دعوة إلى جولة في عقول 10 فنانين

أشياء وأطياف وممرات سحرية وجزيرة كاملة

فيء ناصر

تنزه في ذهني

(تنزه في ذهني) هو عنوان معرض الهيوارد كاليري في لندن لموسم معارضه الصيفية لعام 2009، حيث تستمر إدارة الكاليري في اختيار الفنانين الحداثويين من مختلف بلدان العالم، ليعرضوا اعمالهم تحت عنوان واحد: هو (نزهة في ذهن الفنان). الفنانون هم: شارلس أفري (بريطانيا)، توماس هيرسشكورن (سويسرا)، يايوي كوساما (اليابان)، بو كرستيان لارسون (السويد)، مارك ماندرس (هولندا)، يوشيتومو نارا (اليابان)، جيسون رودس (اميركا)، بيبيلوتي رست(سويسرا)، جيهارو شيتو (اليابان)، كيث تايسون (بريطانيا).

غيّر الفنانون العشرة، واجهات وشرفات هذا المبنى الجميل المطل على نهر التايمس، وملأوا قاعاته الداخلية بمنحوتات وتراكيب ضخمة تصور تفكيرهم وأذهانهم، بل قد شمل العرض الفني ممشى نهر التايمس المحاذي للكاليري حيث غُلفت جذوع الاشجار بغلاف منقط بالابيض على خلفية حمراء تماشياً مع اعلانات المعرض. محتوى معرض هذا العام هو العـــالم الداخلي للفنان من مشاعر وافكار وذكريات واحــلام، تتجسد في أعمال فنية ذات ثلاثة ابعاد غالباً، تسلط الضوء على ذهنية المبدع وعملياته العقليه الابداعية الذاتيـــة التي قد تصطدم مع الواقع المعاش، جاعلة من الـــجدار الفاصل بين داخل الفنان وخارجه شفافاً ومرئيـــاً للجمـــهور. وكأن العرض بمجمله، بورتريت ذاتي نفـــسي للفنان، أو حلقة مستـــديرة تبدأ من ذهن الفنان لتـــمرفي طريقها بذهن المشاهد وتنتهي في ذهــن الفـــنان مرة إخرى.

تنزه في ذهني

المعرض بلا شك يذكرنا بعراب التحليل النفسي سيغموند فرويد ويحيلنا الى تقسيمه الباهر للنفس البشرية الى ثلاث مستويات جذابة جدا لانها في غاية البساطة: هي الأنا والانا العليا والهو. كأن هذه المستويات غرف ثلاث تفتح بمفتاح واحد، واذا كان من السهل تصور الخط البياني الفرويدوي فمن السهولة أكثر القيام بذلك عن طريق اعمال نحتية وفنية.
وهذا ما يحصل في (تنـــزه في ذهـــني) الذي قد ينتهي بك في التنزه بين سلسلة من اعمـــال فنية مركبة تستمد كل ثيماتها وتمايلاتها من عناء الحـــياة اليومية وخبلها وانعكاسها بالتالي على ذهـــن الفـــنان/المتلقي.

هناك أعمال مفرطة التعقيد، مثل عمل الفنان (جيسون روديس 1965_2006اسطورة الخلق) الذي قد يجعلك تتعثر من فرط غرائبيته، و(اسطورة الخلق) تجميع ضخم ومزحم لآلات وأدوات الحياة اليومية من طاولات وكراسي وشاشات تلفزيون ودلاء بلاستيكية، طابعات ليزرية، مجلات اباحية، لعبة قطار تتدحرج ببطئ وتجّرُعلى ظهرها ثعبان، وملاحظات مدوّنة تشير الى دارون، تبين ان الفنان الذي فارق الحياة وهو شاب قد قرأ الكثير. (اسطورة الخلق) توحي ان هذه الأشياء تستحوذ علينا بإشغال حيز لها في الذهن بعد ان يخلقها او يقتنيها الانسان، ...او هي سؤال عن بداية فعل الخلق ونهايته من وجهة نظر الفنان.

