حيفا وبيروت، باريس وتونس، رام الله وعمّان.منزل الشاعر في عمان (محمد يوسف) في 9 آب (أغسطس) 2008، توقّف قلبه المثخن عن الخفقان في أحد مستشفيات هيوستن، في ولاية تكساس الأميركية. لكنّ الشاعر ما زال طاغياً في «غيابه». ماذا يبقى لنا من صاحب الــ «جداريّة»؟

القدس المحتلة - نجوان درويش

هل تغيّر شيء في نظرتنا إلى شعره بعد سنة على رحيله؟ هل تتضاعف رمزيته التي أحرزها عبر عقود من الكدح الشعري الدؤوب من جهة، وتماهيه مع صورة فلسطين وسؤالها الأخلاقي المفتوح على العالم؟ هل غياب الشاعر صاحب الكاريزما سيتيح لشعره قراءة أكثر تحرراً من سطوة الظاهرة التي تقاطعت فيها جملة عناصر ومكوّنات؟ ظاهرة تظل شعرية في الأساس، رغم ما دَخَل عليها من أثقال السياسة والأدوار والتوازنات الصعبة. ثم من هو الشاعر في النهاية؟ وهل بالإمكان فصل شيء عن آخر حين نتحدث عن عملية القراءة وبقية أشكال التلقي؟
ثم أين نعثر على الأجوبة؟ في مجلدات أعماله الشعرية؟ في فتوّته عند ضفاف المتوسط في حيفا وبيروت؟ في كهولته بين رام الله وعمان؟ في الناس الذين خرج منهم؟ في الشقق والعمارات والشوارع؟ في مدوّنة الشعر العربي وتحولاته؟ في الغياب؟ لا أحد يمكنه التنبؤ بمفعول هذا الإكسير العجيب (الغياب) على الأعمال الفنية، والزمن، هذا الماكر، لا نعرف ماذا يخبئ «الغياب» للذين عرفوا بريق الشهرة في حياتهم، أو مكثوا في ظلمة الهامش. نتذكر الآن أحمد شوقي ونزار قباني. والأعلى ذائقةً سيتذكرون لوركا ونيرودا. هذه السلالات الشعرية التي يمكن إرجاع محمود درويش إليها.
أما السؤال عن التركة الشعرية لشاعر ما، فيُحوّل تلقائياً إلى ثلاثة: النقد الأدبي وذائقة الأجيال الجديدة والزمن. وكل واحد يجيب بطريقته. وإن ظن بعضنا أنها ليست سوى جهة واحدة تتخفى بثلاثة أسماء.
هل نقف عند أطراف سيرته؟ الولادة في آذار (مارس) 1941 في قرية عربية فلسطينية لها اسم دقيق كأنما من الحنطة: «البروة». سرعان ما سيهجّر أهلها وتدمّر عام 1948. في العام نفسه، ترجع العائلة من نزوح قصير إلى لبنان، لتستقر في قرية «الجديدة» قرب عكا. سيتذكر حبال غسيلها دوماً. هناك في مدرسة قرية «دير الأسد»، سيعرف معنى كلمة لاجئ. تتضاعف قسوة الكلمة حين ينشأ المرء لاجئاً في بلده. هذا لجوء مركب يشبه الفقر واليتم كأن الأرض تهرب من تحتك. كلمة لاجئ مثّلت له تحدياً حتى النهاية، وقد مثّل في حياته - واعياً لهذا التمثيل على الأغلب - نموذج الفلسطيني الذي يثير الحبّ والحسد لا الشفقة.
عكا وحيفا في الستينيات، فتوة لا ينقصها الصخب، وغسان كنفاني (1936 - 1972) يصدر كتابه «أدب المقاومة» (1966). هذا التيار الذي حمل معه كثيراً من الأخشاب الميتة. في حيفا، يلتحق بـ«راكاح» (الحزب الشيوعي الإسرائيلي)، عن طريق المؤرخ الشيوعي إميل توما (1919 - 1985). تبدو علاقته مع توما نموذجاً مصغراً، أو تمريناً لعلاقته اللاحقة بياسر عرفات الذي بقي مقرّباً منه حتى الاغتيال الغامض للأخير في باريس.
ذات يوم في رام الله، تناقشنا معه حول أمسيته الحيفاويّة التي أثارت نقاشاً عارماً عام 2007، خصوصاً أنّ جانباً من الحساسيات المثارة حولها حينذاك مردّه إلى أنّ «الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة» (وريثة الحزب الشيوعي الإسرائيلي) هي من نظّم الأمسية، ما أعطاها «أبعاداً» كانت في غنى عنها. فوجئنا يومذاك بردّه على التساؤلات النقديّة: «... ولكنه حزبي!». استغربنا أن يكون الشاعر ما زال يعتبر نفسه من هذا الحزب، فيما الصورة الملازمة له كان قد طغى عليها ارتباطه بـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، وانقطاعه الطويل عن العمل السياسي داخل فلسطين المحتلة منذ التحاقه بمنظمة التحرير بداية السبعينيات. بل إنّ بعض أقطاب هذا الحزب نددوا بخروجه من البلاد في ذلك الوقت (1972)، بنبرة تذكّر بما سيتعرض له بعدها بسنوات طويلة المفكر والقائد السياسي عزمي بشارة.
أولى محاولاته تعود إلى المجموعة الشعريّة التي أسقطها لاحقاً، وحملت عنوان «عصافير بلا أجنحة» (1960). اعتبر محمود «أوراق الزيتون» (1964) مجموعته الأولى. وطوال ربع قرن من عمله الشعري، لم يكن بإمكانه إلا أن يعترف: «خرجت من عباءة نزار قباني». تأثير لوركا لم يكن قليلاً في تكوينه الشعري. ولاحقاً كان كثير الإفادة من لغة معاصريه بدرجات وأشكال متفاوتة: أدونيس وسعدي يوسف وسليم بركات وغيرهم. وفي شعره المتأخر، سنجد تأثيرات مختلفة تبدأ بـ ت. س. إليوت ولا تنتهي بكنوت أو ديغارد. ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إنّه لم يكن بعيداً عن التأثر بحساسيات شعرية مختلفة في قصيدة النثر كنوري الجراح وعبّاس بيضون وغيرهما. آخر قصيدة نشرها محمود في حياته بعنوان «لاعب النرد»، لا يمكن إلا أن تذكّرنا في مطلعها بقصيدة «صور» لعباس بيضون.
موسكو والقاهرة وبيروت بين 1972 و1982: إنّها فترة «صعود نجم» الشاعر. تونس وباريس حتى 1995: «لماذا تركت الحصان وحيداً». هذا الديوان انعطافة كبيرة في شعر محمود درويش. رام الله وعمّان حتى 2008: غزارة لافتة في الإنتاج، وفي متابعة النجاح الأدبي وتلقي التقدير من الجماهير، والتكريم والأوسمة من السلطات العربية... لقد اتسع الاهتمام العالمي بشعره، وكان يبدو شديد الحرص على نجاحه. وفي السنوات الأخيرة بدا كأنه لم يعد يؤمن بجدوى مشروع مقاومة أو نهضة في المنطقة العربية! العبارة في مجموعاته الشعرية الأخيرة كانت تتسع وتشفّ وتتموج... وتتكرر أيضاً. في شهر آب/ أغسطس الماضي، وصف أحد أصدقائه رحيله المباغت بـ«وثبة غزال»... كأنه يقفز الآن!

