رفعت سلام

لا مفرد من الاعتراف بأن الصفة الحديث صفة مراوغة، تتأبى على التحديد الإبداعي الجازم، ربما لأن كل حداثة مضادة للجزم والقطعية. فهي - بمعنى ما - الاحتمال والنسبة والفضاءات المتعددة بلا حدود. هي التساؤل الدائم والمساءلة الجارحة الأليمة. وهي - من الناحية الأخرى - نفي للقانون العام، والإجابات الجاهزة المطمئنة، والقبول الأعمى المؤسس على السلطة / المصدر : سلطة المؤسسة أو الموروث أو الأيديولوجيا.. الخ. هي نفي لوهم الامتلاك المعرفي المكتمل للعالم، وانغلاق الرؤية على المسلمات الثابتة المطلقة، والتكيف مع فساد العالم وتأويله تأويلاً يبعث على اللامبالاة والاسترخاء.
ذلك يعني - ضمن ما يعني - أن المهمة هي فضح العالم، وكشف عوراته القبيحة المستترة خلف الواجهات المصقولة اللامعة، ابتداء - ربما - من الذات / الأنا وبلا انتهاء. وهو ما يفضي - بالضرورة - إلى الصدام مع المؤسسات الحارسة للمحرمات التقليدية الراسخة الدين والجنس والسياسة، بما هي أدوات ونتائج - في نفس الوقت للفساد الراهن في العالم. فهو ليس صداماً مزاجياً، أو ناتج نزوة عابرة، بل صدام أصلي، جذري، تأسيسي، لا محل فيه للمساومة أو المواءمة اللبقة أو أنصاف الحلول البراغماتية. كما أنه صدام يتأبى على الاختزال السطحي إلى تمرد اجتماعي أو سياسي أو أخلاقي بل يستقطب هذه الوجوه - جميعاً - وغيرها، في صدام شمولي إبداعي، نصفه بـ القصيدة. فالتراث الشعري - وصولاً إلى حلقاته السابقة علينا مباشرة - يصبح احتمالات لأجوبة، لا إجابة نهائية. هو رصيد للتجاوز، لا لمصادرة الحركة، تحقق لاكتشافات معينة، لا مصادرة لكل مجهول.
هكذا، يتحرر الخيال الشعري من كل ما هو مسبق وقبلي ومعلب. يتحرر من اليقين، فيفتح أمامه فضاءات مجهولة من الحرية، وطاقات مهولة من الشعر. فتحرير الخيال تحرير للشعر من المعيارية والوظيفية. وهو تحرير لطاقة الإبداع من قهر القوانين الخارجية السائدة، الموروثة، بلا وضعها موضع السؤال. وهو - بالإضافة - ليس فعلاً مجانياً، بل ربما كان الفعل الأساسي الذي ترتهن إبداعية القصيدة. فانطلاقة من الممكن و الاحتمالي - لا القائم و اليقيني - إنما يؤسس، وهو ما حدث نسبياً، لانتقالة تجاوزية تحققها القصيدة على صعيد بنياتها الداخلية المختلفة الإيقاع والصورة والمعجم والنحو.. الخ، وبنيتها الكلية، ليتحقق الانتقال شمولياً، كيانياً، جذرياً، بلا أحادية، أو سكونية، أو ميكانيكية.
بذلك فهي قصيدة مضادة لمبدأ النمذجة و المعيارية، طالما كانت مضادة لكل تقليد قائم، بل ومضادة لتأسيس تقليدها هي. فهي منذورة للهجرة الدائمة عن كل أرض مكتسبة، وأفق مباح، مشدودة إلى الطرق التي تجهل الأقدام، والمناخات المحرمة والأشجار السامة.
هكذا، لا تقدم القصيدة معياراً أو نموذجاً بديلاً. وبقدر ما تنفي إمكانية قياسها على السابق، فإنها تنفي - في نفس الوقت - إمكانية القياس عليها، فهي ليست برهاناً إلا على ذاتها وشاهداً إلا على نفسها. ذلك - تحديداً - ما يضاعف من إمكانيات التقليد والادعاء، ويضخم من الشعور بالعجز عن التمييز بين الوجهين، وخاصة لدى العابرين بخفة على سطح القصيدة أو المترصدين للتجربة الطليعية الراهنة في الشعر العربي، الذين يبحثون عن تكئة لإثارة الغبار في وجه التجديد الحقيقي.
على النقاد - إذن - أن يبحثوا في الدلائل والقرائن، ويعقدوا - ما استطاعوا - المقارنات والتحليلات، ويفتشوا عن أدوات التمييز، إن كان ثمة أدوات أصلاً. ولنا - نحن الشعراء - ألا نبالي كثيراً بالراهن سوى القصيدة وان نراهن عليها وحدها، ونثق في صمودها أمام الزمن وإيقاعه المتحول. قدمت قصيدة الثمانينات تجاوزاً ناضجاً للقصيدة العربية الإنشادية الاحتفالية، التي يسلب فيها الشاعر صوت النبي أو الكاهن أو الشاهد الوحيد أو المحرض السياسي، أو يختصر أصواتهم جميعاً في صوته المفرد، المتعالي، الذي يرث صوت شاعر القبيلة البائد.
فالصوت الشعري السابق هو صوت اليقين : اليقين في قابلية العالم للإدراك الشامل المطلق، وإمكانية الذات في تحقيق هذا الإدراك الصحيح بل اليقين في الامتلاك الفعلي لهذا الإدراك والإحاطة الشمولية. فالعالم - هنا - محدد، محدود، سكوني، تحكمه قوانين تم امتلاكها معرفياً بلا احتمال لخفاء أو مصادفات. والأنا هنا قادرة مطلقة على امتلاك العالم، وتوجيهه، بل تفعل ذلك فعلاً، بثقة نبوية ملهمة، لا يتطرق إليها شك.
