حاورها في لاهاي
محمد الأمين

لوس بوتمانللعاطفة مكانة أساسية في مجمل الأعمال الفنية التي أنجزتها الفنانة لوس بوتمان والتي برهنت فيها على علاقة حميمة مع كائنات الطبيعة، اذ تعتقد بوتمان ان الاهتمام الفني بالحيوان، يمنح الطبيعة توازنا ضروريا، ويهذّب من سلوك الانسان ليس تجاه الحيوان فحسب وانما تجاه أبناء جلدته، من هذا المنطلق لاتنحصر العلاقة بين الانسان والحيوان ببعد أحادي ممثل بنظرة الانسان للحيوان وانما تتعداه لتشمل نظرة الحيوان للانسان كشاهد على سلوكه وممارساته تجاهه، تحتل عين الكائن أهمية قصوى في لوحات بوتمان، لأنها تمثل ذاكرة شاهد برئ، ونظرات ناطقة.

أمام لوحات لوس بوتمان نكون وجها لوجه مع كائنات بريئة، تعرضت الى قسوة وعنف الكائن الانساني لكنها حافظت على عاطفتها البريئة تجاهه،وفي نظرات هذه الكائنات التي تقاسمت معنا الحياة على كوكب الأرض، ثمة رصد لسلوكنا وشهادة أخرى على وجودنا. عبر اللون والعاطفة تسعى بوتمان الى اعلاء شأن كائنات لم تأخذ حصتها المناسبة من مشاعرنا. صدر لبوتمان مؤخرا كتاب يضم نماذج من أعمالها من مراحل مختلفة اضافة الى نصوص واقتباسات شعرية من قصائد الشعراء فيليب جاكوتيه والشاعر الايراني سهراب سبهري والشاعر الهولندي بير بوخارس. عن تجربتها الفنية كان لنا معها هذا الحوار:

* أقمت بعد معرضك الأأول في غاليري Anton Gidding أكثر من مائة معرض في هولندا وفرنسا وبلجيكيا، وينظر اليك النقاد كواحدة من أشهر الفنانيين في هولندا الذين يعملون بتقنية الباستيل، هل تستخدمين تقنيات أخرى؟

بعد تخرجي من الأكاديمية الملكية بمدينة لاهاي عام 1994، أنجزت لوحات بمواد وتقنيات مختلفة، كان اهتمامي مقصورا على الطبيعة، في أغلب الأحايين كان الموضوع هو الذي يحدد المادة التي يتجلى فيها العمل الفني، اهتممت برسم الأزهار والورود والاشجار وسعيت الى أن أعطي مساحة كبيرة للون الواحد والمفردة الواحدة ولكن ليس بشكل مطلق، فورقة اللوتس مثلا تكاد تكون المفردة الوحيد في اللوحة مع منح مساحة كبيرة للأخضر الغامق، كنت أعتقد أن هذه الطريقة تضاعف من اهتمامنا بجمالية اللون وبترسيخ علاقتنا بالطبيعة من خلال مفرداتها، ليس ضروريا أن أرسم غابة كثيفة بالاشجار كي أجذب اهتمام المشاهد بالشجرة، ولا أفهم اولئك الذين يقضون عطلهم الصيفية في الأرياف ويتجاهلون شجرة قرب محطة ترام. المشهد البانورامي والتجريد المطلق في اللوحة هما مقاربان بالنسبة لي للأعمال الأدبية الكلاسيكية التي تتعامل مع الانشغالات الفلسفية والاسئلة المصيرية الكبرى، وأعتقد ان المعاصرة تقتضي، الاهتمام بالتفاصيل التي هي اساسية للغاية في رصد سلوكيات البشر ومنظورهم الجمالي للأشياء، مع هذه التفاصيل تحظى بحرية متأتية من كونك غير مطالب بتقديم تبريرات، لا الوردة التي وثقت صيرورة تجلياتها ولا السرد الفني عبر اللون بحاجة لتقديم شروح منطقية. كانت متعتي كبيرة مع توظيف تقنيات ومواد جديدة في اللوحة دون أن أتنازل عن استلهام مفردات من البيئة المحلية التي أعيش فيها.
هذا الاهتمام بمفردات الطبيعة تعمق مع قراءاتي للظاهراتية والأثر الذي يتركه الشئ على وعينا به، أحسب أن جوهر الشي وحقيقته يتمثلان باستيعابنا لتجليه وتمظهره، وقد تتضاعف سحرية وجمالية هذه المفردات حينما تطل أحيانا من الذاكرة، يصعب علي أن أترجم اللحظة التي تعتريني حينما أرسم بقرة تنبثق من الذاكرة أو طائرا حييته في لحظة من لحظات الطفولة.

* لكنك حصرت المواد المستعملة لانجاز اللوحة لاحقا بمادة الباستيل؟

نعم، شعرت أن مادة الباستيل هي الأكثر طواعية بالمقارنة مع المواد الأخرى، تبقى الألوان على خصوصيتها وشخصيتها مع الاحتفاظ بايقاع هادئ تتلائم مع التمعن والتفكير في رسالة العمل الفني.

