النص شهادة

ما زلت أكتب قصيدةً أولى

يوسف عبد العزيز *

البيت الأول:
بعد ثلاث سنوات على رحيلي في حزيران عام 1967 كتبت قصيدتي الأولى، تُرى هل كنت في تلك اللحظة أحاول أن أستعيد تلك الأرض الحلميّة والتي ارتبطت في طفولتي بالجنّة؟ ثلاث سنوات من عمري وعمر شعبي الفلسطيني كانت كافية لتبذر الكوكب بالفدائيين، ولتعبِّئ روحي بالبرق فأفور بالنّار كفوهة البندقية في يد المقاتل، ثلاث سنوات زوّدتني بالريش والأجنحة فقفزت من مقعدي المدرسيّ على حين غِرَّة وارتطمتُ بالسماء.
كانت فلسطين قريبة، كان بيتي قريباً وبحر يافا على بُعد أمتار منّي بحر يافا أذكر كنّا نشاهده في الطفولة من قريتنا النائمة على كتف القدس. كنّا نحن الفتية نتسلق بمشقَّةٍ بالغةٍ أحد الجبال العالية التي تحيط بالقرية، وما أن نصل قمَّة الجبل وننظر في اتّجاه الغرب حتّى نجد البحر قد نهض لاستقبالنا وبدأ بالرَّقص. وتحت شمس الظهيرة كنّا نُشاهد تلك الحناجر المائيّة وهي تلتمع وتترنَّح.

ذلك المشهد وغيره الكثير من المشاهد الساحرة ساهم في تكويني الشعري وألهب حواسي: الماء الذي يتدفّق من النَّبع كان يبدو مثل أفعى خرافيّة، فيما بيوت الطين المقبَّبة تدبُّ حوله مثل حشدٍ من السلاحف. الجبال العالية كانت تبدو مثل خناجر مدقوقة في لحم السَّماء. حقول ا لقمح كانت ترفّ مثل مناديل هائلة، وفي الصيف كان الحصّادون يتقدّمون منها ويطوونها ثمّ يحملونها فوق دوابّهم. الغيوم كانت تتفتّت بفعل سوط البرق الذي تهزُّه في الفضاء يدٌ مجهولة، فتتحوَّل القرية بفعل ذلك إلى محلج قطن. كل هذه الأشياء كنت أشربها بعينيّ وأغيب، ولذا كنت صامتاً أكثر مما ينبغي لطفل.
الآن يحدث أن أفرد قصائد أمامي وأتأمّلها، فأجد أنَّها لم تكن في الواقع إلا مزقاً مقتطعة من أرض الطفولة. كل شيء كتبتُهُ في حياتي أخذته من هناك، من عُبّ القرية ومن جرابها العظيم المكتظّ بالصور والألوان. هل يعني ذلك أنّني أحاول عبر الشعر أن أعود إلى نار البدايات؟ نعم هذا هو ما أرغب فيه بالضبط., إذ إنَّني مشيت في طريق الآخرين، وما هي إلا سنوات حتى اكتشفت الخديعة فانعطفت راجعاً إلى قريتي وبيتي: في معصرة زيتون نشأت، أو على اصح في (بَدّ). بيت واسع بأروقةٍ عديدة حللنا فيه مع خمس أُسر أخرى بعد الاحتلال الأول عام 1948. طوله يبلغ ثلاثين متراً، وعرضه عشرين. أما ارتفاعه فكان يزيد على الثمانية أمتار. كان البيت يقوم على بئرين عظيمتين من الزيت، وفي وسطه ثمّة جرن هائل من الصخر. في الجرن ثمّة صخرة ضخمة مخرومة بجذع شجرة. في موسم قطف الزيتون أذكر كيف كان حشد الرجال يدور بالصخرة. أذكر التهاليل والغناء. كان الكل يعمل كما لو كان المكان خليّة نحل. بعد سنوات أخذت العائلات التي تقيم معنا تغادر إلى بيوتٍ حديثة، البدّ أصبح ملكنا وحدنا. لا لم يكن ملكاً خاصاً بنا، كانت هناك ثمّة عائلة كاملة من الأفاعي تقيم في السقف. بين فترة وأخرى كانت الأفعى الأم تهبط إلينا، كانت تجرُّ نفسها على الحائط بخيلاء، وتتوقف قريباً منا، ثم ترفع رأسها وتتفقّدنا كما لو كنا أبناءها. أمي كانت من طرفها تقوم باستقبالها وتتقدَّم منها بمزيدٍ من عبارات الشكر والمجاملة، فيما الأفعى تهزُّ برأسها دلالةً على حالة الرضا والسرور. في البيت كان ثمّة بقرة وعدد من الخراف والدجاج. أحياناً كانت ثمة كلاب وثعالب تلتجئ إلينا. ونحن ما كنّا نتعرض بالأذى إلى أحدٍ من هذه الكائنات، وما كانت تلك الكائنات تؤذينا.

