لور غريّب
(لبنان)

لور غريّب

بعد مشاركته في بيينال الشارقة الدولي (2011)، عاد المخرج أحمد غصين ليتلقى دعوة للمشاركة في الدورة الأخيرة من "أشكال ألوان" هذه السنة. "أبي كان شيوعيا/ أسرار حميمة للجميع"، عنوان عمله الذي تجتمع فيه عناصر الفيديو، السينما، التجهيز، الفن البصري، تقنيات الكومبيوتر في صناعة الصورة وإعادة إنتاجها.
أشعر بشيء من الحرج وأنا أكتب عن إيلي كنعان بعد غيابه منذ 2009. ولأن الزمن توقف بالنسبة إليه، نجد أعماله المعروضة في "فيلا عودة"، الاشرفية، ناقصة. ربما يعود السبب الى انها لا تضمّ، للمرة الاولى، أعمالاً جديدة تجبرنا على التوقف عندها لاكتشاف ألوانها وتناسقها وانسجامها. لفترة قصيرة نبقى في مكاننا. نرفض السير مع الماضي، مع ماضي ايلي كنعان. ثم نتحرك. ندخل الى الصالات العديدة. نتواطأ مع الواقع. ونسير كغيرنا في الزيارة الاستذكارية.
الضوء الملوّن

اختير عنوان "الضوء الملوّن" الذي يناسب الأعمال المعروضة في صالات رحبة في "فيلا عودة" (حتى 17 حزيران 2011). تعتبر المناسبة مهمة لأنها تقدم ما اختاره ووجده مميزا كل من اشترى لوحة من هذه اللوحات، لا سيما هؤلاء الذين اختاروا ان تعلّق في صدور بيوتهم او مؤسساتهم. الفرصة اليوم كبيرة، لأنها تفسح المجال أمام كثير من الناس ليشاهدوا لوحات رسمها ايلي كنعان وهو في بداياته، يستمع الى مشاعره وايقاعات صبغاته اللونية التي تميزت بشاعريتها وبهجتها وبريقها الصيفي احيانا وحزنها وضبابيتها الخريفية احيانا اخرى.
نشير الى ان بعضها يعود الى ايام كان خلالها الفنان لا يزال عصامياً، بحيث لا تفرض عليه التعاليم الاكاديمية الصارمة اي ضوابط. كم هي ايحائية هذه اللوحة التي تحمل عنوان "الطريق"، فهي تعود بنا او نعود معها الى 1946. فيها عري الشجر المنحني. الوانها كالصدأ الممزوج بالبني المحروق. اثار الحيطان هندسية ملتوية ومستقلة الخطوط. احلام وغنائية وواقعية في منظر لا يدعي التمايز بل يعطي درسا شاعريا في التناغم اللوني. ننتقل من مناخ الى مناخ ومن سنة الى سنة ومن زوال الخطوط التكحيلية من اجل الذوبان المدروس للالوان بعضها في البعض الآخر. لم يعد المنظر الموضوع الاساسي بل كيف يراعي ايلي الشاب مشاعره امام ما تراه عينه وكيف تجب مراعاة الحواس من دون التضحية بالشاعرية اللونية التي تتأكد السيطرة العقلانية عليها.

ثم تتطور امامنا الاعمال بعد ان تكون قد وجدت النمط المناسب لوضعها ضمن صورة لا تروي ما تراه العين بل تؤلف ما يتماشى مع توقعات آنية قد تساهم في قلب المعادلات وانتاج لوحة مميزة لا تفتش عن الامانة في ما هو امامه حقا بل تنطلق منها لتقدم ما يتلاءم مع الاشياء التي تؤثر في المعطيات المرئية وتتبادل الغنائية مع البقع المتطورة في تدرجاتها والتي تمنح اللوحة خصائصها وفرادتها.
لم يبتعد كنعان عن الطبيعة. بقي قريبا منها. يسمع وشوشاتها ويرتعش مع تحولاتها. يسبقها احيانا في تبدلاتها الموسمية فيرسمها في كل حالاتها. لا يفضل منظراً على اخر بل يبرع في رسم هذه المزايا والحسنات على رغم انه لا يخفق ايضا في رسم هذا الاخر اذا قرر فجأة ان يرسمه.
وصارت السنوات تمر، واصبحت عمارته الفنية تتوسع بآفاقها وتكتسب ايقاعات لونية افضل واقرب الى المشحات المتناثرة التي تشبه نتف الثلج تبرق تحت اشعة الشمس. زالت الاشارات والحركات التي تعرّف المرئي، وتطورت لتنقل المناخات مطهرةً من الهوامش والخطوط التعريفية الواضحة. دخلت اجواء روحانية ضمن التذويب اللوني الذي ينبئ بالفكرة او الموضوع لكنه لا يرسمه ولا يزوده علامات من الممكن ان تعيدنا الى النسخة الاصلية التي لعبت دور الموديل المفجر للوحة التي اكتملت خارج المنطق احيانا وضمن المألوف احيانا اخرى. هكذا كان ايلي كنعان في شاعريته المرهفة. صار المطلوب منا ان نعترف بأنه امتلك فعلا امكان رسم ما يحلو له لأنه يستطيع ان يكوّن، من كل فكرة او كل مشهد او كل حكاية لوحة فيها ايقاعات لونية من الصعب ان ينجح غيره في تأليفها. بقي في عالمه حتى اخر لوحة رسمها. مرت من تحت يده المواسم والفصول والغابات مئات المرّات، وادخل في بعضها المخلوقات التي تناسب عينه ولا تزعج مشاعره. تنزّه بين الاساليب من دون اي عقدة.
رسم كما عاش، بنقاء، وبصمت. وترك لنا تراثه اللوني ليفرحنا ويتقاسم معنا البهجة كل مرة نطل على احدى لوحاته ونبتسم ونقول له في سرنا: فعلا كنت شاعرا يا ايلي كنعان.

النهار
1-6-2011