القصيدة محتفظة بأسرارها

الرباط ـــ محمود عبد الغني

درويش الذي قرأه جمهور واسع من المغاربة، هو بحقّ مخترع التركيبات الشعرية الجديدة. هو ليس صاحب قصيدة مؤثرة فحسب، بل مهندس جمالية خاصة وقوية. وهو بذلك أسهم في تشكيل وعي معين بالشعر وبالنثر أيضاً. وما هذا التأثير القوي إلا لأنّه يعمل بدقة على قصيدته. والدقة هنا هي بالمعنى الذي حدّده كالفينو: تصميم محدّد ومحسوب، استحضار صور بصرية صافية، مؤثرة وخالدة ولغة دقيقة سواء لجهة المعجم أو تحقيق الفوارق الدقيقة للفكر والخيال.
وفي وقت كان فيه معظم الشعراء يستعملون اللغة بشكل عشوائي ومهمل، كان درويش يعتمد على أدواته الثلاث تلك لكتابة قصيدة دقيقة، تطرح قضية أكثر دقة تتصل بالذات والوطن. هنا بالضبط كانت قصيدته تستجيب لمبدأ الوظيفة. وجد الشعراء المغاربة فيه شاعراً يترك أدواته في قصيدته، فالتقطوا تلك الأدوات وبدأوا يشكّلون بها قصيدتهم.

