التقاه: عدنان حسين أحمد
(أمستردام)

ينحدر الفنان التشكيلي العراقي حسام الدين كاكاي من عائلة فنية مؤلفة من أربعة فنانين تشكيليين ومصور فوتوغرافي وهم صدر الدين، وفلك الدين، ونور الدين، وحسام الدين، وشمس الدين. وقد أقاموا عام 2002 معرضاً جماعياً في مدينة كولوم الهولندية ضم نماذج مختلفة من أعمالهم الفنية والفوتوغرافية، وقد أثارت هذه الأعمال ردود أفعال متباينة، وطريفة تنصّب علي هذه المصادفة الغريبة التي جمعت خمسة مبدعين في أسرة واحدة. وربما يكون صدر الدين هو الفنان الأكثر تأثيراً في العائلة، ومع ذلك فان لكل واحد منهم عالمه التشكيلي بالرغم من وجود أوجه كثيرة للتشابه في التقنيات والموضوعات الفنية التي تجد طريقها إلى الرموز والإشارات المكرسة في العوالم الأسطورية والمثيولوجية التي تمتّح من الينابيع الأولي للمعرفة البشرية الخالصة. أقام حسام الدين كاكاي عدداً من المعارض الشخصية والمشتركة في شمالي هولندا علي وجه التحديد، وقد حقق حضوراً متميزاً خلال السنوات الخمس الماضية. وللتعرف علي مصادر ومرجعيات حسام الدين التقيناه ودار بيننا الحوار الآتي:

* أنت منحدر من عائلة فنية، إذ يمارس فيها الرسم أربعة أخوة، فضلاً عن الأخ الخامس الذي يشتغل في ذات المنطقة البصرية. من حرّضك علي الرسم؟ هل كان الدور الرئيس في تحفيزك علي الرسم هو صدر الدين، أم أن هناك أشخاصاً آخرين مهّدوا لك طريق الفن والإبداع؟

في بداية طفولتي عشت في كركوك، وهي بيئة مليئة بالألوان، وفي بيت مليء بقصص المبدعين والفنانين المشاهير. كانت مكتبة العائلة عامرة بكتب الأدب والفن التي حرضتني علي الدخول في هذا الحقل البصري، كما كانت حواراتنا، نحن الأخوة الخمسة، عن الرسم والتصوير والفوتوغرافي، وبقية الفنون الأخرى في حضارات العراق القديمة والحديثة، هي المحفز الأساسي أيضاً لخوض هذه التجربة الفنية. ولا أجد ضيراً في الاعتراف بأن تأثير أخي الفنان صدر الدين، وجهوده الكبيرة التي كان يبذلها في الرسم، كانت مميزة وكبيرة، ولا يمكن تفاديها. وهذا التأثير ليس مقتصراً عليَّ حسب، وإنما علي كل أفراد العائلة.
كان صدر الدين بالنسبة لنا مفتاح باب الفن الحديث، بل لقد حوّل هذا المهووس منزلنا إلى ما يشبه متحفاً فنياً صغيراً، إذ رسم علي الجدران، والأبواب، والشبابيك، وحتى علي أرضية المنزل، العديد من اللوحات الفنية بحيث حوّل البيت من دار للسكن والمعيشة إلى معرض شخصي دائم له، ولهواجسه الفنية المقلقة.
كل هذا الجهد الفني الذي بذله صدر الدين كان الدافع الأول الذي حرضني علي عشق اللون، والتعلّق بضربة الفرشاة، وجمال الحركة الفنية المقتنصة، كما مدّني بالجرأة، وجعلني أخوض في موضوعات ورموز تنتمي إلى أفقي الذاتي، والي الأفق المعرفي العام أيضاً. نعم، لقد كان صدر الدين أول من أخذ بيدي ودفعني إلى هذا الحقل الفني المليء بالمفاجآت المتواصلة.

