نور الدين محقق
(المغرب)

-1 -

نور الدين محققفي الفن التشكيلي تختلف الأحاسيس بين لحظة الإبداع ولحظة الانتهاء منه، وهي مسألة طبيعية توجد في كل الفنون الجميلة، لكن المختلف هنا في هذا الفن تحديدا هو الإحساس القوي أنك قد قدمت شيئا مختلفا عن ذاتك ومرتبط بها ، وهو يمثل أمام ناظريك ، تراه في كامل الوضوح ، وان تغلف بالغموض الذي يتطلبه كل عمل فني كبير مهما اختلفت نوعيته . هنا يكمن سحر الفن التشكيلي وهنا تكمن جاذبيته في ذات الآن . وهو ما يجعل منه فنا مرئيا ومحسوسا ، فنا يرى و يحس ، كأنما هناك حياة سرية تخترق جسد اللوحة وتسري في كل مكوناتها ، وبتالي تجعل منها كائنا فنيا حيا .

-2-

وحين تحف بك الرغبة في العيش داخل الألوان، تشعر أن يديك قد نسيتا أنهما يداك، تبدأ كل واحدة منهما تصارع الأخرى حينا وتؤاخيها حينا آخر، من أجل رسم لوحة، وما أجمل أن ترسم لوحة. في هذه اللحظة الفنية الهائلة، يحضر الإلهام الفني فترى أن اللوحة هي التي ترسم نفسها وأنك فقط شاهد على عملية الرسم لا غير.وإذا أنت سارعت وحاولت تغيير اتجاه مسار اللوحة تختفي الفنية منها ويطمس سحرها ، وتتركك وحيدا أمام إطار فارغ مهما امتلأ بكثرة الألوان ، ذلك أن الروح التي كان من الممكن أن تسري في اللوحة بعد اكتمالها، فرت هاربة من رغبتك المجنونة في القبض عليها ،وتحويل مساراتها المنعرجة إلى مسار واحد ووحيد ، دون أن تدري أنت ذلك . وحين تنتبه إلى الأمر، لا يبقى لك سوى أمرين أحلاهما مر: إما أن تمزق اللوحة إن كانت من ورق أو تقوم بإتلافها إن كانت من غير ذلك وسواه، و إما أن تتركها جسدا لكن بدون روح.

-3-

بناء عليه ، يكون الفن التشكيلي شيئا مختلفا ، هو الرسم وغيره في نفس الوقت ، هو اللوحة وخارجها معا ، هو اليد الذي تشكل الألوان وتخلق منها عوالم ، وهو العين التي ترى هاته الألوان و تسعد أو تشقى بمرآها لها . ذلك أن الفن هنا بمعناه البعيد السوريالي وما بعده ، هو أبعد ما يكون عن لعبة الألوان سواء كانت مائية أو زيتية أو ما عداهما أو حتى عن الحامل لها، سواء أكان من ورق أو من خشب أو من قماش أو ما تجاوز ذلك. وتاريخ الفن التشكيلي غني بالاضاءات في هذا الجانب وذاك . فكم من لوحة على ورق حيرت في سحريتها الأذهان وكم من لوحة على قماش ماتت قبل أن يبلى قماشها. فاللوحة لوحة حتى وان رسمت على حائط مهجور في مكان مهجور لا تأويه إلا الطيور المهاجرة .

- 4-

هنا في مكان ما من مرسمك المتنقل باستمرار ، حين تجلس أمام إطار فني فارغ، من ورق أو قماش أو خشب، وتشعر في ذات اللحظة أنك بحاجة إلى السباحة ذهنيا ويدويا في بحيرة الألوان السحرية ، تتحول إلى فنان تشكيلي ، إلى مبدع خطوط طول وعرض لكن بميزان ، هو ميزان الإحساس الفني الذي لولاه، لما شعرت بالرغبة في الرسم ، والذي لولاه لما امتدت يداك إلى ريشة أو إلى صباغة ، والذي لولاه ما استطعت أن تبدع كائنات فنية تحيى في عالم اللوحة ، وتعيش حيواتها المختلفة عنك في ذلك العالم السحري ، على اعتبار أن السحر هنا هو كناية عن قوة الفن في تحويل الألوان إلى ما هو أبعد منها ، أي إلى ما يرى ويحس، ويترك أثرا ولا أروع، كما يقال عادة، في الذي يراه ويحس به.

