عادل خزام
الإمارات

استطاعت بعثات الاستكشاف الأثرية التي نقبت في أراضي الإمارات خلال الثلاثين سنة الماضية ان تتعرف الى العديد من الاحافير والبقايا الأثرية لوجود الإنسان على هذه الأرض منذ ثمانية آلاف سنة تقريبا أو تزيد، خاصة في مناطق الساحل التي نهضت عليها حضارات كبيرة ووجدت في هذه الآثار نماذج وشواهد وبقايا تدلل على مستوى التطور الذي ساد في تلك العصور.. ومن هذه البقايا مجموعات مختلفة من الأواني المشغولة بالنقوش والرسوم وكذلك نماذج لبقايا مساكن وتجمعات بشرية.. كما تعرف أكثر من منقب إلى بعض الرسوم القديمة على جدران الكهوف وعلى الجبال.. واشتهرت منطقتا "أم النار" في ابوظبي و"مليحة" في الشارقة على سبيل المثال.. ومواقع أخرى في الإمارات بأنها شهدت في تلك العصور السحيقة وجودا بشريا منظما ومتطورا.
وحتى الآن، لم تتم قراءة تلك النقوش على الأواني وعلى الجدران ولم يتم تفكيك الرموز الكامنة فيها بدقة.. وعلى عادتهم، ذهب المنقبون لمقارنة تلك البقايا والاحافير بآثار الحضارات المجاورة لها للوصول الى نتائج أبحاثهم ولكننا، نحن الباحثين عن أشكال المعرفة الحسية والجمالية في تلك البقايا، نتلذذ أكثر بأشكال الخطوط في تلك النقوش وبالكيفية التي استطاع بها الإنسان ان يحفر رسومه على الجدار وبالنمط البدائي في التعبير البصري أو التعبير برسم الأشكال ويمكننا القول ان تلك المفردات التشكيلية كانت شرارة الفن عند الإنسان الأول.
وفي الإمارات، لا تعتبر مثل تلك الحضارات البائدة ذات تأثير يذكر اليوم خاصة وان التاريخ القديم لهذه الأرض يكاد يكون مجهولا بالكامل وكل ما هناك فقط فترات متقطعة وبعيدة في الزمن.. وتنتسب لحضارات قديمة أبرزها حضارة الفينيقيين الشهيرة في عصور ما قبل الميلاد.
في المراجع والكتب التي ظهرت في بواكير الحضارة الإسلامية، لا نجد ذكرا لموقع في الإمارات بسبب غياب أو تغير أسماء المواقع، لكن بعض البحاثة أكدوا ان المهلب بن أبي صفرة (ت 83 هـ 702م) الذي كان واليا على خراسان وتوفي ودفن فيها كان من "دبا" وهي منطقة في شرق الإمارات وقد يكون المد الإسلامي قد انتشر بدرجات متفاوتة في هذه المنطقة وربما انتشر فيها أو تعرف أهلها إلى فنون الخط الإسلامي وفن الصناعات البدوية والزخارف والتطريزات في الملابس منذ ذلك الوقت وللأسف المراجع والآثار التي تؤكد ذلك تكاد تكون معدومة ايضا.
يعتبر الفن التشكيلي من أكثر الفنون ارتباطا بتطور الإنسان والمجتمع ونحن عندما نستذكر تاريخ البقايا والآثار أو بقايا القلاع القديمة المنتشرة بكثرة في ربوع الإمارات أو أشكال الخط التي ربما مارسها إنسان هذه المنطقة فإننا نحاول ان نقبض على خيط يربط بين كل ذلك وبين التأريخ لنشأة وتطور الفنون البدائية على هذه الأرض.. وبعد ذلك نحاول ان نترصد الوجود البشري الذي ترسخ في هذا المكان الى ان نصل الى صورة المنطقة في بدايات هذا القرن ونمط الحياة الاجتماعية وأشكال الفنون الفطرية التي كانت موجودة فيها وتمت ممارستها آنذاك.
منذ القرن الخامس عشر الميلادي تعاقب على استعمار منطقة الخليج البرتغاليون والهولنديون والفرنسيون والسويديون ثم الاستعمار الإنجليزي الذي امتد حتى نهاية التسعينات تقريبا، وخلال هذه الفترة كانت المنطقة غير متأثرة فنيا وثقافيا بحضارة المستعمر وظل الإنسان يعكف على ابتكار أدواته في صناعة السفن والمنسوجات والملابس وتطريز الخيام والمجالس وفنون الحناء عند النساء، وغيرها من أشكال الحرف التقليدية التي تتضمن الى جانب أغراضها المنفعية نماذج بسيطة من التلوين والرسم والدهان والعمارة وهي مهارات فنية في مضمونها.
واستشهادا على وجود الملامح التشكيلية لدى إنسان الإمارات في القرن الخامس عشر يجب التوقف على التجربة العملاقة والرسوم والمخطوطات والتصميمات التي خلفها الرحالة القبطان احمد بن ماجد وراءه.. وكانت تلك العدة المعرفية الى جانب أغراضها الملاحية في رسم خرائط البحر وطرق التجارة تشتمل على مهارات فنية عالية في قياس الخطوط والرسم وابتكار العلامات والإشارات البصرية. ونتساءل هنا: هل يمكن اعتبار هذا الملاح العربي أول فنان تشكيلي في منطقة الخليج العربي؟
وحتى الأربعينات من هذا القرن كان الاستعمار الإنجليزي لا يزال يسيطر على المنطقة التي لم تكن منقطعة أو بعيدة عن التواصل مع النهضة العربية حيث تعرف جيل من الأجداد الأوائل المتعلمين إلى حركات المد الثقافي العربي والإسلامي من خلال الدوريات والكتب وظهر في الإمارات منذ بداية القرن أول شاعر باللغة الفصحى وهو سالم بن علي العويس الذي عبر شعرا عن قضايا مصيرية في ذلك الوقت منها قضية فلسطين ووعد بلفور ثم قضايا الثورات في العراق ومصر والشام وواكب المرحلة الناصرية وتأثيرها. وفي الأربعينات تقريبا ظهرت أول جماعة شعرية من أبناء الإمارات وسميت بــ "جماعة الحيرة".
ومقابل هذا المد الثقافي الشعري لم تظهر ملامح تغيير في بنية التفكير البصري رغم ان تلك المجلات والصحف العربية الأولى قد ذكرت عن بعض الفنون التي ظهرت مبكرة في الأربعينات خاصة في مصر والشام وخلال هذه الفترة زار الإمارات عدد من الرحالة السياح الغربيين وقام بعضهم بتصوير شكل ونمط الحياة في هذا المكان الصحراوي بآلات التصوير الفوتوغرافي كما مر بالمنطقة عدد من الرحالة الفنانين، كما قامت مجموعات نادرة بالمرور وأنجزوا رسوما مباشرة تحاكي شكل وواقع حياة الناس في تلك الفترة كما استلهم بعض المستشرقين أخبار وواقع الحروب البحرية التي نشبت مع المستعمرين ورسموا لوحات كبير لتلك المعارك خاصة في مناطق رأس الخيمة.

