زاهر الغافري
zaheralghafri@yahoo.se

زاهر الغافريمهما بدا أن الشعر والتصوير أو الفنون البصرية على نحو أعم من اختلاف بينهما، باعتبار أن مساريهما مستقلان من حيث استخدامهما لعناصر وأدوات مغايرة فإن ما يجمع بين هاتين الفعاليتين التعبيريتين يكاد يكون جوهرياً. يتمثل الجوهر هنا في منطقة التعبير وخلق فضاء يلامس الشاعر والفنان تجاه العالم والأشياء، وإذا كانت العلاقة بينهما -أي بين الشعر والتصوير- مؤجلة في ما مضى، فهي لم تعد كذلك أبداً، بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك في مقارنة هذه العلاقة منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر عندما دشَن بودلير الشاعر، عصر الحداثة بتتبع الرسام في الحياة العصرية، الحداثة ابنة المدينة وأخت الكآبة، هي التي ستغطي عصراً كاملاً يمتد حتى وقتنا الراهن. تكمن ميزة بودلير في تلك الالتفاتة المبكرة والثاقبة على صدارة الألوان، التصوير والرسم، بنظرة نقدية لأعمال ديلاكروا، وترنير وأنجرز وآخرين، كما ذهب بعد ذلك إلى أشكال العمارة والأيقونات، والتماثيل وألوانها على ما ذهب في ما بعد أيضاً الناقد والمفكر الألماني فالتر بنجامين، أن هذه الاسترجاعات المدينية ستجد لها محلاً عميقاً في قصائد بودلير النثرية، (سأم باريس) 'لذا فحيز ما يؤدي اللوحة بما هي هوى وانحياز إلى جهة تنعقد عليها أوسع آفاق الرؤية وأعرضها هو القصيدة' على ما يوضح وضاح شرارة في الأنيق الماجن - دراسة عن بودلير، إن منعطف الانطباعية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اخترق على نحو شديد الخصوبة المناطق المعتمة لمختلف الفنون بحيث ألقت ضوءاً فريداً على الحياة المعاصرة، فإذا كان 'الرسم هو شرف الفن' وفق أنجرز فإن هذه المقولة ستفتح الطريق لديلاكروا وكوربيه ودوبنيه، لينفتح باب الحرية أمام الانطباعيين وصولاً إلى الحركات والاتجاهات الفنية، التي ستكون أمامها كل الآفاق مفتوحة منذ أوائل القرن العشرين. فها هو بول كلي يقول: 'الآن بدأت الأشياء تراني' وينخرط كاندينسكي في البحث عن الروحي في الفن ليقترب من ملامسة الشعر، على أن الحركات السوريالية والدادائية، قبل ذلك ستمزج عناصر كل من الشعر والرسم والتصوير والكولاج في عملية تركيب وتوليف وصلت إلى حدود اللعب. إن هذا التداخل المخصّب بين الكتابة الشعرية والفنون البصرية دفع مفهوم العلامة أو الأثر إلى الظهور بقوة، ونحن نعرف أن كثيراً من الشعراء والفنانين قاموا بالمزاوجة بين هذين النشاطين الإبداعيين من أندريه بروتون إلى هانز آرب وماكس آرنست، ووليم بليك وصولاً إلى لوركا وهنري ميشو وآخرين. لم يكن الشعر والتشكيل مجالين متنافرين ومتصارعين بل ان نقاط الجذب بينهما هي التي أفضت إلى نوع من الحميمية بينهما، بحيث أصبح طائر الشعر يطير بأجنحة الرسم. هل يتعلق الأمر هنا بنوع من الاندماج؟ أغلب الظن عندي أن الأمر يتعلق بنوع من التنافذ السري والخفي بين هذين المجالين. إن البحث عن العناصر 'الشعرية' في اللوحة يقابله البحث عن عناصر وفضاءات تشكيلية بصرية في العمل الشعري، ففي الخط الصيني مثلاً وكذلك العربي الإسلامي تقوم اللوحة على بناءات بصرية بما في ذلك استخدام عنصري الامتلاء والفراغ، بقدر عال من التجريد لاختبار قوة الهشاشة، بل ان المنظور العربي الإسلامي يذهب في هذا المجال إلى أبعد من ذلك لتصبح التجربة نوعاً من الرحلة الروحية لاستبطان الوجود، ألم يقل الشبلي أنا النقطة تحت الباء؟

