محمد الحجيري

فان غوغعمل متحف الفنان الهولندي العالمي فينسنت فان غوغ ‏(1853‏ - ‏1890)‏ ومعهد Huygens ، التابع لأكاديمية العلوم الملكية الهولندية 15 عامًا على مشروع تحقيق مراسلات هذا الفنان العالمي، 819 رسالة منه و 93  رسالة اليه من شقيقه ثيو ورسامين آخرين بينهم غوغان. ونشرت الرسائل أخيرًا على الإنترنت على موقع:

ww.vangoghletters.org. وصدرت في كتب باللغات الهولندية والإنكليزية والفرنسية.

الرسائل مرتّبة زمنيًّا، مع معلومات كافية حولها، وتصور معاناة فان غوغ مع الصرع وانهياره العصبي وشعوره بالوحدة عندما كان شقيقه ثيو الوحيد الذي آمن بفنه! يقول ليو يانسن، القيّم على متحف فان غوغ وأحد مؤلفي كتاب «فان غوغ – الرسائل»: «كانت له موهبة لغوية عظيمة. كان يكتب بأسلوب جيد وسلس وتعبيري، ودقيق أيضًا. لو رأيت كيف يصوغ أفكاره ويطورها على الورق، وكيف يحاول القيام بعمله بمنهجية عالية، لاتضح لك أنه يفعل ذلك كله بعقلانية ومنهجية».

يضيف يانسن: «هو إذًا لم يكن ذلك الشخص الغريب الأطوار الذي يعمل بعفوية وبروح عبقرية ترسم كل شيء بإبداعية غير محدودة. كانت له روح منظمة، ويدرك تمامًا ما يفعله».

الكتابة عن الرسائل «الفان غوغية» المتوافرة على الإنترنت أشبه برثاء لزمن الرسائل نفسه، بل إشارة الى تحولات طرأت على فن التراسل الذي كان جزءًا من آداب العالم، ولم يبق منه إلا الحنين في زمن المعلوماتية. نشاهد صور رسائل فان غوغ على الإنترنت ونشعر أنها مجرد طيف لها شكلها الذي يذكرنا بالماضي، وأهميتها أنها تعبّر عن سيرة فنان عالمي كبير. فهو في رسالة له إلى شقيقه ثيو، يكتب: «في الواقع، الكتابة هي وسيلة رثة للتعبير عن الأفكار». ومع ذلك كان يتراسل كثيرًا، خصوصًا مع ثيو، بالفرنسية غالبًا. وأحيانًا، كان يكتب حول الفن، وحول ما كان يشغله كفنان. لكن ثمة مرحلة تعود الى بداياته الفنية حين كان يعمل في شركة لبيع اللوحات، آنذاك كان يكتب رسائله من دون أن يرفقها برسوم وكان يعترف بأنه على الأرجح سيكون رجل دين: «لا يمر يوم من دون أن أمضيه بالصلاة الى الله».

المعروف بأن فان غوغ كان شغوفًا بالدين، فكان يسعى الى مساعدة الآخرين الى درجة متطرفة، فيزور عمال المناجم في أمكنة تصل الى 700 م تحت الأرض ليذوق عذابات هؤلاء المحكومين بالأشغال الشاقة، فما كان من رجال الدين في الدير من حوله إلا الاتصال بشقيقه «لأن ذلك قد يقتله».

يختصر فان غوغ تلك المرحلة في إحدى رسائله، قائلا: «سأبقى على إيماني بالله على رغم ابتعادي عن المؤسسات الدينية، لكنني سألاقي الله بالإبداع الفني». عند هذه المرحلة، صارت رسائله كلها ترتبط مباشرة بالحديث عن الرسم والرسامين الذين سحروه (رامبرنت، ماكورو..) أو الكتّاب الذين أوحوا له بأفكار إبداعيّة (شكسبير، شارلوت برونتي، ديكنز، بلزاك، زولا..)، وهنا يكتب في إحدى رسائله: «قراءة الكتب تعني أن نتجرأ ومن دون أي تردد على أن نضع يدنا على الجمال ونقول: هذا جميل!».