الغوص وتجارة اللؤلؤ

كانت حياة الناس تعتمد بالدرجة الأولى على تجارة اللؤلؤ والغوص والصيد والزراعة والرعي في مناطق الصحراء وقد ظلت مثل هذه الأنماط القاسية في العيش دون تغير يذكر. ورغم وجود المستعمر الإنجليزي لحوالي قرنين من الزمن فإنه لم يهتم مطلقا بتحديثها ولم يكلف نفسه عناء بناء مدرسة واحدة وعلى العكس، سعى لكتم أي ملامح للإصلاح أو التحضر الاجتماعي المنظم.. ولم يتعرف الأهالي إلا على المدارس البسيطة التي تسمى "المطوع" أو "الكتاتيب" التي ظلت تخرج بعض الملمين بالقراءة والكتابة ولم يكن للفن التشكيلي في تلك المدارس أي وجود أو اثر إلا في ما يتعلق بالخط وفن الكتابة.
وفي مطلع الخمسينات بدأ التعليم النظامي على شكل المدارس الحديثة التي تعلم الحساب والجغرافيا والدين واللغة والتاريخ والأدب وبالتدريج دخلت حصص للرياضة وحصص للرسم وتكونت جماعات الرحلات والكشافة وكانت تلك المناهج الأولية في التعليم خاصة مادة "الرسم" الوحيدة التي ليس لها كتاب وليس لها منهج محدد مرسوم بدقة يبدأ من الابتدائية وينتهي بالثانوية.
لم يكن في حصص الرسم تلك نظام الورش أو المشغل أو المرسم.. ولمدة سنوات طويلة من التغير في نظام التعليم والمناهج وحتى عام 2000 حاليا لم يتضح منهج واضح بالنسبة لتعليم هذه المادة لكل الطلاب في كل المدارس.. ففي بدايات التعليم الأولى كانت تلك الحصص الفنية مجرد تسلية ولا تعتمد على منهج واضح وخلال فترات مختلفة أثناء التغييرات والاختلافات والتحديثات التي أدخلتها الدولة في ما بعد على مناهج التعليم منذ الخمسينات وحتى اليوم ظلت مادة الرسم في المنهج التعليمي في آخر سلم اولويات التعليم وفي بعض الأحيان يتم إلغاء هذه المادة من المناهج وهذه تبدو واحدة من أكثر القضايا أشكالا في البحث عن الجذور المعرفية التي تؤسس لوعي جمعي لدى الناس بالفن التشكيلي.
وفي ما يتعلق بالدراسات العليا في الجامعات الكثيرة الأجنبية والعربية والخاصة والحكومية الموجودة حاليا في الإمارات ايضا لا تبدو كليات الفنون وكأنها تخرج فنانين يعرفون أصول الفكر الفني وفلسفته بقدر ما تخرج طلابا جاهزين لشغل الوظائف في شركات التصميم والديكور واستغلال الفن في خدمة العمل.. وحاليا، مع الوصول الى قرن الألفية الثالثة تعيش الإمارات حالة من التحول العملاق في مستويات التعليم خاصة عندما انتشرت المدارس الخاصة التي أدخلت مناهج متطورة ومختلفة وتنافسية الى ساحة التعليم.. وقد تفوقت هذه المدارس الخاصة على مدارس الحكومة في مواد الإبداع وتقوية الإدراك البصري لدى الطفل.. والآن، ابتداء من رياض الأطفال الخاصة يكون اللون مادة أساسية وأولى في أساليب تعليم الطفل. وفي بعض المناهج يتم تفضيله على الحرف وعلى الكلمة.