***

الشعر والتشكيل ملامح عامة (2-3)

لنتأمل الآن المشهد الشعري والبصري 'في الغرب'، ولو على نحو مختصر منذ بداية الخمسينيات والستينيات، وصولاً إلى الآن، إن هذه المرحلة التي غالباً ما يُطلق عليها اسم ما بعد الحداثة، تكاد تجسد نوعاً من الالتباس يكاد يفوق الحدود بين العناصر التعبيرية، بل وحتى الإلغاء أحياناً. هذه الطليعية الجديدة بفعل طغيان الفردانية وغياب الإيديولوجيات والتيارات السائدة على صعيد المجتمعات الغربية، أدخل حقل التعبير الشعري إلى منطقة أخرى مازجاً إياه بكل أنواع الفنون البصرية وغير البصرية، وبالتالي رُدمت الفجوة بين حقل تعبيري وآخر.

فالشعر الذي عاد يتجه إلى الشفاهية باستخدام كل عناصر التكنولوجيا الحديثة والمالتيميديا، فأصبحت مفاهيم مثل الـperformance, happening وفن التجهيز: 'installation' والبوب-آرت والفيديو-آرت، في صميم الأداء الشعري.
إن هذه التحولات المركبة أصبحت الآن تعزّز أكثر فأكثر مفهوم التواصل والتقارب بين أفراد الجماعات.
عندما كنت في نيويورك حضرت شخصياً بعض هذه التظاهرات الشعرية الفنية، ففي أمسية شعرية للشاعر الأميركي غريغوري كورسكو وهو يقرأ قصائده، كان يحاكي الجمهور بحركات تمثيلية كأنما يرسم بيديه إشارات في الهواء.

هذا الأمر نفسه ينطبق على آلن غينسبرغ أو أميرباراكا وآخرين، وهم يقرأون نصوصهم على الإيقاعات الهادرة لموسيقى الجاز، بل إن هناك من ذهب ليطوّر مفهوم القصيدة-اللوحة مثل الإيطالي ناني بالستريني، أو الشعر البصري والتخطيطي عند الشاعر اليوناني ديموستينس غرافيوتيس.

وكل هذه التجارب تستند إلى آخر المبتكرات التكنولوجية، من أجل فك العزلة عن الشاعر، لكن ماذا عن التجربة العربية المعاصرة؟ إن نظرة سريعة إلى الأربعينيات والخمسينيات وصولاً إلى الستينيات، تبدو لي تجربة 'الخبز والحرية' في مصر: جورج حنين، رمسيس يونان، فؤاد كامل، كامل التلمساني، إنجي أفلاطون، أوضح التجارب في جعل اللقاء الشعري والتشكيلي ممكناً سواء كان عبر المعارض الفنية أو التظاهرات الشعرية أو المجلات والكراريس التي صدرت حينها، وكانت هذه التجربة سباقة بفعل ارتباطها بالحركة السوريالية العالمية بشكل عام، والفرنسية بشكل خاص واستمرت حتى قيام الثورة المصرية عام 1952.

