(في حوار استعادي بعد 32 عاما)

بقلم: أنور محمد

لؤي كياليلؤي كياليلؤي كيالي

في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، وقبل موته بعام، سافرتُ أنا والفنان لؤي كيالي إلى (عمَّان) العاصمة الأردنية، لإقامة معرضٍ له، وذلك بدعوة رسمية من دائرة الثقافة والفنون. يومها وقبل موعد السفر بساعة كنَّا نجلس في حديقة السبيل بحلب، ونتحدَّث معاً حول تهديم الشكل الواقعي -اللقطة الفوتوغرافية- وإعادة بنائها من جديد، فالتفت لؤي إلى أحد مقاعد الحديقة، وأشار إلى رَجُلٍ مستلقٍ عليه، وقال لي: انظر إلى ذاك الرجل المستلقي على المقعد.. إنَّه لوحتي (نهاية ثائر)، فقلت له: وما دخل الثورة عليه؟ قال لؤي: إنَّه من ثوَّار الاستقلال الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي في سورية، (لقد كانت رجله مقطوعة، وعكَّازته ملقاة بجانبه على الأرض، كما في اللوحة التي رسمها لؤي)، أنا ياصديقي؛ والكلام للؤي؛ أعدتُ إنتاج المشهد الذي تراه، مشهد رجل أعطى لسورية ساقاً كاملة بلحمها وعظمها ودمها، وترك له ساقاً يستقوي بها على المشي. هذا الرجل قاسَمنا ببعضٍ ممَّا ائتمنه الله عليه، ببعضٍ من جسده، بينما نحن لم نقاسمه في فراشنا ولا في طعامنا ولا في بيتنا، أليس مؤلماً سؤال لؤي هذا؟

من هنا تبدأ العلاقة بين الفنان والمشهد البصري الذي ينتجه، يرسمه، ينحته. في هذا الحوار بيني وبينه أحاول الكشف عن عالمه، عن أدواته، عن أفكاره، عن انفعالاته التي يصنع منها لوحته، وهو حوار استعادي، إذ كان قد تناول مساء 10/9/1978 حبَّة «فاليوم» لتساعده على النوم، وكانت في يده سيجارته التي سقطت على فراشه فاحترق، فتمَّ إسعافه ومعالجته حتى يوم الثلاثاء 26/12/1978 حيث فارق الحياة، وهو من مواليد حلب 1934، درس في إيطاليا وتخرَّج في أكاديمية الفنون الجميلة بروما العام 1961.

* مايكل أنجلو كان عنيفاً، وكذلك فان غوغ، الأوَّل بالحركة ضمن اللوحة وبتحديدٍ أدق.. بحركة الجسم الإنساني، والثاني بضربات الريشة. وأنت عنيف أيضاً، برأيك أين تقف من صورتَي العنف هاتين؟

- مرَّ إنتاجي بمراحل عديدة، كان في بعضه أكثر قرباً من مايكل أنجلو من حيث الحركة الإنسانية ضمن إطار اللوحة، وإن استخدمت ألواناً أكثر تضاداً من ألوانه وأكثر تأثيراً في النفس، وهنا أقترب من فان غوغ، لكنني بعيد عنه من حيث تأكيد لمسة الفرشاة.

* تستعمل الرصاص في بناء اللوحة الأساسي، وهذا ليس بجديد (روفائيل في إعطاء العمق، ومودلياني في تحديد الشكل)، ألا ترى معي أنَّ العملية هي ازدواجية في استعمال المادة، وخاصة أنَّك تترك أثر الرصاص في العمل بخلاف من ذكرتهم؟

- من المحتمل أنَّ رافائيل كان يستعمل الرصاص في بناء اللوحة الأساسي، ولكنَّه كان يغطيه باللون، بحيث لم يعد هناك أيُّ أثر للرصاص، أما بالنسبة لمودلياني فقليلٌ من أعماله التي يظهر فيها الرصاص. ولا أعتقد أنَّ لدي ازدواجية في استعمال الرصاص.
مواقف

* بعض المواضيع عندك تتكرَّر منذ رجعت من روما العام 1961، ألا تعتقد أنَّ الموضوع المطروح أكثر من مرَّة قد يستهلك نفسه والأمثلة: معلولا، مرمم الشباك، ماسح الأحذية، بائع اليانصيب، أمومة..؟

- هل مواقف الأمهات تجاه أطفالهم واحد؟ هل ماسحو الأحذية يتمتعون بنفس الدرجة من الفهم؟ ألا تختلف الاهتمامات بالعمل والانفعالات بين إنسان وآخر؟ هذا إذا غضضنا الطرف عن التشكيل في العمل الفني.

* الشكل والمضمون في أعمالك كادا يكونان متوازيين في أغلب الأحيان، أمَّا بالنسبة لرسم الزهور والطبيعة، فيكون الأوَّل عندك على حساب الثاني، وبالتالي الوقوع في جمالية تقترب من الزخرفة أحياناً، ما تعليقك؟

- إنَّ تأكيد جمالية الزهرة يتطلَّب تأكيد جمالية الشكل، ولا يمنع أن يكون هناك إمكانية الوقوع في جمالية تقترب من الزخرفة.

