النص شهادة

شهادة

يا لَلهول..
لقد فقدتُها من جديد!

شوقي بزيع

أعترف بدايةً أيها الأصدقاء أن المعاناة التي عشتها إثر قبول هذه الدعوة الكريمة فاقت في شدّتها وهولها كل وصف وجعلتني أفكر غير مرة في الاعتذار عن تلبية الدعوة لولا خشيتي من سوء الفهم وسوء العاقبة..
لم يكن مصدر هذه المعاناة بالطبع هو التواضع أو الرغبة في العزلة أو قلة الحماس للقاء باقةٍ من الحضور، الذين تربطني بهم صلةً حميةٌ تعود لسنواتٍ طويلةٍ خلت، بل هو الخوف والتوجُّس وانعدام الحيلة إزاء الموضوع. فالمرء يحتاج إلى قدر كبير من الجرأة والتجرد لكي ينفصل الناقد فيه عن الشعر والوجه عن المرآة، ولكي ترى الأنا إلى ذاتها كما لو أنها الآخر المختلف. والمرء يحتاج إلى قدرة هائلة على الاختصار والتركيز والتذكر لكي يستجمع من تجربته الطويلة ما يظنه الأفضل والأجدى والأكثر التصاقاً بالجوهر. ولكن الأمر الأكثر صعوبةً في هذا السياق هو أن الشعراء والفنانين بوجه عام، يتحدثون عن أنفسهم حين يتحدثون لا كما هم في الواقع بل كما يتمنون أن يكونوا خالطين بين القصيدة المتحقَّقة أو المنجزة وبين فكرتهم عن الشعر أو المطلق الشعري الذي يسعون إلى بلوغه. لهذا فإن الشعراء حين يتحدثون عن تجاربهم الشعرية غالباً ما يقتلون في النقد الآباءَ الذين يحبونهم في النص ويجنحون إلى التحرّر مما لم يجدوا في نصوص قصائدهم سبيلاً إلى التحرر من سلطته. فالفرق بين أن نكتب القصيدة وبين أن ننظِّر لها أو نتحدّث عنها شبيه إلى حد بعيد بالفرق بين فعل الحب وبين الحديث عن الحب. ذلك أن القصيدة من بعض وجوهها كالحب تماماً تتفتح في الصمت لا في الثرثرة، وتربّى في كنف العتمة الخالصة لا تحت المصابيح الكاشفة والضوء الباهر والعيون المحملقة. إنها تتشكّل في (ليل المعنى)، كما يعبر صلاح ستيتية، لا وفق الخططِ المتعثّرة لنهار الأشكال وقواعد الهندسة الأكثر صرامةً من الحقيقة الفنية. وإذا كان في الشعر ما يشي بهندسة ما فإنه في هذه الحالة ليس أكثر من هندسة البرق التي تولد من تلقائها، وتخلق نظامها من الطاقة المتحالفة مع الكلمات لا من التأليف المتعسِّف والنحت المجرد.

لكل ذلك أجد مهمة الحديث عن تجربتي الشعرية صعبةً وشاقة ليس فقط لأن اللغة ستجد نفسها مضطرةً لتغيير وظيفتها والانحراف نحو القراءة والتحليل والربط والاستنتاج بل لأنني بشكلٍ من الأشكال لن أفعل شيئاً يُذكر سوى الاستعانة بالنثر على ما تكبّده الشعر طوال ربع قرن، أعني إعادة رسم صورة يدي على الورق وإعادة رسم المشهد الذي أفلحت القصيدةُ في رسمه حيناً، وتعثّرت مهمتها أحياناً كثيرة، وأقصد به مشهد البدايات في تجلياته الأولى وأماكنه البكر حيث لا شعر غنياً بلا طفولةٍ غنية وحيث الأبواب المفتوحة على الريف، كما يقول رامون لاسيرنا، تعطينا حريةً من وراء ظهر العالم. فالطفولة ليست شيئاً يموت فينا وينحلّ ما ان تنتهي دورتها بل هي الكنز الذي نحمله في داخلنا على امتداد العمر. إنها الجسد الذي لا يبلى والدم الذي يجدّد نفسه في الشرايين والكريات الصغيرة التي لا تحتاج إلا لهبّة ريحٍ لكي تلمع في عراء النسيان.

