خلدون عبد اللطيف
(الأردن)

زياد العنانينشر زياد العناني أولى مجاميعه الشعرية "خزانة الأسف" عام 2000 وهو في الثامنة والثلاثين من العمر، لكنه اصطدم بالرقيب الذي منع تداولها، وبات يَحتاطُ في إجازة كلِّ ما يكتبه زياد لاحقاً، ولربما تأخر العناني في النشر بعد تراكم إحساسه بأوان تحطيم الأصنام، وعدم التورع في انتهاك أي قداسات أو تابوهات قد تعيق انطلاقته، وضرورة التحرر الوجودي من كل ما من شأنه تقييد تمرده الخاص للإلتحام بسماء الشعر، وربما أيضاً نتيجة شعورٍ عارمٍ بأن الشَّرط الإنساني بات متوافراً في تلك اللحظة لكي تشاركه القصيدة كلَّ لحظة من لحظاته.

برأيي، يفترق زياد عن سواه من الشعراء في التعامل مع مفردات اللغة الدالة على عبثية الفقد وتعميق الخسارات في مقابل مشروعية التمرُّد، والتقاط نلك المفردات بحالتها الإنشائية أو الخام من مُحيط تجربته المتصادمة مع الحياة، لتأخذ بين يديه صبغة أكثر إيحاءً ومُغايرةً داخل قصائده، كأنه يستظل بتلك اللغة التي يُبادلها الإختراق، ويُمهِّدُ كل منهما لحديث الآخر وصمته.

ومن خلال استقرائي ومتابعتي لمنجز قصيدة النثر العربية عموماً والأردنية على وجه الخصوص، لا أعتقد بأنني أجافي الحقيقة أو أمارس نوعاً من التقديس الأعمى حين أشدّد على أنَّ العناني استطاع ضمن قلة من الشعراء انتشالها من كارثية التماثل وفخاخ الرتابة والنمطية، إذ ثمة حساسيةٌ عاليةٌ في سخريته من الوجود ومحاكاته لخيبات البشرية تغاير ما اعتادت على سماعه الأذن، بحيث ينطبق عليه ما قاله أحدهم عن رامبو بأنه "ابتكر نشيداً يتصاعد من قلب البؤس". لكن، لا يجب أن يعمينا ذلك عن رؤية تجربته بشمولية وموضوعية، تزاوج بين طوباويةٍ شعريةٍ ذات مسحةٍ شخصية، وارتحالٍ دائمٍ في البياض السَّحيق للماضي الفردي والجمعيِّ حيث تحتفظُ الأشياءُ بصورها الأصلية.

من البديهيِّ في معادلة الكتابة الجديدة، أنّ كتَّابَ قصيدة النثر الجيدة والفارقة هم فقط الذين يعايشون مخاض الإشتباك مع اللغة الشعرية. وبتواتر الكلام عن زياد عبر مُعاينة مشروعه الشِّعري، لا يَخفى أنَّ قصائده منذ "خزانة الأسف" جاءت طافحةً بلغةٍ مكثفة ومجازات متفاعلة لا جامدة أو نمطية، في موازاة التداعي وإضاءة النَّص من زواياه دون افتضاحٍ، وهي معادلةٌ ليست هيِّنة، عملَ العناني على تسَخيرها بعمقٍ في مجاميعه اللاحقة، ونَجَح في الإستفادة من طاقات النثر وتدفقاته الحيوية، بحيث اتَّصفت القصيدة عنده بالإختزال والبعد عن الثرثرة، وأخذت طابعاً يقترب من معاينة جوهر الأشياء بإقتصادٍ لغويٍّ مُبَطَّن لا يُخلُّ بالمبنى أو المعنى، دون أن يخفي ضيق ذرعه ولعنته على تلك اللغة التي "تثعلبت" كما يقول، مُضيفاً، بأنَّها طوقتنا مثل فرائس""لا نجاة لها/ إلا/ بالموت أو الصمت/ الذي يصرُّ الشعراء على أنه لغة".
على صعيدٍ مشابه، يبدو من الظلم تصنيف زياد في خانة شعراء "التوقيعة" وهي القصيدة القصيرة ذات البنية المكثفة على مستوى اللغة والنهاية أو القفلة المدهشة والمفاجئة، إذ أَن تصنيفاً كهذا يُعدُّ إقصاءً لمنجزه وتنويعاته في كتابة قصيدة نثر طويلة ومقاطعية، كما في نصِّه العاصف "الشُّعراء" الذي نشره نهاية تموز الفائت، أو نصِّه "كلُّ ما فينا يشير الى الموت فقط" المنشور في مجموعته الأخيرة "زهو الفاعل"، لكنَّه لا ينشغل كثيراً بحجم القصيدة، فهي تنتهي عنده حالما تكتمل دورتها وتؤثثت بيتها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة منذ المطلع وحتى الخاتمة دون مجانيَّة في توزيع الأسطر والكلمات أو حشوٍ يَفيض على حاجتها.

