(وهب نفسه لقضية الإنسان الصغير بحجمه حد الروعة)

سامي محمدحاوره: سعيد جاب الخير

الحديث عن الفنان الكويتي سامي محمد يعني عالم الإنسان المسحوق المكبل بالهموم والآلام. عالمه يفجعنا ويشعرنا بإنسانيتنا المعذبة في كل زمان وكل مكان. الإنسان هو مادة سامي محمد وهو أمله، يجسد آلام الإنسان وعذاباته بصورة تظهر بشاعة ما يقاسيه ويحلم بيوم تسود فيه العدالة والحرية. عندما نتأمل منحوتاته نحس بالألم والقهر ونجد أنفسنا من دون أن نشعر، نتعاطف مع شخصياته ونتوحد معها. إنه يمتلك مقدرة فذة على تجسيد الظلم والقهر في إطار فني رفيع يصل إلى الإنسان كله، مما أعطاه شهرة تجاوزت حدود الكويت لتحلق في آفاق عالمية كنموذج راق للفن العربي الذي لا يعترف بالحواجز والحدود.
“الخليج الثقافي” التقته بعد الندوة التي عقدها في مقر جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في الشارقة فكان هذا الحوار حول تجربته وتطلعاته.

*

* تميزت تجربتك بقدر كبير من التحدي للذات وللمألوف الاجتماعي، خاصة إذا علمنا أنك نشأت في بيئة محافظة. كيف تلقى المجتمع الكويتي أعمالك الأولى في النحت؟

أهلي متدينون، وأتحدث الآن عن سنوات الستينات من القرن الماضي. أذكر أنني عندما بدأت أشتغل على النحت، والدتي رحمها الله ما كانت راضية أن أعمل في هذا المجال، لأنها كانت تقول إن ما أقوم به حرام وفيه إثم وأنني سأحاسب عليه. والمجتمعات الخليجية كلها محافظة، وفي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي كانت الأمور أكثر انغلاقا وتشددا في هذا الجانب، ولهذا فقد كان أمام الفنان التشكيلي عوائق وحواجز اجتماعية كثيرة. ولكن مع مطلع الستينات بدأ الناس يتطلعون إلى الفن ويهتمون به ويتذوقونه، وبالتالي يدركون أن النحت الذي أمارسه عمل فني ليس فيه نية ارتكاب الحرام، بل هو يتضمن هدفية نضالية من أجل قضية الإنسان. فأنا منذ طفولتي عندما كان عمري ست سنوات، كنت أخرج إلى الشارع وأبحث عن الطين لأبلله بالماء وأصنع منه منحوتات مختلفة للحيوانات وأشياء أخرى، ثم أضعها في الشمس وأرقبها حتى تجف ثم أوزعها على أصدقائي، فنلعب بها قليلا ثم نرمي بها في البحر. لذلك فموهبة التشكيل موجودة في شخصيتي منذ الصغر.

* يلاحظ على أعمالك النحتية أنها تختصر الإنسان في الرجل. ما هي الأسباب التي جعلتك لا تنحت المرأة؟

دراستي كانت شاملة في كلية الفنون الجميلة، وفي السبعينات من القرن الماضي اشتغلت كثيرا على الأمومة والمرأة، لكنني وجدت أن العنفوان كله متمثل في شخصية الرجل. ولو أنك نظرت إلى الأحداث المتعلقة بالحروب والاضطهادات، والظلم والقهر والإذلال والانتهاكات الحاصلة ضد إنسانية الإنسان، لوجدت أن الرجل هو من يقف في خلفيتها ومن ورائها وليس المرأة، هذا هو الواقع. إن الرجل هو المتسبب الأول والحقيقي في جميع هذه الأمور، وحمل قضية الإنسان والدفاع عنها يقتضي تلك القوة وذلك العنفوان الموجودان في الرجل لا في المرأة. ولذلك فأنا أعبر عن عذابات الإنسان في جسد الرجل لا المرأة، مع العلم أن المرأة هي أيضا تقع ضحية للظلم والاضطهاد في الكثير من الأحيان، لكن التعبير عن عذابات الإنسان لا يصلح له جسد المرأة الذي يمثل الجمال كله والرقة كلها، ومن هنا فهو لا يصلح كحامل موضوعي لما أريد أن أوصله للمتلقي من أحاسيس ومشاعر ومحمولات فنية إنسانية. وحتى لو نحت المرأة، فسأنحتها في غير شكلها المعتاد، سأخرج بها عن المألوف لأنحتها في حالة القوة العضلية الخشنة والفجة، وهو ما لا يتناسب مع طبيعتها الوديعة المسالمة. فنحن عندما نرسم رموز السلام مثلا أو غيرها من المعاني الإنسانية الرقيقة، نجد أنفسنا نستعير رؤانا من المرأة من دون أن نشعر.