ليس هناك أخطر من شاعر يترك أدواته وراءه. لاحقاً، بدأ درويش يخفي أدواته، ليس بنيّة مواراتها عن الآخرين، بل لأنه وصل إلى السنّ التي ينزع فيها الإنسان إلى إخفاء كل شيء... إلى درجة أنّه بدا كأنه يخفي حتى نحو اللغة التي يكتب بها. في هذه اللحظة بالضبط، أصبح طلاب الكليات وهواة الشعر في حيرة من أمرهم، كيف يمشون على خطى شاعر لم يترك أثراً وراءه؟ حدث هذا خصوصاً مع المجموعات التي نشرها درويش لدى «دار توبقال» في المغرب: «ورد أقل»، «أحد عشر كوكباً»، «أرى ما أريد» ... انطرحت بإلحاح مشكلة: كل مَن يقلِّد هذا الشاعر بالاعتماد على أدواته يبدو كمن يضع على رأسه شعراً مستعاراً، يثير الشفقة والسخرية في آن.

محمود وقصيدة النثر... «أحبك أو لا أحبك»

حسين بن حمزة

هل كتب محمود درويش قصيدة النثر؟ الجواب هو: قطعاً، لا. مع ذلك، ظهرت مقالات، بعضها شديد الوجاهة، بعضها بتوقيع الناقد صبحي حديدي أو الشاعر أمجد ناصر، اقترح أصحابها منح جنسية قصيدة النثر لدرويش، بناءً على نصوص ومقاطع نثرية ضمَّنها في عدد من إصداراته الأخيرة، وخصوصاً «أثر الفراشة» المنشور تحت صفة «يوميات»، و«في حضرة الغياب» تحت صفة «نص»، إضافةً إلى مقاطع في ديوان أقدم هو «أحبك أو لا أحبك».
المشكلة أنّ درويش لم يسمِّ تلك النصوص قصائد نثر، ولو أراد لفعل ذلك. هنا، ثمة سؤالان متعاكسان لا بدّ من إثارتهما. الأول: لِمَ لمْ يبادر درويش إلى خلع صفة «قصيدة نثر» على ما كتبه؟ والثاني: لِمَ يتبرع سواه بفعل ذلك؟ للإجابة عن السؤال الأول يمكننا العودة إلى تصريحات يؤكد فيها الشاعر أنّه كتب نثراً لا قصيدة نثر. في حوار طويل مع عبده وازن، قال: «أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسمّيه نثراً»، وأيضاً: «ما دمت أكتبُ نثراً، فأنا أكتب النثر من دون أن أسميه قصيدة». وفي موضع آخر، أكَّد: «أنا من الشعراء الذين لا يفتخرون إلا بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر. أحب الموسيقى في الشعر. إنني مشبع بجماليات الإيقاع في الشعر العربي، ولا أستطيع أن أعبِّر عن نفسي شعرياً إلا بالكتابة الشعرية الموزونة».
من الواضح أن درويش فرَّق بشكل حاسم بين التعبير عن نفسه «شعرياً» وبين التعبير «نثرياً». هو شاعر في الشعر، وناثر في النثر. فلماذا نكتِّبه قصيدة النثر عنوةً؟ كان ناثراً موهوباً، ولم يكن يضيره أن يكون ذاك الناثر الموهوب إلى جانب كونه شاعراً مرموقاً. كان صاحب «جدارية» حريصاً على عدم الخلط بين الأمرين، لكنه، في الوقت عينه، لعب في السنوات التي سبقت رحيله على فكرة النثر عبر رهانٍ يقوم على إثبات براعته النثرية داخل قصيدته الموزونة. أراد أن يصحح علاقته الشاقة والمُساء فهمها مع قصيدة النثر، لكن ليس بكتابتها بل بالإفادة من خصوصياتها ومناخاتها. صادق قصيدة النثر لكنه لم يقع في غرامها. أغلب صداقاته الأخيرة كانت مع شعراء نثر. لقد اعترف محمود مراراً بأن ما يُكتب من قصائد نثر في العربية أكثر جودةً من أخواتها التفعيليات. استثمر علاقات النثر بذكاء شديد. أخفى الوزن في طيَّات الإيقاع الخافت ومجاهله. أدار ظهره للصوت العالي والرمزيات المباشرة والغنائية المفرطة. في مستهلِّ ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد»، استعان بتعبير أخَّاذ لأبي حيان التوحيدي: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم». أراد أن نعامل قصائده الأخيرة باعتبارها نثراً مكتوباً بالوزن. فرح حين اعتبر بعضُنا أن «في حضرة الغياب» قصيدة نثر طويلة. لعب الشاعر في ملعبنا النثري، لكنه لم يغادر ملعبه الفعلي ولم يبدِّل قميصه الإيقاعي بأيٍّ من قمصاننا النثرية.
كل هذا يقول لنا إن درويش أراد استيعاب النثر في شعره، ولم يقصد كتابة قصيدة النثر. ظل «النثر جار الشعر ونزهة الشاعر» وظل يمارس «اختلاس النظر إلى بحبوحة النثر» وفق تعبيره. وهنا الإجابة عن السؤال الثاني: لماذا ننسب بعض «نثريات» درويش إلى «قصيدة النثر»؟ الجواب أن درويش رغب أن يحمل بطاقة عضوية استثنائية أو فخرية في «نادي قصيدة النثر». أي أن تشفع له نثرياته بحيازة هوية «قصيدة النثر». ما حدث أن شاعراً بحجم درويش وكبريائه الإيقاعية طرق باب «قصيدة النثر»، فكان لا بدَّ لشعرائها أن يفتحوا ويرحّبوا به. خدعنا محمود درويش، وانطلت علينا الخدعة.

