ملفّ من إعداد وتقديم: عبد الوهّاب عزّاوي
(سوريا)

مقدمة

عبد الوهاب عزاوي"الكتابة الجديدة" مصطلح يتكرّر في الصحف والمجلات والإعلام من دون تدقيقٍ أو بحث. وهو أيضًا مصطلحٌ إشكاليّ يتداخل مع عددٍ من المفاهيم، كالمعاصرة والتجديد والحداثة. وقد نشب الاختلافُ في تعريف هذه المفاهيم:

ـ فالمعاصرة عند العقّاد (1) مثلاً، تكون في الابتعاد عن التشابه والتقليد والمحاكاة؛ لكنها عند عزّ الدين اسماعيل (في كتابه الشعر العربيّ المعاصر) ارتباطٌ بأحداث العصر وقضاياه، بغضّ النظر عن آليّاتها في التعبير.

ـ وأما مصطلحُ "الحداثة،" فرغم اتفاق النقّاد على تضمّنه المعاصرةَ والتجديدَ، فإنه أكثرُ المفاهيم المذكورة أعلاه غموضًا. فقد تكون الكتابة معاصرةٌ، بمعنى أنها تنتمي زمنيّاً إلى عصرنا، لكنّ الكاتب المعاصر ليس حداثيّاً بالضرورة: فأن يكون معاصرًا، عبر استخدام مفرداتٍ معاصرةٍ أو عبر الحديث عن موضوعاتٍ معاصرةٍ مستحدَثة، لا يشترط أن يمتلكَ رؤيةً عميقة، ولا أن يكون جزءًا من رؤيةٍ أشملَ تنسجم مع حركةٍ تاريخيّةٍ تتجاوز جميع القيم الماضوية السائدة ـ وهما أمران يتمثّلان في "الحداثة."

ـ وأما "التجديد،" وهو يعني الاختلافَ عمّا سبقه بنسبةٍ ما، فلا يشترط التوجّهَ نحو "الأفضل" دائمًا. وهو شرط من شروط الحداثة، لكنه قد يختلف عنها بحسب حركة الأدب وواقع البيئة: فقد يكون جزئيّاً ليتضمن "الموضوعَ" فقط أو جزءًا من النص؛ وقد يكون جديدًا في بلدٍ ما ولا يكون كذلك في بلدٍ آخر.

* * *

هذا الملفّ يركّز على الكتّاب الذين بدأوا نشرَ نتاجهم في العقد الأول من الألفيّة الثالثة. وهذا لا يتنافى مع تحقيب الإبداع بحسب المتغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة المؤثّرة؛ ذلك أنّ معظم الموادّ هنا يقارب "أحداثَ" الثمانينيّات وتأثيرَها في المجتمع والمبدعين والكتابة، وينتقل إلى جيل كتّاب الألفيّة الجديدة الذين كبر أكثرُهم في مرحلة جزْرٍ أو مواتٍ في الحراك السياسيّ والاجتماعيّ، فيَدْرس التغيّراتِ التي طرأتْ على نتاجهم والملامحَ العامةَ التي يتميّز بها... مع تفاوتٍ واضحٍ بين الرواية ذات الصوت العالي نسبيّاً، وبين الشعر والمسرح المتّجهين بشكلٍ عامّ نحو العالم الداخليّ، مع ملاحظة أن أعمار الروائيين تتجاوز أعمار الشعراء وكتاب المسرح الشباب بعقد تقريباً.
يسعى هذا الملفّ إلى اكتشاف هذه "الكتابة الجديدة،" وامتحان صلابتها وحداثتها، ورصد مميّزات دربها الإبداعيّ. وقد اعتمدنا دراسة ثلاثة أجناس أدبيّة، وهي الشعر والمسرح والرواية.

دمشق

حكايات ضد النسيان:
قراءة في بعض النتاج الروائيّ المعاصر في سورية (2)

حسـّان عبـّاس

للحكايات سحرُها الغاوي. وربما كانت جملةُ "كان يا ما كان،" فاتحةُ الحكاية، أقوى تعويذةٍ سحريّةٍ تستحوذ على وعي المستمع، وتُدخِله إلى فضاء الحكاية المنفتح كفقاعة على محور الزمن، ليتيه في تلافيف ذاك الفضاء، وينسى زمنَه المعيش، ريثما تصل الحكايةُ إلى قفلها الخاتم. (3)

يَعرِف الحُكاة أن جُبّ الحكاية يأسر مَن يقع فيه ويلهيه عن الواقع الذي يعيشه، ولذا فهم لا يتوانوْن عن توظيف الحكاية ترياقًا للنسيان. هذا ما تفعله الأمّهاتُ والجدّاتُ حين يحكين للأطفال لينسوْا خوفَهم من ظلمة الليل وليدخلوا بسلام وطمأنينة إلى النوم وأحلامه. وهذا ما يفعله الحكواتيّون في مقاهي أيّام زمان أمام مستمعين أنهكتهم متاعبُ الحياة، فاحتاجوا إلى فسحة مسائيّة يسلون فيها عن شقائهم وهمومهم. وهذا ما يفعله التلفزيونُ أيضًا، ذاك الحكواتيُّ المعاصرُ الذي بقيتْ وظيفتُه الرئيسةُ تسليةَ المشاهدين، رغم تغيّر منحى علاقة السلطة بينه وبين المشاهد. وما التسلية، في أيّة حال، سوى شكلٍ من أشكال التنسية.

وتمارس الحكاية هذا الدور في الأدب أيضًا. وحسبُنا أن نذْكر شهرزاد التي تمثّل حكاياتُها أنموذجًا لطاقة الحكاية على خلق غواية النسيان: فهي تحكيها أولاً لتنسّي شهريار الفعلَ الشائنَ الذي دفعه إلى البحث عن الانتقام من النساء؛ وتحكيها ثانيًا لتحاول أن تنسّيه وعدَه بقتلها عند الصباح؛ وتحكيها ثالثاً لتنسي نفسَها أنّ هذه الليلة، بل كلّ ليلة، هي ليلتها الأخيرة التي ستنتهي بها رقمًا في سجلّ قتيلات العاشق المجنون.

* * *

لكنْ، يمكن أن تكون للحكايات وظيفةٌ أخرى، نقيضٌ، تحفِّّز ذاكرةَ القارئ وتمنعه من النسيان. وفي الأدب السوريّ الجديد الكثيرُ من هذا النوع الكتابيّ، حتى ليمكننا القولُ إنه الأكثرُ حضورًا في الرواية في السنوات العشر الأخيرة، وبخاصّةٍ في الرواية النسائيّة، وكأنّ الروائيّات السوريّات يجتهدن لتغيير الصورة المهيمنة لشهرزاد. (4)

