الريماوي

كتابة شهادة ذاتية في إبداع صاحبها أمر محفوف بمحاذير وربما منزلقات. فصاحب الشهادة قد يجد نفسه متورطا بالنظر في أعماله وتحليلها والحكم عليها، وهو أمر متعذرة الموضوعية فيه، فتلك في مبتدأ الأمر ومنتهاه مهمة غيره لا مسؤوليته هو. قد يندفع الشاهد إلى الخوض في رؤاه واستيهاماته ونواياه، وذلك ليس ضارا أو خاطئا بالضرورة، وقد يكون مفيدا، غير أنه يؤدي لبناء نص مواز وإضافي لنصوصه موضع الحديث، ولست متأكدا إذا كان النص الموازي يعادل ويماثل شهادة متوخاة من صاحبها.

ثمة نازع آخر هو الميل الفطري للمدعو هنا للشهادة للتنائي عن أعماله، والجنوح إلى نسيانها ككل نأي عن الماضي ولو لم يمض تماما، وحتى لو كان بعضه بهيجا ويرفع الرأس، وككل سعي ل التعافي من فوات الماضي ووطأة ضبابه، ذلك أنه لا يستعاد ولا يعاد بناؤه. والميل عوض ذلك للإقامة في الحاضر الممتد والرهان عليه بل الاكتفاء به، وهو ما يجعل الصعوبات التي تصادف صاحبنا تبدو جدية إن لم تكن ثقيلة.

أول ما يخطر على البال في هذا المعرض، أن الكاتب القاص هنا، يتيقن مرة تلو مرة أن الإبداع القصصي وككل إبداع آخر يزداد مشقة، كلما مضى صاحبه في تجربته وأوغل بها. وخلافا لكل مهنة أخرى تقل صعوباتها كلما توافر صاحبها على مزيد من خبرة. فأية خبرة مزعومة تتأتى لصاحبها، وهو يراوغ رؤى تتقدم وتتأخر، تصفو هنيهة وتختلط أويقات أخرى، وينزع لا لتجاوز ذاته بل للخروج من جلده، مع السعي في الوقت عينه للمطابقة بين مادة النص ونبرته، والتحرز الشديد من كل إبهار مجاني. وكيف ينجو من سطوة العقل وتدخلاته، فيما الإبداع ينثال في فيوضاته الأولى من منطقة اللاوعي، التي يفترض أن تتحرر من وطأة ما يخالفها.

أكتب بصعوبة لسبب بسيط، لعله حوهري، وهو أني أصعب الكتابة على نفسي، فأتخذ من ذات نفسي قارئا متطلبا، ثم أفرد منها ناقدا متفيقها متربصا، فقد استقر في وهمي أن الكتابة الإبداعية مهمة جليلة يؤديها صاحبها بكليته، أو ينفض يده منها. يؤديها بكل ما يملك من طاقة روحية، ولغاية خالصة من كل مأرب أو غرض دنيوي، وأنه مدعو للإتيان بجديد وماتع غير ملتبس يخاطب جماع نفس المتلقي. هذه هي فضيلة الخبرة المزعومة وتمتد لنحو أربعة عقود من الزمن: المكابدة وعدم الرحمة مع النفس.

ليست مسألة سادية ولا هي اضطراب في مباشرة الفن، كما قد يذهب متعجل في إصدار الأحكام. إذ يصح نعت الإبداع بذلك الوصف البسيط والصائب بأنه: عذاب عذب، ومن أكثر العذابات شرفا. فمهمة الفنان تنظيم الفوضى والتقاط ايقاع رهيف فيها ويتخللها، وضبط السيولة العشوائية للأشياء. وفي القص التقاط زاوية من مشهد حياتي خارجي أو داخلي (داخل نفس البطل)، أو جانب من جوانب الشخصية في لحظة اصطدام، مع ما هو خارجها وفي داخلها وتقصي تداعياتها. عليه خلال ذلك النجاة من مغريات بناء تقرير شبه صحفي بداعي الواقعية المباشرة، أو الانزلاق إلى توسع روائي أو اختصار مبتسر، أو المباهاة الذاتية بالشعرية فيما يخوض في نثر يفترض أن يكون خالصا.
عذاب عذب ، لأن تخليق نص طويل أو قصير من شأنه الإضافة النوعية.. فللفنان أن يعتد بعالم بات يشتمل على ذلك النص نصه، وكان من قبل خلوا منه. من سحر حياتنا وعالمنا، أن هناك آثارا جمة وبلا عدد لم نقرأها، وتهفو أرواحنا إليها. مواطن الجمال الغامضة تبعث السحر في النفوس. مجد الفنان يتآخى ويتضافر مع شقائه. وكان الرسام سلفادور دالي شبه على طريقته الفنان بأنه امرأة في حالة حمل دائمة . ما إن يضع الفنان مولوده، حتى تمهله شياطينه قليلا من الوقت لتشرع بعدئذ تدمدم داعية لإخراج مولود ثان، وإلا لا راحة أو صفاء. لا اتزان ولا توازن. وفي النهاية لا شفاء من المشي على حبل مشدود.