ومع ظهور حركة الشباب واليسار الجديد في أوروبا في الستينيات من القرن المنصرم، أخذت التجربة الشعرية والفنية في العراق بالنهوض مع وجود فسحة من الحرية النسبيّة '1968-1961'، فظهر جيل مختلف من الشعراء والكتّاب والفنانين التشكيليين وحتى السينمائيين، هم من أُطلق عليهم جيل الستينيات عبر نشاطات مستمرة سواء أكانت في القراءات أو المعارض التشكيلية أو التجمعات والمنابر من صحف ومجلات تلك الفترة، فظهرت أسماء الشعراء، فاضل العزاوي، سركون بولص، مؤيد الراوي وعبدالقادر الجنابي وأنور الغساني، مع التشكيليين شاكر حسن آل سعيد وضياء العزاوي وفايق حسين وإبراهيم زاير... إلخ، وكانت هذه التجربة تستفيد على صعيد التشكيل من بعض منجزات التجربة الغربية بربطها بسياقات ثقافية محلية وتراثية، وربما كانت تجربة بلند الحيدري الشعرية واحدة من التجارب المبكرة التي لم يُلتفت إليها كثيراً كما لم يُطوّرها هو نفسه، تحديداً من جهة اهتمامه بالتشكيل، فقد ذهب بلند الحيدري في مجموعته الشعرية 'حوار عبر الأبعاد الثلاثة' إلى الاستفادة من عناصر النحت كالفراغ، المساحة والكتلة من النحّات الإنكليزي هنري مور.

***

الشعر والتشكيل ملامح عامة (3-3)

إن تعددية التعبير البصري ستقود كذلك الفنان السوري الراحل عبد القادر أرناؤوط بعد اكتشافه إشارات الألماني بول كلي، كطريقة للمزاوجة 'الأصلية بين الحساسية الشعرية والتشكيلية'، خاصة أن بول كلي كان يستثمر عدة الشرق العربي الإسلامي من الزخارف والنقش والموتيفات الحضرية من نواظم التراث التنزيهي في الزخرفة ومنمنمات المخطوطات، كما يعبّر الناقد والفنان التشكيلي أسعد عرابي.

لقد ذهب عبدالقادر أرناؤوط المفتون بالشعر من الكلمة القصيدة إلى الكلمة المخطوطة، وبنوع من الوله والتقشّف كان يخطط قصائده لإبراز كلمة القصيدة.

إن العلاقة بين الشعر والتصوير في العالم العربي، أخذت حيزاً لا بأس به، فيوماً بعد يوم نرى نوعاً من التشارك الخلاق بين عناصر هذين الفضائين عبر رغبة الشعراء والفنانين لدفع التجربة إلى مدى أوسع، فضياء العزاوي اشتغل على أعمال أدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش وقاسم حداد، إلخ...
بينما نجد قراءات الشعراء للتجارب التشكيلية على نحو دائم، وهناك من الشعراء من يمسك بطرفي المعادلة كالفنان التشكيلي والشاعر أحمد مرسي المقيم في نيويورك، تجربة الفنان والشاعر سمير الصايغ منذ السبعينات من القرن الماضي، والراحل محمد القاسمي والفنان العراقي أرداش، وصولاً إلى الشاعرة والفنانة ميسون صقر القاسمي في الإمارات، وها هو أدونيس الشاعر تقوده التجربة إلى ما يسمّيه بـ'الرّقيمات' وهي ابتكارات كولاجية-بصرية يستخدم فيها الكتابة كخلفية لونية، وهناك بالطبع تجارب أخرى تدخل في سياق ما أتحدث عنه.
كتب جبرا إبراهيم جبرا وكان رساماً أيضاً في مقالة شيقة، 'الرسام شاعراً' عن أرداش 'شاعرية أرداش هي أنه يكتب الشعر كما لا يكتبه رسام، إنه يتسقط الكلمات بالعين لا بالذهن، فيقذفها صوراً لا جملاً وتتناثر المعاني في كل صوب'.

حضرت في نيويورك معرضاً للفنان الألماني أنسيلم كيفر، بلوحاته الرمادية الضخمة الشبيهة بالجداريات، وكانت مستوحاة من قصائد الشاعر باول سيلان، هكذا يتمّ تبادل الإشارات من ضفة إلى أخرى.