فيصل عبد الحسن

07/07/2009

فيصل عبد الحسن

حين تعانق كلمة الأديب فرشاة الرسام المبدع ،فمن المتوقع أن يعطينا هذا العناق الحميم،كتابا مشوقا ،لا هو بالدرس الأكاديمي الصعب عن الفن التشكيلي،ولا الخيالات الممزوجة بعواطف أديب يقودنا بهدوء إلى عالم عميق من جمال الفكر، وصدق العواطف،بل أن هذه المزاوجة ستهبنا كل هذا الجمال مجتمعا، لا أقول أني استمتعت بقراءة هذا الكاتب،فالمتعة بالرغم من توفرها في كل صفحة منه،إلا أنها ليست وحدها ما وجدته في هذا الكتاب الشيق،لقد وجدت أيضا،المعرفة الواسعة بالموضوع المدروس،والفهم الحقيقي للكثير مما لم أكن افهمه شخصيا عن هذا الفنان التشكيلي الموهوب'ستار كاووش'، الذي كنت أراه يجلس قريبا مني في مقاهي بغداد في الثمانينات بشعر منسول يقطر منه الزيت كشعر الهنود ، وملابس غريبة الألوان، لا تمت لموديلات سائدة، ولا إلى ذوق متعارف عليه.

شاب أسمر صامت،اصغر مني عمرا،تتألق عيناه بنظرات ذكية، يجلس وحيدا في زاوية قصية من 'مقهى حسن عجمي' الشهير في بغداد، كان ذلك ربما عام 1986،ولا تجرؤ أن تمد يدك لتصافحه، لئلا تلصق بأصابعك، ما خلفته فرشاة الرسم على كفيه من زيوت وأصباغ ،عرفت أنه فنان تشكيلي من خلال الألوان، التي تلطخ قمصانه، وسراويله، التي كانت تذكرني بالموديلات القديمة عينها، التي كانت سائدة في عهد أبائنا، في ذلك العهد، الذي كانت فيه للسراويل حمالات ترفعها إلى الأعلى! ولم يكن فيه ما يميزه عن مجانين تلك المقهى العجيبة-التي يؤمها كل مجانين بغداد ومعهم كل فنانيها وكتابها وصحفييها!!- غير ذلك الحياء المحبب، والتواضع الجم،يومها كان يصول و يجول فوق آسرة تلك المقهى،المشهورة،أدعياء بخرتهم الأيام ،وسحقتهم الحروب وآفة الإدمان على الخمر، التي تسود عادة، عندما تتضعضع القيم في المجتمعات، ويسود الخراب الروحي ،الذي هو صنو الحروب وأخوها التوأم !!

يقول عنه الناقد والقاص 'عدنان حسين أحمد' في كتابه الجديد (ستار كاووش) وأظن أن هذا كان كافيا كعنوان، أما ذلك التفصيل الذي أورده المؤلف ، فهو للتمويه على جنس الكتاب وأبعاد ألظن بأنه كتاب سيرة للفنان، وأقصد إضافته للعنوان:(أطياف التعبيرية..غواية الحركة،ورنين اللون في تجربة ستار كاووش الفنية) فهي تفسير للتفسير،فأي من المهتمين بالفن التشكيلي العراقي، لا يعرف كاووش بوجوه لوحاته الزرقاء،وتكعيبيتهم التراتيبية العجيبة، وحميمية عناق ما يرسم من نساء، ورجال تحت أستار وأغطية من الحياء العراقي المعروف ؟!! وأظن أن ثقافة كاتب الكتاب،الموسوعية،ومهنيته العالية ومتابعته الفن التشكيلي، والثقافي العراقي عموما، التي امتدت لأكثر من عقدين،جعلته يظهر لقارئه كنوزه المعرفية،فهو يعرف انه يكتب لنوعين من القراء،لكل واحد منهما صفات تختلف عن الآخر.

القارئ الأول لم يقرأ في حياته غير كتب قليلة، محدودة المعارف، وربما هذا اللون من الكتابة ،التي تجمع بين سيرة الفنان وسماته الشخصية ،والمعرفة الكلية بمدارس الرسم التشكيلي،التي أتبعها في رسمه، ودراسة الفنان عبر حركة ريشته على اللوحة، للتعريف بما أنتجه هذا الفنان من جمال تشكيلي عبر دراسة أكاديمية محضة،وعميقة،ستجعل من الكتاب مادة لصداعه،وملله،بكتابة لا يمكن أن يستسيغها وعيه المحدود،وتجربته الفتية مع عالم القراءة، لذلك فقد أحتاط كاتبنا 'عدنان حسين احمد' الذي خبر هذه النوعية من القراء لجعل كتابه، مادة شيقة للقراءة من خلال رسم تاريخ الشخصية المكتوب عنها،وهي بالفعل حياة فنان مشوقة، تعتمد الكفاح الشديد، للوصول إلى غاية أي فنان في امتلاك أدوات وتقنيات،طيعة لإبراز إرهاصات الروح بأعمال فنية تبهر الناظرين، وتستثير فضولهم، لمعرفة المزيد عن فنانهم المدروس في متن الكتاب.