أبعد من ذلك فالكتابة عند صاحبها، لا تلبث أن تتحول إلى ما يشبه الغريزة الواجب إشباعها. ولا يعوض إشباع غريزة ما، طرح سواها جانبا. المبدع يمتلك غريزة إضافية، ويمكن فهم ذلك وتقريبه بالإشارة إلى حاجة القارئ الروحية للقراءة التي لا يسعه التخلي عنها. هذه الحاجة الروحية للقارئ تغدو مضاعفة بمرات لدى المبدع. فقد خبر جدة ورحابة وغنى العالم الذي يشقه بأدواته هو، فلا يملك من بعد الاكتفاء بتلبية حاجاته الحياتية العضوية والعقلية فحسب. وعليه في زماننا أن يتلمس الخلود إلى نفسه، وسط الضغوط والإثارات من حوله، كي يستل رحيق روحه ويصطفي ما يستحق الاصطفاء، من مخزون ذاكرته وطاقته التخييلية الشعورية والمشهدية.

في عدد كبير نسبيا من قصص سابقة كتبها صاحب هذه الشهادة، فقد تنقل بين أشكال من الأساليب والمباني القصصية، كمن يبدل بعض عاداته الحياتية أو يسعى لتطويرها. في مجموعتي سحابة من عصافير و رجوع الطائر ، فقد تم على ما يتوهم صاحب هذه الشهادة، تم الاستقرار وإلى إشعار آخر عند منطقة يجتمع فيها الواقع بما على ضفافه، وتأتلف الصياغة الأدبية مع تجفيف اللغة، وتغليب النازع الانساني في تناول ما هو محلي، والاقتراب من تحديد الأمكنة بعد طول تغييب لها في قصص سابقات. ولكن مع تسلل بل سطوة الزمن كما كان الأمر من قبل: الشعور بهلامية وصخرية الوقت المتسرب، الأعمار والأجيال كحواجز وجسور بين البشر، شبح الماضي واحتلاله للحاضر، الموت المتربص الذي يجعل من حياة المرء وقتا قبل قيام المتربص بالمداهمة. ثم عدم الاستهانة بالسخرية ليس كمجرد سلاح لمواجهة الشقاء كما تواضع بعضنا على القول، بل للتمرن على الانفصال والتباعد عن التماسك الموهوم في الأشياء، لرؤية ما تحفل به الأشياء تحت سطحها، من ملابسات ومفارقات تثير بين ما تثيره السخرية المتأملة.

في هاتين المجموعتين اكتشفت ويا للسخرية.. الطبيعة. اكتشفت قرابتي منها ونسبتي إليها ككائن وكاتب. بعدما تعلمت في الصغر والكبر أيضا، أن الطبيعة منظر جميل يسر النفس، لأكتشف متأخرا أن في الطبيعة كائنات حية، وكل كائن لكائن شقيق. الشجرة لا تبهج النفس فقط، فمرآها والوقوف بجوارها وتحت ظلالها يحيي الشعور بالقرابة العميقة والسرية بين كائنات تولد وتحيا وتموت. ومثلها الحيوانات والطيور وحتى الحشرات. وكلها تؤلف مملكة الكائنات الحية. من لا يعبأ بهذه الكائنات لن تنطلي ادعاءاته المتورمة بأنه يعبأ بأخيه الإنسان. كان الناس في بلادنا من قبل يحبون الأشجار حبا جما. الآن يحبون السيارات.. لا يضير المرء أن تستهويه سيارة، على أن لا يزدري أخته الشجرة. من يزدريها فإن دمه الأحمر الشبيه بالنسغ الأخضر يتحول إلى زيت سيارات. وتنخفض قيمته البشرية عاما بعد عام، كما تنخفض قيمة السيارة مع الاستعمال.