هو - إذن - صوت التقرير : تقرير الحقائق والبديهيات المطلقة، وسلطة الاتهام والإدانة الدامغة، والشاهد اليقيني على الجريمة، والحاني العطوف على الإنسانية المعذبة، والدليل الوثوقي إلى الهداية والطريق القويم، والملهم المحرض على الفعل.
أما الآخرون - فهم - دائماً - في محل المفعول به المباشر أو المضمر. هم آخرون بلا هوية أو ملامح أو وجود خاص. ولا تحقق لهم - على العموم - إلا بوصفهم موضع المخاطبة، بلا فاعلية. أما تحقق الأنا الشعرية، فهو في ذاته، مستقلاً، متعالياً، منفصلاً عن كتلة الآخرين الغائمة. إنه صوت يهدر الآخرين فيما يحرضهم على الاحتشاد خلفه، والانصياع له، واقتفاء حركته خطوة بخطوة في انضباط شبه عسكري. هنا، تلعب التفعيلة والقافية دور ضباط إيقاع انفعالالآخرين الجمهور بعد أن لعبت دور تأطير حركة الأنا في القصيدة، وضبط توجهها بين قضيبين صارمين، خارجيين. فإذا كان الآخرون الجمهور هم قطب الغياب في داخلية القصيدة، فإنهم قطب الحضور الخارجي، الذي يشترط القصيدة، ابتداء من لحظتها الأولى.
هكذا، طردت القصيدة الآخرين من بيتها الداخلي، بعد أن كيفت هذا البيت حسب رغباتهم وذوقهم العام، ازدواجية مراوغة، وتواطؤ ضمني يحدد للخيال الشعري سقفاً، وللغة تخوماً، وللرؤى حدوداً عرفية. هي منطقة الأمان المشتركة التي تهدد بألغام خبيئة، أو انفجارات مفاجئة.
بذلك، تصبح القصيدة بيتاً للألفة، أو سريراً للنعاس. تصبح أداة تحقيق التوافق مع العالم السكوني، في جوهرها، وتسكين القلق الوجودي وإشباع عابر للمشاعر التواقة إلى المثل العليا. إنها استجابة - على نحو ما - لما يطلبه الجمهور ويعرفه ذلك الجمهور المتشكل - ثقافياً وذوقياً - على قيم أسرة بطريركية، ومدرسة محافظة تقليدية وأجهزة إعلام تكمن وظيفتها في تزييف الوعي.
أما الوجه الانتقادي للقصيدة السياسية فهو موجه - أساساً - صوب أشكال الخلل الهامشية، في اتجاه الترميم والإصلاح، وسد الثقوب والثغرات. انتقاد إصلاحي، مؤسس على واقع الانتماء للنظام العام، لا الخروج عليه، فيما يشكل صياغة شعرية للانتقادات العامة الشائعة على النظام، لتلقى - من ثم - رواجاً جماهيرياً، هو محل اعتبار الشاعر وحساباته.
أما قصيدة الثمانينات، فلها شأن آخر. هي قصيدة الاحتمالي، النسبي، بلا ادعاء للنبوة، أو زعم امتلاك الحقائق المطلقة، أو أوهام النطق بلسان التاريخ.
هي قصيدة من شهد وعاني الانهيارات العظيمة المتساقطة على رأسه وفي قلبه، فوعي الدرس جيداً : لا مجال للدوغماطيقية الكاذبة الفارغة. فهي قصيدة الوعي الدامي بالذات : بفضاءاتها وكهوفها، بطيورها الزرقاء ومستنقعاتها الآسنة. هي - بذلك قصيدة الفضيحة التي تبدأ بالذات حتى قلب العالم. حافزها : التعرية القاسية، شعارها: لا مقدسات بعد الوعي. وخصمها اللدود : الثبوتية.
هكذا، اقتحمت القصيدة المحرمات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والفنية - في آن - من خارج النظام / الأنظمة، اشتهاء قلبه، بلا تواطؤ. فـ الذات مرهونة - في تحققها - بانقلاب العالم، رغم الوعي بالعجز الذاتي عن تحقيق هذا الانقلاب الخروجي.
ذلك - تحديداً - ما يدفع الذات إلى تحقيق انقلابها الداخلي، على نفسها، وعلى الأنظمة التي تكونت داخلها، متسربة من الخارج، بما يشبه عمليةتطهير ذاتي أليمة، تتحقق خلالها تعرية الظلمات الدفينة، واكتشاف الطاقات المتفجرة بشهوات الحياة النارية. إنها إعادة اكتشاف الذات، بعد انهيار المقولات السابقة، ورد الاعتبار للأحلام والهلوسات والأشياء والتفاصيل الحميمة الخاصة، بلا مهام كبرى.
تمتلك القصيدة جسدانيتها التي تكتشف في كل الموجودات : الجسد، وفي كل العلاقات : العضوية، بلا تهويمات أو تجريدات رومانسية أو وجودية. علاقة جسدانية، شهوانية - لا جنسية فحسب - تتفجر بين الذات وموجودات العالم.
