محمد بنيس
المغرب

1

محمد بنيسلم ينقض وقت طويل عليّ في المدرسة الابتدائية حتى انفتح لي عالم القراءة. كانت القصص طريقي. كان بعضها في مكتبة القسم بمدرسة العدوة، وبعضها كنت أشتريه من بائعي الكتب المعروضة على الأرض، بمحاذاة جامع القرويين، أو أتبادلها مع رفاق.
شغف القراءة كان متواصلا. لا أكاد أنتهي من قراءة قصة حتى أفتش حولي عن القصة الموالية. كتب قصص الأطفال كان وافداً جديداً على مدينة فاس. كنت أول من يقرأ هذا النوع من الكتب في البيت. أختي الكبرى لم تدخل المدرسة. أبي كان تاجراً صغيراً، يصنع ويبيع الملابس التقليدية، أشهرها الجابادور والبدعية، في القيسارية. وعمي كان يحب الأغاني المصرية لعبد الوهاب وفريد الأطرش. غالباً ما كنت أنصرف لقراءة القصص فيما كنت معتنياً بدروسي أشد العناية. كانت جدتي تحب أن تروي لي قصصاً كلما وجدتني قريباً منها، حيث كانت تستهويني عوالم الشخوص العجيبة التي تنتهي حكاياتها بحكمة ضمنية. وفي فترات محددة من كل سنة، كان البيت يعيش طقوس الحفلات الدينية، التي تتردد فيها قراءة القرآن والأمداح النبوية والموسيقى والجذبة.
ولا أدري بالضبط كيف انتقلت من قراءة هذه القصص إلى قراءة الدواوين الشعرية والكتب. ما أحتفظ به في الذاكرة هو اكتشافي لدواوين الشعراء العرب، لدى بائع الكتب، بمحاذاة جامع القرويين أو مكتباتها المجاورة في رحبة القيس. دواوين قليلة، من بينها ديوان المتنبي وديوان الشابي، أو بعض كتب مصطفى لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران، التي كان بعض رفاقي يقرأونها. حينما كنت أقرأ هذه الدواوين والكتب كنت أحس، في الأعمال الحديثة منها، بما يكلمني فيها ويدهشني. لغة قريبة من حياتي ومن أحاسيسي وتخيلاتي. وفي الدواوين القديمة التي أصحبت أتوفر عليها، مثل المعلقات السبع ودواوين أبي نواس وأبي تمام والبحتري، كنت أتفاعل مع مقاطع يمتزج فيها صوت الشاعر بصوت الكون أو صوت العالم. ثم مع الدواوين مجتمعة برز ما يحيرني في الشعر. كلام مرتب بطريقة توقد في أعماقي لهيب النشوة. هذه الكتب الجديدة كانت تختلف عما كنت قرأته في القرآن، قبل التحاقي بالمدرسة الحكومية، وأنا صغير في الكُتاب، حيث كان جهدي منصباً على حفظ الأحزاب، واحداً تلو الآخر، دون شرح من طرف الفقيه فيتعذر عليّ فهمُ ما أقرأ وأحفظ، كما كان يستحيل علي أن أربط بين التعلم والفهم. كلمات النار والعذاب كانت تخيفني. وما كان يعجبني يكاد يقتصر على كلمات في القصص، مثل قصة يوسف. وفي آيات وسور كنت أترك أنفاسي تنساب مع رنين الكلمات.
في السنوات الأولى من ثانوية بن كيران، عثرت على كتاب 'هكذا تكلم زرادشت' لنيتشه، بترجمة فيليكس فارس وتقديم توفيق الحكيم. عندما قرأت هذا الكتاب شعرت، على نحو خاص، بارتجاج في صدري. كتاب نثري بنبرة مكثفة وجامحة. كل ما كان يمكن أن يخطر على ذهني وجدته في هذا الكتاب، بلغة تمس أبعد ما لا أستطيع التفكير فيه أو التعبير عنه. كلمة فيلسوف لم أكن أفهمها. لكن الكتاب كان غريباً عما كنت قرأت. ولغته النقدية جاءت في وقت كنت غاضباً على ما حولي، من قيم وعادات مجتمع فاس. وما زلت أعتقد أن هذا الكتاب كان دليلي، الذي لا يقارن بأي كتاب سابق عليه، في تكوين قوة الاختراق في أعماقي. مقاطع من الكتاب قرأتها وأعدت القراءة مرات. فلا يلي القراءة سوى الصمت والذهول.
لم أكن في تلك القراءات أتخيل أنني سأكتب ذات يوم شيئاً ينتمي إلى ما أقرأ. كانت الرياضيات فتنة حياتي المدرسية. أما القراءات فكانت امتداداً لحرية الخيال أو حباً لمعرفة أعمق بما يرد على ذهني وشعوري عن الحياة والموت. لم يكن ثمة من تعارض أو صراع بين عالمين، عالم الرياضيات وعالم الأدب والشعر. لكن كل شيء تبدل حينما عثرت ذات يوم على يدي تكتب بغير إرادة مني ولا اختيار. حدث ذلك سنة 1964. عندها كنت أخذت في قراءة دواوين الشعراء المعاصرين، في مقدمتهم بدر شاكر السياب، وخاصة ديوانه 'أنشودة المطر'، ثم في متابعة عذابات مرضه، من خلال مجلة 'حوار'. من هنا بدأ كل شيء في حياتي يميل نحو الشعر. شيئاً فشيئاً تضاءل ذلك العشق للرياضيات، وحلت محله متعة الكتابة.