* ما الذي جعلك تخرج عن المألوف في أعمالك الفنية بشكل فيه الكثير من التحدي، فيما يعتبره النقاد علامة فارقة في التشكيل الكويتي والعربي؟

هنالك مدارس فنية عديدة، والفنان يمكنه أن يشتغل على تيمات عديدة، وأنا أشتغل على الثوري. ويبدو لي أن هذا بالذات هو اللافت في أعمالي، حيث لا يوجد نحاتون آخرون يشتغلون على هذا المحور. فأنا كما قلت لك أشتغل على الثوري، وهو ليس أمرا تجريديا أو يوتوبيا على مستوى المفردات الواقعية، بل هو موجود بيننا ونحن نعيشه يوميا على شاشات التلفزيون من خلال ما يتحرك في العالم من انتهاك لحقوق الإنسان وإهدار لكرامته وإنسانيته، حتى من طرف الدول التي تسمي نفسها متحضرة ومتقدمة. وليس من الضروري أن تكون عندي مشاكل في الكويت حتى أعبر عن واقع الإنسان، بل إنني أعتبر نفسي معنيا بالإنسان العربي والإنسان الآخر الذي قد يختلف عني في الدين والثقافة، فأنا أتصور أن الفنان معني بمعاناة الإنسان في كل مكان.

* استطعت اجتياز الحدود العربية إلى الساحة العالمية. ماذا تعني العالمية بالنسبة إليك؟ وما هي العلاقة التي يمكن أن تكون بين العالمية والخصوصية المحلية؟

أنا لا أحب أن أصنف نفسي، وأتصور أن الناس هم الذين يصنفون الفنان. والنقاد عندما قالوا إنني تجاوزت الخصوصية المحلية إلى الفضاء العالمي، أظن أنهم وجدوا أني أخاطب الإنسان من حيث هو إنسان بصرف النظر عن خصوصيته الثقافية في الدين أو العرق أو اللغة، وإنني أحمل هما إنسانيا. ولكن حتى تصل إلى العالمية لا تكفيك موهبتك، بل لا بد لك من إسناد، أن تكون مسنودا من الآخرين. فالفنان لا يستطيع غالبا أن يصل بنفسه إلى أروقة العرض العالمية التي تمتلك شهرة واسعة، إذا لم تصل أعماله إليها، أو إذا لم يكن مدعوما من طرف الجهات الرسمية في بلده من خلال التكفل المادي بمعارضه في الخارج. ان هاجسي الأساسي الآن هو كيف أوصل قضية الإنسان إلى الإنسان كله. وقد كانت أول الأعمال التي قدمتها سنة 1970 هي “الجوع” و”العبودية” و”البحار”، وكلها عن الإنسان ومعاناته، ومن هناك كانت انطلاقتي إلى العالم الواسع.

* هل سامي محمد الذي نراه في أعماله الثائرة على الواقع، هو نفسه سامي محمد الذي تعيشه أنت في شخصيتك وحياتك اليومية وتعاملك مع الآخرين؟

أنا إنسان ثوري في شخصيتي، ولكنني لا أعبر عن ذلك بأدوات العنف والسياسة، بل بأدوات فنية. أنا أنحت الواقع كما هو أو كما أحسه، ولا يهمني أن يتغير أو لا يتغير، لأنني لا أسعى لتغييره كما أنني لا أفكر في إعادة تكوين العالم. وكما قلت دائما، كنت طفلا صغيرا عندما علمني الطين، وفي شبابي اندفعت أجرب وأجرب. واليوم أهب نفسي لقضية الإنسان الصغير بحجمه حد الروعة، والكبير في احتماله حد الأمل، والعظيم في إبداعه حد الدهشة.
صحيح أنني أختزن الثورة في شخصيتي، لكن علاقتي مع الآخرين هادئة كما ترى وليس فيها أي نوع من أنواع الاندفاع.