أخيراً خرجنا من البدّ إلى بيتٍ حديثٍ من الإسمنت بنيناه في مكانٍ آخر من القرية ولكننا ما كنّا نغادر البدّ تماماً. كنا نرجع إليه بين الحين والآخر ونملؤه بالضجيج والحركة، ونتسلَّق درعه الضخمة.
الآن، وبعد أكثر من ثلاثين سنة على رحيلي من الوطن أجدني أجلس القرفصاء وحيداً في غرفةٍ مكتظّة بالكتب ومضاءة بالنيون، وأفكّر بمصير البيت وبمصير تلك الكائنات الوادعة ومصيري، وأهتف: السماوات وحدها تعرف حجم دماري الشخصي وحجم فجيعتي التي لو ألقيت جزءاً يسيراً منها على كاهل الأرض لانفطر قلبها، وضجَّت بنشيجٍ متواصل حتى الأبد.

بدايات:
قصيدتي الأولى كانت عام 1970، ما زلت أكتب في كل مرة قصيدةً أولى، أذكر في تلك السنة أن التلاميذ أخبروا معلم اللغة العربية بوجود شاعر في الصف. لِمَن تقرأ؟ سأل المعلم، فأجبته (لأحمد شوقي). هل سمعت (بمحمود درويش)؟ قال: فقلتُ له: لا. عندها أخذني المعلم إلى المكتبة وناولني ديوان محمود درويش (حبيبتي تنهض من نومها) فقرأته بشغف كامل وحفظت معظم قصائده. وهكذا كان محمود درويش نفاذتي الأولى على الحداثة. بعد ذلك انهمكت في قراءة شعر المقاومة الفلسطينية وشعر السياب والبيّاتي وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور. سعدي يوسف وأدونيس قرأتهما في مرحلةٍ تالية، ثم رحت أقرأ كلّ شيء.

في أواسط السبعينيات درست في معهد المعلمين التابع لوكالة الغوث قرب قرية ناعور. وتعرّفت إلى عددٍ كبير من الأصدقاء الذين هدهدوا روحي وحملوا معي صليب المنفى والكتابة: إبراهيم نصر الله، يوسف أبو لوز، جمال ناجي، محمد وادي، عاطف القيسي، موسى صبيح، وآخرين. حياتنا كانت قصيدة، كنا نقرأ الشعر ونكتبه كما لو كان هواءنا الوحيد. كنا قد جئنا من المخيّمات فاتنين كما يليق بمنفيّين مثلنا ومتوَّجين باللعنات. كنا نتحدث عن قرانا الضائعة وعن بيوتنا الأولى كلٌّ منا كان يحمل بيته معه، وفي ممرات السرو في الليل كانت البيوت تلتقي، فيصدر عنا اصطفاق أبوابٍ ونوافذ ويتنهّد البحر قريباً منا حاملاً في يديه سلال السمك.