ولدت في قرية زبقين الواقعة على رأس مرتفعٍ أرضي مميز يطل على نصف رقعة الجنوب اللبناني المتاخم لفلسطين. مرتفع يستطيع الناظر من فوقه أن يلامس بالعين المجردة القمم الثلجية الشاهقة لجبل حرمون من جهة الشرق. وأن يلامس من جهة الغرب الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط، بما فيها اللسان الطويل الممتدّ كالخنجر في المياه الزرقاء والذي أقامه الإسكندر المقدوني من حجارة صور البرية قبل خمسة وعشرين قرناً ليعبر بواسطته نحو صور البحرية التي قاومته لسنوات طويلة بالحجارة والأسنان. استعان الإسكندر على نصف صور بنصفها الآخر، فيما تكفّل البحر بإزالة النصف الذي تبقى. أما صور الثالثة التي استوحيت منها قصيدتي الطويلة فيما بعد فلم تكن سوى المعبر الذي يفصل بين المدينتين المهدّمتين. ومع ذلك فإن الثلم الأرضي المكسوّ بالأشجار البرية وغابات السنديان والمتَّصلَ بالشمال الفلسطيني هو الخزان الحقيقي لمعظم ما كتبته من شعر. فمن جوف تلك الأودية المعتمة خرج أكثر من ينبوع ليترأس المشهد المائي الذي يبدأ من (عين التينة) في الشرق لينتهي عند نبع (العزية) الذي ترعرع (أيمن) الطفل على ضفافه، قبل أن تحول الطائرات الإسرائيلية المغيرة دمه المراق إلى أغنية معروفة. حتى السرير الخشبي الذي تأرجح من فوقه جسدي الطفل كان مقتطعاً من جذوع ذلك العالم القديم الذي أحاطت أشجاره بي من كل جانب. وأستطيع الآن أن أعلن بكل ثقة أنني الابن الضال لتلك العناصر الأولى التي تضافرت جميعها من أجل أن أكون ما سأصيره، أنا الذي أضع قدماً في الماء وأخرى في التراب فيما تلفح رأسي المثخن بالخسارات رياحٌ عاتية تعوي، كما يقول ميلوز بأسماء النساء والرجال الميتين منذ زمن طويل. أما الصوت الذي أكل الصورة ووشحها بالأطياف والترجيعات فقد كان جسمي الآخر الذي حمل شعري على أجنحته أعني به صوت أمي الشجيّ وهي تردد : (يا حادي العيس سلم لي على أمي/ واحكي لها ما جرى واشكي لها همّي).

لم أفهم يومها أن صيغة الماضي المبنية على المجهول في عبارة (ما جرى) ستكون صيغة سائلةً في الزمان وسيفتحها المضارع على حروب وأهوال لن تكون انتفاضة فلسطين الأخيرة إلا حلقةً صغيرةً منها. ومع ذلك فقد خرجت من أحشاء تلك الطفولة الحادسة أغنيةٌ أخرى تحمل الاسم ذاته وتشير إلى عنوان شهيد آخر هو (حسن الحايك).
ليس صدفةً إذاً أن أولد على الأطراف الفاصلة بين برج الجدي وبرج الدلو. أو بين برجين أحدهما ترابي والآخر مائي. فالصدفة هنا لم تفعل شيئاً يُذكر سوى إكمال ما حوّلته الطبيعة إلى قدر محتوم. وإذا كنت اليوم مصنّفاً بين الشعراء الغنائيين فإن مردّ ذلك لا يعود إلى تعلقي بأذيال الخليل بن أحمد بل بأذيال تلك الأصوات التي أنشبت قصائدي في لحم الريح كما يُنشب اليتيم أظافره في لحم السماء التي تخلّت عنه. إن كل تلك الأصوات التي أحاطت بنشأتي، كل تلك الرؤى والأماكن والروائح لم تكن سوى النواة الصلبة التي شحذت فوقها سكّين الحياة المطمورة في الأعماق والتي ما أن أخز قشرتها قليلاً حتى يتضوّع فوحها في كل اتجاه وحتى تنبجس من تحتها نيران الكتابة وجحيمها المعذب.