2

هكذا كان إقبالي على الكتابة بسبب استمرارية القراءة وعدم الانقطاع عنها. لكن ذلك لم يكن كافياً، لأن الكتابة لا تأتي إلا من الكلام الذي يخترق الجسد ويستبد به. ويحسن بي هنا أن أبتعد عن الوثوق في العلاقة الحتمية بين القراءة والكتابة. كثيرون ممن يقرأون أفضل مني لا يكتبون. إن ما اخترق جسدي واستبد به من أصوات ما قرأت وما سمعت هو الذي أمرني بالكتابة. وربما كان حدثُ الانتقال من القراءة إلى الكتابة عصياً على التحليل. غالباً ما أعجز عن فهم ما وقع لي آنذاك، وأنا أمد يدي إلى صفحة على دفتر صغير وأكتب، دون أن يعلم بذلك في البداية أحد. ممارسة في سرية تامة. هي كتابة لا أعرف ما الذي حرضني على الاستمرار فيها، طيلة هذه السنوات. فلا عائلتي كانت مهيأة لتعرف معنى ما أقدمت عليه وانخرطت فيه. ولا مجتمع الأصدقاء كان متشوقاً إلى قراءة ما أكتب. شخص واحد كان قريباً مني هو الشاعر محمد الخمار الكنوني. عندما أطلعته على قصائدي الأولى لا زمني بعنايته. فتح لي قلبه ومنحني كلماته. شجعني، وجهني وعلمني.
ما تلقيته من محمد الخمار الكنوني لم يكن قصيدته. لأنه كان، آنذاك، يبحث عن قصيدة يغادر بها قصائده الرومانسية. كذلك كان الأمر مع الشاعر محمد السرغيني أو الشاعر أحمد المجاطي. فالشعر المعاصر في تلك المرحلة، أي بين 1964 و1965، كان مجرد أصداء غامضة بين الشعراء المغاربة. لذلك كان أعز ما تعلمته من محمد الخمار الكنوني هو حبه للشعر والمعمار والفنون التشكيلية والموسيقى الكلاسيكية. أو ثقافة العزلة والبحث الصعب عن القصيدة والثقافة المغربية القديمة وغربة الأدب المغربي الحديث. أو شغفه بجمالية الخط والنطق المتأني بالكلمات وملازمة المعاجم وكتب اللغة والنقد. أما قصيدته المعاصرة فلم يكتبها إلا لاحقاً، بعد حوالي سنتين. وبالنسبة للصحافة الأدبية المغربية، مثل 'العلم الثقافي'، ومجلة 'آفاق' أو مجلة 'أقلام'، لم تظهر فيها قصائد مغربية معاصرة إلا في سنة 1964، بل لم يبدأ القارئ المغربي ينتبه لها إلا ابتداء من 1967. أما الدواوين فلم يكن يخطر وجودها على بال أحد.
على هذا النحو كنت شديد التعلق بالشعر العربي المعاصر، في كل من العراق ولبنان ومصر. بدر شاكر السياب، خليل حاوي، صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي أصبحوا في طليعة شعرائي المفضلين بالعربية. وفي 1966 تعرفت على شعر أدونيـس، الذي جسد لي المغامرة القصوى في التجربة الشعرية العربية المعاصرة. وإلى جانبهم كنت، بصحبة أصدقائي المطلعين بالفرنسية على الشعر الفرنسي الحديث، أخذت أتعرف على بودلير ورامبو وفرلين وملارمي، أو أكتشف ريلكه وهلدرلين. شعراء غربيون آخرون كانوا بدأوا يدخلون إلى حياتي، من بينهم ت. س. إليوت، الذي كان أيقونة الشعراء التموزيين في الشرق الأوسط، أو فدريكو غارسيا لوركا وبول إيلوار وبابلو نيرودا وقسطنطين كفافي.
هكذا أصبح هؤلاء الشعراء أقرب من يعلمني كتابة القصيدة. ولو لم يكن ما هو أقوى من القراءة ما كنت كتبت، ولا كنت خلوت بنفسي، لأتعلم، عبر سنوات من الإنصات إلى صوت القصيدة وهو يتشكل في ناحية مَا من جسدي. إنه مستحيل الكتابة أقول. أسميه المستحيل لأنني كلما تأملت وجدتني في ارتباط مع دهشة القراءة. لم تكن تتخلى عني هذه الدهشة. هي ما يتوالى مرحلة بعد مرحلة. وفي كل مرحلة كانت الكتابة تبدو لي أبعدَ وأنأى. كنت أقرأ بدون توقف. أقرأ في الليل والنهار. في السفر والإقامة. في أيام الدراسة والعطل. أقرأ وأنا لا أعلم أن عائلتي أصحبت متيقنة من أنني مجنون، أكاد لا أكلم أحداً ولا أحد يجرؤ على أن يكلمني. صمتي أعز من كل كلام مع الآخرين. أغلق باب غرفتي وأقرأ كما لو كنت أقبل على جلسة مع معلمين وأصدقاء، من ثقافات ولغات، يفدون على البيت تباعاً ولا يراهم سواي. أحافظ على موعد اللقاء بهم، ومعهم وحدهم أتبادل الكلام. أحرص على قراءة ما صدر ويصدر عن دور النشر في المشرق أو في فرنسا، مما أصبحت أدرك أنه يفيدني. بل تعلمت أن أتجنب ما لا يفيد. فأنا لم أكن أطمح إلى قراءة كل شيء، ولا أن تكون ثقافتي موسوعية، أستعرضها أمام الآخرين في مناسبات. لم يكن ذلك همي.