في تلك الفترة بدأت بنشر قصائدي في الصحف والمجلات الأردنية والعربية، وشاركت في عددٍ من الأمسيات. وأذكر أنني نشرت مجموعةً من القصائد في جريدة (الدستور) الأردنية، وكان المحرر الثقافي فيها في ذلك الوقت الكاتب (خليل السواحري) يحتفي بهذه القصائد. وكان في كل مرة ينشر فيها قصيدةً لي يتصل بالشاعر (محمد لافي) ويقول له: لقد نشرت قصيدتك التي أرسلتها إليّ باسمك الجديد. وكان (لافي) يؤكد له في كل مرة أنه لم يُرسلْ إليه شيئاً. في أواخر عام 1976 شاركت بأمسية شعرية في مبنى رابطة الكتاب الأردنيين، وحللت اللغز.
تالياً نشرت مجموعاتي الشعرية: الخروج من مدينة الرماد - بغداد 1980، حيفا تطير إلى الشقيف - عمان 1983، نشيد الحجر - عمان 1984، وطن في المخيم - دمشق 1988، دفاتر الغيم - بيروت 1989.

ما هو الشعر؟
بعد تجربةٍ لي استمرّت ما يقرب من ثلاثين سنة في الكتابة، أجدني حائراً ولا أعرف ما هو الشعر، ولكن الذي أعرفه أنني أحاول عبر الشعر أن أصحح الأخطاء الكثيرة المبثوثة في الكون، ثمة عطَب منتشر في كل مكان. ثمة ظلم واضطهاد ومدن مضاءة مثل الخرز الملون لا تروق لي. وهذه الاختراعات الكثيرة ابتداءً بالهاتف وانتهاءً بالإنترنت تسبب لي الكآبة. مرات عديدة سألت بقلق عن مصير الشعر. إن التقدم العلمي الهائل واندفاع الكوكب وراء هذه الأجهزة العمياء يقابله على الطرف الآخر انحسار ما في مساحة الشعر وفراغٌ مدوِّ في الروح. ولأكن أكثر تحديداً، إن مثل هذا التقدم غالباً ما يجيّر لمصلحة الظلام. تقدم (الكمبيوتر) واحتلّ المشهد، فيما تراجعت القصيدة وصار العالم يبحث لها عن ركنٍ مناسب في المتحف. في بلدن العالم الثالث أصبح هذا الجهاز الذي هو بحجم صندوق البندورة يقوم بعمل مئة مخبر... الآن جاء دور (العولمة) وامتلأت الأرض بمزيدٍ من هذه الصناديق الشيطانية، وعما قريب سنقفز كلنا في الجحيم وينتصر رأس المال القذر، وترتفع في السماء تلك الآلهة الجديدة: الشركات متعددة الجنسيات.
ربما بالغت في رسم مساحة السواد التي تحيط بالشعر، ولكن ذلك ما هو إلا جزء من الحقيقية المروّعة: العالم فارغ من الشعر. فثمّة شعوب بأكملها أنهت علاقتها به. وثمة دول تنكّل بشعرائها كما لو كانوا مجموعةً من اللصوص والمتآمرين.

هل يكون كل ذلك إيذاناً بموت الشعر؟
لا، الشعر لم يمت، وما زال الشعراء يواصلون سفرهم الأسطوري الطويل. صحيح أنهم يمشون بخطوات سلحفاة ولكن الصحيح أيضاً أنهم يرتّبون الروح الإنسانية ويجعلونها قابلة للحياة. إنهم أبناء الكوكب ينفقون أعمارهم في السهر على صحة الينابيع والأشجار ويدربّون الجبال على الطيران.

مواليد بيت اعنان / القدس 1956، من أعماله الشعرية: الخروج من مدينة الرماد/ دار الرشيد - بغداد 1980، حيفا تطير إلى الشقيف، نشيد الحجر، وطن في مخيّم، دفاتر الغيم، حائز على جائزة الرابطة التشجيعية عن ديوانه حيفا تطير إلى الشقيف.حائز عل جائزة الدولة التشجيعية عن ديوانه دفاتر الغيم 1991.حائز على جائزة عرار الأدبية عن مجمل أعماله الشعرية من رابطة الكتاب الأردنيين عام 1994.

النص

يوسف عبد العزيز

ذِئب الأربعـين

في رواقِ الأربعينْ
جسدي زوبعةٌ حمراءُ
والمرأة طينْ.

