الاكتمال بل هو تجوال في فضاء الفن

(اناهيت سركيس وكاظم الخليفة في معرض " توقيعان على لوحة واحدة")

غريب اسكندر
(العراق)

اناهيت سركيستختلف تعريفات الإبداع وتتضارب الآراء بشأن تقنياته وأساليبه ومضامينه الا انها دائما ما تلتقي على شيء
واحد ؛ذلك هو ان الإبداع عمل فردي بامتياز ،انه عمل ذاتي محض تكون الذات المبدعة كفيلة بانجازه.وذلك لا يتم الا عبر التكثيف الإبداعي لتلك الذات وهذا التكثيف الذي تسبقه مرحلة تأملية تطول او تقصر بحسب المبدع وحسب نوع العمل الإبداعي ايضا حيث تختلف مجسات الإبداع هنا ويتجلى ذلك بشكل واضح في العين بالنسبة للتشكيلي بكل ما تمتاز به هذه الحاسة من رحابة وعالمية. والإذن بالنسبة للموسيقي التي على الرغم من اللغة التجريدية العالية التي تمتاز بها الموسيقى تظل دائما ،من ناحية أخرى ، في إطار المحلية والضيقة بينما تبقى مجسات الشاعر غائمة وعصية على الوصف!!

لكن هل صحيح ان الإبداع هو عمل ذاتي محض؟وهل ثمة ذات من دون آخر؟أم ان الذات تشبه المصفاة في عملها ؟ كان على حق تماما من قال: ((كل الاشياء قيلت ،المشكلة الآن ليست في ماذا نكتب ،بل كيف نكتب؟)).ويمكننا ان نُرحل السؤال الى باقي أنواع الإبداع الأخرى.وهذا هو بالضبط مفهوم التناص INTERTEXTUALITY الذي تنبه له النقد العربي القديم مع انه جاء مشوشا عند بعضهم حيث اقترن بالسرقة الأدبية ! اذا فهمنا ذلك أي ان اللحظة الإبداعية هي لحظة تصارع وتحاور وهي لحظة نفي وتجسيد في آن ؛وكل ذلك لا يتم الا عبر مصفاة الذات في تشابكها اليومي والوجودي مع الحياة ،هذه المغامرة الكبيرة ،مغامرة الحياة إبداعيا اختار الفنانان العراقيان اناهيت سركيس وكاظم الخليفة ان يجسداها في عمل مشترك هو الثاني لهما وقد جاء يحمل عنوانا ذات دلالة محددة ((توقيعان على لوحة واحدة 2)) وأقيم في المركز البولوني بلندن في الفترة من 26 آذار/مارس الى 8 نيسان/ابريل.وتنبغي الإشارة الى ان المعرض الأول الذي أقيم قبل عامين في المكان نفسه قد حمل العنوان ذاته .

