النص شهادة

كيف تهدم؟
كيف تبني قصيدة؟

أحمد دحبور*

ما زال ذلك يحدث كأنه أمامي الآن : آخذ علبة سردين فارغة، أطرقها بحجر وأثقبها بمسمار، وإسماعيل، ابن خالي، يضحك ويسخر، فهو لا يرى في يدي إلا تنكة، وأنا أراها مشروع سيارة - لعبة، ثم تأتي لحظة حاسمة: طرقة واحدة بالحجر ستفسد كل شيء، وقد.. قد تصنع من العلبة الفارغة سيارة - لعبة، وأتردد، أغتاظ من إسماعيل الساخر، أتهمه بتشتيت أفكاري، وقد أحمله مسؤولية إخفاقي المؤكد، فأطرق العلبة كيفما اتفق، وألقي بها تنكة مطعوجة شائهة..
ولا أزال أتساءل: هل كنت محقاً؟ هل كانت ستبزغ سيارة - لعبة من تلك العلبة المسكينة؟ أم أن ابن خالي، بنظرته المحايدة وعمره الموازي، كان يرى العبث في محاولتي الساذجة؟ وماذا لو لم أطرقها تلك الطرقة الأليمة الحاسمة؟
وهكذا أنا مع القصيدة.
الموهبة؟
لعلي أملك، منذ طفولتي، موهبة أن أكتب، لكن ما هو هذا الذي أكتب؟ ما مستواه؟ ولماذا هو من الهشاشة بحيث تفسده جملة، أو حتى كلمة في غير مكانها؟ وهل هي في غير مكانها فعلاً؟ أما إسماعيل فإنه يتعدد ويتمدد، يصبح جهوراً منصرفاً إلى ما يراه أكثر نفعاً: العمل أو النفوذ الاجتماعي، فإذا فطن إلى شقائي مع العلبة الفارغة، طلب منها أن تكون شيئاً مجدياً كالراديو أو التلفزيون، ولم لا؟ أليس يونس شلبي وليلى علوي أهم عنده مني وأكثر فائدة؟
ستبدو الشكوى من الكتابة، نوعاً من الدلع الماسوشي السمج، وفي زمن استسهال الكتابة وتنميطها يبدو ذلك مفهوماً، ولكنه لا يعفي من حقيقة أن الكتابة ابتلاء، ولا سيما في الشعر، فكأنك، مع كتابته، تمشي على بيض أو زجاج، وأي خطأ يفسد أي شيء، وستأتي، عاجلاً، أم آجلاً، تلك الطرقة الخطأ التي ستحيلك إلى أول السطر من جديد.. هل ذكرت اسم سيزيف؟

حين بدأت التجربة، كنت مترعاً بالزير سالم وبكائه على كليب، وكنت أتوقف عند سطوره المشطورة التي تنتهي بحرف واحد، وجعلت أقلد هذه السطور قبل أن أعرف أن هناك من يسميها شعراً، ويسمي الحرف الموحد قافية، ثم وقعت الكارثة، فهناك شيء اسمه الوزن لن أعرفه قبل الوصول إلى مرحلة الدراسة الثانوية، هكذا أخذت مشكلتي مع الشعر تنحو منحى إيقاعياً منذ البداية، وكان عليّ أن أعارك الوزن مبكراً، ليرميني موريس قبق، أستاذي وملاكي الحارس، بقنبلة جديدة : الشعر الحديث.. قصيدة التفعيلة، ولقد كان اقتراف قصيدة التفعيلة، المرجومة في بداية الستينات، أشبه بممارسة العادة السرية لأول مرة: الكثير من النشوة والكثير من الرهبة والشعور بالإثم، والسؤال المبكر يعلق بالمصير: إذا لم يكن هذا الشعر شعراً أفلن أكون شاعراً؟

متطلبات واستعدادات
وقبل أن ألتقط أنفاسي، يفاجئني الشعر الحديث بأنه متطلب أكثر مما أنا مستعد، فليست المشكلة في تنسيق التفعيلات وفرفطتها، بل هي في طبيعة الشعر واستحقاقاته، إذا كنت لا تزال تقليدياً في روحك وأدائك فلماذا توجع رأسك بالحديث؟ أن تكون شاعراً حديثاً يعني أن تكون إنساناً حديثاً، في رؤيتك لذاتك، للآخر، وللعالم، وقبل أن تتزود بجناحيْ إيكاروس عليك أن تخلق، في العمق منك، نزعة الطيران، وهذا يتطلب، لا أن تضيف الكثير وحسب، بل أن تتخلى عن الكثير، كيف تجدد أثاث شخصيتك وقيمك وتبقى نفسك؟ أي ورطة هي القصيدة الجديدة؟ أضف إليك أن النزعة الانقلابية أو تغيير الذات ليس مما يتم بقرار، بل هو متوالية من الأسئلة تجعلك عرضة لاختبار دائم، وهكذا سيقتادك الشعر، سعيداً وفزعاً، إلى الثورة..