لا غرابة - إذن - أن يتنازع القصيدة اليومي، الفانتازي، الحلمي، السريالي، الكابوسي. لا غرابة أن تتنازعها اللغات السوقية والنبيلة، الفجة والمصفاة، المباشرة والمحلقة، وتتنازعها الإيقاعات المتعددة، بلا صنمية تفعيلة، والمتفردة بلا نموذج. لا غرابة أن تتحول القصيدة إلى غابة مشتبكة من الأصوات المصلصلة الهامسة النادبة المتكسرة المتصادمة الصافية. فقصيدة الثمانينات هي القصيدة المفردة، لا العمومية المزعجة إلى حد الاستفزاز، والمتصادمة مع آليات التلقي التقليدية بلا استهداف تأسيس نموذج أو مثال. لا يمكن للمرء إلا أن يرصد الغياب الفادح للنقد الأدبي العربي عن ساحة الشعر، دون أسف على ذلك.
وهو ليس غياباً مطلقاً، فثمة أصوات نقدية لا تزال تقدم اجتهاداتها - بين الحين والحين - في حدود تلك المنطقة الآمنة جيل الرواد بال اجتراء على المغامرة. إنها جهود تبحث عن تحقيق ذاتها في المتحقق المعروف، المعترف به من قبل المؤسسات والمستهلكين. فهي - بالتالي - جهود ذات طبيعة تكرارية، تأخذ شكل إعادة إنتاج المنتج، لا تحقيق اكتشاف خاص وإنتاج جديد.
فقد تم ترويض النص السابق على مدى تجارب نقدية عديدة، بامتداد ثلاثين عاماً، فتم امتلاكه نقديا / معرفيا. فلماذا المغامرة مع نص وحشي، بري، جامح، بال لجام ؟ فلربما أدت المغامرة إلى ضرورة التخلي عن منظومة المفاهيم والمبادئ النقدية، التي تشكل ثروة الناقد المضمونة، والبحث في مفاهيم ومبادئ أخرى تستطيع إضاءة نصوص التجربة الجديدة. وهو احتمال أساسي. فمن الذي يملك المقدرة على خوض مثل هذه التجربة الروحية الكبرى؟ ومن أجل ماذا؟ إنه - إذن - اللجوء إلى المناطق المأمونة، بلا حقول ألغام، والطرق المعبدة بآلاف الأقدام السابقة. ذلك هو الحضور المرادف للغياب، والغياب الذي يلبس قناع الحضور.
يمثل ديوان إبراهيم ناجي المحطة الأساسية الأولى. لقد اكتشفته في السابعة عشرة، فرحت أنقله - في حمى الفرح به - بالقلم الرصاص، في كراس خاص لا زلت أحتفظ به، هو بداية اكتشاف للشعر الحقيقي غير المدرسي واكتشاف انفجارات الداخل بالسخونة والألم والتمرد، وصفائه بالعذوبة الأسيانة، واحتشاده العارم بالصور والإيقاعات الخارجة من الشعوري، لا المنطقي.
المحطة الثانية هي ديوان أحلام الفارس القديم لصلاح عبدالصبور و أنشودة المطر للسياب. إنهما الباب الذي دخلت منه إلى القصيدة الجديدة.
المحطة الثالثة ديوان كتاب الأرض والدم لمحمد عفيفي مطر. وكان مدخلي إلى الأسطورة والتاريخ والفنتازيا الشعرية العارمة بتحولات الخيال المفتوح على آفاق مجهولة.
أما المحطة الأخيرة.. فتكمن في شعر ماياكوفسكي الذي اكتشفته متأخراً، بعد أن كان الإيديولوجيون قد أفسدوه علينا. ولا عمل في الكتابات النقدية يضاهي تأثير كتاب ثورة الشعر الحديث لعبد الغفار مكاوي. كأني - أوائل السبعينات - كنت أفتش عنه، فصدر لي وحدي ليفتح لي عوالم كنت أهجس بها، أو يفتحني عليها.
أنا خارج على الجماعة.. على كل جماعة
ولكني مع الجماعة : ذلك الأتباع الجماعي على اتخاذ موقف عملي محدد في لحظة ما، وظرف معين، بلا اتفاق شمولي. وذلك ما حدث مرات عديدة طوال الثمانينات بين شعراء الحداثة في مصر، ابتداء من إصدار مجلة شعرية إضاءة 77، إلى إصدار بيانات مشتركة في شأن بعد الأحداث الثقافية الشعرية، إلى اتفاقات معينة على تحرك مشترك في ظرف ما. تلك هي الحدود.
الشعر.. هو صرختي في وجه فساد العالم واهترائه : تلك الصرخة الصوتية الجسدية التي تختصرني، فلا يبقى خارجها مني شيء.
والشعر.. هو منقذي من الجنون والانتحار، عند اليأس من قلب العالم وإعادة تشكيلة مثلما أشاء.
وهو.. حتفي ومصرعي، وقائدي إلى الهاوية، حين أكتشف عجزي به عن فعل أي شيء مضيء.
وهو شهوتي الأولى والأخيرة، ومانحي الإحساس العارم بالفتوة الخالقة والاكتمال الذاتي، حين يمتلكني الإحساس بقدرتي على صنع أي شيء، أي شيء خارق.. بالكلمات.
وهو مبرري في الوجود.
أ - لا معنى لمصطلح الجيل الشعري خارج الشعرية. ليس الزمن هو محدد المعنى، وإنما الأفق الشعري الذي يشارك عدد من الشعراء في صنعه، كل منهم بمناخه الخاص.
ب - الرواد.. هم الأوائل الذين افتتحوا شهوة الانقلاب على القصيدة، للتحول - من بعد - إلى شهوة الانقلاب عليهم من القادمين السياب وصلاح عبدالصبور وأحمد حجازي.. وهم - في النهاية - زمن عابر في القصيدة العربية، له وشمه الساطع على لحمها المنذور لمن يمتلك الجرأة الفادحة.
ج - كل قصيدة نفي للأبوة، وإهدار لدمها.
د - كل قصيدة تنطوي - بالضرورة على قيمة التمرد على السالف، وإلا انتفى مبررها. فالتوافق معه سلفية، أي تكرارية، أي لا قصيدة.