رفض أن يكبر، ورحل بلا ورثة ولا مجدّدين

محمد خير

لم يتح الزمن لمحمود درويش أن يشيخ مع قصائده أو بها، فلم يهبط منحناها ولم تبدُ أسطره الأخيرة ابنة تعب، بل ظلت شابة في عنفوانها، حتى وهي تناجي الموت وتجادله. كانت القصائد الأخيرة لكنها - مع ذلك - لم تكن تشبه قصائد النهايات، بل تميزت بخصوبة وطزاجة لعلّها السبب في ذلك الشعور المتناقض الذي سكن كل من فوجئ بالرحيل. إذ امتزج الحزن بالطمأنينة في تركيبة نادرة، الطمأنينة لأنّ ذلك الشاعر الكبير منحنا الكثير من الشعر، حتى إننا لن نستطيع أن نفتقده، والحزن لأن ذلك العنفوان المتبدي حتى السطر الأخير، كان ينبئ بالمزيد من القصائد والصور التي وقفت تنتظر دورها فلم تسنح لها الفرصة.

كان شاباً إلى النهاية، وربما لهذا لم يكن له تلاميذ، بل مقلّدون وغيارى وباحثون عن شفرة امتلكها درويش وحده. يندر - خاصة في التراث العربي - ألا يكون لشاعر بهذا الحجم مدرسة،
تجربة حافلة بالدروس التي لا يستطيع تطبيقها الآخرون
حتى لو ظن بعضهم أنّها موجودة، لكن عباءة الشاعر لم تنجب سوى نسخ صغيرة ذابت فيه. أما بعدما وضعت النقطة الأخيرة في نهاية السطر الأخير للقصيدة الدرويشية الأخيرة، فلا ورثة ولا مجددون، بل طرق أخرى مختلفة تماماً يتقاطع أصحابها مع درويش في أسئلته الإنسانية، لا في لغته. يفيدون من تجربته معرفياً، لا أسلوبياً.
فرادة درويش أنّه ارتدى مجده ثياباً كلاسيكية في مقهى عصري، صعدت قصيدة النثر العربية ونمت وتطورت حول درويش في كل مكان، فلم تمسّ منه ولم يمسّ منها، ولم يلتقيا في موعد، لا حبّ ولا كراهية، فقط بضع كلمات هنا أو هناك من لزوميات الإجابة عند السؤال. كأنه وتلك القصيدة الحديثة عالمان منفصلان لا يرى أحدهما الآخر، فلا يأخذ واحدهما من مكانة الثاني، لا يحاربه ولا يخوض معاركه، لا يزيده ولا ينقص منه.