اناهيت سركيسفكرة العمل الإبداعي المشترك ،على ندرتها ،ليست وليدة اللحظة وكلنا يتذكر العمل الروائي المشترك الذي كتبه الروائيان عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا واعني به ((عالم بلا خرائط )) فضلا عن الأعمال المسرحية المشتركة لبعض المسرحيين التجريبيين والنصوص الشعرية عند بعض الشعراء الشباب الا ان هذه المغامرة التشكيلية جديدة على ما اعتقد خصوصا في عالمنا العربي. وهي فضلا عن خصوصيتها لا تخلو من صعوبة تأويلية تحتمها طبيعة البناء التشكيلي الذي لا هو مادة لغوية كما في الأدب ولا هو مادة تجريدية كما في الموسيقى اعترف بهذا التحدي الذي تشكله قراءة اللوحة لي وهذا التعتيم الذي يظل يلازمني عندما انتقل من اللحظة الانطباعية الى اللحظة النقدية في قراءة العمل التشكيلي عموما.مع ذلك ازعم ان التلاقح الجميل بين الفكرة واللون في هذا المعرض سهل عليّ الكثير حيث أعلنت الألوان عن ابتهاجها بالحياة على الرغم من بعض الثيمات الحزينة في المعرض مثلا(طاولة لزياد حيدر) صديقهما الفنان العراقي الذي رحل قريبا عن عالمنا غريبا بهولندا مع ذلك جاءت الألوان براقة زاهية تقول لي الفنانة اناهيت بهذا الصدد عندما سألتها كيف يكون فعل التذكر سعيدا لهذا الحد كأن اللون هو الذي يفرح هنا ؟..(( أنه استذكار لصديق وفنان تجمعنا به لحظات ومواقف جادة و جميلة وهو من ناحية ثانية يدل على التضامن بالفن، وكان زياد يعمل على مثل هذه الألوان و هذه اللوحة بمثابة تحية لذكراه )). وقد ذكرتها بالمعرض السابق وكانت إحدى ثيماته (سجن أبو غريب) وكيف كانت الألوان داكنة والسماء رمادية حيث لا آفاق فقط الزنازين الصغيرة والجدران العالية التي تقف ضد كل ما هو مبهج وجميل في الحياة أوضحت اناهيت (( كان اسم العمل شاهد لسجن أبو غريب وهو ايضا شهادة او بمثابة الإدانة والاحتجاج على هذا المكان الرمز للقسوة والوحشية وهو استنكار ايضا لمأساة العراقيين الذين قتلوا او في أحسن الأحوال أهينوا وقضوا حياتهم فيه على مدى عقود ، وما زال في الذاكرة والواقع يجسد ذات المعنى )). عليّ ان أشير ها هنا الى انه للأسف لم يتسن لي الحديث مباشرة مع الفنان كاظم الخليفة . سألت اناهيت عن ان القراءة الاولى للمعرض تبين اشتغالها هي على اللون بينما يشتغل كاظم الخليفة على الفكرة او قل المضمون الذي يقع هنا بين محورين: فعل الاستذكار بكل تجلياته: استذكار المكان الأول والصديق والحقول الخضر وطاولة الشراب والفرح المسروق والحزن القائم أبدا ؛أي كل ما يرتبط بالوطن كمكان حلمي غادراه الفنانان مبكرا ولا آمل بعودة قريبة حيث يبتعد أكثر كل يوم ،وبين المنفى وهنا هو (لندن) بوصفه مكان اشتغالهما هذا التوتر بين الثابت ولو حلميا (الوطن) وبين المتغير (المنفى) الذي خلق هذا المعرض والذي قبله, أوضحت الفنانة ((من المجحف قول هذا بحق ومستوى هذه التجربة , ليس هناك تقاسم في العمل او توزيع للأدوار إنما شركة في التصور والانجاز كما أشار التقديم الذي كتبناه للمعرض:أغرتنا فكرة انجاز مشروع تشكيلي مشترك يتجاوز حدود اللوحة الواحدة المشتركة او المعرض الثنائي الى مستوى مغامرة التعاطي مع العملية الإبداعية من خلال الشراكة في العمل والتصور والتخطيط والانجاز للمشروع كله)). إذن لم يأت عملهما المشترك عفويا محضا او حبا بالتجريب بل هو مدروس نتيجة الاستفادة من تصورهما المتشابه للحياة والفن وتطويع- المختلف- لأجل بناء عمل واحد تتماهى فيه الاختلافات والمتشابهات بشكل إبداعي يظهر فيه دور الاحترافية واضحا ،هذا من ناحية ومن ناحية أخرى من قال ان العمل المشترك يكون بالضرورة متشابها ؟!