3

من أعمال هؤلاء الشعراء والكتاب شرعت مكتبتي الصغيرة في الاتساع. كان المعلم عبد المجيد، وهو نجار كان يسكن بجوار بيتنا، أول من صنع لي مكتبة. حجم صغير. ثلاثة رفوف. والخارج بلون بني غامق. تلك أول مكتبة تدخل إلى بيت العائلة. لم يكن أبي يعرف ما أقرأ. جدتي هي التي كانت تلبي رغبتي في شراء الكتب. وبعد فترة قصيرة ضاقت المكتبة عن الكتب. فبادرت إلى شراء مكتبة أكبر، مكونة من جزئين. اشتريتها بنفسي من سوق الأثاث بالملاح. مكتبة مستعملة من طرف أجانب، لأن شكلها لم يكن ممّا كان موروثاً عن المغاربة القدماء. وفي كل مرحلة تتسع المكتبة، بعد أن تتكدس الكتب، ولا أجد أين أصفها. مع ذلك أشكو دائماً من قلة الكتب التي أتوفر عليها. هذه المكتبة أصبحت بيتي، مدينتي وعالمي الشخصي. هي الأكبر والأفسح. هي مكان الفرح والجمال والحلم والحرية. هي أقصى ما أحب أن أملك.
أشتري الكتب وأشتري الكتب. أحرص على الطبعات المتعددة للكتاب الواحد. وعندما تصدر طبعة أنيقة لكتاب عزيز على نفسي لا أتردد في شرائها، إنْ كان ذلك ممكناً. أعشق جمال الكتاب: الغلاف، الورق، الحروف، المسافة بين السطور، الهامش. كل كتاب جميل هو، بالنسبة لي، كتاب مقدس. ألمسه بانتباه، بخشوع وتبجيل. خدشة واحدة تؤلمني رؤيتها. هذا الصنف من الكتب من حق كل شخص عاشق للقراءة، كنت أقول في نفسي. وعندما أحصل على مثل هذه الكتب أشعر بأني أصبحت أملك أغلى شيء في الحياة، لا يساويه غنى أي شيء آخر، مهما كان. وعلى هذا النحو أصبحت لي، منذ أواسط الستينيات، زيارة شبه أسبوعية لمكتبيين، في الطالعة الصغيرة. منهم من تعود على اختياراتي من الكتب الحديثة والقديمة. يحتفظ لي بعناوين حتى أزوره. وكان يثق بي. عندما كان مجموع ثمن الكتب لا يتوفر لدي كنت أدفع ما عندي، والباقي يسجله المكتبي في دفتر الديون.
بمجرد العودة إلى المنزل، ألقي نظرة على فهرس القصائد والموضوعات، أو أقرأ التقديم إلى جانب الفهرس. أبادر بقراءة الدواوين. أما الكتب الأخرى فأنتقي منها ما أقرأ بدون تأخير. والباقي أتركه ينتظر دوره. قد يحل بعد فترة قصيرة وقد ينتظر لشهور. فأنا لا أشتري فقط ما أقرأ على الفور. تلك العادة هي عادتي حتى اليوم. كتب قرأتها مرات وأخرى تنتظر وقتها. لا أدري متى. كما أن هناك كتباً أعيد قراءتها لمرات. وأخرى أقرأها مرة واحدة. بل هناك كتب أتخلى عن متابعة قراءتها عندما يتضح لي أنني تسرعت في شرائها، أو أن الكاتب خيّب ظني. وعندما يتبين لي أني أخطأت في الحكم على كتاب أستدرك الخطأ وأعتذر مع نفسي للمؤلف.
على أن السنوات اللاحقة من التكوين علمتني أن أعمال بعض المؤلفين لها الأسبقية. وما زلت أذكر منها على الخصوص أعمال أدونيس، رولان بارط، جاك ديريدا، أنطونان أرطو، عبد الكبير الخطيبي، فردريك نيتشه، جورج باطاي، المتنبي، باشو، عبد الله العروي، إدوارد سعيد، رامبو، سرفانتيس، فرنسيس بونج، أبو نواس، فردريك هلدرلين، ستيفان ملارمي، ت. س. إليوت، مارتن هيدغر، أبو تمام، بول تسيلان، روبرتو خواروز، ابن عربي، هنري ميشونيك، إزرا باوند، برنار نويل، راينا ماريا ريلكه، دانتي، أبو العلاء المعري، أنطونيو غامونيدا. أسماء تظل في مقدمة المعلمين الكبار. إليهم يعود تكويني. وفضلهم عليّ أذكره برعشة من يتواصل عطشُه، مهما شرب وارتوى. فلا يكاد يصدر لأحدهم كتاب جديد (أو طبعة جديدة أو