قد يكون الشاعر، أي شاعر مديناً لموهبته وشياطين شعره قبل كل شيء. تلك الموهبة التي تسبح معنا في مياه الرحم وتدمغ أجسادنا كوشمٍ غير مرئي تاركةٍ أغراضها تتفتح على شكل طبولٍ صغيرة تتجوّل في الشرايين ودورة الدم. ولكن الوجود الهلامي للموهبة لا يمكن أن يدخل في بنيةٍ أو نسقٍ بمعزلٍ عن المكان والزمان الذين يحوّلان الفكرة إلى جسد ويمنحان اللغة هويتها أو علاماتها الفارقة. وأعترف هنا أن الجنوب الذي نشأت فوق إحدى هضابه لم يمدّني فقط بالفكرة أو الشعار أو الموضوع بل هو الذي هيأ لي الأخيلة والمشاهد وهو الذي رفدني بالحساسية والشغف ومساحة التوتر. إنه الحائط الأهم الذي تُسند مجموعاتي الشعرية التسع ظهرها إليه، والينبوع الذي يعصمني من الجفاف والفضاء الذي يوفر لصرختي ما يلزمها من النشيج. إنه ليس مساحةً من الجغرافيا فحسب بل هو جذر الشعريات التي لم يكن شعراء الجنوب اللبناني في السبعينات سوى حلقة من حلقاتها الكثيرة. وما أغفله الإعلام وشوّهته الأيديولوجيا لسوء الحظ، هو أن هذه الكوكبة من الشعراء الذين اصطلح على تسميتهم بشعراء الجنوب لم يكونوا ثمار المواجهة المتأخرة بين العرب وإسرائيل بقدر ما كانوا ثمار المواجهة بين عنصري الحياة والموت اللذين ظلا يتساجلان فوق تلك الهضاب المطلة على البحر سجالاً لا هوادة فيه، تماماً كما هو الحال مع الشعر الفلسطيني ومحيطه المجاور. وإذا كان غارسيا لوركا قد اعتبر أن الأمة الإسبانية هي الأمة التي تحتفي بالموت لا بوصفه نهاية المطاف وفصل الختام بل بوصفه تجلياً من تجليات الحياة وفتحاً للستائر على ضوء الشمس فإن هذه المقولة تنطبق على الجنوب اللبناني إلى حد بعيد وتشكِّل مصدراً رئيسياً من مصادر إلهامه. وإذا كانت تجربتي الشعرية المتواضعة قد أفادت من الطبيعة والمكان والحب ما أمكنها ذلك فهي قد أفادت بشكل موازٍ من عاملين اثنين: الموت والفقدان، إن معظم ما كتبت هو انعكاس لهذين العاملين وامتداد لهما سواء تعلق الأمر بالمرأة أو الحلم أو مسقط الرأس.