- لكن كيف تم لكما التعاطي في تكوين اللوحة الواحدة ؟

- أجابت: هناك حوارات وأفكار تدور حول طبيعة العمل الفني , معناه ومفاده والموقف منه وتثمين التجارب والمراحل المهمة في تاريخه وهي حوارات وتبادل آراء مفتوحة وتلقائية عادة ما تقرب المشترك بيننا أكثر في فهم وتصور العملية الإبداعية وعن جدية الفن ودوره في الحياة ,, كانت أكثر النقاط محورية كقناعة هي ضرورة تجاوز التقاليد والأعراف الموروثة في الفن باعتباره من صلب مسؤولية الفنان ومهامه في الحياة .. على كل حال , انت حين تكتب قصيدتك او ترسم لوحتك تنسى كل ما قرأته عن الشعر او ما تعلمته من النقاشات الجادة وغير الجادة عن الفن , او عليك ان تفعل هذا وإلا سقطت قصيدتك او لوحتك ميتة ومتصنعة و ليس فيها غير شروط وقوانين الأفكار المسبقة , اعني خالية من حياة اللحظة الإبداعية ومن صراعك مع مادة الفن " الكلمات والحروف او الأدوات والخامات " واختلافك مع ذاتك واضطرابك في السيطرة على مسار العملية كلها من سمات حيوية التجربة وجمالياتها التي سوف نراها برضا واعتزاز بعد ان تستقر النتيجة كاملة بين يديك او تحت نظرك .وفي الفن وكل الفنون جانب كبير من معنى الحرفة ويكون أكثر وضوحا في الفن التشكيلي , نحن نجيد هذه الحرفة ونحترم نظمها وشروطها وتقاليدها ونستطيع المناورة و الحركة فيها او من خلالها سواء في التقديم والتأخير في المراحل او في تمويه أثار شروطها الاداءية في خضم العمل . ليست هناك صدفة بحتة , هناك صدف عابرة تحور فكرة العمل وتنميها حتى تستقر بذاتها كنتيجة, قد يصار الشغل على تكوين عمل واحد بيد واحدة او عدة أيادي المهم اللحظة التي ستقول فيها العين انه عمل مكتف بذاته .

اناهيت سركيسقد نختلف في تثمين النتيجة لكن هناك حكما كطرف آخر او مقياسا سيكون له رأي حاسم هو الجدار حيث تستقر عليه اللوحة وتتاح فرصة رؤيتها من جديد أي من زمن آخر و سوف يكون القرار هو القناعة او الأسف او البداية من جديد .

- لكن كيف تنتج رؤيتان مختلفتان عملا واحدا ؟

- يمكن لرؤيتين متشابهتين( وليس بالمختلفتين) إنتاج عمل واحد, ويمكن للعمل الواحد المشترك , جدليا , ان يقرب بين تشابههما أكثر . أحيل القصد الى سوابق في تاريخ الفن سواء منه الشعر او التأليف الموسيقي والرقص وما هو تحديدا في هذا الميدان ( التشكيل) , وهذه سوابق مأخوذة بجدية كتجارب مستقرة في تاريخ الفن .
السؤل الذي يمكن ان تثيره التجربة الجديدة هو عن كيفية تحقيق تجربة مشتركة وعن مدى ثباتها وتطورها في الأفق ,, ؟
اعتقد ان الفنان يفكر حالما يشتغل وينبعث الخيال والأماني لحظة وجوده في صيرورة العمل واعتماله فيه . والقصد ليس اكتشاف وجهة نظر مغايرة او جديدة او هي آتية من رغبة الإشارة الى الذات , بقدر ما يعني الأمر تماما تمثل معنى الإبداع كونه يسعى دائما لتحدي السائد والموروث ولما يستعصي في الحياة . مع التفاوت وما تفرضه خصوصياتنا استطعنا تحقيق تجربة جديدة ويعود ذلك ايضا الى التقارب والتضامن الروحي في الفن .

وتؤكد اناهيت على ان عملهما المشترك لم يكن نتيجة رغبة في الاكتمال ،كما سألتها عن ذلك ،ولا هو تجريب خارجي بل هو فعل آت من مادة الفن ومن داخله أساسا , تبقى اللوحة فيه مساحة للحرية وا للعب حتى بعد ان أصبحت تجربة مستقرة ((اننا نرسم على لوحة واحدة صار بها معنى التجربة المشتركة أكثر من معنى المغامرة و التجريب ، والأمر بسيط بالنسبة لنا ولمنطق الفن حين لا يخضع لإرادة خارجية ولا الى رغائب ؛ كما أشرت انت ، مثلا الى الرغبة بالاكتمال ، كل ما في الأمر اننا أغرانا التجوال بغابة او متاهة واحدة ، وهذا المعرض إحدى المساحات التي استطعنا ريادتها و هي التجربة الثانية والتي يمكن ان تؤسس لمشروع يأخذ مديات ابعد وأرحب)).