ترجمة) إلا وأبذل كل مجهود للحصول عليه والشروع فوراً في قراءته. وتزداد حسرتي كلما تعذر عليّ قراءة الأعمال الكاملة لأحد هؤلاء المعلمين. من بينهم من أختار له أعمالاً دون سواها، لأن قراءة الأعمال الكاملة لبعض الكتاب تتطلب زمناً أطول مما يمكن أن أعيش. بل تعلمت أن هناك أعمالاً لا يمكن قراءتها إلا في فترة محددة من الحياة، فإذا مضت الفترة ضاعت إلى الأبد فرصة القراءة. وأنظر إلى أعمال أخرى فأقول إنها لزمن لاحق، ولا أدري متى سيحين موعدها. وتبقى المعاجم الكتب التي لا تشيخ. هي دائماً معي. وبالدهشة نفسها أعود لأقرأ وأتعلم منها، لأنها الذاكرة الكلية. فالكلمات نوافذ تشرف على عوالم لا وجود لها بدون الكلمات، من الأشياء والكائنات إلى الأحوال. وكثيراً ما أتألم لأن العربية لا تتوفر على معاجم العربية الحديثة.
في مكتبتي ألتقي بمن أريد من المؤلفين، وفي أي وقت أشاء. لا تبعدني عنهم حدود جغرافية أو لغوية أو سياسية. بحرية يتم اللقاء. اليوم وما بعده. أحياناً آخذ مكاناً وأشرع في قراءة متواصلة. وعندما يستولي عليّ التعب، تعب العينين أو تعب الظهر، أضع الكتاب بجانبي وأستريح. أغمض العينين. أتنفس. أو أقوم وأفتح النافذة. أطل على الحديقة وأنظر إلى زرقة السماء وضوئها. أشاهد المارين. أسمع هدير السيارات. وفي أعماقي أسمع أصوات ما قرأت. أحياناً أصبر على قراءة كتب صعبة، شعرية أو فلسفية أو لغوية أو علمية أو صوفية. فالقراءة تتطلب صبر الناسكين، الذين لا يحيدون عن متابعة طريقهم في قراءة ما يجب أن يقرأوا.
عندما كنت مراهقاً، كنت أسهر الليل كله. تهيئ لي جدتي إبريق القهوة حتى أتغلبَ على النوم. أحياناً أقرأ الديوان مرات في ليلة واحدة. وفي كل مرة تعود الدهشة من جديد أو تتصاعد كأنما هي الرعد. وأنا، في ما أقرأ وأسمع، أراني أقطع المحيطات والصحارى التي فصلتني عن القراءة في صباي. مرات كنت أتركني أضيع. كنت أدرك أن ما أقرأ غريب عن ثقافتي اليومية، في الثانوية وفي المجتمع. ودهشة القراءة تجلجل في دواخلي. بمثل هذه اللغة يجب أن أكتب، أسر في نفسي. كان الصمت غالباً ما يدركني وأنا أقرأ أعمالاً استثنائية. من الشعر إلى الفلسفة. من الرواية إلى الفنون. من التاريخ إلى التصوف. من النقد إلى اللغة. معارف وفنون كنت أراها ضرورية لكتابة القصيدة. الفنون التشكيلية والموسيقى والمعمار على الخصوص. لذلك كانت تلك القراءات تتداخل فيما بينها والكتب ينادي بعضها على بعض.
وعندما كنت أعثر على نفسي في دوامة الصراع بين الأفكار والتيارات الأدبية والفنية، أو بين العصور والثقافات، كان الدوار يحتدم في داخلي. وأنا أبصرني منزوع السلاح في هذا البحر الذي لا ساحل له. تستبد بي قصيدة رومانسية فإذا بقصيدة قديمة أو حديثة تدمرني. كنت في مراهقتي أنتصر لتيار شعري أو فني متوهماً أنه نهاية الطريق، نهاية ما كنت أتـخيله موجوداً في كتاب، فإذا بي بعد أيام أكون وجهاً لوجه أمام المستحيل. ما لا ينتهي. ما لا يدرك. ما لا يفصح عن اطمئنان أو قناعة. وفي مرحلة لاحقة، أصبحت، شيئاً فشيئاً، ألازم فنانين تشكيليين، مثل الخليل الغريب، حسن العلوي، محمد القاسمي، أواظب على زيارة المعارض في المغرب والمتاحف وقاعات العرض في الخارج. لا فرق بين قراءة كتاب ومشاهدة عمل تشكيلي، كما لا فرق بينهما وبين حضور حفلات موسيقية وزيارة معالم معمارية.