تتعرّف "الكتابةُ ضدّ النسيان،" قبل كلّ شيء، بالرغبة في استحضار تاريخٍ تريد سلطةٌ ما ـ أأدبيّةً أمْ معرفيّةً أمْ سياسيّةً ـ أن تغيّبه أو أن ترغِم على صياغته ضمن منظورها الخاصّ، مستخدمةً الأدواتِ التي يمنحها لها موقعُها المهيمن. وتتلخّص آليّاتُ فعل هذه الأدوات في شكلين من أشكال التدخّل هما: إكسابُ الوعي المندمج، ويتمّ هذا عبر الأدوات المتاحة للسلطة، وأهمُّها على الإطلاق التربيةُ والإعلام؛ ومنعُ الوعي المضادّ، وهو ما يتمّ عبر سلسلة من الإجراءات تبدأ بفرض الرقابة بمختلف أشكالها، وتنتهي بالسجن، وربما بالتصفية.
يمْكننا الادّعاء أنّ الميل عن حكايةٍ تتطلّع إلى التنسية، نحو حكايةٍ مضادّةٍ تتقصّد معاندةَ النسيان، يَنتج عن فعلٍ إرادويٍّ وقصديٍّ للكاتب؛ فعلٍ يندرج في سياق موقفٍ عامٍّ لا ينحصر في حدود الأدب والكتابة، وإنْ تمظهر داخل حدودهما. أيْ إنّ هذا النوع من الكتابة يبدو مندرجًا في نشاطٍ أوسعَ للكاتب: نشاطٍ يضع الأديبَ في صورة المثقف الفاعل في "الشأن العامّ،" هي صورةُ المثقف المقاوم.
وممّا يعزِّز هذا الادّعاءَ أمران: أولهما أننا نصادف أسماءَ الأدباء الذين يقْدِمون على الكتابة ضدّ النسيان في فعاليّاتٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ (منتديات، بيانات، اعتصامات...) تندرج في سياق النشاط المدنيّ الذي يناهض هيمنةَ الحزب الواحد والرؤية الأحاديّة ويطالب بالإصلاح والانفتاح. وثانيهما أنّ الكتابات المندرجة في هذه الفئة قد عانتِ الرقابةَ بمختلف أشكالها: فمن رقابةٍ تمنع عملاً من النشر داخل البلاد، إلى ملاحقةٍ تسْحبه من التداول بعد عبوره حواجزَ الرقابة (قصر المطر لممدوح عزام مثلاً)، إلى رقابةٍ ثالثةٍ تمنعه من التداول في حالِ نشرِه خارج البلاد (القوقعة لمصطفى خليفة مثلاً)
يمْكننا القولُ إنّ النماذج الأقدم لهذه الكتابة وُلدتْ في السياسة ولم تأتِ من الأدب، وذلك نظرًا لكونها جاءت على قلم ناشطاتٍ سياسيّاتٍ لم يسبقْ لهنّ أن نشرن تجاربَ أدبيّةً معروفةً لكنهنّ أردن الكشفَ عن جانبٍ خفيّ من العنف السلطويّ الممارَسِ في السجن السياسيّ. النموذج الأول كان كتاب خمس دقائق وحسب (5) لصاحبته هبة الدبّاغ. في هذا العمل، الذي يفتقر إلى الكثير من الشروط الأدبيّة التي تسمح بتصنيفه روايةً أو قصةً، تحكي الكاتبةُ حكايةَ سجنها تسعَ سنواتٍ رهينةً عن أخيها "الناشط سياسيّاً" والمطلوبِ على لوائح المنتمين إلى حركة الإخوان المسلمين.
العمل يشكو من ضعفٍ أدبيّ واضح، وقد جاء على شكل لقطات لذكرياتٍ مسترجَعةٍ وضّبتْها الكاتبةُ حسب التسلسل الحقيقيّ لزمن وقوع أحداثها. ولا يحقّ لنا لومُ الكاتبة على ذلك الضعف؛ فهي لا تدّعي صناعةَ الأدب، بدليل أنّ الكتاب لا يحمل اسمَ جنس أدبيّ ينتمي إليه، بل إنّ غايتها من العمل تعلن عنها صراحةً في المقدّمة التي وضعتْها له حيث تقول: "لكنني أرى واجبَ الحديث عن مظالم النظام وانتهاكات الحقوق ألحَّ وأجلَّ.. وضرورة توثيق هذه المرحلة أمانة ملزمة.. يَهُون أن نبذلَ في سبيلها بعضَ العنت والتكدّر حتى لا يضيع الكثيرُ الذي بذلناه والكرب الجلل والعذاب الشنيع الذي نلناه..."(6) إنها، إذن، الرغبةُ في قصّ حكايةٍ للناس لكي لا ينسوْا ما جرى في مرحلةٍ كئيبةٍ من حياة الوطن.
بعد أقلّ من سنة على نشر الكتاب السابق صدرتْ (في بيروت على الأرجح)، وبشكلٍ مستقلّ، أو أنّ الناشر آثر عدمَ وضع اسم داره، روايةُ الشرنقة لصاحبتها حسيبة عبد الرحمن. تأتي كاتبةُ الرواية من أفق سياسيّ مناقضٍ تمامًا لذاك الذي جاءت منه هبة الدبّاغ: فعبد الرحمن عضوٌ في حزب العمل الشيوعيّ الذي لم يَشفعْ له امتناعُه عن ممارسة العنف من معاناة عنف السلطة. ولئن كان هذا العملُ يختلف عن السابق في تجنّبه السقوطَ في مطبّ الكراهية الساكنة، ويتفوّق عليه بجدارةٍ في سعيه إلى بلوغ عتبة الإبداع الأدبيّ، فإنه يلتقي معه في موضوعه (واقع سجن النساء السياسيّ)، وفي غايته من سرد حكايةٍ مغايرةٍ للحكاية السائدة التي يَعْرفها القاصي والداني: "أخطأتِ يا أمّي عندما قصصتِ حكايةَ الغولة. كنتِ تقولين: إنّ الغولة غيّرتْ شكلَها وأصبحتْ كعنزة العنوزيّة اللي قرونها حديديّة..."(7) وتأخذ الراوية على عاتقها سردَ الرواية الأخرى التي يجب ألاّ تُنسى، رواية "الأولاد الذين أمضوْا زمنًا في جوف الغولة..."
والحقّ أنّ حكاية هؤلاء "الأولاد" ليست شهادةً على عالم السجن فحسب، بل رصدٌ حزينٌ لسيرورة تصدّع الشخصيّة الإنسانيّة أيضًا. وممّا يُسجّل لصالح هذه الرواية اعتمادُها أسلوبًا في الكتابة يتماشى مع الحكاية المرويّة: فهو أسلوبٌ قائمٌ على تهتّك النصّ وتشظّي الكتابة، كتعبيرٍ فنّيّ ناجحٍ عن تفتت الشخصيّات وتفكّك العالم.
لم يتوقّفْ ظهورُ الأعمال الأدبيّة السوريّة التي يمكن أن نصنّفها ضمن فئة "أدب السجون." فهناك قصصُ إبراهيم صموئيل، وبخاصّةٍ في مجموعته المعنونة النحنحات.(8) وهناك قصصُ غسان الجباعي المتضمّنة في مجموعته أصابع الموز.(9) وهناك عمل مالك داغستاني دُوار الحريّة،(10) الذي يصنّفه ناشرُه روايةً، في حين يسجِّل كاتبُه أنه "لعبة." وهناك كتابُ لؤي حسين، الفقد،(11) الذي يعلن كاتبُه منذ صفحاته الأولى، وبمجازٍ لا يخفي دلالته، رغبتَه في كتابة حكايةٍ ضدّ النسيان. وهناك شهادة الشاعر فرج بيرقدار النثريّة، خياناتُ اللغة والصمت.(12) وهناك أخيرًا روايةُ مصطفى خليفة، القوقعة: يوميّاتُ متلصِّص،(13) التي رصدتْ مدى اللاعقلانيّة و"الحيْوَنة" في ممارسة القمع من خلال حكاياتٍ حدثتْ حقيقةً لكنها ـ لعبثيّتها ـ جديرةٌ بحكايات الغرائب والخرافات.
تجْمع بين كلّ هذه الأعمال رغبةُ كتّابها في التذكير بالسجن السياسيّ الذي كان خلال فترة طويلة، ولا يزال إلى حدٍّ ما، حقيقةً مؤلمةً من حقائق عيش شريحةٍ من الناس، هي شريحةُ الأفراد العاملين في السياسة وفي الشأن العامّ في سورية، ولكنها حقيقةٌ مسكوتٌ عنها في أدبيّات الأجهزة المندرجة في بنية السلطة. وهناك حقائقُ أخرى مسكوتٌ عنها، ولا تخصّ الأفرادََ فحسب بل مجمل الناس في المجتمع، وتعود إلى فترة من التاريخ عمل ـ ولا يزال يعمل ـ البعضُ على طمسها أو حرمانها من التأريخ حتى ينساها الناسُ: إنها حقائقُ العنف المتبادل بين السلطة والتشدّد الإسلاميّ، ذاك العنف الذي يتوارى اسمُه اليوم خلف مصطلح "الأحداث،" وقد اكتوى المجتمعُ بنيرانه خلال ما يقْرب من عقدٍ من الزمن، ولا تزال بعضُ آثاره تخنق النفوسَ حتى اليوم.
يعود بعضُ الأدباء السوريين المعاصرين إلى تلك الفترة لينتشلوا حكاياتها من عتمة النسيان. ولعلّ أولَ مَن فعل ذلك الأديبُ المخضرم وليد إخلاصي الذي جعل من "الأحداث" إطارًا خجولاً لروايته زهرة الصندل.(14). أما منهل السراج فقد كرّستْ روايتَها، كما ينبغي لنهر،(15) لسرد حكايات زمان الموت في مدينةٍ بلا اسم. لكنّ الكاتبة تنثر على امتداد الحكاية قرائنَ عديدةً ومتنوّعةً تجعل القارئَ العاديَّ لا يحتاج إلى كثيرٍ من النباهة لمعرفة مدينة حماة ولتعيين الزمان الحقيقيّ للحكاية. وفي روايتها الثانية، جورة حوّا،(16) التي تأخذ عنوانَها من اسم حيّ شهيرٍ من المدينة ذاتِها، لا تظهر الأحداثُ إلا في خلفيّة الحكاية، لا إطارًا لها بل تبريرًا لبعض السمات الأساسيّة المميّزة لحال المدينة وللشخصيّات. إنها حكايةُ تذكيرٍ بامتياز، تذكيرٍ بأنّ ما هو قائمٌ الآن ليس قدرًا لا تفسيرَ له وإنما هو نتيجةٌ لأحداثٍ لا تزال آثارُها ماثلةً لمن يريد أن يعرف.
في عام 2006 صدرتْ رواية مديح الكراهية (17) للروائيّ خالد خليفة. وهي تتميّز بصراحتها في تسمية الشخصيات والمكان، وفي تعيين الزمان. كما تتميّز باعتمادها أسلوبًا خاصّاً في الكتابة يقوم على تقنية "العربسة،" المشتقّة من تقنية الزخرفة العربيّة الإسلاميّة، حيث تنسلُّ الخيوطُ الفرعيّةُ من الخيوط الأساسيّة، لتصبح أساسيّةً بدورها، وهكذا دواليْك. يَستخدم خليفة هذه التقنية بمهارةٍ تجعل القارئَ يلْهث وراء السرد ليعيش، من خلال القراءة، حالةَ التوجّس والترقّب والقلق الدائم التي عرفها كلُّ مَن عاش زمنَ "الأحداث."
ومن بين الأعمال الأدبيّة التي يمكن إدراجُها ضمن "الكتابة ضدّ النسيان" تجدر الإشارةُ إلى بعض الأعمال التي تجد مادّتَها في التاريخ القريب، أيْ في فترة "الأحداث" وما بعدها. ثمّة مثلاً روايتا سمر يزبك، طفلة السماء (18) وصلصال،(19) المسكونتان بهاجس الكشف عن علاقات التجاذب والتنافر القائمة بين عنف الثقافة الدينيّة وعنف السلطة الأمنيّة. وهناك رواية أبنوس (20) للروائيّة روزا ياسين حسن التي تطوف فيها على قرنٍ كاملٍ من الزمان لتحكي حكايةَ خمسة أجيال من النساء في عائلة واحدة. ولا ننسى أيضًا روايتيْ فوّاز حدّاد، مشهد عابر (21) والمترجم الخائن،(22) وغيرها وغيرها.

***

إنّ من حقّنا التساؤلَ عمّا جعل "الكتابةَ ضدّ النسيان" تطغى على كلّ أجناس الكتابة الأخرى في الأدب السوريّ المعاصر. وأعتقد أنّ الإجابة البدهيّة على ذلك هي خطورةُ تاريخنا، ورغبةُ الأدباء في تذكيرنا بأننا قد صنعنا ذلك التاريخَ بأيدينا... عسانا نعتبر، فلا نعيد الكرّة!
ثمة طقسٌ يمارَس في الأديرة البوذيّة، وهو أنه كلّما ارتكب راهبٌ خطيئةً وجب أن يكفِّر عنها بكتابة تعاليم بوذا على جدران المعبد؛ وكلّما كانت الخطيئةُ أكبرَ زاد حجمُ التعاليم المفروضة كتابتُها. وهكذا تبقى الخطيئةُ ماثلةً أمام نظر الرهبان، فلا يعودون إليها.