ليست هذه المرة الأولى التي تنشر فيها رسائل فان غوغ، فقد نشر سابقًا قسم كبير منها عام ‏1914،‏ ثم نشرت طبعة تضمنت مزيدًا من رسائل عُثر عليها عام ‏1958. وما يتعين الالتفات إليه أن هذه الرسائل تشكل مصدرًا مهمًا في التعرف إلى أطوار في حياة هذا الفنان ويكفي للتدليل على ذلك أنه حدد في إحدى الرسائل برنامجه في الحياة‏.‏ يقول فان غوغ: «ينبغي علي أن أتعلم بأسرع ما يمكن كي أنتج لوحات يمكن عرضها وبيعها‏.‏ بذلك أحقق دخلا‏».‏‏ غير أن البرنامج المنشود تعذر تحقيقه تجاريًّا، طوال حياته‏.‏ ذلك أنه لم يبع لوحة واحدة‏.‏ وكان يعتمد في تدبير شؤون حياته اليومية على سخاء شقيقه ثيو‏.‏ نذكر هنا أن فان غوغ لم يبع لوحة في حياته مثل كافكا أو نيتشه اللذين لم يطبعا الكتب في حياتهما وجاء مجدهما بعد رحيلهما.

وفي رسالة أخرى كتبها الرسام بتاريخ ‏17‏ أغسطس‏ (آب) 1883‏ يشير إلى التزامه الأساسي تجاه فنه‏، ويقول إن هذا الالتزام يعلو على أي شيء آخر،‏ حتى الحب‏.‏ أما في قصص الحب، فكان فان غوغ يقول إنه فاشل في هذا المجال وكان يقع في كل مرة في كآبة إثر الانفصال. فوضع كل شغفه بالرسم، وكان أكبر أحلامه التي حاول تحقيقها على رغم فقره المدقع.

يؤكد فان غوغ في رسالة إلى ثيو‏:‏ «يمكنني أن أكون إنسانًا مختلفًا‏.‏ ثمة شيء في أعماقي‏. ما هو؟‏!».‏ وانطلق ذات يوم جميل من أعماقه هذا الشيء‏...‏ إنه الموهبة الفنية التي أضفت على حياته جمالا وسحرًا‏.‏ وكانت رسالته الأخيرة التي لم يستطع إكمالها بتاريخ ‏23‏ يوليو (تموز) ‏1890‏ وكان آنذاك مريضًا ومعتلاً فلفظ أنفاسه الأخيرة بعد أيام قلائل من محاولته كتابة تلك الرسالة‏،‏ ولم ينعم في حياته بموهبته وعبقريته الفنية‏.‏
يتردد أن فان غوغ حاول بالتعاون مع غوغان إنشاء منتجع للفنانين والرسامين عام ‏1888‏، لكن العلاقات توترت بينهما بسبب احتدام خلافاتهما حول الفن‏، وخلال ثورة غضب اجتاحت فان غوغ بسبب المشاحنات مع غوغان‏،‏ قطع جزءًا من أذنه اليسرى‏!‏ في الغرب، وعلى رغم مرور عقود على رحيل الفنان الهولندي، لا تزال أذنه تشغل الباحثين، إذ يلجأ بعضهم إلى التقصي لمعرفة أسباب الخلاف بينه وبين غوغان، بينما في العالم العربي يُغتال فنانون ومثقفون ولا يتجرأ أحد على إجراء تحقيق عن القضية! أليس في ذلك شيء من العار؟ من قتل الصحافي سمير قصير والمفكر مهدي عامل والرسام ناجي العلي ورجل الدين صبحي الصالح؟
لنعد إلى جوهر الموضوع، إذ نلاحظ أن أذن فان غوغ هي الأشهر في العالم، ولعلها الأذن الأولى في التاريخ التي تثار حولها قضية، وتدبَّج عنها مقالات ثم يصدر عنها كتاب، بل تصوّر عنها أفلام، ولم يمط اللثام عنها حتى اليوم. الجديد في قضية الأذن أنه بعد 10 سنوات من البحث، خلص مؤرِّخان ألمانيان إلى أن فان غوغ لم يقطع أُذنه بنفسه، كما هو شائع، بل قطعها له صديقه ومنافسه غوغان. ونشر المؤلفان أُطروحتهما، في كتاب صدر في ألمانيا حديثًا.