في رواقِ الأربعين
السَّماواتُ التي كنتُ على قبَّتِها
أشردُ كالنَّسرِ
استحالت
ورقاً أصفرَ في قبو السّنين

في رواقِ الأربعين
تفتحُ المرآة تابوتاً لِقتلايَ
ويمضىِ القمرُ الثَّعلبُ
في إثري
إِلى الحانةِ
والليلُ يُعَلّي سورَهُ حولي
ويغتالُ الحنينْ.

ما الذَّي يدبكُ في الرأسِ
جرادٌ هائجٌ يقضمُ أعضائي
وريشٌ ذابلٌ يسقُطُ
من قلبي الطَّعين.

هيئوا لي الأرضَ كي أَلثمها،
وأَصُبَّ الوَلَهَ المرَّ
على ركبتِها العمياءِ،

موسيقى لأهذي
وأَدُقَّ الجَسَدَ النّائي
بأقدامي مجوسي الخاسرينْ.

سقَطَتْ قنطرةُ الحُلْمِ
وعضّتْ عقربُ الفولاذِ عنقَ الماءِ
مرَّتْ عرباتُ الغجر الرُّحَّلِ للشَّرقِ
فناحَ الشَّجرُ المذعورُ في الوديانِ،
هاجرنا إِلى المحرقةِ الكبرى
وقدَّمنا على مذبحِها
عائلةَ اللهِ
وكنّا طيّبين.
لمْ يَعُدْ في البالِ
غَيمُ امرأةٍ يلعبُ بالقلبِ
ولا برقُ يدينْ
تبذُرانِ الرّيحَ بالحّمى
وهالِ النّارِ،
طاشتْ وردةُ الأُنثى
على ماءِ الصَّباح الرَّخوِ
والحُبُّ بكى حينَ رأى صورتَهُ
الصَّفراء في المرآة:

ليلٌ أسودٌ تحتَ الجناحينِ
فراشٌ ميِّتٌ في قفصِ الصَّدرِ،
ورمحٌ في الجبينْ

عبثاً يسطعُ هذا القارُ
في بريَّة الرّوحِ
ويمتدُّ سماءً في طريق العابرينْ

وحدَهُ في النَّفق المعتمِ
ذئبُ الأربعينْ
يملأُ الأرضَ عُواءً
ويسمُّ الميّتينْ.

بيـت

بيتٌ على ماءِ السَّماءْ
يطفو كريشةِ طائرٍ
ووراءَهُ عرشُ الغَمام

بيتٌ لأَِفراخِ الحَمام
بيتٌ لأبناء الثعالبِ، والأرانبِ
والظِّباءْ
بيتٌ لجدَّتِنا العجوزِ الكينياءْ

بيتٌ لجارتِنا النَّحيلةِ شتلةِ الليمونِ
قالت لي : صباحُ الخيرِ
فارتبكَ الهواءُ
لطفلةِ اللوزِ الخجولةِ
حينَ يقرصُ خدَّها مطرُ الشِّتاءْ

بيتٌ لأرملةِ التَّرابِ
الحيَّةِ الرّقطاءْ
غادرتُهُ في الحربِ من عشرينَ عاماً
يومها ودعتُهُ ومضيتْ
لكنَّه قطع المسافة خلفنا
حتّى (أريحا)
وظلَّ يركضُ حافياً للجِسْر.

صورة الشّاعر

مَنْ جلسَ الليلةَ في كرسيِّي
وأشارَ إِلى الفوضى أن تهدأَ!
للنارْ
أن تلبَسَ هذا الثَّوبَ القطنيَّ
الأبيضْ!

مَنْ لَوَّحَ للمرآة
وأشارَ إِليها
أن تُغمضَ عينيها لِتَراني
ناياً مكسوراً ينشجُ في طرفِ الأرضِ
وطاوسَ غُبارْ؟!

أَرَق

مُنذُ سبعينَ عاماً
لم أَنَمْ جيّداً
كنتُ أَفتحُ نافذتي كُلَّ ليلَة
وأُطِلُّ على الشارع العامِّ
حيثُ اللصوصْ

واقفونَ لسرقةِ بيتيَ
والآنْ
صارَ عندي ثلاثُ نساءٍ
وعشرونَ طفلاً
كلُّهم يسهرونَ معي
في انتظار اللصوص.