"الرواية السوريّة الجديدة":
ظاهرةٌ إبداعيّةٌ أم ظاهرةٌ إعلاميّةٌ؟

عمر قدّور*

في السنوات الأخيرة، بدأ تعبيرُ "الرواية السوريّة الجديدة" بالاستقرار، ولم يتصدَّ أحدٌ تقريبًا للتحقّق من مطابقته لظاهرة الكتابة الروائيّة المتناميةِ في العقد الأخير. ولعلّ من طرائفِ المشهد الروائيّ أنّ مَن يتحدّثون عن "النصّ الجديد" هم الروائيّون أنفسُهم، الأمرُ الذي يَفتح الباب واسعًا أمام دعاوى "التجديد والتجاوز" من دون وضعها على محكّ النصّ. وإذا كانتِ الحفاوةُ النقديّة المدروسة التي تلاقيها النصوصُ الجديدةُ ظاهرةً إيجابيّةً في الثقافة السوريّة، فإنّ الحفاوة العشوائيّة ـ في المقابل ـ تسهِم في تكريس مفاهيمَ تنزاح عن موضوعها تارةً، وتؤدّي إلى تكريس أنماطٍ متقادِمة تحت دعوى "الجديد" تارةً أخرى.
عندما يشار إلى الرواية السوريّة الجديدة تتردّدُ أسماءُ معنيّة بهذه الموجةِ، مثل خالد خليفة، وسمر يزبك، وخليل صويْلح، وعبير إسبر، وروزا ياسين حسن، ومنهل السراج، وآخرين. وتلتقي تجاربُ هذه الأسماءُ في أمرين: أنّها بدأتْ تجربتَها السرديّة في العقد الأخير، مع اختلافٍ بيّنٍ في طبيعة اهتماماتها وأساليبها الفنّيّة؛ وأنّها تخلّصتْ من الاشتغال على التاريخِ وانصرفتْ إلى الاهتمام بالراهن. وفي هذا يمكنُ تسجيلُ بعض ملامح الجرأة، ولا سيّما الجرأة السياسيّة: فقد تمّ التخلّي عن استعارة التاريخ البعيد لتمرير مقولاتٍ راهنة، على نقيض ما دأبَ عليه بعضُ الروائيّين السابقين للتحايل على الرقابة. لكنْ إذا كان تمايزُ هذه التجارب من السمات الإيجابيّة فإنّه، كما سنرى، لا يَحدُث ضمن رؤيةٍ فنّيّةٍ جديدةٍ بالضرورة؛ فبعض هذه التجارب يحيلُ على أنماطٍ فنّيّةٍ تقليديّةٍ، وبعضُها الآخر يحاول القطيعةَ مع الإرث التقليديّ من دون أن يُفلح.

* * *

يوحي التركيزُ على "الجِدّة" الزمنيّة لهذه الأصوات بوجود قطيعةٍ جيليّةٍ ضمن الرواية السوريّة، وبتنميطٍ للتجارب الجديدة وللتجارب التي سبقتها على حدٍّ سواء. والحقّ أنّ التجاربَ الروائيّةَ الأسبق، التي ما تزال مستمرّةً في الاشتغال الروائيّ، لا تجمعُها هي أيضًا سماتٌ محدّدةٌ: فمن الصعب، مثلاً، وضعُ تجارب سليم بركات وفوّاز حدّاد ونبيل سليمان وخيري الذهبيّ وفيصل خرْتش وممدوح عزّام وخليل الرزّ في سلّةٍ واحدة. كما أنّ التجاربَ الأقدم، وِفقَ المعيار الجيليّ، ليست موحَّدةً هي الأخرى: فتجاربُ عبد السلام العجيْلي وحنّا مينه ووليد إخلاصي، مثلاً، لجهة غلبة السرد الكلاسيكيّ في تلك المرحلة، تنقطعُ مع تجربة هاني الراهب في روايته ألف ليلة وليلتان.(23) ومع نهاية سبعينيّات القرن الماضي تخلخلَتِ المعاييرُ الكلاسيكيّة، وبخاصّةٍ مع الترجمات الغزيرة لروايات أميركا اللاتينيّة التي شهدَتْ شعبيّةً كبيرةً منذ ذلك التاريخ.

ومن هنا لا يُمكننا الحديثُ عن ملامحَ جيليّةٍ متجانسةٍ في العقود الثلاثة الأخيرة، ولا عن غلبةٍ ساحقةٍ لذائقةٍ معيّنة، بقدْر ما نستطيع الحديثَ عن تجاربَ فرديّةٍ اجتهدَ كلٌّ منها على طريقته. كما أنّ التجاربَ الأسبق لم تكنْ هي معيارَ التجاوز، بل دخلتِ الروايةُ العالميّةُ بقوّةٍ ضمن سلّةِ المعايير، مع تفاوُتٍ في تمثّل المنجَز الروائيّ العالميّ المعاصر. بهذا المعنى سيكونُ الكلام عن روايةٍ سوريّةٍ ذاتِ خصوصيّةٍ فنّيّةٍ من باب التجاوز، لأنّ رهانَ أيّة رواية لم يعدْ يتعلّق بالجغرافيا التي تنتمي إليها بقدر ما يتعلّق بانتمائها إلى جنسها الأدبيّ، ولم تعد القطيعةُ الجيليّة ذاتَ مغزًى ما لمْ يكن المنجَزُ الجديدُ محايثاً للانشغال الروائيّ العالميّ المعاصر. فآباءُ الرواية السوريّة، إنْ كان لا بدّ من وجود آباء، ينتشرون من اليابان شرقًا إلى أميركا غربًا، وسيكونُ من باب المراهقة الفكريّة أنْ يُفاخِرَ روائيّ شابّ بأنّه على قطيعةٍ مع حنّا مينه أو عبد السلام العجيلي أو حتّى هاني الراهب.

* * *

ومن ناحيةٍ أخرى يشيع أنّ الروايةَ السوريّةَ الجديدة "مضادّةٌ للإيديولوجيا." وقد يصُحّ هذا على بعض الروايات، مع التنويه إلى أنّ ما هو مضادٌّ للإيديولوجيا قد يحمل إيديولوجيا مغايرةً. لذا، من المستغرب حقّاً أنْ يتمَّ إخراجُ تجربة روزا ياسين حسن في روايتيْها أبنوس (24) وحرّاس الهواء ، (25) وتجربةِ خالد خليفة، في روايتيْه دفاتر القرباط (26) ومديح الكراهية، (27) من "دائرة الإيديولوجيا." فالروايات المذكورة تنشغل برصد واقعٍ سياسيٍّ فكريٍّ ممتدٍّ منذ ثمانينيّات القرن الماضي، وتقدِّم روايةً مختلفةً عن الرواية الرسميّة لتلك المرحلة المهمّة في تاريخ سوريا. كما أنّ هذا الأمرُ ينطبق أيضًا على جزءٍ من تجربة منهل السراج، ولا سيّما في روايتها كما ينبغي لنهر. (28) وهو ما لا يُخرج هذه التجاربَ من دائرة الإيديولوجيا، على الأخصّ الإيديولوجيا اليساريّة بطبعتها الموروثةِ من سبعينيّات القرن الماضي. وعلى الصعيد نفسه، لا يمْكن إخراجُ تجربة خليل صويْلح في سياقها العامّ من "الإيديولوجيا،" مع أنّه انشغل بشكلٍ معلَنٍ أو مضمرٍ بهجاء الأنماط اليساريّة التي سادت سبعينيّاتِ القرن الماضي، ونأَى بنفسه عن الانشغال المباشِر بالمتن السياسيّ لصالح الهوامش الثقافيّة، كما نلحظُ في روايتَيه ورّاق الحبّ (29) ودعْ عنك لَومي. (30)

بل إنّ الإيديولوجيا أسهمتْ في رواج بعض الروايات: فعلى سبيل المِثال، لامَسَت روايةُ مديح الكراهية لخالد خليفة حدثًا سياسيّاً كان من المحرّماتِ السوريّة، وهو المواجهةُ الدمويّةُ بين الإخوان المسلمين والسلطة في مطلع ثمانينيّات القرن الماضي. وقد كانَ لهذه الجرأة مفعولُها في انتشار هذه الرواية، بينما غابَتْ عن الواجهة رواية سلمون إرلندي (31) الصادرة عام 2004 للروائيّ خليل الرزّ، والتي سبقَتْ مديح الكراهية بعامَين في ملامسة الحدث ذاته. إلى ذلك، تميّزتْ روايةُ الرزّ بجرأةٍ وتجريبٍ فنّيّين أعلى، سواء من حيث تبديد السرد الكلاسيكيّ، أو تبديد القول، أو منطوق الشخصيّة، أو وجود "لوثاتٍ" خاصّةٍ بالشخصيّاتِ تنافِسُ الأحداثَ الكبرى المحايثةَ لزمن الرواية. وقد يكون لمنع سلمون إرلندي من التداوُل، وتوزيعِها من "تحت الطاولة،" أثرٌ ما في تجاهلِها (مع أنّ السبب الأبرز في رأيي لهذا التجاهل هو ابتعادُ مؤلّفِها عن الإعلام عمومًا، وابتعادُ الروايةِ ذاتها عن المقُولاتِ المباشرة أو الإيديولوجيّة). ويشير هذا الواقعُ إلى أنّ تعطّشَ المزاج السوريّ إلى الحريّة جعلَه أكثرَ تسامحًا في القضايا الفنّيّة، وأنّ دواعي الجرأة السياسيّة أو الاجتماعيّة تغلّبتْ على متطلّبات الجرأة الفنّيّة. ومن هنا، قلّما نجدُ توازنًا نصّيّاً بين الجرأة الاجتماعيّة والسياسيّة من جهة، والجرأةِ المأمولةِ فنّيّاً من الجهة الأخرى. بل إنّ بعضَ الكتّاب اضطرّ إلى التراجع عن التجريب لمصالحة هذا المزاج، كما نرى عند خالد خليفة: فقد تميّزَ عملُه الأوّل، حارس الخديعة، (32) بجرعةِ تجريبٍ أكبرَ، إنْ على صعيدِ اللغة، أو على صعيد تبديدِ السرد، وذلك قياسًا على روايتَيه اللاحقتَين، دفاتر القرباط ومديح الكراهية، اللتين غلبَ عليهما الحدثُ، وانزاحَ الاهتمامُ النصّيُّ إلى مرتبةٍ متأخّرة.
أمّا الأهمُّ في هذا السياق فهو التنميطُ المرافقُ للإيديولوجيا، إذْ تخلّتِ الشخصيّاتُ في الروايات المشار إليها عن فردانيّتها لصالح الشخصيّة الجمعيّة، ولم تعدِ الشخصيّةُ تمثّل ذاتَها بل أصبحتْ تمثّل مصالحَ جماعتها وتطلّعاتِها. هذا إذا استثنيْنا قصديّةَ الكتّاب الفكريّةَ للكتّاب، التي تقودُ النصّ، على نحوٍ مكشوفٍ أحيانًا، وتحدّ من احتمالاتِه

