{ الكتب – الصناديق في معرض الفنان ناصر مؤنس }

علي البزاز
(العراق/باريس)

ناصر مؤنسيقول المعماري هوندرت " لا أتخيل إنسانا رومانسيا مالكا للمنزل الذي سأصممه للمستقبل، فلا عاطفة ولا خيالات جامحة ولا أهواء، سيظل المنزل يحوي في داخله الولاء القديم الذي لا يضيع تحت حصار الآلة ". والكتاب مثل البيت تسكنه الأفكار و له أثاثه, جماله ومغامرته, هذا ما نشعر به في المعرض الذي يقيمه الفنان ناصر مؤنس في كاليري {Galerir Number Nine } في مدينة ( نالد فيك في هولندة ) يتلمس المرء ذلك الولاء القديم والمخيال الجامح اللذين نوّه إليهما المعماري هوندرت. ان الآلة التي تسحق بدورانها العالم مفقودة تماما في المعرض, وترى فيه فقط اليد المنتجة للوحات بدقتها وإخلاصها وزهدها وصمتها وخيالها، وبين كتاب يشبه ضريح ابن عطاء الله وصفحات تذكرنا بحجرات مضاءة بكلمات الحكمة، ومداد يرافقنا لونه ونحن نتجول في أروقة المعرض الذي ينقسم الى قسمين:- الأول يتضمن لوحات كرافيك بأشكال وأحجام مختلفة والقسم الثاني:- كتب فنية مشغولة باليد وبعيدة عن فتك الآلة التي حذّر منها أنطوان اكزوبري. سوف أتطرق هنا إلى معرض الكتب اليدوية وسأستعمل مفهوم (الكتب/ الصناديق) في تناول المعرض مستفيدا من الخلفية التي توحي بها لوحات القسم الأول من المعرض. ان اغلب إعمال المعرض تطوف في حضرة أشكال ورموز لا تحاكي لغة محددة سواء أكانت عربية أم أجنبية، بل لغة هي الأقرب إلى التعاويذ والطلاسم، هنالك مخطوطة للرازي تصور كل حرف كتشكيل بصري وهذه الفكرة أجاد الفنان بتوضيفها في لوحاته الكرافيكية حيث ان كل شيء مادي وبضمنه (الحروف) يُوحي الى شكل بصري ما إذا ما جردته من اسمه ومفهومه حتى القبلة لها شكل لعله اقرب الى حرف – هاء مثلا - يقول الفنان ناصر مؤنس " ان أقلامي هي أقلام ادم وشيت ونوح والحسين بن علي " والمقصود هنا هو الريادة فلكل من هذه الأسماء لها قصتها التاريخية أو العاطفية فأدم هو الأول في المعصية والحسين هو الأول في الثورة، ثم يستطرد الفنان بقوله "خذ الكتاب الذي ينفتح مثل خرزة الفأل خذ قوة السحر" هنالك علاقة مسببة بالوجود بين القلم والكتاب والسحر وثمة عداوة مصيرية تميل الى الحذف والإقصاء بين الفن والأخلاق بمفهومها الكهنوتي. الفن يُذكر اللاهوت بان لا حاجه له في عالم يسوده الإبداع حيث ينكر الفن فيه أخلاق اللاهوت و الذي لا يخضع نتيجة للمكان المرتفع الذي منحه إياه المقدس لذا نراه في اغلب الأحيان يعقد صلحاً عفويا مع الايدولوجيا ضد الفن. والفن بتنكره هذا يريد القول ان السحر ليس حكرا على الجن بل يستطيع الإبداع مزاولته فالتعويذة من وجهة نظر الفن (بالمناسبة ان احد كتب المعرض يسمى ألتعاويذي) لا تعني الوقاية من الحسد، فالفن محسود أصلا من قبل الملائكة والكهنة لما فيه الكثير من المروق، إنما التعويذة* هي وقاية ضد فكرة استسهال إنتاج الإبداع، فالسحر أسوة بالفن نتاج المهارة والإثارة. الفن هو السحر. إلا يقال عن الشاعر انه ينتظر شيطان الشعر و كالذي استهوته الشياطين؟ وقد وُصف الشاعر قديما بالمشعوذ أو الساحر وورد هذا الوصف في القران، ولما كانت المخيلة المسحورة هي المنتجة للفن فعلية لا يوجد ألبته الأدب الواقعي وإنما هو تسمية قد فرضتها الايدولوجيا على الفن خدمة لأغراضها وبهذا الفرض استعجلت الايدولوجيا أمرها في الانفصال عن طبيعة الفن وزال نفوذ ما يسمى بالأدب الواقعي بمثل استعجال الايدولوجيا ولو أنها قد تحالفت مع الفن (ويبدو هذا من المحال على تلك الايدولوجيا القيام به) فلربما قد أخرت زوالها الحتمي لبعض الوقت. يبدو ان الفن يقر و بعرفان هائل بفضائل الجن والشياطين عليه، هؤلاء الذين قد تقشفوا كثيراً في الطاعة وتعففوا عن الأيمان وتركوا التواطؤ مع الثناء لصالح الكهنة والمؤمنين، و قد طُردوا عن المديح الديني ففضائلهم تكمن في معاصيهم وأنها لمفارقة عادلة من التاريخ ان يكون النفي مرادفا للجمال فالإبداع هو طرد السائد.