ففي ضوء الموت تعرفت إلى المرأة. والمشهد الأول الذي أذكره في حياتي هو مشهد نسوةٍ متشحات بالسواد يشيّعن رجلاً إلى قبره فيما وجوههنّ كانت تلمع بشدة تحت شمس الظهيرة. يومها أحسست أنا الطفل الصغير، بأن الأنوثة هي أصل العالم وأساسه، ويومها أيضاً أحسست بلسعةٍ الشهوة الغامضة للمرأة في ثياب الحداد. باتت المرأة في الحداد مصدراً لاستيهاماتٍ ورغباتٍ تطاردني أينما ذهبت ودعوةٍ دائمة لاختبار الألم بالشهوة. كأن المرأة وهي تعتّم نفسها بالموت تستدرجني إلى قبو أنوثتها المغلق مراهناً عبر الحب على ما يستولدها من جديد وعلى ما يحرّرها من العتمة كما يحرّر الربيع الذرة المدفونة في التراب. أما المشهد الثاني فكان سقوط مريم المرأة التي أحببتها في السادسة، عن ظهر الحصان. كانت مريم قد زُفّت إلى رجل يكبرني بعشرين سنة ويفوقني طولاً بعدة أشبار. حتى إذا ما أطلق أحدهم نار الابتهاج على مقربةٍ من جسدها الرافل في بياضه وقف الحصان مجفلاً على قائمتيه الخلفيّتين دافعاً مريم إلى السقوط عن ظهره ومتيحاً لي أن أرى لمعان ساقيها الحليبيتين الذي تحول شعري فيما بعد إلى محاولةٍ عقيمةٍ لاستعادته من جديد. باتت المسافة بيني وبين مريم تُراكم نفسها كالثلج في بياضٍ الأسطورة وباتت معظم قصائد الحب التي كتبت نوعاً من الاستدعاء الرمزي لامرأةٍ لا تتحقق إلا فوق صهوة الكلمات.

كان للمشهد الحسيني من ناحية أخرى تأثير بالغ في تجربتي الشعرية. فقد بدأ جمع الجنوبيين النادبين في عاشوراء شبيهاً بتعاونياتٍ سنويةٍ للبكاء المتواصل. كان ثمة دمٌ كثيرٌ يستدرج دموعاً غزيرة. وكان ذلك الدمُ على تقادمه قادراً على تجديد صورته باستمرار بحيث يبدو لشدة طزاجته وكأنه قد أريقَ قبل ساعات. حتى إذا ما تعرض الجنوب للاحتلال انتقل المشهدُ بسرعةٍ فائقة من المجاز إلى الحقيقة واضعاً شعري الأول على الأخص داخل ثنائيات صافية يقف الجلادون عند ضفتها الأولى ويقف الضحايا عند ضفتها الثانية. وهكذا لم يقدَّر لشعري أنا الذي كنت أتلو السيرة الحسينية في مطالع صباي، أن يحتفي بالمرأة والتراب وحدهما بل أن يحتفي في الوقت ذاته بأرتال طويلة من الشهداء بدءاً من أيمن وحسن الحايك وبلال فحص وصولاً إلى علي بزيع وعبد الأمير عبد الله مروراً بالشهادة الجماعية التي تمثلت في مذبحة قانا الجليل. على أن تلك التراجيديا المشحونة بالحزن والغضب لم تكن مجرد دليل يرشد إلى الموضوع أو المعنى بقدر ما أمَدَّتني بشحنتها الدرامية المتوترة وعصبها المشدود داخل النص وتدليلاتها الصوتية المنحنية دائماً إلى الأسفل.