* * *

ثم إنه يجري التنويه بـ "المساهمة النسائيّة" في الرواية السوريّة الحديثة، وكأنّ وجودَ المرأةِ الكاتبةِ شأنٌ طارئٌ على الثقافة السوريّة! فما إنْ تلامِس إحدى الكاتبات موضوعًا كالجنس، حتّى يُعدَّ ذلك جرأةً بالمعنى الاجتماعيّ. وإذا كانت مثلُ هذه الحفاوة مفهومةً في مجتمعاتٍ محافظة، كأنْ يُحتَفى بكاتبةٍ سعوديّة مثلاً، فإنّها تصبحُ مستغربةً في الثقافة السوريّة التي شهدتْ، عبر تاريخها الحديث، العديدَ من الكاتبات اللواتي تميّزْنَ فنّيّا بالإضافة إلى جرأتهنّ الاجتماعيّة. وتكفي الإشارةُ، على سبيل المثال، إلى تجاربِ غادة السَّمّان، أو حميدة نَعْنع، بل كوليت خوري الأسبق زمنيّاً. ولعلّ أسوأَ ما في الأمر، نظرةُ الاستعلاء المضمَرة إلى كتابة المرأة، وإنْ أتَتْ مقنّعةً بمظاهر "التشجيع." وقد أدّى هذا إلى ظلمِ إسهام الكاتبات مرّتين: مرّةً من خلال "تشجيعِهنّ" لأنّهنّ كاتبات؛ ومرّةً أخرى من خلال التركيز على الجانب الاجتماعيّ لنصوصِهنّ، وإهمالِ الجوانب الفنّيّة.
فعلى سبيل المثال، ركّزتْ غالبيّةُ المقالات التي كُتبتْ عن رواية رائحة القرفة (33) لسمر يزبك على العلاقة المِثليّة الموجودة في الرواية بين سيّدتين، مع أنّ وصفَ الفعل الجنسيّ لا يستغرق إلاّ حيّزًا صغيرًا من النصّ. وقد أدّى هذا الاختزالُ إلى إهمالِ رهانات الكاتبة الفنّيّة، سواءٌ من حيث اشتغالُها على البنية النفسيّة للشخصيّات، أو اشتغالُها على التكنيك السرديّ. أيْ تمّ تجريدُ الروايةِ من روائيّتِها، وهي الأهمّ، والانصرافُ إلى الاهتمام بما يُعدّ تجرّؤًا شخصيّا من الكاتبة. وفي المقابل، احتلّ الفعلُ الجنسيُّ المباشر مساحةً أوسعَ في رواية حرّاس الهواء لروزا ياسين حسن، ومع ذلك لم تركّزِ المقالاتُ التي كُتبتْ عنها على هذا الفعل؛ ذلك لأنّ الخطابَ السياسيَّ لحرّاسِ الهواء أعلى من خطاب الجسد، ويلاقي المزاجَ المتعطّشَ إلى الحريّة السياسيّة والاجتماعيّة كما أسلفنا.
والواقع أنّ المقارنة السابقة تحمل شيئًا من التعسّف، إذْ تُجاري ما هو سائدٌ لجهةِ وضع "الكتابة النسائيّة" في مقلبٍ واحد، بينما تتمايزُ نصوصُ الروائيّات السوريّات إلى حدٍّ يُخْرجُها من الانتماء الضيّق المشترك إلى ما قد يُسمّى "كتابةَ المرأة." وقد تتقاطعُ تجربةُ أيٍّ من الكاتبات مع تجربة كاتبٍ آخرَ، أكثرَ من تقاطعِها مع تجربةِ كاتبةٍ من قريناتها. وفي هذا الاختلاف الإيجابيّ دحضٌ للمحاولات القسريّة للحديث عن تأنيث النصّ؛ إذ إنّ الفوارقَ جليّةً بين الكاتبات: فبينما تنهمِك سمر يزبك في الاشتغال على اللغة في روايتها صلصال، (34) ومن ثَمّ الاشتغالِ على التفاصيل الصغيرة أو المنمنمات في رائحة القرفة، نجد روزا ياسين حسن منهمكةً في الاشتغال على القضايا السياسيّة الكبرى في روايتَيها أبنوس وحرّاس الهواء، وفي كتابها التوثيقيّ نيغاتيف (35) الذي يرْصدُ معاناةَ المعتقلاتِ السياسيّات. وهذا الانشغال بعيدٌ جدّاً عن تجربةِ عبير إسبر، التي دأبتْ على الابتعاد عن القضايا الكبرى، وانشغلَتْ نصوصُها بالسرديّات الصغيرة في رواية لولو، (36) مع ملامحَ بارزةٍ من الخفّة اللغويّة في قَصْقِصْ ورقْ. (37)

* * *

في مقابل العرض السابق، قد يكون مفيدًا الرجوعُ إلى اللهجة الحماسيّة التي وَسَمتْ كتاباتٍ تناولتِ الروايةَ السوريّةَ الجديدة. ونجد في مقال حسين بن حمزة، "نبراتٌ جديدةٌ في الرواية السوريّة: التجريبُ بعيدًا عن الإيديولوجيا، (38)" تلك النبرةَ الحماسيّةَ التي تطنِبُ في مديح الروايات الجديدة من غير الخوضِ في محتواها، وتنقضُّ على الأجيال القديمة في الرواية السوريّة دونما تمييز بينها كأجيال أو كأفراد. ويبلغ المقال حدّ المغالطة المكشوفة إذ يقرّر الكاتبُ ما يأتي: "وفي ظلّ تذمّر الروائيّين الجدد أنفسِهم من قلّة اهتمام الصحافة الرسميّة السوريّة بهم، فإنّ صدورَ أعمالهم في بيروت يُكْسب تذمّرَهم شهادةً دامغةً في حسن السلوك الروائيّ."

ولكنْ إذا كنّا لا نشكّك في انتقائيّة الإعلامِ السوريِّ، وعشوائيّتِه أحيانًا، فإنّ الإنصافَ يقتضي الإشارةَ إلى أنّ أحدَ ممثّلي الرواية السوريّة الجديدة، وهو خليل صويلح، تبوّأ لسنواتٍ عديدةٍ مهمّةَ محرِّرٍ ثقافيٍّ في صحيفةٍ رسميّة، ويُسجَّلُ له انحيازُه المعلنُ إلى الأصوات الجديدة في الرواية على حساب الروائيّين الآخرين. ولقد بدا هذا الانحيازُ جليّاً في حجم الكتابة عن الموضوعَين، حتّى ليمكن القول إنّ ما كُتب عن هذه الأصوات في الملفّ الثقافيّ الذي يحرِّره ـ مضافًا إليه ما كُتب في ملحق الثورة الثقافيّ ـ يفوق بأضعافٍ ما كُتب في الفترة نفسها عن روائيين غير محسوبين على هذه الموجة. وهذا التنويه لا يُلغي حقيقةَ فقرِ الإعلام السوريّ وسلطويّته مقارنةً بالإعلام اللبنانيّ، ولا نشاطِ دُورِ النشر اللبنانيّة قياسًا بمثيلاتها في سوريا أو في دولٍ عربيّةٍ أخرى (الأمرُ الذي جعلها محطَّ أنظار الكتّاب)، ولا سيّما الداران المشار إليهما في مقال بن حمزة (الآداب ورياض الريّس) واللتان نشرتا لأجيالٍ مختلفةٍ من الروائيين السوريين. لكنّ هذا لا يُلغي أيضًا وجودَ أعمالٍ روائيّةٍ، لا تقلُّ قيمةً، نُشرتْ في سوريا، كروايات ممدوح عزّام وخليل الرز وغيرهما، ولم تأخذْ حظَّها من الانتشار عربيّاً بسبب ضعف التوزيع.
وفي مظهرٍ آخر للتحيّزِ الأعْمى للأصوات الجديدة، تستهلُّ روزا ياسين حسن مقالتَها المنشورةَ في موقع الأوان (20/7/2007)، وهو بعنوان "الرواية السوريّة الشابّة: شبابُ الكتّاب أمْ شبابُ الإبداع؟،" على النحو التالي:

"في سعيٍ حثيثٍ لقلب الطاولة على أباطرة الرواية السابقين، يسعى جيلٌ جديدٌ من كتّاب الرواية السوريّة لتأسيس منطقةٍ جديدةٍ خاصّةٍ به، عنوانُها محاولاتٌ للكتابة ضدّ الأطرِ المنجَزة والكليشيهاتِ المعتادة، والخروج على الإيديولوجيّات، وعدم الاعتراف بما سبق، وذلك بغضّ النظر عن القيمة الحقيقيّة لهذه المحاولات!"
من الجيّد أنّ الكاتبة تضع إشارةَ تعجّبٍ في آخر العبارة التي سادتها حماسةٌ تعبويّة؛ ذلك أنّ عبارة "بغضّ النظر عن القيمة الحقيقيّة" للمحاولات الجديدة تُلغي ما يجب أن يكونَ هاجسَ التجارب الجديدة، ونعني بذلك القيمةَ الفنّيّةَ التي قصدتْ إليها الكاتبةُ باستخدامِها تعبيرَ "القيمة الحقيقيّة." وفي المقالة ذاتِها، تورِد الكاتبةُ عنوانًا فرعيّاً هو "تأنيث الرواية الشابّة"؛ لكنّنا لا نجد تحت هذا العنوان سوى سردٍ لأسماء الكاتبات، من دون الخوض في ملامح تأنيث النصّ... إنْ وُجِدتْ حقّاً.

إنّ من شأن مثل هذه التوصيفات الواردة في المقالين السابقين، وهما غيضٌ من فيض مقالات، أنْ تضلّلَ القارئ، أو أنْ تمارس عليه إرهابًا فكريّاً، إذْ تنتصرُ لبعض الجديد ـ مهما كانتْ قيمتُه الفنّيّة ـ على حساب القديم الذي يُجرَّدُ من تاريخيّته ليسهُلَ الإجهازُ عليه، بل يواجَه بـ "عدم الاعتراف به" كما رأينا. ولعلّ هذا الإنكارَ المطلقَ يقودُنا إلى فهم الآليّة التي تؤدّي إلى تجاهل تجربة سليم بركات مثلاً، على الرغم من أنّ السردَ البسيطَ المدهش الذي قدّمه في سيرة الطفولة وسيرة الصبا، ومِن ثمّ في فقهاء الظلام، أثّر ولا يزال في أجيالٍ من الكتّاب السوريّين، متقدّمًا بالقياس إلى التعثّر اللغويّ الذي يسِمُ بعضَ التجارب الجديدة. كما يتمّ تجاهلُ أسبقيّته في إشاراته الجريئة الواضحة إلى الممارسات السلطويّة للحزب الواحد، وفي ملامسته (أي بركات) تعدُّدَ مكوّنات المجتمع السوريّ (وإنْ بالتركيز على العنصر الكرديّ فيه). هذا التجاهلُ ينطبق أيضًا على الاقتراح الفنّيّ المغايِِر الذي قدّمه فوّاز حداد، قبل حوالى عقدٍ من الآن، في روايتِه الولد الجاهل (39)؛ إذِ اشتغلَ على الموضوع السياسيّ بعيدًا عن الرطانة، مستفيدًا من تقنيّات الرواية البوليسيّة العالميّة. ولم تكنْ روايةُ سلمون إرلندي لخليل الرزّ بأحسن حظّاً كما نوّهْنا من قبل.

