من المعرض تخطيطات بالأسود والأبيض، رسائل شخصية، تصاميم أغلفة، رسوم مائية، استعادها مروان قصاب باشي في معرض تستضيفه «غاليري تجلّيات» في دمشق، لمناسبة الذكرى الخامسة لرحيل الروائي عبد الرحمن منيف. المعرض ليس مجرد تحية إلى صديق غائب، بل مقترح لوني لأعمال صاحب «سباق المسافات الطويلة». وكان التشكيلي السوري المقيم في برلين قد اشتغل عليها منذ عقد ونصف عقد، إثر قراءة خماسية «مدن الملح»، ثم تصميمه غلاف «عروة الزمان الباهي» (عن زميلنا الراحل محمد الباهي)، لتنشأ صداقة متينة بين الاثنين. يتجوّل مروان في «أرض السواد» فيلتقط أطياف بشر وأمكنة ورمال، ثم يتأمل عميقاً ملامح «زكي النداوي» في «حين تركنا الجسر»، ثم يقتفي أثر «عساف» في «النهايات»، وهو يبتعد في الصحراء، إلى أن يختفي في السراب. هكذا يختزل مروان الفضاءات السردية الكثيفة في أعمال عبد الرحمن منيف بإشارة أو لون أو خط، تبعاً لمسار النص الحكائي. في اشتباكه اللوني مع «الأشجار واغتيال مرزوق»، يرسم مروان جذع شجرة مباركة، ثم يتوقف عند جملة «الأخضر هو الحياة» فيجد فيها مفتاحاً لتصميم غلاف الرواية. نتوقف عند ورقة كتبها منيف بخط يده «الأغلفة التي أبدعها مروان لهذه الطبعة، والتخطيطات التي زيّن بها بعض
شخصيات منيف تحاصرنا عبر 130 لوحة صغيرة
الصفحات، جعلت لهذه الروايات أجنحة جديدة». لا شك في أن الروائي الراحل كان على علاقة وطيدة بالتشكيل، كتب دراسات وانطباعات عن تجارب تشكيلية أحبّها، وهذا ما يفسّر غبطته بتصميم أغلفة رواياته والتقاط نبضها السري لونياً على الأقل. ذلك أن «مدن الملح» وحدها تتماوج بألوان الطيف، ما يمنح تشكيلياً مثل مروان احتمالات تعبيرية لا تحصى في كتابة نصه البصري. هكذا، لن نستغرب سطوة البني المحروق على لوحات المعرض. لعله لون التراب ووهاد البوادي التي كان يستحضرها صاحب «شرق المتوسط» عن خبرة حياتية طويلة. في بورتريه منيف، سنجد أخاديد الطبيعة تحفر عميقاً في تشكّلات وجهه، بما يشبه صحراء مثلومة بالألغاز والأسرار. في العلاقة التبادلية بين الرسام والروائي، ينبثق نص ثالث هو حصيلة خبرة أوّلاً ودفق عاطفي متناوب ثانياً. يقول منيف في رسالة إلى مروان «لم أستطع فتح الأبواب الموصدة، فهي تغلق العين والقلب، وتؤلم الروح، فيصبح الأفق رمادياً، ويفقد الأخضر طعمه، ولا تنفع المواساة». لكن شغف الروائي باللون سيقوده إلى اختبار تجربة مروان وآخرين عن كثب، لينجز لاحقاً كتاباً عن صديقه بعنوان «مروان ..رحلة الفن والحياة»، إذ لطالما أكد على تجاور الفنون واشتباكها في جديلة واحدة: 130 لوحة صغيرة تحتشد بها الجدران، فتحاصرنا شخصيات منيف من كل الجهات، مهلاً ها هو يطل بقامته المديدة بصحبة «متعب الهذال»!
الاخبار- 23- 12-2009