* رسمت الطبقة (السفلى) من المجتمع: ماسحي الأحذية، بائعي اليانصيب، وركزت على (إنسانية) الإنسان من خلال رسمك لهم، سؤالي: لماذا بقيت ضمن إطارهم، وبتعبيرٍ أدق لماذا لا تنزل إلى الريف مثلاً؟

- لست معك في تسمية الكادحين بالطبقة السفلى من المجتمع، هذا إلى جانب أنني رسمت بعض المواضيع التي تتعلق بالريف؛ كما أنَّني باقٍ ضمن إطار هذا المجتمع حتى الآن.

* باستمرار يلاحظ اهتمامك الشديد بالجسم، بالجسد الإنساني وتأكيدك عليه كنموذج مما يترك الخلفية (الفون) عندك مساحةً من دون حركة؟

- تأكيد النموذج في اللوحات التي فيها البعد الثاني (الخلفية) فراغ تجريدي.

* الواقعية التعبيرية عندك تأخذ منحى آخر الآن، أي أنَّك تقترب من الواقعية التسجيلية على حساب التعبير، هل هي قضية انطفاء التوتر النفسي عندك أم أنَّ شخوصك فقدوا قدراً من معاناتهم اليومية (معرض في سبيل القضية 1967) كمثال للأوَّل، ومن جهة أخرى معرضك الأخير في دمشق؟

- إنَّ التعبير يختلف باختلاف المضمون وباختلاف الموضوع المطروح من خلال اللوحة، وتقديم عمل يمثِّل نضال الإنسان في مساره التحرري يتطلَّب انفعالاً معيَّناً، من حيث التعبير يختلف عن تعبير طفل يبيع أوراق اليانصيب أو الجرائد، أو عن تعبير أم ترضع وليدها. ونماذجي لم تفقد أيَّ قدرٍ من معاناتها، ولم أبتعد عن التعبيرية على حساب الواقعية.

أعماق

* ترسم الإنسان وتدخل في أعماقه تارةً، وتارةً تطفو على السطح وتقدِّم جمالية أشبه بالحلم.. ما رأيك.. يا لؤي؟

- إنَّ نماذجي من النادر جداً أن تعيش لحظة حلم رغم حاجة الإنسان إلى هذه الممارسة الإنسانية.

* مَنْ مِنَ الفنانين التشكيليين في سورية طرح الوجه الإنساني بعمقٍ أكثر، أو بجمالية أكثر؛ وبرأيك طبعاً؟

- من الرواد فاتح المدرس، ونذير نابعة من الرسامين. سعيد مخلوف ووحيد استانبولي من النحاتين. ومن الرسامين الشباب عمر حمدي وبشار العيسى.

* برأيك يا لؤي ماذا تحمل أعمالك من مواقف تجاه الحياة؟

- تحمل زخماً حضارياً، وبعض ما أعطيت مواضيع ملتزمة بمسار الإنسان التحرري من خلال عمله اليومي أو من خلال معاناته وتجربته الحياتية.

* ماذا تعني لك الحياة؟

- كلمة واحدة هي (الحياة).

وجدان

* في أعمالك حتى الآن يُلاحظ أنَّك تعتمد على رسم النموذج، بمعنى أنَّ لكل عمل عندك خصوصية من ناحية طرح الموضوع (اجتماعياً وسياسياً)، وأنا حول هذا أرى أنَّ أعمالك في هذه الحالة متنوِّعة تنوع عمل وحركة الإنسان، لكن برأيك هل تستطيع كلُّ هذه النماذج مخاطبة وجدان مشاهد معيِّن؟

- كثير من نماذجي تخاطب وجدان المشاهد وبأسلوب بسيط.

* في بيروت اقتنت إحدى الأسر الثرية منك لوحة، وعلى ما أذكر، وكما قلت لي أنتَ يا لؤي، فإنَّ هذه الأسرة بدَّلت ديكور منزلها ليتناسب مع موضوع وجمالية ألوان لوحتك، وأذكر أنَّ فتاةً في أحد معارضك عندما شاهدت أعمالك بكت. هذان موقفان متناقضان.. بالنسبة لي، ومن وجهة نظرٍ ما، يُعبِّران عن احترام الناس بمختلف انتماءاتهم الطبقية لأعمالك، بالنسبة لك أيُّ الموقفين أقرب إلى نفسك؟

- الموقف الثاني أقرب إلى نفسي، ونحن في عصر وفي وطن لا تكفُّ فيه الدمعة!

* هنا قد اختلف معك لأنَّ وراء كل موقف سببا، لكن أعمالك أرى أنَّها صارت تسير باتجاه تكوين شخصية فنية لها وزنها ولها حجمها، خطُّك القوي المتميِّز، المساحات ذات اللون الواحد بتعددها، بالإضافة إلى أنَّك تحاول أن تسقط ذاتك في الأعمال، ما رأيك؟

- بالطبع رؤيتك ليست صحيحة، وإلا فقدت الجزء الأكبر من المبررات للاستمرار في وسيلة التعبير التي أملكها، كما أنني لا أهدف إلى تحقيق انتصارات فردية.

* لؤي.. أريد أن أعرف ما سبب حزنك الدائم؟

- من قال لك إنني حزين دوماً؟ ورغم أنَّ العالم يسير في طريق التحرر إلا أنَّني أشعر بالبؤس لا بالحزن أحياناً لعدم إمكانية الثورة العربية من تحقيق أهدافها
حتى الآن.

اوان
6 -4-2010