* * *

بناءً على ما سبق، ثمّةَ خشيةٌ لها مبرّراتُها القويّةُ منْ أن يتحوّلَ مشروعُ "الرواية السوريّة الجديدة" إلى مشروعٍ سلطويٍّ، لا يُجْهزُ على ما سبقَه وحسب، بل يُجهز أيضًا على مجايليه ممّن لا يوافقونه الرأي!
أخيرًا، آملُ أن يَشْفعَ لي موقعي، ككاتبٍ يُحسبُ على هذه الموجة، بالتعبير عن استغرابي الشديد مِن التوصيفات العشوائيّة التي تستوي من خلالها نصوصُ الكتّاب، وتُمحى فيها فرادةُ كلٍّ منهم. وإذا كان من فائدةٍ لأحدٍ في انعدام المعايير، فإنّها لن تعودَ بالتأكيد إلى الرواية السوريّة. وربّما بات علينا أن نكونَ أكثرَ تواضعًا، فنُقرّ بأنّ وجودَنا في الإعلام يمنحُ هذه الظاهرةَ حجمًا لم تكن لتبلغَه بخلاف ذلك. لكنّ الإعلامَ نفسَه قد يصبحُ مقتلَ الرواية الجديدة، باحتوائِه وترويجه لمختلفِ أنواع الادّعاءاتِ المنزاحة عن واقع النصّ. لذا ستكون الخشيةُ ماثلةً من أنْ تتحوّلَ الروايةُ السوريّةُ الجديدة إلى ظاهرةٍ إعلاميّة، أكثرَ من كونها ظاهرةً إبداعيّةً.

كتابات المسرحيين السوريين الشباب:
مظهرٌ لأزمة المسرح في سورية

مايا جاموس

تطوُّر الشروط الموضوعيّة والذاتيّة للمسرح في سورية

تَحْكم تطوّرَ المسرح شروطٌ عامّةٌ، أهمُّها: موجاتُ "المدِّ" التاريخيّة في المجتمعات، ودورُ الحريّات والديمقراطيّة، والرعايةُ الماديّةُ، والدعمُ المؤسّساتيّ. وتأثُّر المسرحِ بالظاهرةِ المسرحيّةِ العالميةِّ، وبباقي الفنون، وخارج تلك الشروط تبقى ثمة اختراقاتٌ أو استثناءات، كوجود مبدعين مسرحيين، أو إدارةٍ ترعى المسرح.
حكمَتْ هذه الشروطُ تطوّرَ المسرح في سورية. فقد عاشت بلادُنا مرحلةَ مدٍّ قوميٍّ في الخمسينيات والستينيات عرفَ المسرحُ خلالها قمّةَ تطوُّره على صعيد تشكُّلِ الفرق المسرحيّة وتزايدِها، ودعمِ الدولة للمسرح، واهتمام الجمهور، وظهورِ المسرحيّات الجادّة التي ترْصد قضايا سياسيّةً واجتماعيّةً حسّاسةً. (40)كما ظهرتْ خلال تلك المرحلة دعواتٌ إلى "التجديد" في المسرح العربيّ، وإلى البحث عن الهويّة، وإلى التأصيل؛ وبرزتْ أيضُا محاولاتُ التنظير لمسرحٍ سياسيّ.

أعقبتِ المدَّ القوميّ موجةُ "العدالة الاشتراكيّة،" ولاسيّما الشيوعيّة بشقَّيْها الرسميّ واليساريّ الراديكاليّ. فأسهمَتْ في تحفيز المجتمع السوريّ على مستوى تكوين الأحزاب وانتشارِ الفكرِ الشيوعيّ؛ بل تحوّلتْ "الواقعيّة الاشتراكيّة" إلى موضة. وكان ارتباطُ العديد من الأحزاب القوميّة (بما فيها حزبُ البعث قبل أنْ يصبحَ حزبَ سلطة) بالفكر الاشتراكيّ قد أثّر إيجابًا في العملية المسرحيّة في سوريّة: فلمعتْ أسماءُ مسرحيين ارتبطوا بأحزاب، أمثال أسعد فضّة ومحمد الماغوط وفوّاز الساجر وفرحان بلبل، الأمرُ الذي حوّلَ المسرحَ خلال تلك المرحلة إلى حقلٍ للحوار. إلاّ أنّ موجة "العدالة الاشتراكيّة" تراجعتْ عالميّاً ومحليّاً، إذ خَضعتْ لضغط المراكز الرأسماليّة العالميّة؛ كما ضغطت السلطةُ المحليّةُ نفسُها على الفكر والأحزاب والمُبدعين اليساريّين الراديكالييّن.

في هذا الوقت كانت الموجةُ "الإسلاميّةُ" تتقدّم، فدخلتِ السلطةُ في صراعٍ مع الإخوان المسلمين في سورية لسنوات (أواخر السبعينيات- أوائل الثمانينيات). وجرى ذلك بالتزامن مع استمرار التضييق على التيّارات اليساريّة والقوميّة غير المنضوية في الحُكم، حتى وصل المجتمعُ إلى حالٍ من الشلل والخوف. وقد أدّى هذا الوضعُ إلى تعزيز دور الدولة والمؤسّسة الأمنيّة، وإلى جعلهما ـ على مدى العقود الثلاثة الماضية ـ العاملَ الأكثرَ حسمًا في كلّ جوانب الحياة في سورية، والممسِكَ بكلِّ شيء: من قمّة هرم الدولة، إلى أصغر مؤسّسةٍ إداريّةٍ وثقافيّة، بما فيها المؤسّسةُ المسرحيّة.

كما ترافقتْ هذه التطوّراتُ التاريخيّة مع موقفٍ سلبيّ من المسرح تبنّاه جزءٌ من البنية الفوقيّة المجتمعية، ولا سيّما الموقف الدينيّ من التشخيص.
وصل المسرح إلى حدٍّ بات فيه بين نارين: نار السلطة، ونار المجتمع، وترافقَ ذلك مع إضعافِ وتدميرِ الأحزاب السياسية . وقد عبّر سعد الله ونّوس عن هذا الموقف قائلاً:
"بلغَتِ السلطةُ أو الدولةُ شكلاً عاليًا من الوضوح والقوّة. وبالمقابل تمَّ تهميشُ المجتمع. وتبدّتْ في الوقت نفسه هشاشةُ القوى السياسيّة الموجودة، وضعفُ قدرتها على المقاومة وعلى صياغة أساليب نضالٍ مبتكرةٍ وفعّالة... المشكلةُ أعمقُ وأكثرُ تعقيدًا من علاقة سلطة/مجتمع. هناك تركيب ثلاثيّ، وربما يجب الغوصُ فيه أكثرَ لمحاولة استكشافه: بنُى اجتماعيّةٌ متخلّفةٌ جدّاً، مع بُنى اجتماعيّة حديثة شكليّاً، وغيابُ أيّ تساوقٍ أو مشروعٍ مستقبليٍّ يمكن أنْ تقوم به دولةٌ عصريّةٌ لا تتعادى فيها السلطةُ مع المجتمع، بحيث تهمِّش السلطةُ مجتمعَها وتجبرُه على العودة ـ في آليّةٍ دفاعيّةٍ سلبيّة ـ إلى بناهُ التقليديّة والأخلاقيّة المُفَوَّتة." (41)

إنّ تضافرَ هذه العوامل وغيرها (كتأثير التلفزيون السلبيّ) أدّى إلى دخول الظاهرة المسرحيّة السوريّة في أزمةٍ حقيقيّةٍ لم ينفع معها بروزُ مسرحيين مبدعين أمثال فواز الساجر وسعد الله ونّوس وممدوح عدوان وفايز قزق؛ بل إنّ مثلَ هذه الاستثناءات عاشت ظروفًا قاهرةً أبقَتْها محضَ التماعاتٍ جميلة. إلى ذلك، استمرَّ دعمُ الدولة للمسرح، لكنّه ترافقَ مع فرض وصايةٍ عليه، ودخل حالةً من الترهّل أعجزته ولو عن خدمة السلطة إيديولوجيّاً.

انعكستْ أزمةُ المسرح السوريّ على عناصره المختلفة، ومنها النصُّ المسرحيُّ. فقد تراجع عددُ النصوص المسرحيّة بشكلٍ ملموس، مقارنةً بمراحل النهوض المسرحيّ. كما تراجع إنتاجُ المؤلّفين القُدامى، وصارت نصوصُهم ومشاريعُهم المسرحيّة تخضع لإشراف الجهة المتنفّذة في الدولة باسمِ العقيدة والقوانين الحاكمة، الأمرُ الذي شكَّلَ ضغطًا على المبدعين وإبداعهم. ومع رقابة السُلطة، نَشَطَ الرقيبُ الذاتيُّ، لأنّ الكاتب يرغب في وصول نصّه إلى الخشبة. كما عانى النصُّ المسرحيّ المكتوبُ بهدف العَرْض مشاكلَ أخرى، منها: الأجرُ الزهيدُ مقارنةً بأُجور سيناريوهات التلفزيون، والغيابُ شبهُ الكليّ للاهتمام الثقافيّ والإعلاميّ به، وضعفُ إمكانيّة النشر مقارنةً بالأجناس الأخرى كالرواية.

كتابات الشباب

تتناول هذه الدراسة عشرةَ نصوص مسرحيّة (42) نشرتْها احتفاليّةُ دمشق عاصمةً للثقافة العربيّة عام 2008 بالاشتراك مع دار ممدوح عدوان، إلى جانب نصَّين مسرحيَّين نشرَتْهما الدارُ الأخيرة هما: مَوْلانا وليلى والذئب للفارس الذهبيّ، ونص ثنائيّات لعدنان العودة وهو نشر خاص. النصوص جميعُها كُتبتْ بعد سنة 2000، بعضُها تجاربُ أولى لكتّابٍ تراوحتْ أعمارُهم بين العشرينات وبدايات الثلاثينات. وإذ لا ندّعي أنّها نتاجُ مرحلةٍ ذات معالم إبداعيّة واضحة، فإنها قد ترسم مع ذلك صورةً لنتاجِ الجيل الجديد.

اشتركت النصوص المذكورة في مجموعة من الملامح على صعيد الموضوعات التي تناولتْها، ويمكن تلخيصُها في ما يلي:
- كان الجنسُ الموضوعةَ الأساسية في معظم تلك النصوص، وتمّ تناولها بصيغة استشراقية إلى حدٍّ ما، دون الخوض في عمق هذه المشكلة وتشعّباتِ ارتباطاتها السياسيّة الاجتماعيّة، على الرغم من مرور بعض الإشارات أحيانًا إلى أسباب الكبت الجنسيّ، كالبنية القمعيّة المتخلّفة في المجتمع وموقف الأهل.