"الثورة"؟ أحسب أني،بوصولي إلى هذه الكلمة، استحققت صفراً مكعباً عاجلاً غير قابل للطعن أو الاستئناف، من فريق جاهز مطمئن إلى مكتسبات جديدة، مؤداها أن كل ما ينتسب إلى القضايا العامة هو مباشر، وكل مباشر تقليدي، وكل تقليدي مطرود من جمهورية الشعر، وهكذا ليس إلا أن ترص المقدمة الصغرى إلى المقدمة الكبرى، حتى يتساوى الماء والخشب، فإذا بأدعياء هذا الضرب من الجديد، يعيدون إنتاج أسلافهم القائلين : كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ولهؤلاء وأولئك نترك للفرنسي الجميل مالارميه أن يجيب، أو الجاحظ (حسب استعداد الملتقي) فيقول إن الكلمات لا الأفكار هي التي تبني القصائد، وأن المعاني في الطرقات ملقاة، وإنما العبرة في الأسلوب، ولكن الكلمات ليست بريئة، وما هي بمحايدة، و"الأسلوب" هو الكفيل بهتك براءة الكلمات، بمعنى أن في الشعر كيمياء تفرغ الكلمة من شحنتها السابقة وتحل فيها علامات وإشارات جديدة، هكذا لا يكون الماء، في الشعر، ماء تماماً، ولا الحجر حجراً، بل ولا حيفا حيفا، حتى لو بقي في الكلمة ما يدل على معناها المباشر، فإنها ستكون تحت ضوء جديد يكشف، أو ظل جديد يوحي، لهذا فلا خوف على الشعر من موضوع ممكن وآخر غير ممكن، كل شيء قابل لأن يتشعَّر، على أن يسقط منه، في طريقه إلى القصيدة، كثير من تركته النثرية، وصفاته الإجرائية (الوظيفية بالمعنى المباشر أو حتى المبتذل)، وأن يكتسب شروطاً جديدة لا يملك تحديدها إلا الشاعر، ثم يأتي دور الناقد لاحقاً، ومتأخراً، ليكتشف..

بهذا الفهم لا تكون الثورة تمجيداً للكلاشنكوفات والحجارة أو دغدغة لمشاعر جمهور يطلب بضاعة متفقاً عليها بين البائع (الشاعر المفترض ) والشاري (الذوق السائد)، مع أن الشعر، أي شعر، لا يحظر استخدام هذه العبارة أو تلك، بل يسأل عن موقعها في النص وعلاقتها ببقية الكلمات، ولهذا تخيفني الكلمة في القصيدة، فبقدر ما هي علامة
إيجابية، يمكن أن تقوَّض معمار القصيدة.

نفور وعناق

ليس للشعر وصفة جاهزة، ولن يوجد كتاب تعليم الشعر من غير معلم، وأحسب أن الشاعر، بحد ذاته، هو ساحة صراع، عملية تقويض وبناء مستمرة، حالة من النفور بين الأشياء تعقبها أو تواكبها حالة من العناق، فالشعر يرفض، يقوَّض، يزعزع الثقة، ولكنه يؤسس، ببطء ودأب، لرؤية ورؤيا جديدتين باستمرار، ولهذا قد يثور الشعر على نفسه، ويشاغب على ما أسسه في وقت سابق، لا على مستوى اللغة وحدها، بل على مختلف المستويات التقنية، والقصيدة الناجحة لشاعر ناجح، ليست محكومة بشرط أحادي يتعلق بموهبة الشاعر، لأن الخبرة تتدخل، والمعلومات أحياناً، والآن حين أقرأ بعض نتاجي القديم نسبياً، أتشنج من حماقة ارتكبتها هنا أوهناك، لا عن خلل في القدرة الغامضة المسماة موهبة، بغض النظر عن حجمها، بل عن فهم خاطئ لما قد يصلح للشعر وما قد يفسده.

ولكن هذه الأفكار ليست معلقة في الهواء، فكما قال جان كوكتو: قد لا أعرف ما هو الشعر، ولكنني أعرف ما ليس شعراً، ومما ليس شعراً أن تقع القصيدة في حالة شيزوفرينيا بين رؤيا وهدف حديثين من جهة، ولغة وأدوات تقليدية من جهة ثانية، إنك غير قادر على التغيير بأسلوب يتسم بالمحافظة، فالثورة لا تقوم على عناصر متصلة بالمضمون وعناصر مغايرة لجوهر المضمون، ثم إن في أي قصيدة جيدة شيئاً يخدم الإنسان حتى لو لم تتم رؤيته بالعين المجردة، أي أن الالتزام، بمعناه المباشر، ليس هو الشرط الملزم لنبل القصيدة وإن كان الالتزام في الحياة بشكل عام، شرطاً لجدوى هذه الحياة.