4

حالة التعلم رافقتها بالصمت والذهول. سنوات الشباب مرت وأنا بين الدواوين والفنون والمعارف. ألازم المكتبات النادرة في فاس، بين مكتبة القرويين ومكتبة الكلية ومكتبة البطحاء ومكتبة المركز الثقافي الفرنسي ومكتبات بعض الرفاق. بيني وبين رفاق الحي تكونت ألفة، فأصبحنا عصابة من القراء. نتبادل الكتب ونتحادث بشأنها. نناقش الآراء ونستظهر القصائد. نستمع إلى الموسيقى ونقرأ صفحات من كتب. على أنني انفصلت بتلقائية عن العصابة، لأنني أصبحت أميل أكثر إلى كتب لم أكن أريد أن أفرض قراءتها على أحد. اخترت القراءة المنفردة، وفيها ازداد تعلقي بالصمت والعزلة.
وأثناء القراءة أخذت أتبع طريقة أحسست بجاذبيتها التلقائية. أشطب على ما لا أحب في الذي أقرأ. أستبدل كلمة بكلمة. أقرأ بيتاً ثم أستغرق في تعويضه ببيت آخر، أكتبه في ذهني ثم أتركه يتردد في أعماقي لأيام. أضع عملاً في مواجهة عمل آخر. أمحو، أفتق وأرتق. أخيط جملة بجملة. أعبث بمقطع. أنتقى أبياتاً من قصيدة وأهمل الباقي. أكتب في هامش الكتاب تعليقات على ما قرأت فيه. أقارن مقاطع بسواها، وحيناً اكتفي بكتابة الحروف الأولى من عبارة 'مهم جدا'. طريقة علمتني أن القراءة متاهة لا حدود لها. أو هي ما يمارسه كل قارئ بعلم منه أو بدون علم. تدخّلٌ في المقروء هو إعادة كتابة ما أقرأ، وهو في الآن ذاته تمرين، غيرُ واع دائماً، على ما يجب وما لا يجب في الكتابة.
لكن تلك الطريقة لم تبق مقتصرة على القراءة. فعند الانتقال إلى الكتابة كان شيء، مما يماثل تلك الطريقة، يتحقق فيها. لم أكن أنتبه من قبل. وها أنا أصبح أثناء الكتابة أو بعدها، خلال المراجعة والتصحيح، أجيل النظر في ما فعلت الكتابة بالقراءة، وما فعل المكتوب بالمقروء. إعادة كتابة أعمال الآخرين أو إعادة كتابة ما سبق لي وكتبت. إنه التداخل النصي. أو ما سميته في دراستي الجامعية الأولى بـ'النص الغائب'. أجيل فيه النظر، وأنا لا أتبـيّنه بالضرورة.
تلك العلاقة بين ما أكتب وما كتب غيري أو ما كتبت من قبل، هي نفسها التي عرفها تاريخ الثقافة البشرية، منذ علاقة الكتب المقدسة بالملاحم البابلية والآشورية، أو علاقة الكتب السماوية فيما بينها، أو علاقة التفاعل بين معلقات الشعراء العرب في الجاهلية. علاقة هي من صميم فعل الكتابة وإعادة الكتابة. وتملك الثقافة الإنسانية في القديم، كما في الحديث، تعليقات ورصداً ومقارنات، أي ثقافة نقدية لها مكانتها في تاريخ النقد الأدبي عند العرب وسواهم، كما هي متداولة في العصر الحديث، من دانتي وسرفانتيس حتى اليوم. عندما نقترب من هذه العلاقة المركبة نقف على عالم غريب تنسجه النصوص والأعمال والثقافات في ما بينها. عالم سفلي لا يظهر على وجه عمل أو ثقافة إلا بممارسة حفريات لا يتوقف الجدل بشأنها.