كما استُخدِمَ الجنسُ مهرَبًا من اختزال موروث الآباء في الهزائم والانكسارات. ومن هذه النصوص: "الملحق" لليندا أحمد، و"آخر العشّاق" لمحمد أبو لبن، وجزئياً "باريس في الظل" ليمّ مشهدي. تتحدّث الأولى عن رجلَين من جيل الستينيّات، مصابَين بخيباتٍ اختُزِلتْ بحبّهما لامرأةٍ بعينها. أمّا في "آخر العشّاق" فيضَعُنا الكاتبُ أمام شابٍّ يريد تأليفَ روايةٍ بطلاها كانا من أبطال الحرب اللبنانية، وهو يريد أن يجمع المعلوماتِ منهما، لكنّه لا يتحدّث عن أفكارهما وأحلامهما وما آلَتْ إليه الآن، بل يحوّلهما إلى متصابييْن يسعيان إلى الجنس مع المرأة نفسها. هكذا يغوصُ النصّان في دوّامة العلاقات الجنسيّة من دون الحديث عن الهزائم، فيظهر أبناءُ ذلك الجيل، إلى حدٍّ ما، بلا قِيَمٍ أخلاقيّة، معقّدين، قابلين بالازدواجيّة والخيانة.

- اهتمّتْ بعضُ النصوص بموضوعاتٍ جديدة، (43) كالهجرة مثلاً. ويمكنُ التماسُ ذلك في نصَّيْ عمر أبو سعدة "ليلة" وهوزان عكو "بروانة أو الحرائق،" حيث الجوُّ يسوده التوتّرُ في الأوطان... لكنْ من دون بحثٍ حقيقيٍّ في أسباب تلك الهجرة.

أمّا "باريس في الظل" ليَمّ مشهدي، فإنَّ بطلاتِها الثلاثَ قدِمْنَ إلى باريس من أماكن لم تعدْ تتحمّلُها أرواحُهنّ: الأولى من روسيا بعد سقوط الاتّحاد السوفييتيّ، والثانية من بيروت بعد الحرب الأهليّة، والثالثة من سورية، لتصبحَ باريسُ مسرحًا لعُشقهنّ. أمّا في التعبير عن الهجرة، فنسمع الشابّة السوريّة تقول إنّ دمشق خنقَتْها لكنّها تحنّ إليها؛ غير أننا لا نعرف أزمتَها الحقيقيّة، ولا الأسبابَ التي جعلَتْ باريس متنفّسًا لها، ولا الأسبابَ التي تمنعُها من العودة إلى دمشق (ولكنْ في مكانٍ آخر تومئ مشهدي إلى الرقابة حائلاً دون قدرتِها على تقديم تفصيلات لأسباب الهجرة). (44) ويقرّ وائل قدّور بأنّ النصوص تطرح أفكارًا كبيرةً دون جهدٍ في البحث والتحليل، أو في إيراد حقائق قد تتجاوز الخطوطَ الحمر: "هنالك توصيفٌ وغيابٌ للتحليل، بل تجنّبُ المشروع التحليليّ. وأنا أوافق د. ماري إلياس حين تقولُ في مقدّمة نصوصِنا إنّ التوصيفَ جاء على حساب التحليل، وإنّ العالمَ الذي نعيشُه على درجةٍ من التشابك والتعقيد. قد لا يتعلّق السببُ بالرقابة، [بل] هنالك مسألةٌ تتعلّقُ بمقدار نضوجِ التجربة." (45)

- تغيب عن النصوص الجديدة اهتماماتُ الكتّاب المسرحيين الأقدَم، ولا سيّما جيل الستينيّات والسبعينيّات، كالاهتمام بالتأصيل شكلاً ومضمونًا، وهمَِّ خلقِ مسرحٍ ذي هويّةٍ عربيّةٍ أو محليّة، على ما سبق الذكرُ. وهذا يعني غيابَ علاقةِ جيل الشباب بالتراث الشعبيّ مثلاً. وربّما تكون نصوصُ عدنان العودة هي الاستثناءَ الوحيد: فقد اختارَ البيئةَ البدويّة، في المنطقة الشماليّة الشرقيّة من سورية، لنصَّيْه المنشورين "ثنائيات" و"خيل تايهة" ولثالثٍ لم يُنشرْ بلْ تمّتْ مسرحتُه بعنوان "المرود والمكحلة." (46) وقد ركّزَتْ نصوصُه على البنية الفُسيفسائيَّة للمجتمع السوريّ في تلك المنطقة، وعلى التعايُش بين الإثنيّات من عربٍ وأكرادٍ وأرمنٍ وشركس، وبين المذاهب المختلفة داخل الدين الواحد. وتبدو الصورةُ الورديّةُ التي يرسمُها عدنان العودة لتلك المنطقة ممتدّةً حتى وقتِنا الحاضر، وهذا يختلف عن الواقع. وعلى الرغم من حضور تفاصيلَ يمكنُ إدراجُها ضمن قضايا الهمِّ العامِّ، كإهمال الدولة لتلك المنطقة فتراتٍ طويلةً وتركِها بلا كهرباء وانتشار البيروقراطيّة، إلاّ أنّ ذلك لا يحْضر في نصوص العودة الثلاثة إلاّ من خلال القليل من الوصف. وفي نصّ يامِن محمد، "قدمٌ إلى الأمام قدمٌ إلى الوراء،" يجري الاعتمادُ حصرًا على اللهجة المحليّة لإنشاء صورةِ ناحيةٍ من منطقة مِصْياف السوريّة؛ لكننا لو استبدلنا اللهجةَ المُستخدَمة بلهجةِ أيّ منطقةٍ أخرى، لبقيَ النصّ على ما هو عليه... هذا ناهيكم بنمطيّة موضوع النصّ التقليديّة (تزويج الأهل ابنتَهم رغمًا عنها) وعدمِ مناسبته اليومَ للبيئة التي اختارها الكاتب.

- يلاحَظ في النصوص غيابٌ شبهُ تامّ لمسائل الحرّيّات والديمقراطيّة، وكأنّ اليأسَ يسيطر على جيل الكتّاب من دون مقاومة. وفي هذا تتقارب آراءُ الكتّاب الشباب في الاعتراف به وتبريرِه؛ إذ يقول وائل قدّور: "نحن جيلٌ متشرّبٌ بالخوف. ربّما لم نرَ مشاهدَ خوفٍ أمامنا، بل سمعنا وقرأنا وحَكوا لنا. لذلك، وباعتباره لامرئيّاً، فقد يكونُ مخيفًا أكثر... وهذا شيء موجودٌ ومؤثِّرٌ في خياراتنا ككتّاب." (47) لكنّ الكاتب يعتقد أنّ زملاءه أسهموا في الإبقاء على هالة الرقابة بسبب عدم تجريبهم اختراقَها، لأنّهم لا يتجرّأون على ذلك، ولأنّ سقفَ الرقابة سيرتفع إنْ هُم ناطَحوه. (48) وتضيف يمّ مشهدي: "السياسة تغيب لأنّه لا يمكنُ الحديثُ رقابيّاً عن الكثير من المسائل... لقد عولجتْ بعضُ القضايا الحسّاسة من قِبل عمر أميرالاي في أفلامه لكنّها مُنِعتْ. الشباب الآن ليسوا قادرين على أنْ تُمنعَ نصوصُهم ونتاجاتُهم الإبداعيّة... أمّا لماذا ابتعدوا عن السياسة، فربّما لأنّهم أحسّوا أنّ هناك كذبًا كبيرًا على صعيد الأحزاب التي كانت موجودة، وعلى صعيد التغيير، وعلى مستوى جيلٍ قدَّم نفسَه بصيغةٍ معيّنة لكنّه أصبح مُرائيًا. ولذلك يتمّ الاتّجاهُ نحو موضوعاتٍ إنسانيّةٍ وجدانيّة." (49) ولا يختلف منطقُ عدنان العودة عن ذلك: "لا يمكنكِ أنْ تناقشي أصلعَ عن تسريحات الشعر، أيْ لا يمكن للشباب الحديثُ عمّا لا يعرفونه. هناك سقف في التفكير، وهم يفكّرون ما دونَه، وكلّنا نفكّر ما دون هذا السقف." لكنّه يضيف: "يجبُ عزلُ الدراما عن الفكر والتاريخ، وليست وظيفتَها أن تلعبَ الدورَ التنويريّ."(50)

بعض الملامح التفصيليّة

- في "بروانه أو الحرائق" لهوزان عكّو تُطرَح قضيّةُ الإرهاب والتكفير، والموقفُ الأصوليّ من المرأة وتعامل المجتمع معها، بلا تحديدٍ زمانيّ أو مكانيّ، وكأنّ النصَّ يريد تعميمَ حالة التطرّف هذه على العالم الإسلاميّ والمنطقة العربيّة بدلاً من معالجتها بارتباطِها بالظروف الخاصّة لكلّ منطقة. وفي ذلك تعميمٌ يقارِبُ النظرةَ الاستشراقيّة إلى مجتمعاتنا.. هذا من غيرِ أن نبْخسَ المستوى الفنّيّ للنصّ حقَّه من ناحية اللغة الجميلة والتشويق.

- تقدِّم مسرحيّة "الفيروس" لوائل قدّور إدانةً للمجتمع في ما يخصُّ موقفَه من الجنس خارجَ إطارِ الزواج، وكشفًا للنفاق الاجتماعيّ تجاه موضوعات "الشرف." فشخصيّاتُ الشباب تدخل في علاقاتٍ جنسيّة بلا زواج، لكنّها تصطدم بموقف الأهل المدَّعين للشرفِ والأخلاقِ تحت مظلّة الدّين. إلاّ أنّ النصّ يُظهر هؤلاء الشبابَ (ذكورًا وإناثًا) غيرَ مستعدِّين للدفاع عن علاقاتهم وتحمُّلِ المسؤوليّات: فالشابُّ يسافر تاركًا صديقتَه حاملاً، والصديقةُ تختفي عن أنظار أهلِها حتّى تلِدَ وتبيعَ مولودتَها. ولا يتغيّر الموقفُ إلاّ في النهاية حين يدعو النصُّ إلى المواجهة وتحمُّل المسؤوليّة، وذلك من خلال شخصيّة الأخت التي تتراجع عن قرارها ترقيعَ غشاء بكارتها. من هنا قدّمَ النصّ موضوعًا غير مستهلكٍ في المسرح السوريّ، على الرغم من كونه نمطيًّا في أجناس أخرى من الأدب والفنّ.

- يتمحور نصّ مسرحيّة "مولانا" للفارس الذهبيّ حول فكرة التمرّد على بنى الدين التقليديّة. فالشابّ عابد فهمَ التصوّفَ بمفهومه الخاصّ، رابطاً الحبَّ الدنيويّ، والشهوةَ تحديدًا، بمحبّة الربّ ورسوله، مستمّدّاً الدعمَ والثقةَ من ابن عربيّ الذي يزوره في مناماته. لكنّ المجتمع ينبذُه بسبب هذا التمرّد على معادلات الجماعة. ومن هنا يقترب موضوعُ النصّ من قصّة "أكانَ لا بُدّ يا لي لي أن تُضيئي النور؟" ليوسف إدريس، لكنّ ذلك لا ينتقص من أهميّة موضوعها، ومن الصورة التي يُقدّمها عن حيِّ الشيخ مُحي الدين في دمشق، ولا سيّما طبقة الفقراء ودور المساعدات الاجتماعيّة المهمّ في حياتهم.