من ميلٍ آخر، فإنَّ الحضور الدائم للموت في قصائد العناني ظاهرةٌ تستحق الدَّرس، وكأنَّ صداقةً من نوعٍ ما نشأت بينهما دون تكلُّف. أو ليست مفارقةً أن يَستهلَّ شاعرٌ أولى مجاميعه الشعرية بقول الشاعر الفرنسي جاك بريفير "إنني أتحدثُ دائماً إلى الموتى/ إنه لسرٍ غريبٍ أن تشاهدَ ميتاً/ وأغرب من ذلك أن تنظر إلى حي"؟ يقول في إحدى قصائد مجموعته "شَمسٌ قليلة" الصادرة عام 2006: "أقلب رأسي وأسعى الى انتحار علني/ يكون على مرأى من حياة الناس الآمنة/ جالسا وأسأل: لماذا يا زياد بقيت عرباتك ناقصة/ لا بلادَ في بلادك ولا صلاة في معابدك/ ولا نوم ولا حياة قد تقترحها/ لماذا يا صاحب الدمعة المالحة تعيش/ وبأي عين ستنظر الى الدنيا/ وقد خسرتَ كل شيء". بيدَ أنَّ حضور الموت كـ"ثيمة" بهذه الكثافة في قصائد زياد لا يمكن اعتبارُهُ احتفاءً بضيف، إذ على العكس من ذلك، يَسعى العناني - كما أشار أحد النقَّاد مُحقاً – "إلى حياته خلف أسوار العيش الرديئة التي تكلّست منذ أن هَجَرتنا الدهشة واستقرّ إحساسُنا عند مستوى الانفعال الأوليّ الساذج الذي لايقوى على احتمال الحياة بالنهوض والرفرفة إلى مستوى الدهشة العالية، ولرفد روحه بالمزيد من المقوّيات لاحتمال الحياة"

محاور كثيرة لا تزال بحاجة إلى القبض عليها في تجربة زياد العناني الشعرية، والتي تتوازى وتتقاطع مع تجربته الحياتية: الأب والأم، العائلة وسلالتها، الأصدقاء وأشباههم، الخروج على ثوابت المجتمع والتمرد عليها، ثنائية الشاعر والسلطة التي قال بصددها ذات مرة في إحدى مقالاته "اللقاء بين شاعر ما ونظام ما لا يتم إلا على حساب الناس"، وهو كذلك لا يزال زاخراً بكلِّ ما يضيء زمنه وكتاباته، كونه من القلة التي تذهب بقصيدتها دون تكلُّفٍ إلى المتلقي، ولا تنتظر أن يأتي هو إليها، فيما يظلُّ الشِّعر خَلاصَهُ وملاذاً شبه آمنٍ له، وأعتقد أنَّه يشعر بإنتشاءٍ مؤقتٍ كلَّما انتهى من كتابة قصيدة، لكنه لا يَنتفخُ أو يتنافخُ، فالشَّاعر الذي يفعل ذلك سرعان ما يَتضاءلُ رويداً رويداً.

أختم بالقول أن الكتابة عن الشاعر والإنسان زياد العناني لها نكهة مختلفة وطعمٌ مغاير للمألوف، وتحتاج منَّا أن نقرأ منجزه الشِّعري بشكل وافٍ لا يُبخسُهُ حقَّه، لنكتشف كيف ينطوي على سخرية لاذعة، ومقاومةٍ للإنهيار تتفجَّر داخل حلقات الصَّمت المغلقة. زياد لم يَنحَزْ يوماً في حياته وشعره سوى إلى الهامش وتفاصيل الشارع والبسطاء، ولهذا لا نعثر على تناقض صارخٍ بين ما يتكلم به ويكتب عنه، فهو ضمن قلَّةٍ تمارس الكتابة بنفس المقدار من الشفافية والصراحة التي تتكلم بها، كما أنه يُربِّي كلَّ قصيدة من قصائده بلا حراسةٍ، ويعلن عنها جَهاراً نَهاراً، في حين يمارس غيره الكتابة داخل صناديق سوداء، وشعارهم في ذلك: "اكتُبْ واهربْ"، كمن يقود سيارة بدون رخصة.