- ماهي أهم الفروق بين تجربتي المعرضين على صعيدي التقنية وبناء العمل؟

عندما اشتغلنا معا للمعرض الأول كنا مهيئين لهذه التجربة بما يعني التجريب المسبق على أكثر من عمل مشترك , تمتعنا الشركة في الانجاز وتبهج بصرنا نتائجه ففي العمل الحرفي متعة أعمق من تلك التي يتيحها الحلم والتفكير والخيال , أما الحذر وما نخاف من مضاعفات اختلاف الأفكار وما يمكن ان يعيقنا جراءه فقد كان متجاوزا وقت ان تشتغل به لغة العمل شركة وتقترح حلولا وأفاقا أكثر إغراء من ما يمكن ان تقترحه تلك المسبقات الفكرية .
عموما.كان مخرجنا في المعرض الأول هو الاعتماد على حلول تقنية لإكمال العمل مثلا عندما نرسم لوحة نشتغل عليها بالأدوات المتوقعة النتائج ، انه نوع من التنظيم التقني حيث كانت الحرفية والتصميم واضحين في سيماء المعرض الأول.أما في هذا المعرض (الثاني) فقد انتقلنا الى مستوى فيه حرية أكثر وقد ترسخت التجربة بدخولنا الى هذه المرحلة. ففي المعرض الأول كانت هناك لوحات كبيرة تتيح سهولة الحركة والعمل عليها أما هذا المعرض فقد احتوى على بعض اللوحات الصغيرة (وهو أصعب في الشركة بالعمل) فضلا عن احتوائه بالطبع لوحات كبيرة تشكل صلب هذا المعرض.

- المعرض الأول كان فيه العمل على الفكرة أكثر وضوحا من العمل على التقنية، بينما نجد في هذا المعرض اشتغالا مهما على التقنية وخصوصا هذا الاستخدام الجميل للألوان البراقة ؟

- صحيح بمعنى اننا ننطلق بحرية أكثر في استخدام الأدوات و الوسائط التشكيلية وكان اللون أحداها , وقد استطعنا ان ننمي هذه الصلة أكثر في هذا المعرض.

العفوية والمصادفة

- لاحظت ان ثمة تأثرا بالرسام الشهير(بولوك) في طريقة استخدام الألوان ؟

- يعجبنا بولوك لكننا لم نتأثر به . نحترم تجربة هذا الفنان و دورها في إشاعة تلقائية الانجاز , لكن ليس لنا علاقة تأثر به ولا في طرائقه او استخدامه لتوظيف الألوان, ربما يحضر هذا الشبه في ذهنك, فهي حريته وحريتنا في تجاوز تقاليد المحترف التقليدي ونظمه. يمكن ان أشير للمفادة التي تعنيها بأننا أبناء لآباء او آباء لأبناء وما يتحقق على سطح اللوحة الآن هو عطاء تاريخ الفن .

- لماذا غيب التشخيص في أعمال هذا المعرض ؟

- التشخيص يحد من دفق حيوية الفن ويحد من حرية البحث عن البواطن والغموض والإشارة مباشرة وعضويا لها ,فهو يشبه تماما مبدأ الشعر العمودي الذي ينشغل بالتقنية والمهارات قبل ان يعانق المعنى .

- وماذا عن التلقي اعني كيف تفهمين الاستجابة للوحة وقراءتها ؟

- اللوحة او العمل التشكيلي عموما يبصر بحاسة العين لوحدها فهي أي (العين) أمية مثل الإذن التي لا تتعاطف مع الموسيقى الا بأثر سماعها واستجابتها لها سماع وليس قراءة , ويرتبط التلقي ايضا بموقف التعاطف مع اللوحة ومع الفنان ومحاولة استحضار تجربة الانجاز وتصورها ثم من مدى جدية انتمائها للحظة الإبداعية القائمة .

بقي عليّ ان أشير الى ان الفنانة اناهيت سركيس والفنان كاظم الخليفة :
- ولدا بالعراق وتخرجا من كلية الفنون الجميلة في ببغداد و كان لهما الحظ في أنهما قد درسا الفن التشكيلي على يد رواده الكبار في العراق والعالم العربي أمثال فائق حسن وكاظم حيدر وحافظ الدروبي وإسماعيل الشيخلي وإسماعيل فتاح الترك ؛ لهذا استفادا كثيرا من تجربة فائق حسن بوصفه ملونا كبيرا ذا حساسية استثنائية وتعاملا شفافا ،فكأن ،كما تقول اناهيت ، ثمة روح تعمل خلال أصابعه. ومن كاظم حيدر في العمل على الموضوع بوصفه فنان الأفكار والموروثات الشعبية وتصور أعماله الكثيرة والمهمة أحداثا سياسية تارة وأحداثا فلكلورية تارة أخرى.