- أما من حيث الشكل فتنتمي هذه المسرحيّات عامةً إلى قوالب نموذجيّة أو تقليديّة. ويستثنى من ذلك نصّا عدنان العودة الذي يقدّم تجربةً جديدةً على المستوى الفنّي: فمسرحيّاتُه أقربُ ما تكون إلى نصوصٍ أدبيّةٍ منها إلى الشكل المسرحيّ المعروف، إذ تغيب الحواراتُ المتتالية، ويحظى السردُ بالدور الأهمّ من خلال رواتِه المتعدّدين. وتبدو تجربةُ العودة متأثِّرةً بالمسرح الملحميّ البريختيّ من حيث التركيز على الحكاية واللوحات غير المرتّبةِ زمنيّاً، معتمدًا على الأغنية الشعبيّة والشعر الشعبيّ ـ وهما عنصران يجعلان من نصوصِه أعمالاً ذاتَ موضوعاتٍ محليّةٍ وتقنيّةٍ غربيّة.

- نلاحِظ أثرَ غياب المؤسّسات الوطنيّة الراعية، وهذا طبعًا جزءٌ من أزمة المسرح في سورية. وفي ندوة "واقع الكتابة المسرحيّة في سورية" التي عُقدتْ في 30 آذار في دمشق، تحدّث عدنان العودة عن مشكلةٍ "خطيرة" حين قال: "إنّ مَن يديرُ حالةَ الكتابة المسرحيّة في سورية ويهتمّ بها هو الجهاتُ الخارجيّةُ، مثل تجربة مسرح الرويال كورت، حيث عملوا ورشةَ كتابةٍ أعطَتْ 6 كتّاب، وورشةَ كتابةٍ ثانيةٍ على مستوى العالم العربيّ. والخطير في الأمر أنّهم فَرضوا علينا شكلاً من الكتابة. هم لا يهمّهم كيف نفكّر؛ يهمّهم كيف يروْننا، ويجب أن نفكّر بطريقتهم. والنصوص التي تمّ اختيارُها لتُعرَض في الرويال كورت هي التي تناسِبُ ذهنيّتَهم." (51) ويتّفِقُ معه في هذا الرأْي كتّابٌ شبابٌ آخرون، منهم الفارسُ الذهبيّ الذي يُسمّي تلك الورشات بعثات تبشيريّة. (52) (وطبعًا هناك كتّاب شباب آخرون لا يوافقون على الفكرة السابقة). (53)

ختامًا، قد تشي الملاحظاتُ حول نصوص الكتّاب الشباب بالسلبيّة، رغم أنّ معظمها مكتوبٌ بلغة رشيقة ومشوقة وتدلّ على تمكّن في الكتابة. غير أنّ ما لاحظناه هو تعبيرٌ حقيقيّ عن أزمة المسرح في سورية، وهو أكبرُ من مسألةِ إنتاجٍِ شبابيّ أو غير شبابيّ. فالمسرح، كظاهرةٍ عامّةٍ، محكومٌ بعددٍ من الاعتبارات ليتطوّرَ سلبًا أو إيجابًا. وهذا لا يمنعُ كلَّ مرّةٍ من ظهورِ مبدعين يقّدمون أعمالاً مهمّة، لكنّهم يبقون ظواهرَ فرديّةً لا تؤدّي إلى حركةِ تطوّرٍ مسرحيّةٍ عامّة.

دمشق
* مايا جاموس

إجازة في النقد والدراسات المسرحية من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق 2004

الشعر السوريّ الجديد: الحصارُ والهروب

عبدالوهاب عزّاوي

قصيدة النثر: قصيدةُ القطيعة والخذلان

شكّلتْ أحداثُ الثمانينيّات في سورية صدمةً عميقةً في المجتمع والثقافة، وكرّستْ رهابًا فظيعًا جرّاء الإجراءات القمعيّة التي حصلتْ في تلك الفترة وما بعدها. وأدّى ذلك إلى تحوّلاتٍ كبيرةٍ في العقود الثلاثة الأخيرة، أصابت مظاهرَ التعبير الاجتماعيّ، ومنها الشعرُ. فقد أَوجدتْ عند كثيرٍ من الشعراء حالةً من الكفر بالأحلام الكبرى، وأدّت إلى ضياع ثقتهم بـ "الآباء الشعريّين،" وإلى ارتدادِهم نحو عوالمِهم الداخليّة، محاطِين بالعزلة والألم. وتحوّلَ كثيرٌ من نصوصهم من النزعتين الرؤيويّة والرساليّة إلى التفاصيل الصغيرة، مغلّفةً بنبرةٍ خاصّةٍ حزينةٍ متفجّعة.
وعلى صعيد اللغة ساد التقشّفُ والبساطة، وسيطر ضميرُ المتكلّم المفرد بدلاً من الضمير الجمعيّ، وغلب الصوتُ الواحدُ بدلاً من الحوار وتعدّدِ الشخوص. ولعلّ نصوصَ الشعراء حسين بن حمزة ولقمان ديركي وعمر قدّور وصالح دياب وجاكلين سلام وغيرهم أن تكون أمثلةً على ما ذهبنا إليه.

أما على صعيد النوع الشعريّ، فقد سار الشعراءُ السوريّون الجدد على درب القصيدة النثريّة الشفويّة، كما حصل في معظم الدول العربية. (54) ويبيِّن مشروعُ "ديوان الشعر العربيّ في الربع الأخير من القرن العشرين" (نُشر في سلسة كتاب في جريدة) أنّ 90% من الشعراء العرب هم شعراءُ نثر. (55) فقد تعرّضَتْ قصيدةُ التفعيلة العربيّة، وفي سوريّة أيضًا، إلى صدماتٍ متتاليةٍ، باعتبارها وليدةَ مرحلةِ المدّ السياسيّ الثوريّ، وثورةً على الكلاسيكيّة العموديّة، وربّما لأنّ بعض شعرائها الأساسيّين ارتبطوا بآلات أحزابهم الإعلاميّة في صعودِهم وانتشارِهم (فدعمَ القوميّون السوريّون، مثلاً، أدونيس والماغوط، ودعم البعثيّون في مرحلةٍ ما ممدوح عدوان وعلي الجندي ومحمد عمران، ودعم الشيوعيّون شوقي بغدادي، الخ...),
ترافقتْ سيطرةُ النصّ النثريّ مع "اصطفاءٍ شعريّ." فلم يعد نزار قبّاني بتمرّده على تابو الجنس يغري شعراءَ هذا الجيل؛ وأمست نخبويّةُ أدونيس فوق يأسهم؛ في حين أمسى محمد الماغوط، بجنونه الشعريّ ونزقه وتمرّده، النموذجَ الأكثر حضورًا وتأثيرًا في جيل الثمانينيّات وما تلاه، حتى تُوّج أبًا لشعراء النثر في سورية. (56)

وبالوصول إلى مطالع الألفيّة الثالثة، لا نجد أنّ وضع الشعراء أفضلُ كثيرًا؛ فهُم لم يحظَوْا بفرصٍ وافرةٍ لتحقيق شيءٍ من أحلامهم الجماعيّة الكبيرة. ولذا فقد تكرّستْ في قصائدهم العزلةُ واليأسُ، وترافق ذلك مع ابتعادٍ واضحٍ عن كلّ ما يمتّ إلى "السرديّات التحرريّة الكبرى" بصلة. وربّما كان أهمَّ ما في تجربتهم هو تكريسُ القطيعة مع القصيدة العموديّة بشكلٍ خاصّ، ومع قصيدة التفعيلة إلى حدّ أقلّ بسبب قربها الزمنيّ منهم وبسبب الحضورِ الهائل لبعض أسمائها المكرّسة كمحمود درويش. وفي هذا تبدو قصيدةُ النثر في سوريّة وكأنّها في حالة هروبٍ إلى الأمام، تجانُسًا مع الجَزْر الثقافيّ والسياسيّ، وذلك خلافًا لما كانت عليه في نشأتها التاريخيّة في فرنسا حيث ترافقتْ مع المدّ الثوريّ البرجوازيّ. (57) ووسط التهميش والعزلة الخانقين، اقتصر الحراكُ الأدبيُّ على تجاربَ فرديّةٍ، تحاصر الجميعَ، باستثناء مَن نجح في دخول لعبة "العِصابات الثقافيّة" الضيّقة التي ازدهرتْ مع غياب مشروعٍ نهضويّ عامّ للمجتمع. (58) ومن ثمّ انتقل التناصُّ (وهو بمعنى يتجاوز التأثّر النصّيّ) في تجارب هذا الجيل إلى شعراء خارج الموروث الشعريّ العربيّ القديم، أمثال يانيس ريتسوس ولوركا ونيرودا وبنتر. فغدا "النصُّ الغائبُ" أو التحتيّ في القصيدة السوريّة أوروبيّاً وعالميّاً في بعض الأحيان، أو محلّيّاً مشوَّهًا يقتدي بالأسماء المكرّسة في الشعر العربيّ الحديث في أحيانٍ أخرى، مع قطيعةٍ شبه كاملةٍ مع الموروث الشعريّ العربيّ القديم. (59)

وفي هذا المقام علينا أن نعترف بوجود القطيعة بين الموروث المذكور والشعر الجديد، بغضّ النظر عن موقفنا منها:

ـ فعلى مستوى الشكل، لم يعد الوزنُ الخليليُّ المليءُ بالحشو حيويّاً. وأصبح مفهومُ الإيقاع أكثرَ اتساعًا، ليشملَ الإيقاعَ الصوتيَّ، وإيقاعَ السرد والحوار، وإيقاعَ البياض أو ما يسمّى "التوازنَ بين الأبيض والأسود." (60) وبات الصمتُ في شعر اليوم عنصرًا فاعلاً في النصّ، وقد يكون محوريّاً لدى بعض الكتّاب، ككتّاب العبث، حيث تتحوّل اللغةُ بحسب مارتن إسلن إلى "حصى تملأ فجوات الكلام."