نصوص

غبار

غبار غامض يغفو على جسدي،
فيشعل ظلي المنسي
في الماء الغريب
لا تقولي.
غيمة رمت غبارها على حقولي،
فاتكأت على غبار غارب،
وظل مستعار.
هُنيهة هاربة.
وغبارٌ حامض.
ووقت مريب.

نسيان
نسيتُ فيها جسدي
وتاريخي،
وأشيائي الصغيرة،
نسيت فيها ظلي
ونجمة الظهيرة،
نسيتني،
فأهوى
- خاوياً مني -
من الأرض الحرام
إلى سماوات مريرة.
فـهل أستعيدُ ازرقي
في لحظة الصفر الأخيرة ؟

خراب
لي - في كل بلدة - خراب
أسقيه في الفصول الغابرة
فينمو - في مواسم الأفول -
أشلاء، وحيات،
وحمحمات سادرة.
لها دمي وليمة لئيمة،
وذاكرتي له : بيت الغياب.
وفي صباح الموت،
تزهر وردة من التراب.
أقطفها
وأمضي.
امرأة

جسدٌ نحيل
يشعلُ الفراغ بالطيور والبيارق البهيجة.
- هل اسميك خسارتي القادمة ؟تولمُ البلاد والطوائف القديمة
والبحار والمدن البعيدة
والتواريخ الخفية لي.
ولي : تصبُّ القهوة في فراغي الليلي.
تحتسيني رشفة فرشفة.
لا أنتهي.
لا ترتوي.