وإذا كان الفقدان بالمقابل، وبجميع أنواعه، قد كبَّدني الكثير من الآلام والمشقات فإنه هو نفسه الذي أتاح للُّغة أن تتقدم لتحتلَّ المساحةَ الشاغرة التي خلفها وراءه. وكان الانسلاخُ عن مسقط الرأس لدواعي الدراسة أو العمل أو الاحتلال والتهجير القسري بمثابة الصدمة الأكثر قسوة على مستوى الحياة، والأكثر غنىً وثراءً على مستوى الكتابة، شعرتُ وأنا أستقل السيارة التي حملتني إلى طرف العاصمة أن الأشجار التي كانت تفرُّ مسرعة إلى الخلف إنما كانت تذهب لاحتلال المكان الذي انسلختُ عنه وحراسته من العدم. لقد ظلَّت الأشجار بما تحمله من بعدٍ رمزي، المادة الأساسية التي لعبت في شعري الدور نفسه الذي يلعبه الزيت بالنسبة للرسامين. وظلَّ حليبها الشحيحُ القادم من رضَّاعات الماضي على حد باشلار، البديلَ شبه الوحيد الذي عوَّضني ما خسرته مفطوماً عن حليب الأم. ولأن حفيفها السحريَّ يحتاج إلى ناقل فقد تكفلت الريح من جهتها بهذا الدور وجعلتني أرهفُ السمع لأيِّ نسمة صغيرة تهبُّ من جهة البدايات. ثمة حادثةٌ في هذا السياق رويتها في غير مناسبة وأعود إليها اليوم لما مثَّلته بالنسبة لي ولشعري من دلالات. حادثة تتعلق بخمسة مهاجرين كانوا أوَّل من تجرأ على مغادرة القرية قبل أن أولد بعشرين عاماً. يومها شيّع أهالي القرية أبناءهم المهاجرين حتى نهاية منعطف السنديان المؤدي إلى سواحل صور. رفض الناس يومها أن يدخلوا إلى بيوتهم وظلوا يترقبون رؤية المركب الذي يقلّ أبناءهم وفلذات أكبادهم نحو بلاد الاغتراب حتى إذا بدا لهم المركبُ المتهادي في عرض البحر أشارت إحدى النسوة المنتظرات على الناس باقتلاع دُرَف الخزائن والتلويح بمراياها الطويلة التي بدتْ للمسافرين وكأنها تختزنُ في داخلها كلَّ شمس الجنوب ولمعانها الآسر. وكان من نتيجة تلك الواقعة السوريالية الغريبة أن أربعةً من المسافرين عادوا أدراجهم إلى القرية بعد وصولهم إلى أحد المرافئ القريبة. أما الشخصُ الخامس الذي رفض العودة فقد مات بعد ذلك بشكل غامض مصاباً بلعنة التراب المفقود. ولعلني إلى اليوم ما زلت أسألُ إذا ما كنا نحن الشعراء امتداداً لأحد الخيارين أو مزيجاً معقداً من النداءات المتعارضة التي لا تتصالح إلا فوق رقعة الكلمات!

غير أنني، في منتصف الثمانينات، شعرت بأن المعنى الذي تستند إليه مجموعاتي الثلاث الأولى بات على وشك النفاذ أو أنه بات بحاجة إلى إعادة تأهيل، كانت الحربُ اللبنانية يومها تدخل في نفق الاقتتال الطائفي والمذهبي والعقائدي تاركةً الأحلام الكبيرة التي رافقت انطلاقتها الأولى أثراً بعد عين. وقد استوقفني يومها قول ت. س. أليوت في كتابه القيِّم (الشعر والشعراء) بأن الشاعر أيَّ شاعر، لا بدد وأن يجد نفسه في لحظة من ثلاثيناته أمام أحد الخيارات الثلاثة: إما أن يتابع الاقتيات من لحم الغنائية المكررة التي تشدُّ أزره في ذروة الفتوة والشباب أو ينقلب على أسلوبه وموضوعه متجهاً نحو الحكمة والنضج والأسئلة الوجودية الكبرى أو يخلد تماماً إلى الصمت. وقد وجدتُ نفسي دون قصد أمام الخيار الثالث متوقفاً عن الكتابة على امتداد سنوات خمس بحيث تراءى لي في لحظات اليأس أن الشعر قد هجرني إلى غير رجعة. غير أن الفضيلة التي تعلمتها من الصمت لم تمكنّي فقط من الإصغاء إلى الآخر الذي فيَّ والذي يطالبني بتغيير قواعد اللعبة وشروطها بل إلى الآخر بالمطلق الذي لا يشاطرني الرأي أو الوجهة أو الأسلوب. أتاح لي الصمتُ أن أقرأ كلَّ التجارب المغايرة، ومن بينها قصيدة النثر، بتفهم أكثر وحب أشد. ووجدت في الاختلاف لذةً لا يحقّقها التشابه أو التماثل لأن المختلف وحده هو الذي يقترح عليَّ الإضافة لا التكرار، والتحدي لا الاستكانة، والجريانَ لا الاستنقاع والتأسن. لقد وضعتني النماذجُ العالية لقصيدة النثر أمام نوع آخر من الجمالية الرحبة التي تعتمد الكثافة والإيحاء والتوازنات الإيقاعية والبصرية المدهشة. كما أن شغفي المستجد بالكتابة الروائية ساعدني على توظيف الأصوات والإفادة من الحوار ولغة السرد محاولاً أن أتخفَّف ما أمكن من الإنشاد الغنائي المجاني والجمل الوصفية الزائدة.