صورة الآخر

* كيف ينظر سامي محمد إلى الآخر وماذا يمثل هذا “الآخر” بالنسبة إليك؟

الآخر عندي هو مرآة لنفسي، وهو الإنسان في كل ما يمثله وما يقوم به هذا الإنسان وبجميع انتماءاته ومحمولاته الثقافية على اختلافها وتنوعها. وأتصور أن وجود “الآخر” جزء من وجودي، لأنني عندما ألغي الآخر فأنا ألغي نفسي أيضا. فالاعتراف بالآخر والتحاور معه، هو تأكيد لوجودنا أيضا. وأنا عندما أنظر إلى هذه الصراعات العرقية والطائفية التي تتحرك في العالم، يحز ذلك في نفسي، وأتمنى أن يحمل الإنسان المسلم رسالة الإسلام كما هي لا كما يريد لها المغرضون ومثيرو الفتن والنعرات الطائفية. فرسالة الإسلام إنسانية في جوهرها، تنفتح على الإنسان كله بتنوعاته واختلافاته، في إطار الاحترام المتبادل والمحبة والسلام.

* هناك من يقول إن “الآخر” هو ذلك الشخص الذي نراه عندما نواجه أنفسنا أمام مرآة صافية. ما رأيك؟

هذا القول صواب إلى حد بعيد، وله امتدادات واسعة داخل قضية الإنسان ومعاناته. والآخر في النهاية هو أيضا الجانب التاريخي الخفي أو اللاواعي من ذاتنا، ذلك الجانب الذي لا نحب أن نراه أو نواجهه.

* يدور اليوم حديث كثير حول العولمة الثقافية. ماذا تعني هذه المسألة بالنسبة إليك؟

إن الثورة الحاصلة في مجال المعلومات والاتصالات، ألغت الأبعاد الزمانية والمكانية حيث أصبح ما يجري في أقصى مكان من العالم كأنه يحدث في بيتي. فالعولمة الثقافية ألغت المسافات وقربت الأشياء، وأصبح الإنسان اليوم يدرك انتماءه الإنساني كما يدرك خصوصيته الثقافية. والقضية التي أحملها كفنان، لا تعترف بالحدود والخصوصيات، لأن لغة الجمال لغة إنسانية عالمية واحدة، وأتصور أنها هي لغة المستقبل. والعولمة الحقيقية بالنسبة لي، هي أن يصل العالم إلى المستوى الذي يتحدث فيه لغة واحدة دون أن يطغى خطاب على آخر ولا ثقافة على أخرى.

* بعد عودتك من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الكويت دخلت دوامة البحث عن الذات. هل كان ذلك من تأثير الثقافة الأمريكية أم هنالك عوامل أخرى؟

عندما عدت من الولايات المتحدة كنت أعمل ليل نهار، أكثر من 18 ساعة يوميا. كنت في تلك المرحلة ما أزال أبحث عن ذاتي، وفي النهاية وجدتها قريبة جدا من الإنسان ومعاناته. لكن في البداية كنت كلما فتحت بابا جماليا وجدت أنه ليس ما كنت أبحث عنه. هناك تقليعات فنية أمريكية عديدة ظهرت عندما كنت هناك لكنها لم تؤثر فيّ. كما أنني قدمت العديد من الأعمال في الفن الحديث، واستفدت منه كتجربة لكنني لم أتوقف عنده بل تجاوزته. ومن بين الفنانين الذين احتككت بهم هناك: جورج سيغل، وجو براون، ودانل دلو، وكلهم نحاتون أمريكيون كبار، استفدت من تجاربهم لكنني لم أنبهر بهم. بينما في الستينات تأثرت بالنحات الإنجليزي هنري مور، والفرنسي رودان، وذلك في صباي وشبابي أيام الدراسة. وفي هذا المجال، نلاحظ أنه ليس هنالك أديب ولا موسيقار ولا فنان إلا ومر بهذه المرحلة، ونحن جميعا نتأثر بمن سبقونا في مجال الإبداع بشكل وبآخر، لكن تبقى لنا شخصيتنا التي نحفر فيها باستمرار حتى نصل إلى المنابع الصافية الموجودة في أعماق ذاتنا. وأنا مارست الحفر العنيف والمستمر داخل نفسي مدة 47 سنة حتى وجدت ما كنت أبحث عنه في ذاتي.

