علي رشيد
(العراق/هولندا)

الفنان مظهر أحمدالمتتبع لأعمال الفنان التشكيلي العراقي مظهر أحمد، يجد نفسه أمام خصوصية توحي بخيالات بصرية عفوية، فهو يطهر النص البصري من أي ترهل قد يقود إلى خلخلة المتخيل، كذلك يقود المتفرج إلى التعايش مع التفاصيل (والتي كثيرا مايسهو عنها في الواقع المعاش) والإمساك بمضامينها، والتغلغل إلى غموضها، وتفعيل الإيحاء في السرد الذي تصوغه الخطوط والألوان، والكتل المفتوحة على الصدمة. تشكل المشاهدة الأولى لأعماله غاية لتحديد أسرار المزاوجة بين التجربة الجمالية للعمل وتلقائيتها المقصودة، فبين المدرك واللامدرك، والمنظور أو المعلن، والمضمر من التفاصيل المبثوثة بشحة في خطوط عفوية جريئة وكتل مقتصدة، هي في الغالب مساحات لونية مضببة تتوزع على فضاء تحيكه خطوط متداخلة، يحيلنا الفنان إلى رصد الهامش وتلمس غايته .

 

يتحايل الفنان على السرد ناشدا رؤية يسجل بها التصادم الذي تحدثه مشاكساته على سطح العمل ليهمس بأسئلته التي تتشكل بعفوية الأشكال المبهمة وتضادها، و ترجمته لقيمة العمل كإيحاء بصري وكيانات تأملية، وإيقاع بلاغي لمفهوم اللوحة النص، فهو يخلخل الشكل ويطوي كينونة البوح ليستل منها خطوط البلاغة، واستلهاما لمطلق يختزل الفكرة، ويقارب فاعلية الأشكال، و يخلق موازنة بين الذات وفعلها المناط بتقصي الأثر وتعيين اقتباسه .

الفنان مظهر أحمد

الفضاء لديه إشارة مشعة رغم ضبابيته، ومعطيات توصيفية، واستثناء يقترب من رحاب البحث، وتأصيل لبناء العناصر التشكيلية، والخط إغراء بالسعي وراء الدلالة، لذلك يفضي الفنان مظهر أحمد بالخط ليتحول إلى حواس ترصد القيمة الفعلية لهذا المجرد في حين يغري الآخر بالتصنت إلى ماسيبوحه من مساجلة سواء في بنائه المنفلت من دقة تقيّد حركيته في فتح حدود العمل على فضاء حسي تعبيري يشدنا إلى تركيبة بدائية عفوية لكنها متفاعلة في العلاقة بين الخامة المستخدمة واستقراء آثارها في طاقة المتخيل .

اللون مع مظهر اقتصاد ثري، فهو يهمش اللون مقابل تفعيل المعالجة التي تنحاز لتحولات السطح (أكثر من سطح يمكن أن يحيلك إليه العمل ) والذي غالبا مايكون مموها بفعل التتابع الذي تفرضه سطوح العمل الواحد، و محاولة كل سطح بطمر ملامح السطح السابق بكل مفرداته، ولكنه طمر لا يبخس السطح الأول حقه، بل يجعله مقروءا بضبابية مقصودة، تشد المتلقي للاستعانة بقدراته البصرية الواعية لفك طلاسم الممحي والكامن بأبعادها الجمالية والتأويلية .

يمكن اعتبار الفنان مظهر أحمد من الفنانين المميزين في العالم في مجال الفن الطباعي (الكرافيك) وهو من الذين تمكنوا من تطوير قابليتهم الكرافيكية ليس في طريقة معالجة سطح العمل أو التعامل مع الأحبار ومكائن الطباعة، بل استنباط معالجات بديلة، وخبرته طيلة سنوات في العمل الطباعي مكنته من القفز على التقنيات الأكاديمية والمدرسية المألوفة في هذا المجال وتسخير المخيلة لخوض غمار تجاربه واكتشافاته الخاصة للخامة المستخدمة وطرق حفر بديلة ومزاوجته بين تقنيات مختلفة في فن الكرافيك أو العمل الطباعي ومنها الحفر على الزنك، أو الطباعة على الحجر والتي نفذ من خلالها الفنان، الكثير من الأعمال المميزة في هذا المجال والتي أهلته للعديد من المشاركات الدولية المهمة، بل وحصوله على الجائزة الأولى في أكثر من مشاركة دولية أو من البيناليات المنظمة لفن الكرافيك .