أحب الشجر والطيور والحيوانات، ويبهجني أن تحضر في قصصي، ولسبب آخر لا أكتمه ككاتب. الفجوات بين البشر تتسع، وتسود بينهم في بلادنا، في المشرق بالذات، مفاهيم من نوع أن العلاقات البشرية لا ضرورة لها ومضى زمانها، وأنها تشغل المرء عن الإنجاز. ومن نوع انتخاب المرء للذئبية: اختيارها واعتناقها، فالناس ذئاب بعضهم بعضا، وبغير براءة الذئب نفسه، كمخلوق تسيره الغريزة الأولى لا غير. لهذا وجد الكاتب نفسه مدفوعا إلى كائنات أخرى شقيقة، وهو ما يجد القارئ بعضا منه في مجموعات سابقة على هاتين المجموعتين.

المدينة تكتمل وتتهذب بمفردات الطبيعة وتجاور الكائنات.
من خوارق زماننا وإنساننا أن الريفي الذي نشأ في القرية يشدد النكير على الطبيعة من حوله، ما إن تطأ قدماه المدينة. يقصف فرع شجرة في طريقه، ثم يشتري لصالون بيته وردا.
هناك بعدئذ لذة النص. مدى قدرة المبدع على إنتاج نص يمنح اللذة لقارئه، حتى لو اعترته هنات أو ما هو أكثر منها، شريطة أن ينتمي النص للنوع الأدبي المستهدف، لا أن يكون طليقا بغير تجنيس. فما دمت أباشر القصة القصيرة فلا بد للنص أن ينتمي اليها.

في نهاية المطاف لا بد من لذة يتوفر عليها النص القصصي، وهو في الغالب عندي مشهدي. وهو ما أجربه على نفسي. وكنت سمعت من الراحل الحبيب محمود درويش أن أفضل النصوص عند صاحبها هي تلك التي يستشعر مع قراءتها أنها تكاد تكون ليست له وأنه يفاجأ بها. لدي مراهنة متواضعة قوامها أن النص إذا وجد به القارئ المتفحص عورات فنية أو بنائية أو ما شاكل ذلك، فلتكن هناك لذة في قراءته. في انسيابيته وموسيقى لغته وفي دقة التشخيص. أسعى قدر ما تسعني القدرة أن أقلل من أدبية النص من البلاغة الخارجية عبر لغة متقشفة، لكنها حية مضطرمة كما التراب حي. من أجل تحقيق اللذة التي لا توفرها اللغة بحد ذاتها، بل مطابقتها للحالة وعدم تزيدها.

أكتب في الغالب الأعم عن أجواء مدينية بروح مدينية. لا تجتذبني صحراء ولا أتوهم جدارة في حياة الريف الذي أحبه وأنحدر منه. غير أني أؤمن بقيم مدينية: الاختلاط، والزمالة في المهن والمرافق العامة، والوقوف على المهارات، والتفاعل مع العالم الخارجي، واحترام الآخر كل آخر، والمساواة بين الخلق تحت مظلة قانون متطور. أفكار .. مجرد أفكار. لا أعرف كيف بثثت بعضها في ما أكتب .

يبقى أني واحد ممن ما انفكوا يواظبون على الخوض في فن، هجره كثيرون من أصحابه واستهان به نقاد كثر. ذلك أن منطق الموضة والشعارات والشطارة تجد لها صدى قويا في حقل الآداب أيضا كغيره من الميادين.. ومن ذلك التمييز التفضيلي بين سرد قصصي وروائي، بما يشكل مفردة إضافية للسخرية المرة التي تتسرب لما أكتب.

@ شهادة للريماوي حول تجربته الإبداعية

الرأي – 21 اغسطس 2009