بوصلة التراث

* اتجهت إلى التراث المحلي حيث استوقفتك الخيمة والبساط ومنها ولجت إلى عالم “السدو” حيث الإبداع العفوي المتوارث يرقص بين أصابع الناسجات البدويات. ما هي العلاقة التي تجمع بين الإنسان وخيط الصوف واللون، وكيف تقرأ كفنان تلك العلاقة من الناحية الجمالية؟

اشتغلت كثيرا وبعمق على هذا الجانب التراثي المهم، حيث قمت بأبحاث معمقة ومتواصلة، كما أنني أفدت واستفدت، وأتصور أن الذين سيأتون من بعدي ممن يهتمون بهذا المجال، سيجدون الأرضية ممهدة أمامهم لأنني بحثت طويلا في فن “السدو”، ووصلت إلى جذوره وأخرجت منه أعمالا سميتها “السدويات”، والناس في الكويت يهتمون بها كثيرا.

* أصبح الإنسان هاجسا وقضية بالنسبة إليك، الإنسان في بحثه الدؤوب عن الحرية والعدالة والسلام. من أين انطلق هذا الهاجس؟

بدأت أركز على هذه القضية منذ سنة 1970 إلى غاية زيارتي لألمانيا سنة 1985 ممثلا لبلدي في معرض أقيم هناك. فكانت لي زيارة إلى المعتقلات النازية حيث رأيت عن قرب الصور الفظيعة للانتهاكات التي ارتكبت ضد الإنسان وحقوقه وكرامته، فأنا مستمر في بحثي عن الإنسان، وأتصور أن هذا البحث صراع ضد المجهول مثلما يظهر في منحوتة “الإختراق”، ذلك الشخص الذي يخترق الجدار ليجد نفسه في مواجهة عمود فيصطدم به ويسقط. وكما ينطلق مخترق الجدار نحو المجهول، أنطلق أنا أيضا في أعمالي التي لا أرضى عنها إلا إذا هدمتها وأعدت بناءها مرات عدة، مثلما حدث مع منحوتة “صبرا وشاتيلا” التي بنيتها وهدمتها أكثر من مرة باحثا عنها، لأنني في كل مرة أنتهي منها، أجدها لا تصل إلى مستوى التعبير عما بداخلي من أحاسيس ومشاعر تجاه تلك المجزرة الرهيبة، وهكذا كانت حالي مع أعمالي الأخرى كلها.

الحالة التشكيلية العربية

على المستوى العربي هنالك كفاح مرير يخوضه المبدعون عموما والتشكيليون على وجه الخصوص، وأنا واحد منهم. وأتصور أن الفن العربي اليوم في تطور لكن على مستوى الأفراد فحسب، أما الهيئات والمؤسسات فهي لا تزال بعيدة عن المستوى المطلوب، فهنالك ضعف الإمكانيات وعدم الاعتراف وقلة الاهتمام بالفن والإبداع من طرف الحكومات، مع الأسف هذه هي الصورة الغالبة على الوطن العربي.
التفاعل الموجود بين الثقافات المشرقية والمغربية أمر طبيعي لكنني من جهتي حاولت التركيز على ما عندنا في منطقة الخليج، وأتصور أن جميع الإبداعات تنطلق من الخصوصية الثقافية التي ينشأ ويتأثر بها المبدع أيا كانت جنسيته وانتماؤه. فعندما ننطلق من ذاتيتنا وخصوصيتنا، يمكننا أن نصل إلى العالم.

الخليج
17-3-2007