الكتب /الصناديق = السحر

ناصر مؤنسالكتب في معرض الفنان ناصر مؤنس هي عبارة عن صناديق تضم بداخلها أوراقا متسلسلة تُفضي إلى أوراق أخرى مطرزة بمجهول من الأدعية والتعاويذ تقر بعظيم الامتنان للسحر . إن هذه الصفحات المترابطة تشبه في تسلسلها الحكاية مثلا قصص ألف ليلة وليلة وقد لاحظ احد الباحثين إن الرقم ألف ليلة وليلة هو مفتوح في اللغة العربية وليس مغلقا كالإلف. هنا سأُشير إلى العلاقة مابين الكتاب والصندوق مع الحكاية التي هي محور فكرة المعرض:

  1. إن القفل والكّلاب في الصندوق بمثابة الشفتين للفم، فبمجرد إن يُفتح القفل ينفتح (الكتاب/الصندوق) كاشفا عن صفحاته والفم هو الراوي للحكاية ولذلك يُخيط بعض المتضاهرين أفواههم إشارة إلى التوقف عن الكلام وهذا ما يؤديه القفل في الصندوق
  2. صفحات الكتب في معرض الفنان ناصر مؤنس متسلسلة ومتصلة مع بعضها، فحينما ينفتح الصندوق تتحقق أمنية الأوراق بالظهور الأمر الذي يشبه تماما رغبة الحكاية في الانفلات من فم الراوي لكي تُسمع. إن عملية اتصال الأوراق مع بعضها في إثناء انفتاح الكتاب تشبه تماما تسلسل الحكاية من حيث بنائها الأدبي (مقدمة – وسط – خاتمة)، إذ إن الصفحات في الكتاب/الصندوق متسلسلة فعندما تنطوي الصفحات تُصبح صفحة واحدة ثم تعود إلى الصندوق الذي يشبه الفم، فحالما يتوقف الفم عن الروي تعود الحكاية إلى الفم = الصندوق.
  3. إن الصندوق يتكون عادة من مادة الخشب وان الكتب/الصناديق في المعرض تتكون أيضا من مادة الخشب
  4. إن الصندوق حافظ للأسرار مثله مثل رحم المرأة والستائر في البيت فهؤلاء هم حافظو الغيب والكتاب بما يتضمنه من جهد وأفكار هو الأخر حافظ للأسرار فحتى لو استطاع قارئ نبيه إن يفك رموزه سيبقى الكتاب محجوبا عليه و أقل هذا الحجب هو أسرار كتابته ومقاصدها
  5. ناصر مؤنسإن الصندوق والكتاب كلاهما يحملان السر والعلن و في نفس الوقت. الصندوق يمارس هذه الصفة بإحكام وغطاؤه يسمح له بهذا الصلف - الإخفاء- بينما من يتصفح الكتاب يعتقد بأنه مكشوف له لكن الكتاب كالصندوق مغلق وان بدا أيسر على التصفح عكس الصندوق وهنا أشير إلى تمنع الكتاب وان بدا مكشوفا:
    إن فكرة تجليد الكتاب لها اتصال بهذا الحجب للأسرار فالقارئ الجيد يُغلف كتابه المفضل للحفاظ علية من الاهتراء إي يحفظ ما بداخله من الأسرار وبعض الكتب المقدسة مثل القران أو الإنجيل يُعمل لها غلاف ثانٍ من الكارتون لتقديسها ( يلاحظ هنا إن مادة الكرتون من أصل الخشب )

كما إن البعض يحفظ كتبة في الصندوق خشية عليها من الكشف أو السرقة والبعض يضعها في حقيبة هي نفس فكرة الصندوق - الإخفاء -
إن أعظم تمنع للكتاب والذي يُعزز باطنه الشخصي هي هذه الظاهرة:
عندما تُرتب الكتب في المكتبة الشخصية للإفراد أو في المكتبات العامة يُوضع الكتاب عموديا وقفاه للمتفرج إي إن الكتاب يخفي أسراره وهو بهذه الوضعية غير كاشف لدفتيه، ورغم إن المقصود من هذا العرض هو الفرجة إي الانتهاك لكن الكتاب يمتنع من إن يُشهر نفسه على الملاْ.وهناك الكثير من الملاحظات التي تربطنا بالكتاب منذ إن تطورت هذه الصناعة في العصر العباسي على أيدي الوراقين حيث لا يزال سوق الوراقين شاخصا في بغداد ويسمى الآن (سوق السراي)، وكان عدد الوراقين حينذاك ما يقارب 250 وراقاً وكل وراق يعادل دار نشر في عصرنا هذا. وبازدهار صناعة الكتاب تنوعت أنواع الورق والحبر وكذلك أنواع الأقلام والدواة فمن بين أسماء الورق وهي عديدة –الكاغد – وهو لفظ فارسي معّرب وقد فصل القلقشندى الاسم وأزال الكثير من الالتباسات الناشئة في المعاني المرادفة من حيث تسمياته بالكاغد والقرطاس والورق، حيث يُقال الورق بفتح الراء:اسم جنس يقع على القليل والكثير، واحده ورقة وجمعه أوراق وبه سُمي الرجل الذي يكتب وراقا (صبح الأعشى).فيما عرّف ابن خلدون الوراقين بقوله " الذين يُعانون نسخ الكتب وتجليدها وتصحيحها والاشتغال بسائر أمور الكتابة " وللوراقين نوادرهم وإشعارهم ومن أشهر إعلام الوراقين ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان.

أن مشاهدة كتب الفنان ناصر مؤنس تربطنا بصداقة قلبية مع عوالم مملوءة بالاهتمام بمناخات تقع على الجانب الآخر من العالم المادي, فنتعرف على {كتاب الشمع} وهو على شكل يد مضمومة على أربعة أصابع تُحيل إلى يد القسم أو الحسد متصلة بصندوق و ما ان ينفتح حتى ينكشف الكتاب على هيأة يد ممدودة بطول 5.2 متر، غلاف الكتاب من الخشب (نفس خشب الصناديق) والزنك مع كرافيك طباعة مستخدمة المواد الطبيعة الخالصة وألوان الشمع. و{ كتاب النار وملح الليمون} وهو كتاب مكتوب بملح الليمون ومعالج بالحرق وفكرة الكتاب تتناغم مع فكرة الحبر السري الذي يُمكن تظهيره بالنار وقراءة الممسوح وهي فكرة الرسائل السرية فبمجرد ان تمس النار الورقة تظهر الكتابة المخفية ثم تحترق، إلا إن في كتاب الفنان ناصر مؤنس تبقى الورقة حيّة ناطقة بعد ان عاملها الفنان بطريقة خاصة تعتمد على كمية الملح ومدة تعرضها للنار.و{ كتاب ألتعاويذي} وهو رسم بالصورة لقصائد الفنان نفسه, ومن الجدير بالذكر ان ناصر مؤنس هو شاعر ومخرج سينمائي ولذا نرى الاهتمام بالأفكار في كتبه إضافة إلى تقنية الكرافيك الحديثة فعندما يصمم كتابا فأنه يقوم بإخراج الكتاب = الفيلم ويُدير فريق عمل مؤلفا من العفاريت والتعاويذ في لوحاته.. وقد عرض الفنان كتابة ألتعاويذي- كضيف شرف في بينالي الإسكندرية الثاني للكتاب - وهو عبارة عن كتاب يدوي (خالص) من نسخة واحدة يتكون من {60 صفحة} ويكرس فكرة أن الكتاب كاللوحة المتحفية، ويُمثل تعويذة /كتاب مقدس ينقذ المرء من الهزائم.
وفي المعرض كتب أخرى مثل كتاب الملك وهو عبارة عن كتاب شعري لناصر مؤنس يتضمن سيرة الملك ابتداءً من صولجانه الى كرسيه والغلاف مصنوع من الحرير الطبيعي بطريقة الحفر على الخشب وكتاب أخر اسمه { عزيزي فلليني}وهو على شكل - اوركوديون - يتناغم مع حلم المخرج الإيطالي فدر يكو فلليني، كما لو كان فلليني لا يزال يواصل تشكيل هذا العالم الغريب، وهذا الكتاب بطول سبعة أمتار ومصنوع من الخشب وورق ومواد مختلفة ومن الجدير بالذكر إن كل طريقة مستخدمة في صناعة كتاب ما تختلف في أسلوبها وتنفيذها من كتاب إلى أخر.وتتنوع الكتب بين كتاب الرماد وكتاب الرسم بالممحاة وكتاب الحرب وكتاب الكراريس.
و المدهش كذلك ان المرء في المعرض لا ينبغي له إن يستخدم نظره فقط كي يرى الكتب المعروضة فبعض الكتب يحتاج المتفرج الى ان يلمسها وأخرى إلى إن يشمها لأنها مصنوعة من الزعفران وروائح أخرى. وكتب يجب إن يتذوقها إيحاءً بالكتاب المسموم في حكاية ألف ليله وليلة والذي استفاد منها الكاتب - امبيرتو في اسم الوردة –
إن (الكتب / الصناديق) في معرض الفنان ناصر مؤنس ترتبط بالسحر والتعاويذ لما تشتمل عليها من التأويل حيث:

  1. إن صفحات الكتب المعروضة مشدودة إلى خيوط أو أشرطة اشتغالا على فكرة التعاويذ،
    فالتعويذة تتكون من طلاسم تُكتب على ورق أو قطعة قماش وتربط بخيط لئلا يُفتضح ما بها من السر وهذه نفس فكرة صناعة الكتب عند الفنان ناصر مؤنس في معرضه الكتب/الصناديق فغلاف احد الكتب مكون من مربعات من الخيوط المشدودة إلى بعضها = تعويذة.
  2. إن الصندوق يُحاكي فكرة القمقم في حكايات ألف ليلة وليلة وهو هنا عبارة عن التعويذة التي تمسك بالعفريت

يقول الفنان ناصر مؤنس:-
{...لعله كتابي الوثني، لعله طيف حاضر حضور التعويذة، صامت كملاك، لعلها أطياف عن
"كتاب" مفتاحه نجمة الميديين ويد فاطمة ، يحضر فيه طيف الرسول وهو يملي على الإمام "كتاب الجفر" أو يهدي الفتوحات إلى محي الدين بن عربي، يحضر قلم " ابن البواب" وطيف "الطبري" وهو يكتب أربعين صفحة كل يوم لمدة أربعين سنة، تحضر الأنساب والأيام،}. وهكذا تتنوع كتب المعرض بين:- كتب تمائم و كتب ساحرة ومسحورة يقف الجان كحاجب بباب صفحاتها، وكتب صناديق مفتوحة كروح حبيبة شامخة لكنها تقبل الأنحاء فقط عندما تُقبل وردة، وكتب كشاهدة الضريح تسكب الزيت في قناديلنا وتهمس في مسامعنا:-
أنستطيع ان نتصور عالما ًمن دون الكتاب يفتقر الى شاهد وأنيس؟ وما هي قيمة الكتاب الذي لا يزال يتصدر مقتنيات الأفراد على اختلاف مشاربهم؟ يرافقهم في حياتهم ولان الكتاب مثل الإرث تنتقل ملكيته الى الأبناء ! فالكتاب إنتاج أجيال وهو يوجز حياة الشعوب بين دفتيه، حياة واقعية فعلا وخاصة بالبشر وألا فهل تنتج الجبال والأنهار كتبا مثلا؟ لكن و بفعل الكمبيوتر والفضائيات أصبحت صداقة الكتاب ضربا من أخلاق الفروسية وعودة الى عصور الرومانسية وشبابيك الحبيبة.

موقع الفنان ناصر مؤنس
www.nasirmounes.com

جريدة النهار
20 /1/ 2007