* أنت متأثر علي صعيد التقنيات والموضوعات بأخيك صدر الدين أمين، بل أن أربعتكم تشتغلون في منطقة واحدة هي الرموز، والإشارات، والشيفرات، وعوالم الطير، والحيوانات، والأشكال الأسطورية. هل تفكر بأن تغادر هذه المنطقة، وتؤسس للأسلوب الخاص الذي ينتمي إلى حسام الدين كاكاي، وليس إلى صدر الدين أمين؟

كما ذكرت آنفاً، لقد عشنا في بيت واحد، وتشبعّت أعيننا بصور ومشاهد البيئة الواحدة، ونهلنا من مصادر معرفية متشابهة، وبالرغم من اختلاف استقبالنا لهذه المعطيات الفنية والفكرية والثقافية بشكل عام إلا أن الخيط الروحي، والمسحة الفنية المميزة لأعمالنا ستظل متقاربة جداً، ولا أعتقد أن توزعنا في بلدان متفرقة سيؤثر علي هذا التقارب الذي أشرت إليه. وهذا طبعاً، لا يمنع، من أننا سنتطور كل في اتجاه خاص قد يختلف عن الآخر بسبب تأثرنا بثقافات ومعطيات جديدة.
أنا أزعم أننا، الأخوة التشكيليين الأربعة، والمصور الفوتوغراف خامسنا، نعيش في مجال روحي واحد، وببيئات مختلفة، ومساحات لونية جديدة، وربما تجمعنا الرموز بوصفها لغة مشتركة. هذا هو عالمنا الجميل، والأصيل، والصادق الذي احتوانا، والذي أسميته بالمتحف الصغير لصاحبه صدر الدين والذي فتح لي ولأخوتي الباب، وسمح لنا أن ندخله بمحبة وفرح كبيرين.

* من ضمن تقنياتك تستخدم أدوات غريبة في الرسم والحك والشطب من بينها الإبرة السرنجة. كيف استدللت إلى هذه الأداة. وما هي التقنيات الأخرى التي تستخدمها في رسم أعمالك الفنية؟

أنا أركز علي التقنيات والأدوات المختلفة التي تلبي حاجتي لانجاز عمل ما مختلف قليلاً عن الآخرين. وكما تعرف أنت جيداً، بأن هناك الكثير من الأدوات التي يمكن أن تستخدم في الرسم بدلاً عن الفرشاة، وقد نجد الإمكانية للرسم بأشياء قد لا تخطر ببال أحد مثل الإبرة التي تستخدم في الحقن الطبية من أجل الحصول علي خطوط وأشكال بارزة بفعل الحافة المدببة جداً للإبرة. وهذا ما فعلته خلال تجربتي الفنية. كما أستخدم أنا موادا أخري في الرسم مثل صمغ الأخشاب، والرمل، أو قطع من قماش معين، فضلاً عن الأدوات والمواد الأخرى المعروفة في الرسم.

* الكثير من أعمالك الفنية مكتظة بالشخوص والفيكرات، هل تعتقد أن ملء السطح التصويري أو ملمس القماشة ضروريين في لوحتك. ألا تعتقد بوجود أشياء زائدة في متن لوحتك الفنية؟ هل فكرت بالتخلص من بعض الزوائد؟

أنا أعتقد أن هذا الاكتظاظ ضروري في عملي الفني، وربما يعود السبب إلى الطابع الشرقي الذي يسم لوحاتي. فبالرغم من تأثري بالفنانين الأوروبيين والأمريكيين أمثال جاكسون بولوك، وكيث هارنك وفنانين معاصرين آخرين إلا أن لوحتي ذات طابع شرقي لأكثر من سبب. ومن هذه الأسباب أن طبيعة الشرق وبيئته الحياتية والجغرافية مليئة بالرموز والأساطير والحكايات، كما أن الشرق مكتظ بالألوان الحارة، الساخنة المتداخلة مع بعضها البعض. أن الألوان الصريحة الساخنة، والرموز الكثيرة في الشرق تشبه السجادة الكردية، فرغم بساطة مادتها لكنها تقول أشياءً كثيرة عن الحياة التي نعيشها، لذلك أحتاج إلى مساحات كبيرة أوسع من قماشة اللوحة لكي تحتوي هذه الحياة الشرقية بكل رموزها، وأسرارها، وطبيعتها الغريبة. لدي أشياء كثيرة أريد أن أقولها أو أدوّن أشكالها ومعانيها علي بياض اللوحة. أنا لا أعتقد بوجود فراغ في اللوحة التي أسميتها مكتظة، بل أنني أملأ هذا الفراغ بما أراه ضرورياً من كلام فني يأخذ شكل الرمز أو الأيقونة أو الكلام الصريح أحياناً.