على أني حين أخلو إلى قدري مع الصفحة البيضاء، لا أكدس هذه الأفكار في رأسي، بل أصدر عنها في حالة واعية وغير واعية، ثم يبرز شخص القصيدة، بعد إتمامها، بوصفه جاسوساً لصالح القارئ على دخيلتي : ما أومن به، ما يترسب في لا وعيي، ما أقدر وما لا أقدر عليه، وأنا دائماً دائماً.. مهدد بالطرقة الخطأ التي قد تحول السيارة الممكنة إلى تنكة شنيعة شائهة، ولعلي لا أنفرد بالحاجة إلى "كاهن شعريّ" لأعترف بخطيئات فنية جنت على كثير من قصائدي بسبب سوء التدبير الناجم عن وضع العناق مكان لحظة النفور، أو العكس، من ذلك- وهذا مثال ليس إلا- أني كتبت قصيدة بعنوان "الشمس " عام 1979، أتى مدخلها هكذا:
هل الشمس التي يرسمها الأطفال في الدفتر
هي الشمس التي تشرق يومياً؟
سؤال لم يكن يوماً عدائياً
فماذا جنت الوردة حتى أقبل العسكرْ؟
وكان من الممكن أن أسترسل وأنتشر، في سعادة شعرية، تطرح أسئلة متصلة بالحياة والحق والفرح، لولا أن جرثومة الأيديولوجيا تسللت إلى النص، فإذا بي أتورط " في الأول من مايو"، ولأن المصائب لا تأتي فرادى كما يقال، فقد أنهيت القصيدة بهذا الشعار الساذج" لن تغرق في ليل المنافي سترة العمال"، وواقع الأمر أنني حين أفسدت العلبة بالطرقة الخطأ لم أكن مفيداً للطبقة العاملة، وحين أعترف بذلك الآن فإنني لا أتنكر للأول من مايو، ولكنني اقتدت الشعر إلى سوق الخطابة، فأفرغت القصيدة الشقية من الدينامية الممكنة، ولم أصل - من جهة ثانية - إلى "الطبقة العاملة " لأن البداية كانت منحازة، كما أعتقد، إلى لغة غير سياسية بالمعنى الضيق المتداول لكلمة سياسة.

تعال ولا تجئ
لا من أغنية فيروز، بل من حكاية جدتي العمياء، أقتبس عبارة "تعال ولا تجئ"، وأدلف منها إلى العلاقة الحرجة بين الشخصي والعامّ في الشعر. فالأسئلة الكبيرة: الوطن، المجتمع، التاريخ، تستدرج الشاعر إلى حومتها، ولا سيما إذا كان متورطاً في حيثية إشكالية كأن يكون فلسطينياً. ولكنه حين يصغي إلى متطلبات الشعر الصافي، المبرأ من الزوائد والمناسبات والالتزامات، يجد أن هذه الأسئلة الكبيرة تعيده من حيث أتى. فقد يكون مطلوباً منه الإجابة عنها، ربما في الصحافة أو العمل الوطني أو الاجتماع، أما الشعر فله شأن آخر.
على الجبهة الثانية يقف المتربصون المزودون بالمكروسكوبات، ليحرسوا الشعر(ولا تدري من كلفهم بذلك) من مكروب الوطن وكل قضية عامة. فهؤلاء يقولون للشاعر المتماهي مع شجرة تخصه وحده في مكان بعيد: لا تجئ لأنك مطرود من دارة الشعر.. وساعتها لا بد من السؤال : أين يبدأ العامّ في الشعر وأين ينتهي؟.. هنا، يجدر الانتباه إلى أن القصيدة تتحول إلى شأن عام منذ خروجها من حبر الشاعر إلى المطبعة، ولكنها، بما هي طاقة شعورية، لا يمكن إلا أن تكون ذاتية. بل إن بين مهام الشاعر الكثيرة، الملزمة وإن كانت غير المدوّنة، تذويت العالم والتعامل مع جنونه وانفجاراته واستراحات محاربيه، بوصفه شأناً ذاتياً حميماً، بحيث تتحدد المعادلة :
ذات - موضوع ذات
فإذا نفذ من وجع الرأس هذا، إلى لحظة تطبيقية، أجد من حقي السؤال عما إذا لم يكن حرماني من وطني شأناً ذاتياً؟ أذكر أننا كنا بضعة أصدقاء في جمهورية لاتفيا على بحر البلطيق: وكنا لبنانياً وعراقياً وفلسطينياً وأثيوبياً، وليلة الوداع طاب السهر، وجعل كل منا يتحدث عن بلاده التي إليها غداً سيعود. أما الفلسطيني، الذي هو بالمصادفة أنا، فقد تلعثم قبل أن يجيب عن سؤال الأثيوبي : إلى أين ستذهب؟. وهكذا وجدتني أكتب " أن يعودوا وألا تعود إلى البيت.."، إلى آخر القصيدة التي يمكن أن أفشي أسرارها الآن، فأقول : إنها، بمعنى ما، مباشرة، بل وتقريرية. فقد كنت أكتب ما تمليه عليه مشاعري التلقائية في تلك اللحظة، والآن، بعد إرسال القصيدة إلى المعمل الجنائي، وأخذ البصمات التي تثبت تلوث اليد بتراب فلسطين، أنتظر الحكم المبرم المتبرم.. ولكنني لو تركت القصيدة معلقة من غير إشارة إلى الضاغط التي أملاها عليّ، لربما مرت بسلاسة وسلام.
ومع ذلك فقد يكون لهذا الحكم المتبرم المبرم روح وأصول، لأن الشاعر الذي يتسلل إلى الجملة الخطابية بهدف تهييج المشاعر، تحت دعوى أن الوطن شأن ذاتي، سيكون يضحك على نفسه قبل أن ينطلي على الآخرين: إنه هكذا يهدم القصيدة بيديه..
بعد هذا لا بد من أحكام مخففة، تتفهم ولا تسوّغ انسياق شاعر ما، إلى مجاملة السطح على حساب العمق، هي أن آلية الذوق السائد شيطانية في قدرتها الاستدراجية، وطوبى لشاعر يعرف أين يضع خطواته، فيما يناديه الإغواء المخاتل الملوّن بالنار والدموع: تعال ولا تجئ.. وكما يقال في لغة هذا الزمان : هنا، والآن.. عليك أن تقرر إما أن تأتي وإما أن تستنكف.. أليس في هذا إعادة إنتاج للقلق الأول على العلبة المسكينة من الطرقة غير المأمونة؟