5

كان من الطبيعي أن تكون كتاباتي الأولى مرآة لأعمال شعراء كبار أحب أعمالهم، من حيث انتقاء المعجم، التركيب، الصور، البناء. لا تعني المرآة تقليداً حرفياً لعمل شاعر، كيفما كان. كان ثمة شيء ما في داخلي هو الذي يأمرني بالكتابة. هذا الشيء، الذي كان يستبدّ بي ولم أكن أعرف كيف أحدده، هو البوصلة التي كانت تقودني إلى البحث عن معجم شخصي، عن تراكيب وصور، أو كانت تحثني على البحث عن تركيب وبناء بطريقة مختلفة، لا أحسنَ ولا أسوأ. مختلفة فقط، بما هو أنا، مغربياً قادماً من تاريخ ثقافي، أعيش في زمن ما بعد الاستقلال، وعلى ظهري وشومٌ لا تندثر، لغة وحساسية على السواء.
وكانت كتابة الزمن في قصيدتي نقدية. من أشد ما كان ربطني بالقراءة والكتابة هو نقد الزمن الذي أعيش فيه. رفض زمني من أجل زمن حر، حديث، أتخيله ممكناً ومحتملاً، هو ما كان يحرضني على الكتابة. الشعر والأجناس الأدبية القريبة، كلها كانت تبعث على رفض الزمن مثلما كانت تنفخ في أنفاسي عواصف الحلم بزمن مختلف، متخلص مما يحول دون الحرية والإبداع. لكن مواظبتي على قراءة الشعر العربي القديم والثقافة الإنسانية نبهتني على أن ما يعنيني هو المكان. ففي قراءتي المتكررة للمعلقات انتبهت إلى أن المكان هو الذي يأمر بالكلام. مكان امرئ القيس هو بمعنى ما مكان فاس. وفاس أصبحت مكان النسيان، الفقدان، النقصان والفراغ. وفي المكان يصبح للزمن معنى أبعد مما كنت أتصور في البداية.
منذ السبعينيات من القرن الماضي لمست في نفسي شيئاً مما يمكن أن يكون مستقبل ما أكتب. فاس، التي كنت أنظر إليها من خلال الزمن، تحولت إلى مكان يمتلئ بأصوات الأشباح. وفي الإنصات إلى هذه الأصوات اخترقتـني حالة جذبتـني إليها بعنف، فتركت نفسي تكتب هذيانها. أليس للهذيان هنا معنى الشطح؟ يعيدني هذا إلى تأكيد أن الباعث على الكتابة يفوق دهشة القراءة. شيء شخصي. مستبد. لن أعثر عليه في أعمال الآخرين. هو الشخصي الذي لا ينوب عنه سواه ولا يعوضه.
ثم تعلمت من الشعراء الحديثين، أمثال بودلير ورامبو وملارمي وفرنسيس بونج، ومن شعراء عرب قدماء، كأبي نواس وأبي تمام، أن الكتابة مادية، تبنى بالمواد اللغوية، المتوفرة في زمان ومكان كل كاتب. وأنا، من بين هؤلاء، أكتب من خلال ما أقرأ. هل كنت سأكتب من دون أن أقرأ؟ وهل كنت سأكتب ما كتبت من غير أن أقرأ أعمالاً بعينها؟ أجيب بالنفي على السؤالين معاً. وإذا كنت أجهل سبب الانتقال من القراءة إلى الكتابة، فأنا مدرك أن قراءاتي أصبحت في اللاحق دعامة كتاباتي. ما أقرأ يختفي ويظهر في ما أكتب من شعر ونصوص ودراسات.
تعني هذه الملاحظة كل شيء ولا تعني في الوقت نفسه شيئاً. فإذا كنا، كما يقول بورخيس، نعيد كتابة ما كتبه غيرنا، فإن إعادة الكتابة غير محايدة. ذلك أنها تكون إما مع ما كتب سوانا أو ضده، كما يقول فرنسيس بونج. فأن نكتب مع أو ضد يعني أن إعادة الكتابة تمر عبر اتخاذ موقف مما كتبه سوانا. وفي اتخاذ هذا الموقف تتميز الأعمال عن بعضها. ذلك ما يظهر بدءاً في التفاصيل، ثم يأتي الإمضاء الشخصي الذي يلازم الأعمال الأساسية ويعين حدودها. فما كتبته البشرية ليس واحداً، مهما تراءت لنا العلاقات واضحة بين أعمال وأخرى. ليست الملاحم البابلية والآشورية، كما أسلفت، هي الكتب المقدسة. ويمكن تطبيق هذا النموذج على قائمة لا حصر لها من الأعمال والثقافات. ثم إن هذا التميز هو نفسه يبقى، رغم ذلك، ثانوياً. إذا كانت الكتابة مادية، فهي، في الآن نفسه، كتابة ذات لا تشبه غيرها.
إن الذات في الكتابة عنصر مُحوِّل، فيما هي متحوّلة، ما دامت الذات ليست معطى قبلياً، بل هي في حالة صيرورة لا تتوقف إلا مع الموت. فالدرجة القصوى التي تخترق بها الذات اللغة هي ما يعطي العمل خصيصة الشخصي والاستثنائي، أي ما يتفرد به العمل ويصبح مستقلا بذاته. يكفي القول إن الشعراء الرمزيين، على سبيل المثال، ليسوا نسخة طبق الأصل لعمل شاعر واحد. تجربة الأقاصي، كما هي لدى بودلير، تختلف عما هي عليه لدى رامبو أو ملارمي. وهو الأمر نفسه الذي يتحقق في الأعمال الشعرية الكبرى، في القديم أو الحديث على السواء.