مع بلوغي الأربعين كان التغيّر المعرفي والنظري الذي أصابني يترافق مع تغيّرات الجسد الواقف على قمته متهيئاً لانحداره التدريجي نحو سفوح لا سبيل إلى تفاديها. وكانت مجموعتي الشعرية (مرثية الغبار) والقصيدة التي تحمل اسمها ثمرةَ تلك الحرب الضروس بين ما كنته وبين ما أردت أن أكونه، بين الشكل والمعنى، وبين المنجز والمتعذَّر إنجازه. كانت المجموعة تلك، أو هكذا أزعم على الأقل، بمثابة تصفية حساب بين ما أنا عليه وبين الطفل الذي كنته. وقد شاءت المصادفة كما تذكرون أن أقدّم ذلك الحساب في الأردن ومن فوق منبر جرش على وجه التحديد. لم يعد المكان بدءاً من تلك المجموعة مروراً ب (كأني غريبك بين النساء) و (قمصان يوسف) وانتهاءً ب (شهوات مبكرة) و (فراديس الوحشة) ذريعةً (غنائية) أو آيديولوجية أو (وطنية) بقدر ما أصبح خلفية للغة والرؤيا والأسئلة المضنية. لم تعد لفظة (الجنوب) رافعةً وجدانية وتحريضيةً للكتابة ولا شعاراً لاستدرار التعاطف بل انبثق من الداخل جنوبٌ آخر، جنوبٌ أكثر تواضعاً من الشعار وأقربُ إلى البطولة الفذة والمتوارية وراء حجرٍ صغير أو شجرة محروقة أو أسلافٍ بعيدين أو منزلٍ بلا نوافذ.
غير أن المكان لم ينفرد وحده باحتلال الساحة بل تقدَّم الزمن بثبات ليأخذ قسطه من المعادلة، منقسماً بين مستقبل واهنٍ تنتظره الشيخوخة على المنعطف وبين ماضٍ مأهول بصراخ كائناته الجميلة المنقضية. وفي كل الأحوال ليس اليأسُ من الحياة هو ما يربت على كتف الشعراء في لحظة الاكتهال بل هو الخوف من فقدانها على حين غرة. وليس الموتُ على فداحته هو العدو، بل الارتياب في قدرة الجسدِ على تجديد عقده مع الرغبة. وما يزيد من فداحة الأمر هو أن الجسد والروح لا يلجان نفق الكهولة بتساوقٍ أو اطراد، بل الذي يحدث هو العكس تماماً. إذ أن الروح وهي تخسرُ فرصتها سنةً بعد سنة تصبح أكثر اندفاعاً باتجاه الحياة، فيما يصبح الجسد، على ممانعته، مكشوفاً أمام كوابيسه المتكاثرة. هكذا تصبح كلُّ مرثية للآخر الغائب مرثية للأنا المهددة في صميمها. وتصبح الصرخة التي أطلقتها بلسان عاصي الرحباني (وكلما ازداد اشتهائي ازداد نقصاني) قناعاً لصرختي من دونه. ولم يكن عاصي الرحباني وحده هو القناع الذي حمَّلتُهُ مساءلات الوجود الصعبة بل انتقيتُ في المجموعات الأخيرة شخصياتٍ متعددةٍ الهويات والرؤى محملاً إياها جهنمات الشكوك التي تتصارع في داخلها الآلهة والشياطين، شخصيات كثيرة تتوزع بين يوسف النبي الذي كان عليه لكي يستحقَّ جمالهُ أن يواجه على فوهة البئر زليخة الشهوات المندلعة من الأسفل، وبين مريم المُسمَّرة وحدها على صليبي الأنوثة والأمومة والتي قَدَّمَتْ جسدها بالكامل ثمناً لخطيئة حواء، وديك الجن الحمصي المتناهبِ كالورقة بين الشغف المحموم والغيرة المفضية إلى القتل، وتوماس مان الممزّق بين أسئلة الحياة وأسئلة الكتابة، وبوذا الذي تحولتْ شهواتُهُ المكبوتة إلى بوذا آخر يطارده أينما ذهب. وعند ذلك المستوى من المكابدة اكتشفت الجوهر الموحِّد للكائنات وأدركت أن البشر المختلفين على السطوح ليسوا في حقيقتهم سوى تمظهرات مختلفة لمياهٍ جوفية واحدة.

