواته الثلاث .
ها هي الكبيرة منها ، و التي يغلب اللون الاصفر علي بقية الوانها ، تفلح ودون جهد ، من تسلّق ذراعه الايسر وتقف شامخةفوق كتفه ..
.." سلامُ عليكم .. سلامُ عليكم " تدمدم العابثة الصفراء ، عاقفة رأسها المتوّج الممدود تجاه الجانب الايسر للحاج حسن .. تلوي رأسها اكثر لتظهر تساؤلها الواضح وانتظارها الملّح بعينها المدورة البراقة ، و التي اصبحت تواجه عين الحاج اليسري .
.. يرفع الحاج حسن يده اليسري بهدوء ودون اكتراث ظاهر، مقدماً حبة يقطين بيضاء كبيرة .. تلتقطها
الببغاء اللعوب بهدوء ودون عجلة وتبدء في تكريزها ، غير ناسية ان تلقي بالقشور المنزوعة ، ومن موضعها ذاك ، الي الصينية الموضوعة علي المنضدة تحتها .
الببغاء الضاربة الي خضرة عشبية براقة، تتناول باناقة حبة من بضعة حبوب منثورة فوق المنضدة
دون ان تلقي بالا ً، لا الي الحاج ولا غيره .
الثالثة منشغلة بحل معضلة كبيرة وهي تروح وتجيء بكبرياء ملكية وقورة فوق المنضدة، مطرقة برأسها ونافشة ريش عنقها .
.. يناولني الحاج بضعة حبات بيض سمان ..
.. اقترب من الصفراء اللعوب المنتصبة فوق الكتف الايسر
.. تعقف رأسها و تدير لي عينها المدوّرة اليسري متفحصة متسائلة
.. تلمح الحبة البيضاء بين اصبعيّ :
.." سلام ُعليكم .. سلامُ عليكم " ترطن الببغاء .
اجلس علي التخت بهدوء الي جوار والدي المنشغل بقراءة احدي الصحف .. بعد حين ينتبه الي وجودي :
- " شَربتْ شيْ ؟ "
.. اهز رأسي بالنفي .
- " ابو محمد ! من فضلك !.. يخاطب ساقي الماء .. فد كَلاصْ شربت زبييب وصمونة بيها قيمر من ابو شربت الزبيب اللي يمكم ، لحضرة الافندي .. يشير اليّ مبتسماً ".
.. بائع الجرائد الصباحية ، والتي توزع الي الباعة المتجولين عند الفجر ،يمر بين تخوت زبائن المقهي حاملا جرائده بشكل تظهر اسمائها وعناوينها واضحة للجالسين علي تخوت المقهي
.. يشتري البعض بضع صحف .
الغالبية من رواد المقهي هم من زبائن شخص آخر ممن يؤجر قراءة الصحف ، يدور عليهم معيراً اياهم الصحيفة المطلوبة ، ورافعا الجريدة التي انهي الزبون قرائتها والتي يضعها جنبه علي التخت ، ليعيرها الي زبون ثان ٍ لم يطالعها بعد .
- " كبه يا الله .. كبة ياالله ، " تدمدم علي عجل الببغاء الصفراء .
.. " كبة يا الله .. كبة يا الله " تكررها ذات اللون الاخضر ، ..
.. ويستمر سجال المناداة المنغم ، حتي يتناهي من علي رصيف الشارع ، الذي يطل عليه المقهي ،صوت جهوري مبحوح :
" كبة يا الله .. كبة يا الله "
.. يظهر رجل ضخم متقدم في العمر يحمل طنجرة كبيرة فوق راسه المعتمر بمخدة دائرية يستقر فوقها القدر الذي يتصاعد من تحت غطاءه البخار ..
- " كبة يا الله .. كبة يا الله " ، يكرر الرجل النداء، ويقف مستديرا بحذر ومواجهاً المقهي وروادها ويكرر ندائه :
" كبة يا الله .. كبة يا الله " .

نعبر شارع الرشيد الشبه خالي من السيارات وعربات الخيل .. نمر ببضعة محال كانت قد فتحت ابوابها .
.. نتجاوز جامع " الحيدرخانة " ، لنصل بعده بقليل الي سلالم تنحدر الي زقاق ضيق ، تمتد علي جانبيه دورمتراصة ، ذات ابواب ضخمة قديمة خشبية ، بنقوش بارزة ومطارق نحاسية كبيرة .
بعد اجتياز بضعة بيوت ، تبان قطعة خشبية علقت فوق باب مفتوح بضلفتين .. القطعة، مؤطرة بإطار متواضع، كتب عليها بخط جميل، " جريدة الرأي العام " وتحت هذا العنوان وبخط اصغر " ، جربدة يومية سياسية " .
.. دخل الوالد ، وبخطي واسعة اجتاز الممر الصغير ونصف الساحة المكشوفة ،ناهباً درجات السلم الي الدور
الثاني .
.. لم ينتظر جواب تحيته الصباحبة لعمال الطباعة في الدور الاول ، وربما لم تصل الي مسامعه وهو يقطع المسافة الي غرفة تتوسط الجانب الايمن من الدور الثاني وتشرف ،عبر نوافذها العديدة الطويلة ذات القضبان الحديدية، علي الدار كله بطابقيه
في اقصي زاوية من الغرفة، يجلس شاب نحيف قصير وراء منضدة صغيرة، واضعا اذنه لصق مذياع صغير، ومدونا غلي عجل ما يتنصت اليه .. يهبّ الشاب عند دخول والدي .
- اهلاً استاذ .. صباح الخير، يسبق الشاب الوالد بتحيته .
- صباح الخير ، .. ها سليم ؟ ! التقطت شي مهم من الصبح ؟ يقول والدي ذلك ،دون ان يلتفت تجاه سليم .
.. سليم التكريتي يواصل الاستماع الي الراديو الضخم ويخربش بسرعة كبيرة ، بكفه القميئة الاصابع ، حروفا واشارات فوق قصاصات ورقية .
.. والدي منشغل بخلع سترته علي عجل وتعليقها علي ظهر كرسيه ، وراء طاولة غير كبيرة ، مزحومة بالصحف الصباحية، وقصاصات اوراق مطبوعة، واجندة صغيرة، واوراق مكتوبة بخط مختلف .
سلام ٌ علي هضباتِ العراق ِ
وشـَطيه ِ والجـُرفِ والمـُنحني
علي النـَخل ِ ذي السَعفاتِ الطوال ِ
علي سـَيد ِ الشجرِ المـُقتني
ودجلة َ إذ فارَ آذيّها
كما حـُمّ ذو حـَرد ٍ فاغتلي
ودجلة َ تمشي علي هـَونـِها
وتمشي رُخاء ً عليها الصَبا
ودجلة َ لهوُ الصَبايا المـِلاح ْ
تخوض ُ منها بماء ٍ صَري
تـُريكَ العراقي َ في الحالتيـ
ــن يُسرف ُفي شِحه ِ والــَندي
سلام ٌعلي قمر ٍ فوقـَها
عليها هـَفا واليها رَنا
علي الجسرِ ما انفـك ّ َ من جانبيه
يـُتيح ُ الهوي من عيون ِ المـَهي
سلام ٌ علي جاعلات ِ الــَنقيق
علي الشاطئين ِ بريد َ الهوي
تــَقافزُ كالجن ِ بين الصخور
وتندسّ ُ تحتَ مـَهيل ِ النـَقا

أقرأ أيضاً: