عبد الرؤوف شمعون
(الأردن)

ما رأيته ولا زلت أراه أن هناك في أعمال محمد الجالوس محصلة حركة، ومهارة، وانشغالات محمومة لاستخراج إمكانات الخامة. أعمال تم اختبار تقنيتها بعناية واضحة. ولأن العمل الفني لا يأتي من فراغ، أقول، هي أيضاً نتاج حياة وحيوية، أي نتاج خبرة مؤكدة بالعالم وبالإنسان، خبرة ببعدين، وجودي ووجداني.

وبتجاوز ذهنية المغرمين بالمصطلحات، أثق أن خصائص أي أسلوب يمكن تحديدها ويمكن الخروج عنها وبالتالي فهي نوعية قراءة متحركة ومتنقلة، تلك التي لا تراوح في مكان واحد أو في مرحلة واحدة.

الفنان الحقيقي من هذا المنظور، لا يختصر ذاته، فهو طاقة داخلية، ذاتية بالتأكيد ومتحولة في فعلها. في حالة كهذه، أري أن الفنان محمد الجالوس دائم الشك فيما يقدمه كشكل مكتمل. ظل مشغولاً بصياغة علاقات جديدة للأشكال ولدلالتها، وبالفراغ وما يمكن أن يملأه من عناصر ومكونات. هذه هي أفضلية القلق الجمالي نقلته بدورها من التشخيصية التعبيرية الي جدل أوسع مع السطح الأبيض بعد أن استطاع ان يخلص تجربته من تبعية مقاربات مع تجارب الغير. مثل هذا الجهد إرادي ومثل هذا الجهد مضن. لكنه هام للتجاوز الي ميزة التفرّد.
أستطيع القول بأن الفنان الذي لا يريد ان يتعارض مع نفسه.. أو لا يقوي علي هذا، إنما ينفق داخل ذائقته، يستسلم للثبات... تحاصره النمطية وقد يصاب بما أسميه هنا بالتصحّر البصري كنهاية حتمية لا يروق لنا هذا. لكننا نراه ونشهد نهايات كهذه.

وفق حساسية جديدة وبتأمل دقيق لعناصر من الطبيعة، يستخلص م. الجالوس من المرئي والمحسوس مجموعة مفردات وعلاقات يؤلف بها مساحة جمالية ونفسية قد تبدو متوارية خلف ملامح الأشكال المرئية في الواقع. وعندما ذكرت التأمل، ذكرته كشرط لازم لأي انجاز قائم علي فكرة البحث عمّا وراء السطح الظاهر .. والنتيجة كما نلاحظها، هي سيادة نزعة التجريد، هذه النزعة التي استبدلت ملامح الوجوه واستبدلت تفاصيلها في الخط واللون، بكتل شديدة الاختزال لكنها في الجانب الفني وفي إيحائها التعبيري مقنعة.

ما أود الوصول إليه هنا، هو أن حالة التشكل علي السطح عملياً هي التي تدفع باتجاه فهم تغيّر المرئي أو إعادة صياغته فنياً، ليس هذا فقط، بل نحو فهم كيفية تقديم الحركة البصرية والإيقاعية، ثم التباينات الرهيفة للملامس. هذه ليست خلاصة المشهد، بل بدايات مخلصة لعملية المشاهدة، ذلك لأن طاقة التشكيل والتشكل، لا بد وأن تقود في النهايات الي ظواهرها، ومن أهمها التجريد علي السطح، مادة التجرية وما يتبعها من وسائط، أعني أن أعمال محمد الجالوس لا تبدأ من التجريد، بل تصل إليه وتنتهي عند مشارفه فحين تلوح علي السطح المكونات الأساسية للعمل تتراجع فكرته، وتتراجع معها الأدائية، المهارة والخامات وطبيعة هذه الخامات، لتحل في المقدمة تجلّيات أو بعض تجليات الفعل التجريدي اللامحدود في احتمالاته، كما تبرز إمكانية الربط بين كلٍ من الجمالي والبصري ضمن علاقة جوهرية.
دعونا نتوقف قليلاً عند بعض هذه المكونات الأساسية في أعمال هذا المعرض.
في أعمال الوجوه مثلاً ..