غير أن الشعر أيها الأصدقاء ليس هذا وحسب. إنه ليس إعلاناً للنوايا ولا ترجمةً للمعارف والأفكار التي تتضمنّها القصائد. إن سؤال الشعر الحقيقي هو: (كيف نكتب) لا (ماذا نكتب) وإلا لأمكنني عبر هذه المطالعة أن أستغني بالنثر عن كل ما تجَشَّمتهُ من شعر. إن كلَّ قصيدة يكتبها الشعراء هي أشبه بمجزرة كاملة يتم من خلال مُسَوَّداتها الكثيرة إعدام الجانب الأكبر من اللغة. ولست أبدا على يقين من أن ما دفعتُهُ إلى النشر كان أفضل مما رميته. وإذا كانت تلك الفرضية تنطبق على الشعر بوجهٍ عام فإنها تنطبق على ما سمي بالشعر الحر أو قصيدة التفعيلة أكثر من أي شكل آخر. ذلك أن الكثير مما نريد قوله يسقط على الطريق بين (الصوت والمعنى) على حد بول فاليري ويتحول إلى تصفيةٍ مستمرةٍ للكلمات. على أن هذه التصفية الماهرة هي التي تتحدد بواسطتها قاماتُ الشعراء ومقدار نصيبهم من اللهب. لقد تراءى لي باستمرار أن الشعر، كما الحياة، هو في مكان آخر. ومع ذلك فنحن لا نكتشف أنفسنا إلا في ضوء ذلك التحالف الوثيق بين الكتابة والمحو، أو بين المعرفة والنسيان. إن قَدَرَ الشاعر الحقيقي أن يكون مزيجاً دائم التأرجح بين أرخميدس وسيزيف. فهو لا يكاد يصرخ عند فراغه من القصيدة: (وجدتها أيها الحمقى المشككون) حتى يسارع إلى الاستدراك (يا للهول لقد فقدتها من جديد)!


من أهم الأصوات التي شكلت ظاهرة شعراء الجنوب اللبناني. أصدر عددا من الدواوين الشعرية من بينها: عناوين سريعة لوطن مقتول عام 1978، الرحيل إلى شمس يثرب، أغنيات حب على نهر الليطاني، وردة الندم، مرثية الغبار، كأني غريبك بين النساء، قمصان يوسف، وشهوات مبكرة. فراديس الوحشة.

النص

فراديس الوحشة

تترامى شمسُها الخضراءُ عن بُعْدٍ
وتنأى في الدُّخان
أبداً يرتدُّ عن أبراجها الطَّرْفُ
ويعلو جذعَها المكسوَّ بالحسرةِ
صَمْغُ الهذيانِ
شاخصاً من فُرْجَةِ القلبِ
إلى فوَّهةِ البئرِ التي تغسل بالأهدابِ
أقدام بُخارى

قلت للطفلِ الذي فيَّ:
انتظرْني
ربما أبلغ في خاتمة الرحلةِ
ما لم تطأ الأحلامُ من قَبْلُ
ولم تَمْسَسْ يدانِ
وتوغَلتُ بعيداً في السماواتِ
التي تفصلني عن برقها الخائرِ،
صادقتُ مفازاتٍ
وودياناً
وصادقتُ بقايا أنهرٍ
أخمدها الوقتُ
ولم يأخذ بأيديها إلى برِّ الأمانِ