إعادة النظر
إن هذه القصيدة، وغيرها بطبيعة الحال، من شأنها أن تلزم الشاعر بإعادة النظر في ما يكتب، وإذا كانت لحظة الكتابة تتسع لكل ما يخطر على البال ويجري به القلم، فإن، القصيدة، بعد ذلك، ليست رهينة عذرية شرقية، فهي قابلة للافتضاض من حيث الحذف والإضافة والتعديل، والنص الشعري لا يخضع لقواعد بروتوكولية تلزم الشاعر بعدم المسّ بقصيدته بعد نشرها، فنحن نردد روايات مختلفة، قد تكون متناقضة أحياناً، لبعض الشعر الموروث، وقد حفظنا من المتنبي العظيم قوله :" أطويل طريقنا أم يطول؟" ثم قرأناه مرة ثانية هكذا :" أقصير طريقنا أم يطول؟"، ولا أظن ذلك عائداً إلى تناقض الرواة بقدر ما هو عائد إلى مزاج المتنبي الذي أعاد النظر في بيته الجميل، وإذا كان هذا يربكنا من حيث جهلنا بالقول الأول والقول المعدل للمتنبي وسواه، فإن المطبعة الحديثة تؤرخ لأرقام الطبعات، ويستطيع القارئ المعاصر أن يعتمد الطبعة الأخيرة للشاعر، إلا في حالات البحث والاستقصاء الخاصة، كتلك التي تقارن بين" الأرض اليباب" كما كتبها إليوت أول مرة، وبينها بعد موافقته على التعديلات التي أحدثها فيها عزرا باوند.

وقد نخلص، مما سبق، إلى مقترب لآلية إنشاء القصيدة، ومع أن الآليات قد تكون متعددة بعدد الشعراء، إلا أننا نستطيع الافتراض أن هناك لحظة خالصة للخلق الفني، لحظة يكون فيها الشاعر مأخوذاً بوضع خاص مع ذاكرته ووعيه وقلقه وتوتره، وبموازاة ذلك، فإن هناك رقيباً منه يشهد عليه، ويمارس تأثيره في القصيدة بشكل أو بآخر، هذا الرقيب هو الذي يملي على الشاعر أن تكون القصيدة موزونة أو غير موزونة، مثلاً، وإذا كانت موزونة فما هو البحر الذي تعتمده؟ وإذا كانت غير موزونة فما هو المكافئ الموضوعي الذي سيعوض عن الوزن؟ ثم إن الرقيب الخفي هذا قد يتدخل في تجانس الكلمات وجدل الصورة مع الفكرة، وهذا ما يفسر أن الشاعر يشطب ويمزق الورق أثناء الكتابة، ولنلاحظ أنني أتحدث عن الكتابة لا عن القول، فالشعر الحديث، كما أفهمه، مرتبط حكماً بالكتابة، حتى لو "نزل الإلهام " على الشاعر بجملة أو صورة يتم توظيفها فيما بعد، أثناء عملية الخلق، لذلك من الصعب أن أضع تخطيطاً مسبقاً للقصيدة، لكنني لا أتنازل عن دوري قي قيادة الصور والأفكار مع العلاقات الناشئة بينها، إلى برّ أمان القصيدة،وقد تغريني القصيدة بكتابة قصيدة أو قصائد تكملها، أو تمتح من مناخها ( في مجموعتي "كسور عشرية" مثلاً، قصائد متجانسة تنهل من عالم الطفولة ) وقد تحرضني قصيدة جديدة لي، على إعادة النظر في قصيدة سابقة، بحيث تتكامل القصيدتان.