يقدم محمد الجالوس نسقاً بصرياً يسهم في الانتقال التدريجي من وجه لآخر، إذ لا وجود لنقطة مركزية، أي لا وجود لوجه مغاير في الشكل أو في الحجم أو في اللون، كي يصير منطقة جذب استثنائية.لهذا تدعونا الحركة البصرية إلي نسق هذا الانتقال، المتوالي هندسياً بحيث يصعب علي المشاهد أن يحسم رغبته في التوقف عند وجه محدد.
لقد اختار محمد الجالوس نظاماً تكوينياً أساسه المربع وهو أعلي الأشكال تناظراً. لكنه هنا يغاير تناظره فهو وحدة هندسية تحتوي الوجه، ثم هو وحدة هندسية تتسع للعديد من الوجوه، والتي تزداد كلما اتسع محيطه نحو الخارج هذا ما نشاهده وهذا ما يتيح الفرصة لعلاقات وحوار ومقاربات بصرية، سواء كانت هذه المقاربات عمودية أم أفقية أو كانت من الداخل للخارج أو من الخارج نحو الداخل. هذا ما ينتظرنا. وجوه ذات تكوينات حادة وبسطوح نحتية بارزة اعتمدت الحذف والإضافة واستنبطت تعبيرات تراعي التصوّر المجرد بنسب متغيرة.
وتهمّنا ملاحظة أن هذه الوجوه وهي تحتفظ بانفصالها أو استقلاليتها عبر سكونها الأحادي، تهيئ لنا اللحظة المناسبة التي فيها نراها مجتمعة سواء عبر تقنية موّحدة أو مجتمعة في الإطار اللوني المتجانس.

كما تهمنا ملاحظة أن عملية البناء المتوافقة مع مادة التشكيل، والتي ولكونها مادة معاجين تمت معالجتها بطرق أكسبتها خاصية الخروج والاندماج، التكثيف والتكيف المرن لبسط الملامس المتنوعة بما يضفي علي السطح حيويته الظاهرة.
قد نجد في التنامي المتجانس الأبعاد عموديا وأفقيا، ما يشي بإحساس الرتابة مثلاً.. أو يجد البعض في تكرار وحدة المربع، أو تكرار نموذج الوجه، تشابهاً في الأشكال. مثل هذا الوصف يبدو تبسيطاً، ومن ثم يبعدنا عن مواصلة إدراك الشحنة التعبيرية في علاقة الجزئي بالكلي.. أو ينسي هذا البعض ان العمل الفني هو نتاج لطريقة بنائه. نتاج لتأملات ولتصورات تتدخل إراديا ولا إراديا في صياغة الشكل الفني.
بالتأكيد، مثل هذا الوعي لا يغيب عن محمد الجالوس وأعتقد أنه يشاركني وجهة النظر التي تقول أنه كلما زادت درجة التماثل في الشكل الفني، تأثرت سلباً قيمه التعبيرية والجمالية في آن واحد.