الفنان مظهر أحمدتمتاز أعماله الكرافيكية بالبراعة من خلال توظيف مهاراته الحسية المتحررة من الخوف في خوض غمار مطاوعة المادة الخام للعمل وتفعيل مستلزماتها البصرية الكامنة ، وكثيرا ماتكون نسخه المطبوعة أحادية اللون، حيث اللون الأسود يرسم العوالم التي يدونها الفنان بخطوطه المتداخلة وكتله المبثوثة على مساحة العمل، وباستعارات تعبيرية لحركة اختزالية ليد أو وجه مجرد، ويمكن مشاهدة لطخة جريئة للأوكر أو البرتقالي المصفر تستوطن جزء من وجه أو يدا أو قدما مرسومة ضمن هذا اللغط المجرد من الخطوط والإشارات أو بتشكيل دوائر أو مربعات أو لطخات عفوية ، محاولة منه لتفعيل حدة السواد وكسر برودته .

يلغي مظهر أحمد مفهوم المركز في العمل، وذلك بجعل العمل ينتشر بصريا في مراكز متعددة ولكنها باهتة ومتباعدة، فيحتم على المشاهد أن ينساق بصريا لأصغر هامش في العمل ليتمكن من تحديد الجاذبية في أبجدية هذا التدوين لقراءة الكمال فيه.

للفنان مظهر أحمد تجارب عديدة أيضا في فن التركيب Insallation وهو من التجارب التي تعتمد على تشكيل بصري يحتكم إلى الفراغ، لبناء ثيمته الدلالية، وعناصرها التركيبية، منحازا لمفهوم مابعد الحداثة في كسر الحاجز بين ماهو فني وماهو حياتي، وتطويع المادة العملية المألوفة في تأصيل البحث عن كيانات بصرية خارج حدود القماشة أو اللون، وتفعيل صيغ جديدة لمفهوم الأداء للمعايير الجمالية في التشكيل. ومن الأعمال التي تستحق الانتباه، عمل نفذه الفنان مظهر أحمد، وهو عبارة عن صناديق كارتونية بحجم واحد، ملتصقة إلى الجدار بتتابع هندسي أفقي وعمودي، وفي سطحها البصري المفتوح على فضاء القاعة، تلتهم كل علبة جسدا ورقيا أبيض، يتمدد داخلها وبمستويات حركية مختلفة . العمل قائم على نظرية المدينة المعاصرة والتهامها للإنسان داخل علبها السكنية المختومة بالسكون والرتابة، وكذلك بالإيحاء لخضوع الإنسان المعاصر لشرط الرتابة هذا، منقادا لحياديته التي يفعلها بياضه الساكن والمستلب .

الفنان مظهر أحمدولذلك يمكن اعتبار أعمال الفنان مظهر أحمد وبصيغها المختلفة أعمالا تأملية مسكونة بالرؤية التي تستنتج المغزى على العكس من الأعمال التي تصف فتحيل قراءة العمل إلى سلاسة تبطل معها شوق المغامرة ومتعة الغوص وراء المعنى المساجل في آفاقه اللامحدودة .

اللوحة معه تنضيج للخيال، وصوفية تنشد جلاء الإشارة في نقاء الفكرة الكامنة خلف ضبابها المكتنز بالإضاءات، والفراغ إحالة إلى كثافة نصية سنقرأ فصولها المفترضة، نحن الذين أتاح لنا الفنان قراءة فضائه اللامرئي بوعي منحاز لتفاصيل اللوحة ونوازعها في رصد الأشياء وتفاصيلها المختزلة .

الفنان مظهر أحمد من مواليد العراق، درس الفن في معهد الفنون الجميلة / بغداد عام 1979، وفي أكاديمية الفنون الجملية / وارشو / بولونيا عام 1986. درس مادة التصميم الكرافيكي في معهد سكيفدي السويد عام 1991. شارك بالعديد من المعارض الفردية والجماعية وخصوصا في مجال المعارض والبيناليات الدولية للكرافيك وحاز على الجائزة الأولى في العديد من هذه المشاركات، نظمت له معارض شخصية ومشاركات وورش عمل في العديد من الدول ومنها مصر، بولندا، السويد، النرويج، فلندا، يوغسلافيا، المانيا، بلجيكا، صربيا، وغيرها من الدول .
يعيش كفنان متفرغ ويشرف على ورشة للكرافيك في السويد .


إقرأ أيضاً