يجمع "متحف جاكمار أندره" زهاء مئة قناع من أقنعة الـ"نويو"، والكلمة تعبير صيني يعني حرفيا "طرد الشياطين من الدار". من المعروف أن طقوس الرقية الخاصة بهذه الممارسة كانت شائعة في أقاليم الصين الشاسعة، وهي جزء لا يتجزأ من عبادات جماعية تتخللها رقصات ومسيرات شعبية وعروض مسرحية ظهرت في عهد سلالة تانغ واكتملت في عهد سلالة سونغ. حكمت الأولى من القرن السابع إلى مطلع القرن العاشر، وفي ظلها توحّدت الصين وشهدت عصرها الذهبي الكبير. لكن هذه الوحدة تصدّعت مع انهيار هذه السلالة، وانقسمت الصين ممالك تحكمها خمس سلالات، قبل أن تتوحد من جديد في عهد سلالة تانغ التي بسطت سلطتها عليها حتى عام 1279. ظهرت أقنعة الـ"نويو" الأولى كأدوات دينية أساسية لها وظيفتها الثابتة في طقوس الرقية، وتحولت مع الزمن إلى تقليد فني استمر حياً بعد نهاية هذه الممارسات الدينية ودخولها في ذاكرة التاريخ. قامت "الثورة الثقافية" بحملة تدمير قضت على الكثير من هذه الأقنعة، ولم تقبل بها رسميا كتعبير فني مجرّد إلا في الثمانينات من القرن الماضي. عادت الأقنعة لتظهر على إثر هذا القبول الذي أعاد إليها شيئا من شرعيتها، وظهرت من جديد على وجوه صينيين يستعيدون طقوس آبائهم في عروض تراثية فولكلورية "تمثّل" الماضي بعدما خلعت عنه صبغته الغيبية التي شكّلت أساسا له.

يجمع بين هذه الأقنعة المئة طابعها المرعب، ويخال المشاهد أن صنّاعها تباروا في إظهار طابع الرعب في أقسى تعابيره وأشدها قسوة. ويمكن القول إن هذه الأقنعة تشكل في ظاهرها نقيضا للوجوه الصينية المنحوتة التي جسّدت الصفاء في أبهى حالاته مدى قرون من الزمن، حتى بات هذا الصفاء عنوانا لها. تفيدنا الشروح المرافقة أن هذه الأقنعة مثّلت في البدء أبطال ميتولوجيا الـ"نويو"، وهم من أصناف عدة، فمنهم الآلهة، ومنهم الحيوانات، ومنهم الكائنات المركّبة التي تجمع بين أكثر من جنس في تكوينها. تطوّرت أشكال هذه الوجوه الغرائبية واتخذت طابعا بشريا مع تأثرها بالطاوية، وهي ديانة صينية عريقة لا تزال حية إلى اليوم. الأعمال المعروضة انتقاها منظّمو العرض من مجموعات خاصة، وهي تُعرض للمرة الأولى في فرنسا. الوجوه موزعة في قاعات صغيرة تبعا لسينوغرافيا غير مألوفة، وسط قطع من الأثاث المحلي استعيرت للمناسبة من مقتنيات "مؤسسة الشرق والصين" بمساعدة مادية من الأونيسكو. ندخل عالما غرائبيا تظهر فيه قوى الطبيعة الأمّ خلف وجوه مخيفة. يظهر وجها مؤسسَي البشرية فوق ما يشبه المذبح، ويثبت وجه الرعد في الأعلى فوق الأخ والأخت اللذين أطلقا سراح قواه الهدامة. تدبّ فينا القشعريرة ونحن ننتقل بين قناع وقناع، ونتخيّل تلك الطقوس القديمة التي تحاول السلطة الصينية اليوم توثيقها بعدما نبذتها طويلا. ندخل الحلبة، ونرى خلف الأقنعة كهنة وسحرة يرقصون لطرد الأرواح الشريرة من ديارهم، وإن الى حين.