كانت الرواية المعروفة تقول إن فان غوغ، بتر أذنه اليمنى تحت وطأة حالة من الإنهاك العصبي والجنون، بعد مشاجرة مع صديقه غوغان، ويأسه من تحقيق مشروعه في إقامة تعاونية للرسامين في مدينة آرل، في جنوب فرنسا. وظلت هذه الحادثة إحدى أشهر الوقائع المأساوية في تاريخ الفن التشكيلي الحديث في أُوروبا والعالم، إلى أن جاء الباحثان هانس كوفمان، وريتا ويلديغانز ليستعيدا وقائع تلك الليلة الرهيبة، ليلة عيد الميلاد من عام 1888، وليوجها أصابع الاتهام إلى غوغان في إصابة فان غوغ بجرح أدى إلى فقدانه إحدى أُذنيه، في مبارزة غير فنية أعقبت مشاجرة خارج المنزل، أكملاها في البيت في الجنوب الفرنسي حيث كانا يقيمان معًا.

ولد فان غوغ عام 1853 في غروت - زوندر، شمال منطقة برابان، ابنًا سادسًا لأبيه الذي كان واعظًا في الكنيسة. وتوجه عام 1869، إلى لاهاي، حيث التحق موظفًا لدى فرع فرنسي لشركة تتاجر بالأعمال الفنية، ما أتاح له الاطلاع على عدد كبير من اللوحات وقراءة كتب كثيرة عن الفن وارتياد المتاحف. وقد بدأ في تلك المرحلة ترحاله بين بروكسيل وباريس ولندن، حيث كانت زيارة المتاحف نشاطه الأول.

عام 1875، انتقل فان غوغ إلى باريس، وفي لحظة نورانية من ربيع عام ‏1885‏ أمسك بريشته‏،‏ وأبدع لوحته الشهيرة «أكلة البطاطا» ومنذ تلك اللحظة المشهودة في حياته،‏ تدفقت ألوانه،‏ ولم يتوقف تدفقها طوال نحو خمس سنوات أبدع خلالها الفنان مئات اللوحات التي تتصدر متاحف الفن الكبرى.

رسم فان غوغ لوحات انطباعية من منطلق رؤية فنية خاصة تقول إن الرسام لا يرسم ما يراه، بل ما يحس به. أو كما يقول فان غوغ: «أنا ارسم الشيء لا كما هو، لكن كما أراه أنا». مثلا أشعة الشمس، يراها الناس ورسمها عشرات الفنانين ضوءًا وفي لون الذهب، لكن فان غوغ رسمها سوداء، وهو الذي كان يمشي على مبدأ «أن الحزن يدوم إلى الأبد».

مقاطع من رسائل فان غوغ:

حول لوحة «أكلة البطاطا»: (رسالة إلى ثيو: رقم 398؟)
هذا الأسبوع، أنوي البدء برسم أولئك المزارعين حول وعاء من البطاطا عند المساء، أو ربما أرسمها في النهار، أو كليهما، أو قد تقول لي «لا في الليل ولا في النهار». لكن في حال نجحت أو فشلت، سأبدأ بدراسة الشخصيات المختلفة. سلامي ومصافحتي لك، فينسنت.

رسالة ثانية إلى ثيو حول لوحة «أكلة البطاطا»: (رقم 402؟)

... أليس من نافلة القول أن نشير مجددًا كيف أن من أجمل ما فعله رسامو هذا القرن هو رسم الظلام الذي له لون بالفعل. (...) أرجو اكتمال لوحة أكلة البطاطا. إلى جانب ذلك، فأنا مشغول بالألوان الحمراء أثناء غروب الشمس. يجب رسم حياة المزارعين بتفاصيل دقيقة للغاية.

رسائل فان غوغرسائل فان غوغرسائل فان غوغرسائل فان غوغ

الجريدة
16 يونيو 2010