* أنت تستخدم البكتوغرافي أيضاً أو الكتابة التصويرية كما يستخدمها أخوك صدر الدين. ما هي خصائص ومعطيات هذه الكتابة التصويرية؟ هل لها علاقة بالنزعة البدائية الكامنة فينا جميعاً، أم أنك تستخدمها لأسباب أخري؟

ان البكتوغرافي بالنسبة لي هو نوع من البحث عن روح الأشياء أو تجسيدها بطريقة بسيطة، ومفهومة حتى للصغار. أو قل أنها عودة للطفولة، وللبراءة، وللمنابع الأولي للمعرفة، وفض الأشياء. وأنا أري الجمال في تلك البدايات البريئة، وأظن أنها ستبقي حيّة، وفاعلة، ومؤثرة.

* بالرغم من كونك فناناً تشخيصياً إلا أنك تميل إلى تجريد الكثير من شخوصك و فيغراتك الفنية. ما أسباب هذا الميل إلى التجريد؟ وما هي المدارس الفنية التي تستجيب لرؤاك وأفكارك وتطلعاتك الفنية؟

صحيح أن التشخيص موجود في أعمالي الفنية، ولكن هذه الشخوص منفذة بأسلوب تجريدي، وأنا أحب هذا الأسلوب، واستطيع من خلاله أن أعبّر عما يدور في ذهني من تصورات. بين حين وآخر تجدني أتبع أسلوباً جديداً، وهذه العملية هي جزء من رغبتي في التغيير، فأنا لا استقر علي أسلوب محدد، وربما استقر ذات يوم. كما أنني لا أحب أن أتقيّد بشروط مدرسة معينة، أحب أن أجرّب الألوان كما يجربها طفل صغير، يذهب مع اللون والفرشاة بعفوية نادرة ممزوجة بقدر كبير من الحرية. أنا أنفعل مع موضوع اللوحة، وغالباًً ما يقودني هذا الانفعال إلى الأداء التجريدي الذي يهيمن عليه الحس الغريزي الأول الذي يسبق الحس العقلاني اللاحق. كما أشعر أن العمل التجريدي حر، ومفتوح، ولا نهاية له، وهو يوحي لي وكأنه في حركة دائمة تخرج عن إطار اللوحة الثابتة. أضف إلى ذلك أنني أحب كل المدارس الفنية، وأتجول بين أروقتها كمن يتجول في حديقة للزهور مختلفة العطور والأشكال، ويبدو أنني قد بدأت أشمها الآن بطريقة تجريدية أيضاً، فلم أعد أدري هل أنني أستقبل هذه الروائح الزكية النفاذة، أم أن الورود هي التي تضمخني بعطرها عنوة.

* في تجربتك الفنية هل تعوّل علي الأشكال أم علي المضامين، وهل تعتقد أن التقنيات الأوروبية أكثر فاعلية وتأثيراً من التقنيات المحلية التي كنت تستخدمها في العراق أو يستخدمها أقرانك في العراق؟

أنني أتوصل إلى الأشكال من خلال المضامين، وثمة خيوط تربط هذه الأشكال الخارجية بالمضامين الداخلية. وفي هولندا، حيث يتوفر كل شيء، بإمكان الفنان أن يستخدم كل التقنيات والأساليب المتاحة في مجال الرسم. وأن حدود التجريب واسعة لدرجة لا يمكن تخيلها أبداً. ومع ذلك فأنا أعتقد أن الفنان الجيد يستطيع أن يخلق عملاً رائعاً بمواد بسيطة، وألوان محدودة إذا ما أشعل فتيل مخيلته. الفن التشكيلي عالم جميل، ومغرٍ إلى حد بعيد، لكنه طريقه شاقة ولا تخلو من محاذير، ومجازفات علي الفنان ألا يتورع عن القيام بها، وخوضها، وعدم الخشية منها. كما أن المثابرة مطلوبة، والتجريب أمر لا مفر منه، والإتيان بالجديد هو شيء ملّح لا بد منه. وختاماً فان الإحساس بالمتعة الفنية التي تتولد عند الانتهاء من العمل الفني هي متعة لا تدانيها إلا اللذة الايروسية عندما تصل إلى ذروتها.

القدس العربي- 2005/06/17