الرباط الجامع

في "متحف دابير"، نكتشف الطقوس الجنائزية الخاصة بمنطقة من أفريقيا الوسطى تطل غرباً على المحيط الأطلسي، وهي المنطقة التي تُعرف اليوم باسم الغابون. نتعرّف الى الرابط الذي يجمع الأموات بالأحياء عبر مئة وثلاثين قطعة ذات وظائف متعددة، منها الأقنعة والتماثيل وصناديق الذخيرة المجسّمة والحلى وأدوات العزف. قبل أن تصبح قطعا فنية ينتقيها محبّو الحضارة الإفريقية، كانت كل قطعة أداة صُنعت للخدمة الدينية أو الاجتماعية، وهو ما سعى الى إبرازه القيّمون على التظاهرة. لكل قناع وظيفته الأصلية، فمنها ما يرتبط بطقوس الدفن، ومنها ما خُصّص لولادة التوائم، ومنها ما لا يصلح إلا لمراسم الاحتفال ببلوغ الفتيان سن التنشئة. في المقابل، نجد أقنعة نُحتت كأنصاب ترمز إلى قدسية القانون والعدالة. مصدر هذه التحف دولة واحدة، لكن هذه الدولة ضمّت قبائل كثيرة، وقد طبعت التعددية هذا الإنتاج الفني بحيث يمكن الحديث عن أسلوب خاص يميّز كلّ قبيلة من هذه القبائل، رغم الطابع الواحد الذي يلفّ هذا الإنتاج المتعدد الوجه. بأعيننا التي ألفت إنتاج أعلام الفن الحديث قبل أن تكتشف الميراث الإفريقي "البدائي"، نتعرّف الى وجوه مختزلة تذكّر بتكعيبية بابلو بيكاسو، وأخرى تتبع تقسيما هندسيا يقارب أسلوب خوليو غونزاليز حتى التماثل.

نستنبط دلالات ما نحسبه ضربا من ضروب الزخرفة والتزيين. هنا قناع خشبي مطلي بلون ترابي أبيض يرمز إلى التواصل مع العالم الآخر، وهناك قناع أسود يستخدمه من عُهد إليه تنفيذ حكم من أحكام العدالة. ثمة أقنعة تزيّنها مساحات حمراء وبيضاء يعتقد أنها من مستلزمات تكريم ذخائر كبار الحكّام والقادة. التماثيل الصغيرة كثيرة، وبعضها مكوّن من عظام وجلود بشرية، إذ يبدو أن لكل دمية من هذه الدمى دوراً طقوسياً يصعب تحديده أحيانا، والأكيد أن بعضا منها صُنع ليحرس بقايا الراقدين ويحفظها من التلف. إلى جانب هذه الدمى الجنائزية، تحضر تماثيل أخرى تُستخدم في طقوس التأليه والشفاء والحماية من قوى الشر، ومنها ما يلزم للتواصل مع أرواح الذين رحلوا عن عالم الأحياء ليسكنوا عالم الأموات. يبدو سرّ الموت المحرّك الأساسي لهذه الثقافة "الفطرية"، تماما كما هو المحرّك الأوّل للحضارات الكبيرة التي صنعت ذاكرة العوالم القديمة والحديثة. عنوان المعرض "غابون: حضور الأرواح"، والأرواح هنا حاضرة، وحضورها وحده كفيل أن يؤمّن التواصل بين الأموات والأحياء، الذي يكرّس دوام الأسرة واستمرارها، ولكل أسرة صندوق ذخيرة خاص بها، يحتفظ به أصغر فرد من أفرادها.