تنزه في ذهني

تعقيد الفنان (جارلس ايفيري) من نوع آخر، رغم ان هذا التعقيد يفيد في توصيل فكرته الى الجمهور. فهذا الفنان يشتغل ومنذ العام 2004 على عمل ملحمي أسماه (سكان الجزر) وهو مشروع موسوعي يتجسد بجزيرة متخيلة، وبكل كائناتها، موثقة في نصوص ورسومات ومنحوتات. (أفري) يعرض (دائرة الخلود) في احد شرفات الكاليري ويوزع لوحاته ومنحوتاته لمخلوقات هذ الجزيرة المتخيلة، في قاعات متعددة في الكاليري، داعياً المتلقين لنسيان ذواتهم والذوبان في جزيرته المبتكرة. الذكاء الذي يتفوق على المخيلة وليس الغموض هو ما ستستخلصه من اعمال جارلس إفري الفنية.

السورياليون، تلاميذ المعلم فرويد، واجهوا ذات اللغز: اذا كانت النفس البشرية غير منطقية، كيف يمكن تدجينها والافصاح عن أعماقها للآخر، بالتالي؟ مفتاح الاجابة هو البساطة بالتأكيد كما في (اكواب الفرو لميريت ابونيام، فنانة سويسرية تمزج شيئن متباعدين وتجعلك تنتفض من الدهشة)، وليس التعقيد الفائض عن حاجة المتلقي.

هناك افكار ثقيلة أخرى لسيرورة عمل الذهن في أعمال الفنان (كيث تايسون) الفائز بجائزة تونر الفنية، عمله المركب (رسومات حائط في استديو) يشغل ثلاثة جدران ويتضمن صورة مركبة ضخمة للدماغ ومسودات من أعماله الفنية قيد الانجاز، وتمثال يمثل الفنان حين كان طفلا، ويرافق عمله تسجيل صوتي يشرح كل جزء والمواد الداخلة بتركيب هذا العمل.

ثلاثة يابانيين

الفنان السويسري (توماس هيرسشورن المولود 1957) يقول في تقديمه لعمله (رجل الكهوف) انه يريد المشاهد ان يتخيل انه بداخل ذهن يشتغل أربع وعشرين ساعة في اليوم، لذا فهو يبتكر أربعة كهوف متمددة توحي بتعرجات الدماغ، وقناة تتصل بها مصنوعة من الورق المقوّى ومن الاشرطة البنية اللاصقة، في كل كهف، سيُواجه المتلقي بصف منتقى من المعلومات والاشياء المختلفة والصور والساعات التي تؤشر ذات الوقت في مدن مختلفة ودمى عرض مغطاة بورق فضي لامع الى كتب ضخمة مرتبة الى أصابع ديناميت ونسخ من نصوص فلسفية لعدد من الكتاب. إنه يعيد تشكيل ذهنه بتراكيب حسية.

في مقابل هذا التعقيد فإن البساطة الغريبة لثلاثة فنانين من اليابان هي التي ستشدك وتبقى معك حتى بعد مغادرة الكاليري .

الفنان (يوشي تومو نارا مواليد 1959 )الذي عانى وحيداً من طفولة تعيسة قضى معظمها في الرسم بلا توقف ومتابعة افلام الاطفال الكرتونية، (مرسمي) هو عنوان عمله ذو الثيمات والهواجس الطفولية، كأنه تذكر وتفجع تقليدي لحزن قديم، وقد ساعده فريق تصميم متخصص لانجاز كوخ خشبي صغير، كإعادة تصور وخلق للمرسم الطفولي للفنان ذاته. العرض المركب، دمج رسومات البالونات الملونة مع مقتنيات ذات طابع طفولي اخرى تعود للفنان.

الفنانة اليابانية (يايوي كوساما مواليد 1929) تتميزاعمالها بالتكرارات الملحة لذات الثيمات والمواضيع، مثل الاشكال المنقطة والشبكات التي بلا نهاية، هذه الثيمات هي نتيجة معاناة الفنانة الواقعية من الهلوسات منذ طفولتها لكنها، من جانب آخر قد توحي بصدى سؤال متجدد عن الميثولوجيا والحقيقة. عملها (هوس التنقيط 2009) جزء من سلسلة يمر الزائر له عبر ممر واسع ذو مرايا مملوء ببالونات منقطة ذات اشكال متغايرة وغير معروفة كأنها خارجة للتو من مسلسل الاطفال الشهير (تلي تابيز)، الممر يؤدي الى شرفة من شرفات الكاليري التي تحولت الى اللون الاخضر البراق في الارضية ومنحوتات منقطة بالاحمر على شكل لعبة البولينغ، هذا عمل تتماهى فيه الحدود بين الخيال والواقع، المتلقي لامحالة سوف يشعر بنوع من التيه والهلوسة في هذا الممر العاكس المنقط.