-5 -

حين يأتي الفن يأتي مسبوقا بحدس فني ، وتلك مسألة غاية في البداهة وفي الغموض معا . الحدس هنا يأتي مفاجئا ، على غير انتظار ، وهو ما يجعل منه قويا وشديدا على الذات ، فلا تستطيع استيعاب قوته إلا وهو يتحول إلى رسومات فنية ، تبدأ لكي لا تنتهي إلا حين تتعب الروح قبل الجسد في القبض على هذا الحدس أو على الأقل على بعض وهجانه أو تجلياته . لكن بعد عملية القبض هاته تتحول الممارسة الفنية إلى ممارسة على الأرض ، أي إلى اشتغال فكري ويدوي معا ، تتحول إلى عملية ذهنية رياضية بالمعنى البيثاغوري المجرد لكلمة الرياضيات ، لا بالمعنى التطبيقي الحرفي لها .هنا يتحول "الهذيان الفني" بتعبير دني هويسمان إلى " هذيان مروض" ، أو بمعنى آخر وبتعبير الفلاسفة ، يتحول الفن من إطاره الطبيعي إلى إطاره الثقافي . فأن ترسم لوحة تشكيلية حقيقية، عليك برسمها داخل إطارها وفي ذات الوقت مرتين، أولاهما تكون طبيعية وفق الحدس المفاجئ الذي اعتراك، وثانيهما وفق رؤيتك الفنية الثقافية بعد أن تغيب عنك شدة الحدس المفاجئ الذي جاء إليك.

-6-

هكذا تعيش أنت المبدع مع اللوحة حسب كيانها ، ساعات أو أياما أو شهورا أوسنوات ، فكل لوحة تصنع تاريخ ميلادها ، حسب الحدس المفاجئ الذي تولدت عنه وحسب العمل الثقافي الذي صاحبها ، لكنها في النهاية إن هي تحققت بعد الانتهاء منها وسرت فيها روح الفن الحقيقي ، تحقق المبتغى ، مبتغى المبدع والمتلقي معا . ويكون الفن التشكيلي بهيا بانتمائها الطبيعي والثقافي إليه. فأن ترتعش الأصابع من هوس وهي ترسم، وأن ترتعش الأعين من دهشة وهي ترى، فقد تحقق الفن، سواء أكان تجسيديا أم تجريديا أو هما معا في إطار تكاملي غريب.

-7-

هنا الرسم الفني التشكيلي يجعل الأصابع المتشنجة بتعبير تريستان تزارا ، تتمدد وتترنح كما الأعين تماما . فاللغة هنا هي لغة ألوان تتشابك ، لغة ليل يضيء ليلا آخر ، أو نهار يسري في نهار لم يأت بعد . الرسم هنا هو لذة متتالية تعانق فيها أصابع اليد جسد اللوحة، تحوله بواسطة كيمياء سحرية فنية إلى كائن أنثوي، يشع بالجمال. الرسم هنا هو طفل بوهيمي يتجول في غابات الألوان ليصنع منها عالما سورياليا لا يلجه إلا الشعراء ، فالشعر والفن التشكيلي توأمان سياميان ، حيث يعبر اللون عن نفسه ويخلق من تعابيره الأخاذة لغة شعرية لم تكتب أبدا بالكلمات . فالألوان كما يقول فكتور هيغو هي شقائق الألم ، والألم هو شقيق الشعر إلى إشعار آخر .

-8-

هكذا يتحول الناتج الصافي للفن التشكيلي إلى ينابيع فنية موغلة في التسامي . وهكذا يصل الفنان التشكيلي الذي يرحل مع الارتحالات بتعبير تريستان تزارا دائما ، ليصل قبل الآخرين ، يبني عالما فنيا قويا جديرا بالمشاهدة والمعاينة و التعبير عنه . الفن التشكيلي هنا هو حياة أخرى، بعيدة لا توجد إلا في متخيل الفنان المبدع أو المتلقي المبدع أيضا. الفن التشكيلي هو إبداع مضاعف، إبداع ذاتي مرتبط باليد التي شكلت اللوحة وإبداع آخر غيري مرتبط بعين المتلقي. وتلك خاصة فنية مرتبطة بالفنون الجميلة في مختلف تجلياتها المختلفة .

-9-

قال مرة الكاتب الفرنسي ميشيل بوتور بأن اللوحة التشكيلية تثير فضوله وتجعله يشعر بالحيرة ، وهو ما دفعه إلى الكتابة عن الفن التشكيلي ، وهو الأمر الذي وضحه كذلك الناقد المصري نعيم عطية ،وهو يتحدث عن ذات الأمر، فأن تقف أمام لوحة تشكيلية وتستطيع هذه اللوحة أن تفتح لك بابها السري والسحري أيضا لتلج منه إلى داخلها ،فهذا يعني أنك كمتلق فني قد أصبحت عاشقا مفتونا بالفن ، وما أروع ذلك . اللوحة التشكيلية تهبك لحظة مشاهدتها أنك تعيش في نهار واحد ألف عام وعام قد مضى، بتعبير تزارا الرائع.

-10 -

و بناء عليه، يكون التشكيل الفني المتعدد أو الرسم التشكيلي الفني هو وليد روح ملهمة تهتم بتسجيل لحظات إبداعاتها بشكل طبيعي وثقافي في نفس الأمر. هكذا عشت لحظات الإبداع أمام لوحاتي التشكيلية، ويدي تشكل معالمها وتبني عوالمها الفنية . وهكذا سأعيش كلما داهمني حدس فني مفاجئ، و أردت القبض عليه وتحويله إلى فن تشكيلي ثقافي. فن تشكيلي توجد فيه ألف حكاية وحكاية دون رغبة في الحكي ، وتغمره الليالي النهارية والنهارات الليلية من كل جانب.