* أشرت في جواب سابق الى الحرية في التعامل مع التفاصيل وتتحدثين في الان ذاته الى رسالة العمل الفني؟

ليست رسالة بمعنى المطالبة بعمل بطولي ما،حينما يقف المشاهد أمام اللوحة فهو مدعو من قبل الكائن الذي أمامه وبتأثير من جماليات الأثر الفني للتفكير بسلوكه واهتمامه بهذا الكائن الآخر سواء كان طائرا أو بقرة أو شجرة، فهذه الكائنات التي نتقاسم معها الحياة في الكوكب الأرضي تأخذ فرصة أخرى للحضور، البقرة التي في اللوحة هي جزء من الطبيعة تتعايش معها بانسجام، لكن البقرة في المزارع هي بقرة مستغلة بطرق بشعة لانتاج أكثر.

حينما قلت رسالة العمل الفني فأنني لم أقصد التحريض على تنظيم مظاهرات احتجاجية للمطالبة بحقوق الحيوان، مهمة كهذه تعود الى منظمات حماية الحيوان وهي عديدة في هولندا وثمة حزب سياسي هولندي يدافع عن الحيوانات ومثير للانتباه أن يكون عنف الانسان ضد الحيوان من ضمن الأجندة السياسية، لكنني قصدت التركيز على المشاعر الايجابية التي يجب أن تربطنا بالحيوانات، كما أسعى الى تسليط الضوء على جماليات وحضور الحيوانات، أن تكون ناطقة عبر اللون والتخطيط، هذا التضامن ليس أحاديا فالحيوانات التي كان لها تجربة العيش مع الانسان تتضامن معه حينما يتعرض لخطر ما، لاتجد على سبيل المثال حضورا للحمائم والعصافير جوار المقابر الجماعية التي نفذها نظام صدام حسين ضد ابناء بلده.

ما هو مؤسف في بلداننا ان نظرتنا للحيوانات تكاد تكون نفعية بشكل بحت، أن نتوقع منها كميات كبيرة من البيض واللحم والحليب والجلد، هذه الحيوانات ربما سوف تجد الطريق للجوء الى كوكب آخر لتهرب من عنف الكائن الانساني وبعضها قد لجأ الى لوحاتي ليعبر عن معاناته من جهة وعن جماليته من ناحية أخرى. لست مستعدة وباسم محبة الحيوانات أن أسجن عددا منها في البيت، أن أمتلك قطة في الدار فذلك يعني أنني سلبتها حريتها. أذكر أنني رسمت لوحة لقطة جميلة شاهدتها في بيت إمراة مزارعة في شمال هولندا، وقد أصرت هذه المرأة على شراء اللوحة رغم أنني كنت أرغب بالاحتفاظ بها ضمن الأعمال غير المعروضة للبيع، استجبت لألحاح هذه المزارعة ثم سألتها عن مصير اللوحة وعن السبب الذي دفعها لاقتنائها فأجابتني أنها معروضة في صالة بيتها، وأن هذا العمل يمنحها عاطفة مضاعفة تجاه قطتها.

* خلفيات لوحاتك فيها الكثير من التجريد هل لذلك علاقة بالتقنية التي تستخدمينها؟

بدأت مشواري الفني بالتجريد وأنجزت الكثير في هذا المجال وبأحجام كبيرة، كانت النباتات والأعشاب والأشجار هي محور هذا الأعمال، بالطبع كانت هناك مشكلة الأحجام الكبيرة التي تعيقني في تقديمها في المعارض، دائما تبدأ لوحتي مع التجريد، ليس على مستوى الخلفية فحسب وانما في التشخيص الذي يتخذ طابع البورتريه. أولا ثمة ولادة اللون، يأخذ مساحة من اللوحة ثم تمنح الخطوط هوية له، لقد حاولت أن أستطيع بتقنية الحاسوب لتزويد المشاهد بلجظة انبثاق اللون ووضعت نماذج من اللحظة الفنية على موقعي على شبكة الانترنيت.

* سواء في القسم العربي أو أقسام اللغات الأخرى من موقعك الالكتروني، نلاجظ اهتماما بالنصوص الشعرية؟

أعتقد أن الشعر أحد المكونات الرئيسية التي تغني علاقتي بالطبيعة، غوته على سبيل المثال هو شاعري المفضل، قرأت أعماله وأعود باستمرار الى قراءتها في لغتها الأصلية، ما يشدني في أعماله أنه أحد المؤسسين لقراءة الطبيعة من خلال الطبيعة نفسها ولم يقرأ العالم من منظور الكتب المقدسة، ولأقل انها رغبة شخصية أن تكون بعض النصوص الشعرية بمثابة بوابات رئيسية للدخول الى الصفحات الرئيسية من الموقع على اعتبار ان لكل لغة صفحة رئيسية خاصة بها وسوف يسرني أن أقيم معرضا فنية مشتركا الى جوار قراءات لقصائد تتمحور حول الطبيعة لشعراء ينتمون لثقافات أخرى.

www.loesbotman.nl

عن إيلاف
2008 الأحد 12 أكتوبر