محمد الاشعري

الشاعر الحديث عبارة مسكونة بالوهم والضحالة.. هي حتى الآن في عالمنا العربي شهادة تسحب في مكاتب الولاءات غير الشعرية لاستعمالها في أغلب الأحيان سلاحاً لنصرة التقليدية والاستعلاء الأبوي. إنني أفضل تعبير القصيدة أمكنة متفردة. إذ يحدث بعد قراءتها أن تحس بأنك أصبحت مختلفاً عن نفسك، أنها أكسبتك ملامح أخرى لم تكن لك أبداً. ويحدث ذلك دائماً في منتهى السهولة، دونما عناء كأنك تقوم بسفر سهل تجتاز من خلاله أوعر الشعاب وأعقدها، ولا يتطلب الأمر منك انتحالاً لصفة خارقة. ويكون التخيل والنظرة والموضوع عندئذ مثل تفاصيل مشهد مستعص على التجزيء، موغل في الاحتمال وقابل دائماً للنسيان.
وقصيدة بهذه البساطة لا يستدل عليها.. إنها توجد حيث تختار هي أن توجد. في التجربة الشعرية المغربية تحديداً لا أستطيع الجزم بذلك، ربما ظهرت في الثمانينات ملامح أكثر عمقاً وحيوية لتجربة ما فتئت تصارع نفسها منذ السبعينات، وربما ظهر صوتان أو ثلاثة تحس في شعرهم بشيء نيء ومقتحم.. وكل هذا لا علاقة له بتجديد شباب القصيدة ولا بمقاومة شيخوختها، لأن عنفوان القصيدة لا يتحقق بأي نوع من الإخصاب الخارجي.
لم يستفد تذوقي الشعري من أي مجموعة شعرية أو مجموعات شعرية. ربما استفاد من شعراء لا حصر لهم.. و أبداً لم يستفد تذوقي ولا وعيي الشعري من عمل نقدي. لا أؤمن بالجماعة في الشعر، ولم أنتم أبداً لأية جماعة.. لكني مع ذلك أؤمن بالتواطؤ وبالرقة التي يمنحها الشعور بخوض تجربة مشتركة مع آخرين.
الشعر بالنسبة لن لذة، طريقة حياة، مغامرة في الحب وفي الموت، تجربة في الصمت. هي تعبيرات غير مريحة بالنسبة لي وبضعها يضحكني مثل الآباء الشعريون ! كلمة الأٍران لا تعجبني، لأقل أنني أحب نوعين من الشعراء : الذين أعرفهم والذين يفاجئونني.

نصوص

عبور

من زقاق صغير شمال المدينة
يقترح المدخل الحجري سماء
وأجنحة
وجدارا
ولبلابة يابسة
هي ذي زحمة العصر تبدأ تغريدها المر
سوقاً فسوقاً يذوب العبير النباتي في بعضه.
تذوب الشبابيك في بعضها
والزوايا،
وأقواس لا روح فيها،
ويستسلم الدرج للخطو والرعشة المستعادة
تفتح باباً لعشرين خوفاً من السنوات
وعينين للدمعة الواحدة.
وتجلس ممتقعاً لبهاء السواري
هي ذي خفقة الزخرف المتعالي
تغوص عميقاً
فيمتلئ الحرف بالماء
تمتلئ الشبكات التي فقدت ظلها
برواء المسافات أو بدم لا ضفاف له
وها هي أندلس الماء ترقص في خصلة الصحن
ماء وماء وماء
ينابيع ترفل في عطش معدني
وليس هناك على ضفة الخوف غيري
وسيدة تتوقع أن يتوقف في لحظة نبض سبحتها
فتنهض من ربقة القوس بسملة
أو هزيع أخير من الليلة الباردة
من زقاق صغير جنوب المفازة
حيث تفر المسافات من حبق الشرفات
إلى يقظة العابرين.
يطل دمي من أنامل سيدة
تتحسس في مشيها حائط الدرب
حتى تهاجم ظلمتها ضجة العربات
فتمسك أنفاسها لحظة
ثم تعبر نحو الفناء الظليل.