لم يكن ليلٌ لأدعو نجمهُ
بوصَلَتي في التيهِ،
أو فجرٌ
لأستقوي بما يركض من أفراسهِ
في الغبش الفضيِّ،
لا ماضٍ لكي أمضي
ولا مستقبلٌ كي أُرهف السَّمْعَ
إلى الريح التي تفتضُّ كالسِّكينِ
أحشاء الثواني
مَنْ أذن يهتف لي
من خلف هذا الحائط المجهولِ،
مَنْ أثْخَنَ رأسي بالإجابات
التي ينخرُهُا الشكُّ
وصدري بالنياشين،
و مَنْ أطلقني كالمخلبِ الخاسرِ
في هذا الرِّهانِ؟
منشباً أوردتي العزلاءَ
في ما غيَّض الرملُ من الأفئدة الظمأى
وما يخفقُ كالغربان
في ليل الحيارى
رحتُ أستقرئُ صبَّار العذاباتِ العدائيَّ
الذي ينزفُ
مثل القنفذِ المخمورِ
من جلْد الصَّحارى
فتبدَّى لي، كمن في نومه يبصر،
شيخٌ، كنتُ قد عايْنتُهُ من قبلُ

في صورة أسلافي البعيدين
ومن غاصوا إلى اللُّجةِ
مثلي،
قلت: هل تعرفُها
هل تعرفُ الدرب إلى شمس بخارى؟
وإلى الباب الذي ينشقُّ
عن أمواجها الزُّرْقِ،
وهل يتسَّع العمرُ لكي أبلغها يوماً
وتُعشي ضوءَ عينيَّ
المناراتُ العذارى
قال: إني عائدٌ منها
ولا شيء بها مما تظنُّ

ليس في هذا المدى الأجوفِ
إلا رممٌ منهوبةُ الاسمِ
وفَخَّارُ عظامٍ بَلِيَتْ من شدةِ القَيْظِ
وأقدامٌ تئنُّ
ما الذي أفعلُهُ
في قلب هذا النفقِ الموحشِ،
قلتُ،
وأنَّى لي أن أرى
أبراجها الغرقى
ولا نار لكي يسترشد الأعمى،
ولا نَأْمَةَ،
لاشيء سوى رَجْعِ سعالِ
البشر الفانين

والأيدي التي صارت غباراً
هي ليست في مكانٍ أو زمانٍ
أو أوانٍ تمتم الشيخُ،
هي الخمرُ التي نفقدها
في ذروةِ النشوةِ،
طَعْمُ القُبَلِ الأوَّلُ،
برقُ الشِّعر في الرأس،
الشِّتاءات التي تُعْوِلُ
في خطِّ استواءِ الروحِ،
والماسُ الإلهيُّ الذي ما أن
يعرِّي وهجه المجروحَ
للأعينِ
حتى يتوارى

كلٌّ من يبحثُ عن لَيْلاه
في الهاجرةِ الصَّماءِ
أو يصطكُّ كالمقرورِ في بريَّةِ
الفقدانِ،
أو يبكي على أندلسٍ ضاعتْ
يسميِّها بخارى
بِمَ أستهدي إذن
في ذلك التيهِ المرائي
بِمَ أستهدي،
أنا القاطع خلفي
كلَّ ما يربطني بالأرضِ
والدائرُ مثل العقربِ الأخرقِ
في هذا الهباءِ

أتحرَّى على يدٍ يومئُ لي من خلفها
ياقوتُها الغاربُ،
عن صَفَّيْ قبابٍ
تتهجَّى صدرها الغضَّ
بلا جدوى
قلا أقواسُها بانتْ
ولا الريحُ التي استصرختُها
رَدَّتْ ندائي ………….
فجأةً،
بعد اشتعال الشَّيْبِ في الرأس
تجلَّى وجهها المشروخُ كالمرآةِ
في قلب العراءِ

هارب الأطيافِ
للأرض التي غادرتُها
في مطلع العمرِ
وللماضي الذي يشهقُ كالينبوعِ
في أقصى دمائي
وتَلَفَّتُّ،
لعلِّي مدركٌ أنقاضَ
مَنْ أوْدَعْتُهُ كنز انتظاراتي
وأسمال اشتهائي
فإذا الطفل الذي في داخلي
قد شاخ
والشمس التي أقصُدُها باتت ورائي