6

يمكنني، في ضوء هذه التوضيحات التأملية، أن أعرض لمظاهر من العلاقات بين بعض أعمالي الشعرية وأعمال كتبها غيري. ولعل ما أقترح يفيد أكثر في معرفة كيف تعاملت مع أعمال أخرى وكيف تحضر كتابات في كتاباتي.
هناك 'كتاب الحب'. أصرح في مطلع هذا الكتاب الشعري بأنه يتقاطع مع كتاب 'طوق الحمامة' لابن حزم الأندلسي، الذي هو كتاب عن نظريته في الحب، يعرضها المؤلف من خلال الاعتراف بقصص الحب في حياته الشخصية وفي حياة الأندلسيين. يعطي التصريح انطباعاً أولياً بأن 'كتاب الحب' نسخة مكررة من كتاب ابن حزم. وهو انطباع سطحي. فما كتبته عبارة عن مستويات من النصوص المتقاطعة، فيها ما يتوافق مع ما كتبه ابن حزم وفيها ما يتعارض معه. نصوص كتبتها ونصوص غيرت فيها ونصوص أدمجتها من خارج ثقافة ابن حزم ومنظوره للحب. وهو، من هنا، عمل مستقل بنفسه، لأنه عمل ذات مختلفة، لها إيقاعها الشخصي، ولها زمنها الخاص ومنظورها النقدي.
ثم هناك ديوان 'ورقة البهاء'. إنه ديوان لمدينة فاس، التي هي مدينة ميلادي وطفولتي ونشأتي. وقد غادرتها سنة 1972 عندما اخترت للعمل والإقامة مدينة المحمدية، على شاطئ الأطلسي، قريباً من الدار البيضاء، وبسرعة يمكن الوصول منها إلى الرباط. يتألف هذا الديوان من مقاطع ومن صفحات متعددة. في هذا الديوان لازمة تتكرر هي جواب بالنفي على سؤال: هل تؤرخ؟ وفي هذا الجواب يكمن بناء العمل برمته. إنه إعادة كتابة لتاريخ فاس منذ القديم حتى اليوم، ولكنه في الوقت نفسه ليس تأريخياً. فهو خطاب شعري يعيد كتابة حياة مدينة ومصيرها فيما هو تأمل تاريخي الشخصيّ وتاريخ الكون. تأمل يستحضر وثائق تاريخية وحضارية إلى جانب متخيل الثقافة الشعبية ووقائع من السيرة الذاتية. ولأنه ليس تأريخياً، فهو لا يتبع سيرورة الأحداث بل يتبع منعرجات الرغبة. الكتابة، هنا، ممارسة نصية مفتوحة، يظل بناء النص فيها قائماً على وحدة مجهولة الحدود، لا ندركها إلا من خلال الديوان نفسه ومن خلال تدفقها من صفحة إلى صفحة.
أما في دواويني الأولى فقد كان للغة بدر شاكر السياب، ثم لاحقاً لأدونيس، حضور في لغتي الشعرية. كنت أتعلم من هذين الشاعرين الكبيرين كيف أشرع في كتابة قصيدة تنتمي للشعر المعاصر. وكنت في هذا التعلم على غرار ما كان عليه الشاعران نفسهما قبلي وهما يتعلمان من شعراء كبار في زمنهما. أو ما كان عليه جميع الشعراء في جميع عصور الشعر العربي، من الشعر الجاهلي حتى اليوم. أن أتعلم من الكبار هو الدرس الأول. وهو ما جلب علي انتقادات متواصلة من طرف نقاد وشعراء مغاربة. وأفسر حدة هذه الانتقادات بكون الثقافة الشعرية في مغرب الستينيات والسبعينيات كانت جنينية. وأضيف إلى ذلك أن المغاربة لم يكونوا يرتاحون للمغامرين من خارج مجموعاتهم المنغلقة على نفسها، سياسياً وإيديولوجياً. إلا أن جانبها المستعصي على الفهم هو ما يتصل بأحكام مشرقية كانت ولا تزال تصر على أن الشعراء الأندلسيين والمغاربيين ليسوا سوى نسخ باهتة ومشوهة للشعر العربي في المشرق. فالشعراء، المجايلون لي من المشارقة، الذين كانوا يتبعون نفس خطواتي، لم يكونوا يتعرضون لنفس ما أتعرض له من النقد على يد مغاربة ومشارقة في آن.