ـ وعلى مستوى المضمون بَهُت ألقُ الأغراض الشعريّة التقليديّة في الشعر العموديّ، باستثناء الغزل باعتباره سؤالاً وجوديّاً يعيش أبدَ الدهر. بل إنّ بعضها، كمديح السلطان، بات مرذولاً في لاوعي معظم الشعراء الشباب بسبب الإحباط المترسّخ في أرواحهم. وأما بقيّة الأغراض كالهجاء أو الرثاء، فلا يمْكن أن تستمرّ بالصيغة التقليديّة للشعر العموديّ؛ فقد مات مفهومُ "شاعر القبيلة" فعليّاً، رغم بقاء بعض التجارب التي تحمل أثرَه مثل شعر مظفّر النوّاب الفصيح.

ـ وعلى مستوى اللغة شاع الاستسهالُ. حتى إنّ أغلب الشعراء الجدد يخطئون في النحو ولا يعتبرون ذلك نقيصةً؛ فالمهمُّ لديهم، بحسب زعمهم، هو الصورةُ الشعريّةُ أولاً، وذلك بعد أن سيطرتْ في شعرهم الفكرةُ، أو الرؤيةُ، أو المشهدُ، أو الصورةُ، بدلاً من الكلمة. ومنهم من يعمد إلى استخدام كلماتٍ معاصرةٍ من دون توظيفٍ حقيقيّ في النصّ، كـ "الإنترنت" والـ "إس إم إس، (61)" لتصبح القصيدةُ اليوميّة لدى بعضهم قصيدة "لصق الوجه بالمرآة" كما يقول أدونيس. (62)

تطوّرتْ مدارسُ الحداثة الأوروبيّة وسط مناخٍ عامٍّ تميّزَ بخيبة الأمل وانهيار المعتقدات الراسخة، كالإيمان الدينيّ والثورة الراديكاليّة، بعد أن سيطر القمعُ الستالينيُّ والمجازرُ المروّعة في الحرب العالميّة الثانية. وقد جعلتْ هذه الأحداثُ العالمَ مخيفًا ولامنطقيّاً و"لامعقولاً." (63) هذا المناخُ هو الذي يسيطر على المشهد العربيّ عمومًا، وعلى السوريّ تحديدًا. ويوجَّه التناصُّ شطرَ الإبداع الأوروبيّ، بما فيه من تجديدٍ وتمرّدٍ وحيويّة؛ فهواجسُ هارولد بنتر ونيرودا في الحريّة والدفاع عنها تجذبُ الآن أكثر من امرئ القيس؛ هذا ناهيك بتأثّر السيّاب بإليوت، (64) وأدونيس بسان جون بيرس، ودرويش بأوكتافيو باث. وليس غريبًا أن يقترح شوقي عبد الأمير، في سياق التناصّ مع النصّ العالميّ، مفهومَ "القصيدة المعولمة،" إذ يقول: "تتباعد أحيانًا بعضُ الرموز، وتتباين ظلالُ اللغات. ولكنْ، وبحكْم العاصفة الجبّارة التي تَجسُر القارّاتِ بعضَها إلى بعض، وهو ما أُطلق عليه اسمُ العولمة، صار الجميعُ يكتب قصيدةً متقاربةَ الملامح والدلالات والإشارات." (65)

مشروع المجّانيّة الشعريّة

أعتقد أنّ أخطر ما يعانيه الشعرُ السوريُّ الآن هو مشروعُ "المجّانيّة الشعريّة." فالكتابة الجديدة اليوم تهربُ من كلِّ القوالب القديمة نحو سردٍ نثريٍّ اعتباطيٍّ أحيانًا. فإذا كانت قصيدةُ النثر عند ولادتها تمرّدًا على وزن التفعيلة، فإنّ كثيرًا مما يُكتب الآن هو تمرّدٌ على مفهوم الشعر، لا شكلِه.

وما يزيد هذا المشروعَ خطورةً تبنّيه من طرف مؤسّسةٍ تابعةٍ للسلطة، مثل "الأمانة العامّة لاحتفاليّة دمشق عاصمةً للثقافة العربيّة" (وإنِ استعانت هذه الاحتفاليّةُ بأسماء نظيفة، لا تقوم بمديح السلطة، وسلّمتْها إعدادَ المشروع). فبدت الاحتفاليّةُ فعلاً إعلاميّاً (لا ثقافيّاً أصيلاً) يهدف أساسًا إلى تحسين صورة دمشق في الخارج وإبراز البعد القوميّ. ومن أمثلة نشاطات الاحتفاليّة في باب الشعر أنّها اختزلتْ مشروعًا مهمّاً كان يسعى إلى توثيق المشهد الشعريّ السوريّ من خلال طباعة مائة ديوان، إلى مسابقةٍ تقليديّةٍ تنشر اثنيْ عشر ديوانًا فقط، هَمَسَ البعضُ بأسماء عددٍ من الفائزين فيها قبل إعلان النتائج!

هكذا جرى الانحيازُ الرسميّ إلى تيّارٍ شعريّ يُعرِّف الشعرَ الجديدَ بكتابة "اللاشعر": فيه سيطرةُ سردٍ نثريٍّ عامّ، مشتّتٍ، يُشْبه الخواطرَ الصحفيّةَ أحيانًا، ويبتعد عن التكثيف والانزياح (مع استثناءاتٍ قليلةٍ كديوان سامر إسماعيل، متسوِّلُ الضوء). وإلى ذلك يكرِّس هذا النوعُ الشعريّ عددًا من الأساليب اللغويّة الركيكة، كاستخدام الاسمِ الموصول وأدواتِ التشبيه في غير مواضعها. كما لا يتمّ توظيفُ توازن الأبيض والأسود في النصّ: فنلاحظ أنّ بعضَ النصوص تُكتب كاملةً، كالمقالة، من دون تقطيعٍ شعريٍّ، اقتداءً ربّما بشاعرٍ مثل نزيه أبو عفش... سوى أنّ هذا الشكلَ لا يجري توظيفُه كما يفعل أبو عفش. ومن ذلك قصيدةٌ بعنوان "إلخ..إلخ.." (66): "أنْ تضعَ الفلفلَ والسمّاقَ والكمّونَ والورس، على الرفّ الذي تضع عليه، عادةً، الفلفلَ والسمّاقَ والكمّونَ والورس، يعني أنّك مجرّدُ شخصٍ يضعُ الفلفلَ والسمّاقَ والكمّونَ والورس، على الرفّ الذي تضعُ عليه الفلفلَ والسمّاقَ والكمّونَ والورس .. إلخ.. إلخ."

ونلاحظ، أيضًا، استسهالاً للقصيدة اليوميّة، إذ تتحوّلُ القفشاتُ والمعالجةُ السطحيّةُ للفكرة إلى الطريق الأسهل للكتابة. ومن ذلك مقطعٌ في صفحةٍ كاملة : (67)"وإذا كنتِ ستأتين/للثرثرة/فهناكَ أشياءُ أقومها، كالصمتِ مثلاً"؛ أو مقطعٌ آخرُ يحتلّ صفحةً كاملةً أيضًا: "يُسعدني أنْ أقولَ لكِ:/أنا أغبى رجلٍ/في العالم" (68) ؛ أو قصيدةٌ بعنوان "شوق": "كلّما توغّلتُ في وجوهِ الناس/ازددْتُ شوقًا إلى الغابة" (69) (وهو ما يذكّرنا، بالمناسبة، بعبارةِ برنارد شو الشهيرة: "كلّما عرفتُ الناسَ أكثرَ أحببتُ كلابي أكثرَ").

وإذا كنا نستغرب أن تعبِّر هذه النماذجُ، التي تكتبُ بالتوجّهِ نفسه تقريبًا، عن الشعر السوريّ وجيلِ الشباب و"الحداثة الجديدة،" فإنّ الاستغراب يزول حين نعْلم أنّ بعضَ محكّمي المسابقة الشعريّة الخاصّة باحتفاليّة دمشق لا يَحُوز هو نفسُه اعترافًا شعريّاً بما يَكتب. بل إنّ بعضَهم يرتكب أخطاءً نحويّةً وإملائيّة، أو يكتب بركاكةٍ تشبه الشعرَ المترجم. هكذا نقرأ لأحد محكّمي المسابقة الشعريّة المقطعَ التالي : (70) "عادَ يشبهُ أنْ تطأَ بقدمِكَ في حافّةٍ طريّةٍ من ليلٍ كهذا/أنّ ليلاً غيرهُ باتّساعِ رصيفٍ وبرارٍ أمامه .../إلا أن تسهى/وتتذمّر/وتشتكي"! ولا بدّ من التأكيد أنّ من حق أيّ شخصٍ أن يكتب كما يشاء، لكنْ أن تتبنّى مؤسّسةٌ رسميّةٌ مشروعًا شعريّاً كهذا، فذلك أمرٌ يحتاج إلى النقد.

أين يسير الشعرُ السوريّ؟

في الختام، لا يبدو مستقبلُ الشعر السوريّ مشرقًا جدّاً إذا استمرّت السياساتُ الرسميّةُ على هذا النحو. فتجاربُ بعض الكتّاب الشباب، التي حازتِ اهتمامًا وجدارةً في ما مضى، يجري إهمالُها أو تهميشُها اليوم من طرف المؤسّسات الثقافيّة السوريّة: كتجربة مازن أكثم سليمان، الذي استطاع أن يرسم مبكّرًا خطَّه الخاصَّ ضمن معادلةٍ معقّدةٍ يجْمع فيها البساطةَ والعمقَ والدهشةَ والسيرَ في دروب اللاوعي؛ أو كتجربة الشاعرة ميسون شقير التي تكتب بانسيابيّةٍ وتكثيفٍ عاليين؛ أو كتجربة فارس البحرة، الذي يمتاز بعفويّة نصّه الطفوليّة وجماليّاتها الجديدة. ويضاف إلى الإهمال المؤسّساتيّ لمثل هذه التجارب إهمالٌ نقديٌّ، صحافيٌّ وإعلاميّ. حتى لتبدو التجاربُ الجديدةُ الجيّدةُ محاصرةً حصارًا محكَمًا.

لكنّ الأبوابَ غيرُ مُوصدةٍ تمامًا في وجهِ المبدعين الشباب؛ فقد شكّلتْ مواقعُ الإنترنت حمايةً ومنبرًا حرّاً، على ما فيه من فوضى وعشوائيّة. وأصبحتْ مواقعُ إلكترونيّةٌ، كـ"جهة الشعر" و"كيكا" و"الكلمة" و"مجلّة أبابيل" و"مجلّة معابر،" البابَ الأوسعَ للشعر العربيّ، والمكانَ الأفضلَ لرصد اتّجاهاته والاهتمامِ بالتجارب الحداثيّة فيه.
وتبقى الأسئلةُ المقلقة: إلى أين يسير الشعرُ السوريُّ الآن؟ وإلى أين سيهرب شعراؤه لاحقًا؟ وهل سيُمسي الشعرُ كتابةَ "اللاشعر"؟

مجلة الآداب
العدد 9-10 /2009