والقارئ الثاني، أو ما نسميه بالقارئ المثقف ،الحاذق، الذي يقرأ كل شيء، ويهضم كل شيْ، ويتذوق ما يقدم إليه من تجارب كتابية ذكية تبنى على المعرفة الكلية للمادة المبحوثة، وفي تقديري المتواضع، أن الكاتب أستطاع أن يقدم كتابا مشوقا ،غزير المعرفة يفيد أن يكون مرجعا مهما في دراسة الفن التشكيلي العراقي،ويقدم نموذجا أخاذا في طريقة متابعة السيرة الذاتية لفنان من خلال أعماله الفنية، فكتاب 'ستار كاووش' سيرة ولكنه ليس ككتب السيرة المعروفة!وباتجاهين متعاكسين:

الاتجاه الأول: الفنان مرآة لفنه، والاتجاه المعاكس، ما ينتجه الفنان من فن مبهر يكون مرآة لذات الفنان،فتكون المعادلة كالأتي: ما يتجلى من الفنان في رسمه، وما يتجلى في الرسم من ذاتية الفنان، والطريقان كما نرى يقودان لفهم أعمق لكرازيما 'ستار كاووش' التي يطرحها لنا الكاتب في كتابه.

يتناول الكتاب الفنان' ستار كاووش' في أثني عشر فصلا، تناول فيها التأثيرات التي أثرت في صنع الفنان، ووضعته في مرحلته الفنية الحالية،وقد تناول في فصله الأول: أطياف التعبيرية ومشاكسة الذائقة العامة، التي مر بها الفنان،وفي الفصل الثاني، تناول 'البوب أرت' والحدود الفاصلة بين الفن و اللافن، والفصل الثالث، تناول فيه، وبدراسة وافية عن ظاهرة الوجوه الزرق في لوحات كاووش، وفي الفصل الرابع تناول جسد المدينة ،التي تقع بين ثنائية الشكل المرئي المألوف، والمعطى البصري غير المألوف،والخامس عن ثنائية المرأة والرجل،والفصل السادس عن الاستدلال الحسي للقيمة الجمالية،وتجربة الفنان والفصل السابع عن فنياته في رسم البور تريه، والفصل الثامن عن المخيلة، وترحيل الدلالة والفصل التاسع عن الومضة الأسطورية في أعمال كاووش، والفصل العاشر عن التلاقح بين الفنون القولية وغير القولية،والفصل الحادي عشر عن مساقط الضوء، المعرية للرغبات السرية، والفصل الأخير جاء عن التأرجح بين تكعيبية وتعبيرية الفنان، وأضاف للفصول، خلاصة، وملحقا بالصور للوحات الفنان في مختلف مراحل تطوره الفني .

أن كتاب ' ستار كاووش' للناقد 'عدنان حسين أحمد' يعد أهم أحد الكتب التي كتبت في النقد التشكيلي العراقي ، ويعد بحق مرجعا لفترة غنية من فترات الفن التشكيلي العراقي ، خلال مرحلة تم فيها غلق الأبواب على العراق من كل منافذه الحدودية بسبب الحروب مع الدول الجارة، للعراق،والحصار الدولي الشامل،الذي شمل كل فروع الثقافة والفن، ومن تلك الفروع الفن التشكيلي العراقي، وكذلك لما حمله الكتاب من ذكريات الفنان عن أدباء عراقيين كتأثره بالروائي عبد الخالق ألركابي، وعن ولادته، ومكانها الذي بقي لغزا على القارئ، وصار مكانها كل بغداد، وهي أشارة ذكية لانتماء الفنان، لمدينة حضارية عريقة كبغداد ولم ينتم إلى أي حي من أحيائها،كذلك تلك العلاقة الحميمة بمؤلف الكتاب، وعائلته التي تذكرنا بالتآلف بين مبدعين أحدهما يستخدم القلم والآخر فرشاة الرسم،ويوحدهما البحث عن الجمال في الكلمة واللون !وكذلك تلك الذكريات الطافحة بالتمرد للفنان على واقع الفن العراقي ، والعلاقات المتدنية،والمؤامرات الوضيعة، بين بعض أولئك الذين تسيدوا المشهد الفني في فترة سياسية معينة كان يمر بها العراق،وما تضمنه الكتاب من دراسات فنية نفسية عميقة لدوافع الفنان التشكيلي،واستقراء نقدي لمراحل تطور كاووش الفنية منذ بداياته،وبواكير أعماله في العراق،وما أستطاع أن يبدعه في هولندا البلد الذي أحتضن فنه وأعماله،منتصف التسعينات، ووفر له فرصة الحرية، وفضاء العمل الإبداعي الرحب أنه بحق كتاب عن ستار كاووش من بغداد مسقط رأسه إلى مدينة'دلفت' الهولندية العريقة التي احتضنت فنه، ومنحته ما يحتاجه من استقرار.

القدس العربي