خروف أسود
يبدو أن لكل شاعر بيئتين لا واحدة، البيئة الأولى هي العامة التي تشتمل على منظومة من القيم والأسئلة الثقافية والاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك، والثانية هي البيئة الضيقة التي توجهه وتؤثر فيه بما يشبه التأثير الحزبي الخلوي، وإذا كنت ابن جيلي العربي الفلسطيني المولود في أواسط الأربعينات، فإن القواسم المشتركة لما يسمى بجيل الستينات تشملني من حيث كتابة قصيدة التفعيلة، والالتزام بالثورة الفلسطينية، على خلفية هي خليط من وجودية وقومية، إلى قلق وحيرة، أو اصطفاف راديكالي انفعالي متطرف، ولكن ما وصفته بالبيئة الضيقة قد يكون الأخطر والأعمق تأثيراً.

فقد هداني اقترابي من المرحوم موريس قبق، إلى الانشغال بالشعر بما هو شعر، على حساسية عالية تجاه اللفظة الأنيقة والسيطرة على الإيقاع، وقد تهيأ لي، في البداية، أن الشعر نوعان : جماليّ برناسيّ يقوم أساساً على الحب والاحتفاء بالجمال، وقد يكون سعيد عقل هو رمزه الأثير، مع الاعتراف المطلق لنزار قباني بدوره التاريخي في تخفف القصيدة من أعبائها البلاغية.. ونوع آخر من الشعر قد يكون أقرب إلى المدرسة الطبيعية من حيث التوغل في مشكلات النفس البشرية ونوازعها وعقدها، وهذا يتطلب -كما كنت أتصور- قدراً من الصور الشرسة وربما المنفرة والألفاظ الوحشية التي لا يستسيغها مألوف الشعر : الأفاعي، الوحول، الديدان، السياط، وكان الياس أبو شبكة هو شيخ شباب هذا النوع من الشعر، وسرعان ما تلقفني عالم خليل حاوي، لأصل إلى شعر توفيق صايغ، ومنه تولدت عندي قصيدة النثر بوصفها أحد الاختيارات لا الاختيار الوحيد، فقد كانت بذرة الإيقاع الموسيقية متضخمة في تربة روحي، وهو ما أغراني باستخدام أوزان الشعر العربي كلها، مع الزيادات والتوليدات وغير الموزون والدوبيت، ويستطيع قارئ مجموعتي "واحد وعشرون بحراً " أن يلاحظ أن كل قصيدة فيها، تختلف من حيث الوزن عما سبقتها وما تتبعها، ولم تكن تلك نزوة عروضية، فقد كررت هذه التجربة في مجموعتي "هكذا" وكذلك في " كسور عشرية "، وفي شعري الموزون كله، لا توجد قافية واحدة شاردة، بل لكل قافية أخت أو أكثر، وما استخدمت الخبب إلا بتفعيلة كاملة " فعلن " بتحريك العين أو سكونها، ولم ألجأ إلى صيغتها المهيضة "فاعل"، وهي غير (فاعلن) فتلك تفعيلة تنقل الوزن إلى عالم إيقاعي جميل، لكنه مختلف، أما القصيدة غير الموزونة، عندي، فهي محكومة بشروط تمليها كل قصيدة على حدة.

وخلال هذه التجربة، لا بد من وقفه أشبه بالاعتراف عند مرحلة من عمري (منذ منتصف الستينات إلى منتصف السبعينات ) عندما شاع في أوساط الثورة الفلسطينية، اصطلاح " الواقعية الثورية " الذي ابتكره الأستاذ ناجي علوش، وذلك في مقدمته لمجموعتي "حكاية الولد الفلسطيني " والواقعية الثورية تأخذ من السلفية والواقعية الاشتراكية أسوأ ما فيهما، من حيث الركون إلى النبرة الخطابية، واعتماد الشاعر شاهداً وعرافاً ومحرضاً، بحيث يأخذ الشعر مرتبة اجتماعية وطنية أكثر منها ثقافية، وقد تبنى هذا الاتجاه أخوة مخلصون : نزيه أبو نضال، منير شفيق، خالد أبو خالد، وغيرهم ممن هم أقل شهرة، ولعلي كنت خروفاً أسود في هذه المجموعة، فمع ما كنت أنعم به من دلال ومباركة، إلا أنني كنت أقاوم هذا الاختيار، بما يمكن أن يبدو جحوداً وفظاظة، فقد أسقطت مقدمة الأستاذ ناجي علوش من الطبعات اللاحقة لحكاية الولد الفلسطيني، وهاجمت كتاب "الشعر الفلسطيني المقاتل" لنزيه أبي نضال مع أنه يخصني بمديح كثير، إلا أن هذا لا ينفي أثر تلك " البيئة الضيقة " في شعري آنذاك، ولكنه يفسر دلالة عنوان مجموعتي المغضبة " بغير هذا جئت "، فالعنوان لا يعترض على كثير من السائد في حياتنا الوطنية وحسب،
بل يحاول أن يتعدى ذلك إلى الاعتراض على أشكال التعبير السائدة مما يمالئ رغبات الجمهور السطحية.