7

تلك مسألة كبرى تقربني من شعراء أمريكا اللاتينية، الذين كان الشعراء الإسبان أول معلميهم، أو من شعراء الولايات المتحدة، الذين كان الشعراء الإنجليز مصدرهم الشعري الأول. أكتفي بذكر مختصر لهاتين الثقافتين الشعريتين في عالمنا الحديث. فالتعلم أساس كل ممارسة نصية أو فنية، على غرار تعلم الحِرَف. نقضي زمنا في التعلم، يقصر أو يطول. ولكننا، في لحظة ما، ندرك أننا تعلمنا الضروري، وأن زمن التكوين قد انتهى. حينها نزيل أسرة البناء، كما يقول نيتشه.
كذلك كان بحثي عن قصيدة شخصية لا يتخوف من الإقامة على حدود الخطر. درس تعلمته من الشعراء الكبار، لأنهم وحدهم الذين دلوني على أن الحرية هي أبجدية الكتابة التي لا تصبح شخصية إلا إذا هي تعلمت كيف تصبح مختلفة وسعيدة باختلافها. فالاختلاف السعيد مع المعلمين هو معنى الاعتراف بفضلهم ومعنى الوفاء لهم. بهذا أفهم أن مسؤوليتي عن الوديعة، التي استلمتها منهم، هي أن أسلم اللاحقين قصيدة مختلفة، تترك أفق القصيدة مفتوحاً على مستحيل، حدودُه هي المستحيل. فالتجربة الشعرية الشخصية عنوان مغامرة لا تنتهي. ذلك ما أبحث عنه بحريتي ومعرفتي وأسئلتي وقلقلي وشكوكي. عودتي إلى تجربة الفضاء في الشعر الأندلسي، أو ملاحقة غواية الكتابة في اتجاهات ما يفاجئ ويصدم، أو العمل اللامشروط على ضيافة ثقافات ولغات، أو الإنصات إلى أسئلة الشعر في زمننا، زمن العولمة ونكران الشعر، هي ما يستبد بي في بحث عن قصيدة شخصية تنادي على الغريب. إنها قصيدة في العالم وللعالم، من أجل الصداقة والحرية.
*نص المداخلة التي تمت المشاركة بها، يوم 8 ماي الأخير، في مائدة مستديرة إلى جانب خوان بيدرو (إسبانيا)، كلارا أوسون (إسبانيا)، سلافكو ثوبسيك (فنزويلا)، ضمن الندوة التي نظمها معهد ثيربانتيس بالرباط بين 7 و11 ماي، عن وضعية الكتاب المزدوجة.

القدس العربي
2012-05-23