إذن.. وبفعل الفراغ المحيط والانفصال والتباعد يخفُّ وقع هذا الإحساس، ويلغي تدريجياً بعملية التتابع التي تفرضها العين، إذ يكون التتابع هنا أو هناك انتقائياً متدرجاً أو فجائياً لكنه في مختلف الاتجاهات. وإذا كان ثمة توتر، فمصدره هذه الحركة المتنقلة والمتمثلة في إيقاعات حرة متبادلة بين وحدة الموضوع (الوجه) وبين تنوعات هذه الوحدة في الشكل.
بذل الفنان الجالوس في القسم الآخر من أعماله جهداً بعضه خفي، وبعضه ملموس. ويتلخص جهده في الجمع بين حرية التجريد وبين مرجعيات بصرية وذهنية تتقصد النقاء.
أعرف أنه لن ينجو من قلقه هذا، إلا بقلق آخر أكثر أثراً وتأثيراً. هذا ليس مجرد صعوبات بل متعة الإبداع من داخله.
إننا أمام سطوح مستوية توهم بالعمق بصورة نسبية وتوحي بالفراغ بصورة نسبية أخري. وبما أن عيوننا مهيأة علي الدوام لقراءة الاختلافات.. وبما أن الذائقة الفنية مهيأة للاستجابة الجمالية، فإننا أو عين المشاهد ستبحث عما يمكن الإمساك به من عناصر تؤلف الشكل الفني، تبحث عن الحركة فوق وما بين مستويات السطوح، كما يمكن أن تبحث عما يشير ويذكر بعناصر من الطبيعة، عن تحديد الممكن منها... وبالطبع لا نستثني اللجوء للخيال كأمر هام يساعد في إحالة ما نراه الي الخبرة البصرية.
بإمكاننا مثلاً، ملاحظة إشارات، علامات، إيحاءات مكانية تأخذ انتباها الي طبيعة جدران طرق، ارتسامات طبوغرافية، ملامس محفورة وبارزة، اثر أقدام، نتوءات نائية، نتوءات من حصى ورمال. نحن نعي تماماً أنه في لحظة استقبال العمل الفني فإنه لا يكشف عن علاقاته الكلية بتلك السرعة أو تلك السهولة.
لا بد من أن تتجمع الأجزاء لتخلق كياناً أو تكويناً له جملة بصرية بأصوات متعددة. جملة ساكنة حيناً حركية حيناً، جملة بصرية تستوعب هواجس الفنان التعبيرية، لنتذكر أن محمد الجالوس قدّم معرضه تحت عنوان لافت شجن .

بعض أعمال معرضه، صيغت بجماليه ذات امتداد أفقي. لا زلت أتحدث عن القسم الآخر من الأعمال (التجريدية) فاقتربت من طبيعة Land Escape.
البعض الآخر، صيغ بامتداد طولي وبما يذكر بالجدار، وأيا كان وضعها، فهي تمتلك تلك الوتيرة المتصاعدة للتعامل مع الشكل المرئي، العارض، اللحظي والمتغير بتغير البيئة والزمن. إنه يقتضي أثراً هنا أو أثراً هناك، كما يذهب في ذاكرته بعيداً فيضعنا في حيرة تحديد ملامح هذا الاتزان كان من مرجعية نفسية، ذهنية أو من مرجعية مكانية.
والذي يزيد المسألة التباساً هو ذلك البعد الرابع (الزمن) المتداخل بإمعان في السياق وببصمته الخاصة.
ملاحظات أخيرة تتصل بالخط واللون، عنصر الخط لا يقوم بذلك الدور الحاسم في التشكيل أو في إطلاق مداه التعبيري. الأمر ذاته ينسحب علي اللون، لكنهما معاً متواجدان ضمن وظيفة أخري غير وظيفة التجسيم، وبالرغم من أن اللون هنا عنصر ثانوي يكتسب قيمته من خلال إظهار كثافته الضوئية، ومن خلال التباينات الملمسية والنغمية للون، ذلك المتشبع والممتزج والمندرج في مادة التشكيل. الأولية، هي في إظهار ألوان السطح كإيقاعات متداخلة ومتقابلة مع ظاهرة الألوان الترابية، وهذه رغبة محمومة للاتصال بالأرض، والتواصل مع ما تحمله سطوحها من (علامات دراسة) كان يعبّر العرب القدماء. لنقل انه نوع من الحنين، ومن تدفق عاطفي متستر في خفايا الخبرة الإنسانية. لنقل انه محفز تعبيري ومحفز جمالي يدين بالولاء لمن يتقنه، إذ كلٌ يتبع هواه في هذا المنحني .. أعتقد هذا ولا ندري متى تحين لحظة الخروج أو لحظة اتساع مدي التجربة فنياً الي عمق آخر وأبعد والمؤكد أن الأهواء في تغيّر لأن البحث عن محمد الجالوس لا زال قائماً ولا زال منفتحاً بحرية نحو احتمالات إبداعية لها جذوة العاشق ومن الضروري ان يبقي كذلك.

القدس العربي
23/02/2007