أحاول وأتعلم
إن تأثير البيئة الضيقة في شاعر ما، قد يحكمه بفهم معين للشعر، من المحتمل أن يؤذي الشعر ذاته، ولكنه يمكن أن يكون تأثيراً خلاقاً، ولقد انشغلت، فترة ما، بإشاعة حالة نثرية في بعض قصائدي متوهماً أن ذلك يجعلها أعمق، وأنقذتني " البيئة الضيقة" من ذلك الوهم، بحيث أنني أضع يدي على قلبي، أحياناً، حين أراجع بعض قصائدي الحميمة التي شوهتها بكدمات نثرية.. ولا أقصد غير الموزون بطبيعة الحال.

على أن إسماعيل يرى إلى ما أفعله حتى الآن، فيهز رأسه شفقة وسخرية، فيما أمضي إلى استكمال ما بدأت به، قلقاً، متحسباً للطرقة الخطأ التي تترك السيارة الممكنة، تنكة لا فائدة منها.. وأذكر عنواناً لمقالة ساخرة كتبها شهيدنا غسان كنفاني ( كيف تفسد قصة ناجحة؟)، فأخشى أن يكون جوابي عن هذا السؤال الهام " كيف تبني قصيدة؟" هو: كيف تهدم قصيدة ناجحة؟.. لست سعيداً بذلك، لكنني أحاول، أتعلم وأتألم.. إنها مشكلتي أولاً وأخيراً، ولن أتوب.


مواليد حيفا عام 1946 صدر ديوانه الأول: الضواري وعيون الأطفال عام 1964، وصدر له بعده عدد من الدواوينالشعرية من بينها: حكاية الولد الفلسطيني، طائر الوحدات، بغير هذا جئت، اختلاط الليل بالنهار، واحد وعشرون بحرا، شهادة بالأصابع الخمس، هكذا، كسور عشرية، هنا هناك، جيل الذبيحة، كما صدرت دواوينه السبعة الأولى في مجلد واحد عام 1982.

النص

مولود السماء

أحمد دحبور

يعلو الدخان وينعقدْ
أخلو إلى بطن السماء،
فتمتلي رئتاي بالموتى وغاز الفحم،
سرّي في المدى يسري،
وها هو يملأ الدنيا عليّ،
فأقتفي نَسري،
وأطلق خلفه نجم الصباح،
فكل مصباح ينادي،
كل سنبلة تنادي،
كل ذاكرة تنادي:
يا شقا عمري لك الرؤيا،
فطرْ ما شئتَ،
دوّمْ في البعيد ولا تعد إلا بما هو أنتَ،
لكني أشيخ الآن،
فاحذر أن تجاملني وطِرْ،
لا تتئدْ
هو ذا جدار الغيم أسود فاقتحمه،
وراءه زمن تجدِّدهُ الرعود،
وربما اهتز الوجود ، فلا تخفْ
إن السماء الآن توشك أن تلدْ
نار على الأوتادْ
أسألت أين تقيمْ؟
إن كنتَ إبراهيم
فلم الحريق ازدادْ؟
والنار ليست ما يشبّ فيُستزادُ،
-     وإن تكن هبَّتْ وشبّت فوق حاجتها-
وليست ما يدل على نهايتها الرمادُ،
بل امتحان للأبوّة والأمومةِ،
كلما جاوزتُ صعباً،
لاح ما سيكونُ أصعبْ
لم تأت بالسكّين للولد الحنونِ،
وإنما أنجبتَه ، ليرى جريمتهم فيغضبْ
ويكون أن يرد الجحيم بصدره العاري،
وتحتل الحجارة مشهداً في مسرح الدنيا،
ليحيا في القلوبِ،
وهل عزاؤك أنه يحيا هناكْ؟
أتظنّ أنك بعده ترجو وترغَبْ؟
أتظن أن الكون يكفي لو تبرع أن يعوِّضهُ؟
وأنّ الجمر يمكن أن تروِّضه بروحكَ،
من جروحك تأخذ الحسرات حصتها،
فكيف تردّ إن جاءت رسائلُ باسمهِ،
أو إن دعوناك العشية: يا أباه،
ألم تكن دوماً أباه؟ فأينه؟
وإذا سئلتَ عن البعيد فما عساكْ؟
أما أنا
فإذا انكسرتُ على يديك وأحرقتني دمعتاكْ
أرنو إلى بطن السماء،
فتحتفي رئتاي بالموتى وغاز الفحمِ،
أسمع من يناديني،
ويهلكني النداءْ:
الموت ليس الموتَ إلا أن تسامحَ هؤلاءْ
وسيهجمون عليكَ ،
يمثّلون بريشك النبويّ،
ألمح ظلَّ سعلاةٍ مجنزرةٍ،
تقود مجنديْن يقطّعان أصابع الأطفالِ،
فيما يأمر السعلاةَ حوذيٌّ مغذى بالدماءْ
الغيم أسود، والسماء هي السماءْ
وسيهجمون على الفراشةِ،
من هشاشتهم يظنون السماء على شفا الإجهاضِ،
لكني أبشر بالمخاضِ،
وآخرُ الأنقاضِ يشهدُ : قام حقاً،
إنه حجري ، وإنك من سيبتدئ البناءْ
ويكون يوم للعزاء وما العزاءْ؟
وسيقتلونك ، مثلما فعلوا، على مرأى من الأرضينَ،
تنهض أو تحاولُ،
هل ستُحرجُ من جديد قومك الراضينَ؟
إنك مزعج،
سيُكلف الفقهاءَ موتُك خطبةً عصماءَ ضد الظالمينَ،
وربما هشَموا الثريد وكرّموا الويسكي-
لذكراك النبيلهْ
سألوا، لتكتمل البلاغةُ، عن جناس ناقص،
فانقص تزدْ
ذهبٌ ذهابك، فابتعدْ
وعلى القبيلة فاعتمدْ
وعليّ أن تنساك في ذكراك فالنسيان مأثرة القبيلهْ