لأنه لم يكن مدرسة، فإن محاولة استخلاص درس منه ستنتج حلولاً غريبة. صحيح أنه برهن على اتساع الشكل القديم لمعانٍ جديدة، وعلى ازدهار الصورة الشعرية في عالم الصورة البصرية، وعلى بقاء الشاعر رمزاً وبقاء الشعر نصاً مقروءاً في الوسع. ولكن مشكلة كل تلك «الدروس» أنّها ارتبطت بدرويش نفسه، ولم تبرهن بعد على قابلية إعادة التطبيق في واقع تضيق فيه مساحة قراءة الشعر على رغم اتساع السوق، وغزارة الأدب.

وما زال الشعراء الجماهيريّون الآخرون في معظمهم لا يليقون بأن يكونوا زملاء درويش، بل يداعبون في الشعر أجهله، ويلجأون إلى الكلمات التي تكملها آذان المتلقّين تلقائياً لكثرة ما سمعوها من قبل... أما في القصيدة الحديثة، فتضيق دائرة المتلقين حتى تكاد تقتصر أحياناً على كتّاب تلك القصيدة أنفسهم. وهي حالة لم يغيّر منها كثيراً تقدم وسائل النشر والاتصال، وزادت من تدهورها مسابقات الشعر التلفزيونية التي أكملت الجريمة المعرفية التي بدأتها مناهج التعليم. ومع ذلك، تواصل القصيدة الجديدة ازدهار «الكتابة» لا الانتشار. وفي خضم صراع كتابها ضد حراس الماضي، يستثنون محمود درويش من غضبهم، لأنّه أشعر من أن يعاديه أحد!

عدد السبت ٨ آب ٢٠٠٩

هنا يرقد، بعيداً عن الجليل

رام الله - زياد خدّاش

أجلس على حجر قرب ضريحه. إنّها الواحدة ظهراً، والشمس فقدت عقلها. كيف نترك رجلاً أهدانا ظلال المعاني والأمكنة والأحلام، وظلال الأوطان والمنافي والدروب، في الشمس وحده؟ قربي شرطي ضجر، يجلس في ظل بيت حديدي. خلفي مباشرة مزبلة رام الله الرئيسة. تُحرق القمامة ليلاً، فيطير دخانها في المكان. متى ستنقل المزبلة بعيداً؟ يجيبني موظفٌ في البلدية متلعثماً «المزبلة لن تنقل قبل ثلاث سنوات».
تستطيع أن ترى تلّة الضريح، ما إن تصل إلى «قصر الثقافة الفلسطينية»، وتنظر جنوباً. أمامك، طريق عشبي محاط بسلك معدني ومصابيح كهربائية. تلج عبر بوابة حديدية مساحة دائرية عشبية، فيها ثلاث شجرات صفراء. حول تراب محمود درويش، قفص زجاجي بشع، وضع لردّ هجمات الكلاب الضالّة، بانتظار استبداله بنصب تذكاري ينجزه المعمار جعفر إبراهيم طوقان، لكنّه لن يكتمل قبل تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.

بلدية رام الله مقصِّرة: يكفي أن ترى الغبار فوق القفص الزجاجي وأشكالاً بدائية لقمامة تتكوّن ببطء قرب الضريح... مناشدات المثقفين الفلسطينيين لتعيين حارس مدني لم تلقَ تجاوباً رغم تحطيم مصابيح الكهرباء مراراً من قبل عابثين. الشرطة عيّنت حرّاساً مسلحين، إلّا أنّ مظاهر السلاح قرب ضريح شاعر بدت منفِّرة. أمّا «مؤسسة محمود درويش» فما زالت غير مكتملة مالياً وتنظيمياً. كانت ستعلن انطلاقتها في الذكرى الأولى لرحيل الشاعر، إلّا أن عدم اكتمال النصب أجّل ذلك، رغم وضعها الحجر الأساس لمتحف ومسرح وحديقة قرب الضريح. عائداً إلى البيت، حاذيت نافورة ماء على مدخل قصر الثقافة. لماذا يُحرم ضريح محمود درويش المجاور من هذا الماء الدافق؟

الاخبار
عدد السبت ٨ آب ٢٠٠٩