تعاويذ أوقيانية

في "متحف كي برانلي"، موئل الفنون البدائية بفروعها الإفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية، تحضر ايرلندا الجديدة عبر مجموعة غنية من إنتاج قبائلها المتعددة الجنس واللغة. ويجب الاعتراف بأن إعداد معرض بانورامي شامل خاص بهذه الجزيرة ليس بالمهمة السهلة، نظرا الى ما تمثله هذه الأرض من تعددية عجيبة في التقاليد والطقوس والتعابير الفنية: يكفي القول إن عدد اللغات المحكية فيها يفوق الثلاثين، وإن قبائلها تنتمي الى سلالات عرقية مختلفة حافظت على خصوصيتها بالرغم من التمازج بينها. نجح منظّمو هذا المعرض في تقديم صورة تعريفية شاملة بهذه الحضارة التي ازدهرت في القطاع الجنوبي من المحيط الهادئ من القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا، رغم صعوبة المهمة الموكلة إليهم. القطع متفاوتة الحجم، منها ما هو كبير، فيجعلها أقرب الى طابع الأنصاب والتماثيل الفنية بالمعنى المتعارف عليه، ومنها ما يصعب فصله عن ميدان الطقوس والعبادات والشعائر الجنائزية التي شكّلت أساسا لها. عدد المعروضات مئة وثمانية وثلاثون، الجزء الأكبر منها يعود إلى مجموعات ألمانية، وهي من إنتاج الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى العقود الأولى من القرن العشرين. في هذه الحقبة من التاريخ، خضعت الجزيرة للاستعمار الألماني، وشكّلت مع جزر أخرى تجاورها منطقة أُطلق عليها اسم "أرخبيل بسمارك". مع انتهاء عهد الاستعمار، أصبح هذا الأرخبيل تحت سلطة الانتداب الأوسترالي، وهو اليوم جزء من أراضي دولة بابوا غينيا الجديدة.

منذ بداية عهد الاستعمار، افتتن الكثير من مقتني الآثار بالإنتاج الفني الخاص بقبائل جزيرة ايرلندا الجديدة، واقتنوا منها قطعا دخل الكثير منها المتاحف في مرحلة لاحقة. بدورهم، أعجب الكثير من أعلام الحداثة بهذه القطع الفنية واختاروا منها أقنعة وتماثيل شكلت في غالب الأحيان نواة لمجموعاتهم الخاصة. على سبيل المثال لا الحصر، أهم القطع التي تعود إلى مجموعات أندره بروتون ولوي أراغون وبول إيلوار مصدرها الأول هذه الجزيرة. مع مرور الزمن، توالت الدراسات المعمّقة الخاصة بهذه الفنون ويأتي معرض كي برانلي اليوم تتويجا لهذه الدراسات. تتوزع القطع المختارة في قاعات العرض تبعا لدراسة منهجية تلقي الضوء على منبعها الأصلي، مما يعطي هذا المشهد البانورامي الفني صفة اتنية جلية تكتمل مع عرض سينمائي لشريط وثائقي يصوّر الطقوس المتبعة إلى اليوم في هذه الأرض البعيدة.
تختصر الأساليب المتبعة في النحت والنقش والتلوين هذه الجمالية الخاصة التي تميّز فنون جزر أوقيانيا بروافدها ومنابعها المتعددة. على الصعيد الجغرافي البحت، تمثل أوقيانيا مجمل الأراضي المنبثقة في حضن المحيط الهادئ. اتنياً، تمتد هذه البقاع إلى القارات المحيطة بها، من اندونيسيا إلى مدغشقر، جامعة الشعوب الاوسترالية والميلانيزية والبولينازية. تتوحّد هذه الشعوب ثقافيا وفنيا مع محافظتها على خصائص تميز كل فريق من فرقها الكثيرة، وتؤلف معا ميراثا جامعا يلتقي مع فنون القارة الإفريقية في الكثير من الطرق المتبعة.

في ايرلندا الجديدة، كما في الغابون، يتداخل الموت بالحياة ويتواصل معها عبر أقنعة وتماثيل وأدوات عديدة صنعها حرفيون، لتكون أدوات الخدمة الجنائزية. يجد الزائر نفسه وسط قامات ووجوه تلتحم بطلاسم وإشارات يصعب رصدها وفكّ أسرارها. هو عالم طوطمي يصهر الإنسان مع عناصر الطبيعة في قالب واحد. الأموات أحياء، وإن رحلوا وباتوا من التراب، وهذا ما تشهد له بشكل خاص التقاليد التي لا تزال متبعة في شمال ايرلندا الجديدة. تنتهي فترة الحداد بطقس يعلن "نهاية الموت"، وفقا للتعبير المتبع في هذا التكريس. يتلقّى الأحياء القوى المنبثقة من قريبهم الذي رحل، ويقرّون بانتقال شعاعه الحي إلى فرد من أفراد عشيرتهم. عندذاك فحسب، يلحق الميت بعالم الأرواح، وهو عالم أجداده، ليسهر من موطنه الجديد على حماية من تركهم في عالمه الأول.

محمود الزيباوي

النهرا الثقافي
26 يونيو 2007