القلب كاد يطيْر
من أين هذا الصوتْ؟
-     هذا دم وضميرْ
من يطرق الأبوابْ؟
-     هذا رسول الموتْ
وعلى يديه ترابْ
إن الحساب عسيرْ
إن الترابَ حسابْ
وتقول روح في الترابِ:
أنا عذابي ،
لم أبعْ يوماً ولم يتمكن الموتى من النسيانِ،
أحياناً أحب الرقصَ،
أحياناً تهدهدني الأغاني،
غير أنّ اللص يسرق هيكلي العظميَّ،
لا لفوائد التشريحِ،
بل بحثاً عن الذهب المخبأ بين أسناني،
أكزُّ عليهِ،
أدمي كفه وأشقّ أكفاني،
يراني من يراني عاريا
وأرى السماء كما هيا
-     أرأيت من خدش الحياءْ؟
-     بل إنه كشف الخفاءْ
أم أنه طيفٌ لمقتول يريد الثأر في متحضرينَ،
هو الهباء فمن سيثأر للهباءْ؟
إذهب فإنا لا نراكَ، وخلّ صوتك في الصدى متلاشيا
هل تُخرج التاريخَ من أسفاره أم تُحرج الجغرافيا؟
أما أنا.. فأرى الحياة كما هيا:
مَرقَ المخنث في خواتمهِ الأصابعُ بضَّةٌ،
وخواتم الفرح المحلل فضّةٌ،
والريح عطر فارسيٌّ يقلب الأمعاءَ،
جاء يقوِّم الأسماءَ فانتقصَ الرجولةَ فيكَ،
حَلَّ البائع الجوّالُ،
بين يديه أمشاط وأسلاكٌ،
وفي الجيبين مزرعتا حشيش تفضيان إلى مكّبات الجحيمِ،
يقولُ: إنك بعتَ مفتاح المدينةِ،
ثم يهبطُ مكتبيٌّ يصبغ الأضواءَ،
فالعفَنيّ أحمرُ،
وامتلاء النهر بالأسماك نزوة برجوازيٍّ صغيرٍ،
والدم القاني طلاءْ
للراية الحمراءِ ينفعنا،
ويصلح في مناكير النساءْ
فاغضبْ ليرضى هؤلاء،
ونم ليصحو هؤلاء،
ومت فإنك هؤلاءْ
فتحوا لك البازار فانقل رجلك اليمنى إلى الباب اليمينْ
دارت على الفرح الكؤوسْ
وشُويتَ في نار الهزيمهْ
لم يرسلوك إلى العروسْ
إلا لتؤكل في الوليمهْ
لا بأس إن شبعوا فقد يتبرعون بزمرة السلبيّ للجرحى،
ولكنّ الذبيحة ليس تكفي،
فانحناءً، للمقاولِ،
واحتراماً للبَطينِ،
وألف منفى للشقيّ ابن الحزين،
إذا أضاف إلى الخريطة موته الثاني،
-     سينساني الذي ينسى،
ويذكرني المخيمُ،
هل أعود إذا تذكرني المساءْ؟
أم أنني ميْت وميْت، ألف ميْتٍ،
والجنازة لا تمرُّ بهؤلاءْ؟
لم أغمض العينين إلا لامتلاك بصيرتي،
ماذا وراء بصيرتي؟
أبناءُ جيلي يكبرون وسوف أبقى عند عمري،
ربما أجري ولكن في دموع الأم والأختين والأبِ،
إنّ في كتبي رسائلَ ربما انكشفتْ فأحرجت الحبيبةَ،
أنها ستكون بعد غدٍ،
لدى أحدٍ من الأصحاب صاحبةً حليلهْ؟
-     والنار تكوي قلب أمك ،
وهي تنتظر العروس المستحيلهْ
-     طوبى لها ، من حقها ما ليس من حقي،
ولكن كيف أقنع لابسات الفحم في بيتي؟
وهل بيتي سوى دمع وطينْ؟
إن عاد لي بيت البيوت هناك أحيا،
إنه وعدي ويكفله الحنينْ
-     النار حولك ، إنما حاذر من الماء المعدّ لتبتردْ
فالماء يغلي من سنينْ
وسيسلقون ويطبخون يديكَ،
روحكَ،
ريشك النبويّ،
ماذا أنت؟ قومٌ أم غرابٌ؟
فلتكن ما شئتَ لكني أناشدكَ التكاثُرَ،
فاستعدّ لتحتشدْ
نضجت يداك فمن سيأكلُ؟
أم تراهم يعصرونكَ،
سكرّ الدم وارتفاع الضغط فيكَ ينفّران الجائعين إليكَ،
ميزان الحرارة حائرٌ تحت اللسانِ،
وللسان وصيتان: إذا بكوك فلا تصدق.. لستَ ميْتاً،
إن أتوك يعانقونك فابتعدْ
ولربما دفعوك نحو البئر،
فاستلهِمْ عيونَكَ،
ألف عين فيك تبصر كلُّ واحدةً ألوفاً منكَ،
لستَ المستباحَ،
فلا تخفْ، وانظر لتعرف: لستَ وحدكَ،
لن تكون البئرُ لحْدَكَ،
والتفتْ تجد الصباحَ يمرّ من بطن السماءِ،
هناك أنتَ ،
ولستَ في الموتى لتصبح فكرةً،
بل أنتَ حدْسُ فراشةٍ ينمو على لهب اليقينْ
وأمامك الأرض التي انتظرتْك عمراً،
- من سيبنيها؟
- بنيناها فرادى، وهي تدعونا إليها أجمعينْ
ومعاً سيصهرنا الحريق فنتحدْ
من أبسط الأشياء تبدر صيحة الفقراءِ،
والزمن الجديد هناك خلف جدار غيمٍ،
إن هذي النار ماءٌ،
ذاب غيمك في الحرائق فهو ماءٌ،
فيه أسماك وأسماءٌ،
وفيه يداكَ،
أنت هناك فلْترم الشباكَ لمرةٍ،
حاوِلْ تَصِدْ
- من أنتَ؟
- غاز الفحم في رئتيّ،
والموتى يسدّون الطريقَ،
تُركتُ في بئر ولم أكن الغريقَ،
رُميت في نار فترجمتُ الحريقَ إلى حروف تتقدْ