الفنانة اليابانية المدهشة (جيهارو شيوتا مواليد 1972) التي تستقر في برلين منذ 1996معروفة باعمالها الغامضة والمتشابكة والمخيفة في بعض الاحيان، مثل الاثواب المحترقة، بيانو او كرسي متفحم وسرير مستشفى وكلها محاطة بشرانق معقدة من خيوط الصوف الاسود، تراكيب تتحول الى نقط بؤرية لايمكن بلوغها لعالم الذهن والنفس المحاصر بشبكة حصينة ومربكة من خيوط سوداء توصل بين الذكريات والمشاعر، التذكر والنسيان، الحلم والنوم، الخوف المرضي من ظلام الموت، هذه الثيمات ترّن بلا توقف في عمل الفنانة (جيهارو) الذي ملأ قسم من الطابق الاعلى من الكاليري بنفق مسحوب بخيوط سوداء، يسجن، في قسم منه اشكال طيفية بيضاء... ماذ تقصد الفنانة من ذلك؟ مركز الانوثة أم أرض خشبية مستعادة من وطنها؟ الاجابة على هذه الاسئلة، تبقى مفتوحة غالباً، لكنه عمل موحي بالتأكيد، يكشف ذهن هذا الفنانة بكل مصداقية.

أحلام

الفنانة السويسرية (بيبليتو ريست1962) معروفة بأعمالها المتخيلة المركبة التي تستعمل فيها تقنيات الملتي ميديا الحركية المختلفة والمستفزة والتي تدمج الخيال بالواقع، عملها المعنون (ناعم، ناعم) عبارة عن فيلم مركب يعيد تشكيل المعرض ذاته اي (تمشى في ذهني)، صور من اجزاء الجسم، قدم عملاقة، يد، صدر، فم وأذن تسبح وترقص في الفضاء وهي تستدرج المتلقين تلقائياً للانغماس الكلي في ذهنها عملها.

الفنان السويدي (بو كرستيان لارسون مواليد 1976) يشتغل على ثيمات غامضة وسرية لبوم واشجار وسلالم توزعت بين الطابق الاول والارضي من الكاليري. وهو يوغل بالحلم لدرجة الشعور ان حلمه، حقيقة. لايفرق بين الحلم وعدمه وعندما يصحو من احلامه يشعر ان الصحو حلم آخر. والفنان اشــترك في بداية افتتاح العرض، مع بعض الممثلين لتقديـــم ظلال شخــصيات واقنعة الفنان المختلفة.

الفنان الهولندي (مارك ماندريس 1968) يشارك بعمل بعنوان (صورة شخصية) يغير من خلاله المفهوم الكلاسيكي للبورتريت لصالح المضمون الفكري المتجدد بابتكار صورة شخصية له ذات بعد درامي تعتمد المكان بديلا عن الملامح. أعماله الفنية تعيد تسليط الضوء على الأماكن المهملة عادة. صورته الشخصية عبارة عن بناية تصور الذهن كمكان ذو ثلاثة أبعاد للافكار والاحلام والذكريات. كأنه يريد ابتكار فــعل فني يلقي القبض على لحظة الخلق العملاقة تمكنه والاخرين من المشي خلالها.

الأعمال المعروضة بمجملها لا تشجع الجمهور لرؤية العالم بعيون الفنانين فقط، بل تفعل اكثر من هذا انها ببساطة تسحب المشاهد للتنزه في عالم أصيل وغير مكتشف لوعورته أحياناً، هو ذهن الفنانين العشرة الذين يعرضون بوضوح عملياتهم التخيلية والابداعية. وهي بطاقة دعوة للزائر كي يتمشى في حقول ووحول عالم الفنان الداخلي وكيفية تحول الصور والافكار الى لوحات او منحوتات.

كاتبة عراقية مقيمة في لندن
السفير – 31 يوليو 2009