النهر، إلا أن يجفَّ ، سؤالُ
                  وأنا كلام فيه سوف يقالُ
فإذا الشهود أتوا، أتيت شهادة
                  ويغص بي متقوّل دجّال
وأفيض من عينيْ حبيب دمعة
                  في ملحها بحر، وثمَّ رمالُ
ما كان لي صوت، ومالي من فم
                  لكنني الصوت ، الفم ، الزلزالُ
برِّيّتي هذا الوجود، وليس لي
                  هذا الوجود فإنني رحّالُ
ما كنت لغزاً، بل أنا متشرد
                  حيناً، وحيناً تائه جوّالُ
لكنني أبني ممالك إن أشأْ
                  وأهدُّها إن شئتُ، فهي زوالُ
وأشفّ كالسر الأمين، فلا أُرى
                  إلا لمن كُشفتْ له الأحوالُ
الحق مفتاح الحقيقة، و المدى
                  باب لها، كثرتْ به الأقفالُ
لكنني أسعى وحقي ريشةٌ
                  فإذا جُرحتُ فحبرها سيّالُ
سيخط: إن الأرض لي، والبحر لي،
                  والفجر لي، والنهر فيّ سؤالُ

ليست هي الرؤيا ولكني أراكْ
النار خلفك والحديقة مبتغاكْ
وأمامك الزمن الجديدُ،
تصدّك السعلاة والممحاة عنه،
ولستَ في الزمن القديم سوى غريبٍ،
هل هوّيتُك التماسٌ للأمان أم اشتباكْ؟
من أنت؟
صيّاد الحقيقةِ، أم طريد يستبيحك صائداكْ؟
من أنتَ؟
شيطاناً يراك بخوفه الزمنُ العجوزُ،
وربما شوهدتَ، عند الريح والأطفالِ،
تعبر بين أجنحة الملاكْ
حيّرتَ حتى الأسئلهْ
هل أنتَ مصفاة العذابِ؟
أم الفحولة أَغْلَمتْ أنثى الترابِ؟
أم الدعيّ المدَّعى، والمعضلهْ؟
هل أنت قومٌ أم غراب لم يطق موت الغرابِ،
فراح يدفنه ليحرج نسل قابيلٍ؟
ويخرج من رموش السنبلهْ
هل أنت مدعوّ إلى عمر سوى العمر المتاحِ،
وهل تبشر بالمدينة، أو تعِدْ؟
أم أن من أقدار عمرك حفرةً،
لتظل تحفر ، ثم تحفر،
ثم ليس عليك من ألاّ تجِدْ؟
لكنني أرضى جواباً منك،
أنك أنت عندي ها هنا،
وليبق من تعبوا.. هناكْ
ها أنتذا.. نسرٌ حزين منفرِدْ
وسيقتلونك حيثما ثقفوكَ،
دوماً هكذا فعلوا،
ودوماً عدتَ،
دوماً هكذا..
إن السماء الآن توشك أن تلدْ

غزة- الأحد 1/10/2000