إذن، مع بداية الخمسينات ظهرت المدارس النظامية وفي داخلها تأججت روح جماعات الكشافة والرحلات وكتاب صحيفة الحائط المدرسي وهواة التمثيل والموسيقا والرسم. وفي تلك المدارس ظهرت أولى بواكير المعارض الفنية الجماعية للرسومات المتميزة المختارة من كل فصل، وبعض المدارس أقامت مسابقات في الرسم استطاع أن يفوز بها طلاب من أبناء الإمارات وما ان أتت الستينات حتى كان المستعمر البريطاني على وشك الرحيل وبدأت البلاد تتحرر من هيمنة الغريب والأجنبي ولذلك سرعان ما انتشر الوعي الاجتماعي والإصلاحي والثقافي بسبب الانتشار السريع للمدارس المنظمة في كل الإمارات.
ويقرر التاريخ ان يأتي يوم 12 ديسمبر 1971 لتتحد هذه الكيانات والإمارات الصغيرة في نموذج وحدوي نادر التحقق ويتم الإعلان عن تأسيس وقيام دولة الإمارات العربية المتحدة تحت قيادة ورئاسة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة. وخلال عام واحد فقط من قيام هذا الكيان السياسي الجديد في منطقة الخليج استطاعت الدولة الحديثة وفي عامها الأول ان تنظم نفسها بشكل عملي ومدني والتفتت لمشاريع التنمية الشاملة في الاقتصاد والبنية التحتية والتعليم. وجاء التشكيل ضمن اولويات أشكال الوحدة بين الأفراد حيث تم تنظيم أول معرض لفناني دولة الإمارات العربية المتحدة في المكتبة العامة بمدنية دبي في 17 يوليو.1972. وكانت الرسومات واللوحات في ذلك المعرض تعود الى جيل من أبناء الثانوية العامة الذين تفوقوا في حصص الرسم وكانت لوحاتهم تهتم أكثر شيء بالموضوع والمعنى مثل رسم الجمال أو المناظر الصحراوية أو الأمهات بالزي التقليدي أو مجالس الرجال وشرب القهوة.. أو لوحات السفن والأشرعة. وفي ذلك المعرض طغى كما يبدو موضوع البيئة والتراث على معاني تجويد مهارة الرسم والخطوط والتداخلات اللونية الفلسفية وهي مدارس كانت شائعة في ذلك الزمان في اوروبا وبعض العواصم الثقافية العالمية والعربية وبالكاد كان طلاب ذلك المعرض قد سمعوا عنها.

دور محمد خليفة ذيبان

وقد أسهم المدرسون من مصر وبلدان الشام في ترسيخ الاهتمام بالجوانب الفنية وتأسيس المهارات الفنية لدى الطلبة وبالتدريج ظهر جيل من المدرسين من أبناء الإمارات الذين اتجهوا لتعليم مادة التربية الفنية.. ويضرب المثل على هذا الجيل بالأستاذ محمد خليفة ذيبان الذي يعد من أوائل المدرسين المواطنين وصاحب الدور الأكبر في تدريس مادة الرسم في مدرسة الاحمدية في دبي وهي من أقدم المدارس النظامية في الإمارة.. وقد استطاع هذا المدرس ان يبث روح الفن في دماء أربعة من طلابه هم محمد أمين غيثان وإبراهيم مصطفى وعبدا لباقي احمد وعبدالرحمن زنيل واستطاع اثنان منهم ان يبرزا في ما بعد كرواد أوائل في الفن التشكيلي الإماراتي وعطاءاتهم مستمرة حتى الآن.
أحب ان أشير هنا الى ان المعرض الأول في دبي كان مختلطا والفتاة المتعلمة ابنة الإمارات الحديثة كانت لوحاتها معروضة منذ البداية عبر لوحات فاطمة عبدالله حسين لوتاه ودرية عباس إبراهيم الى جانب لوحات عبدالرحمن زنيل وكاظم محمد وسيد الموسوي وآخرين.
وسوف يظل دور المرأة في الحياة الفنية والتشكيلية الإماراتية مستمرا وقويا وبارزا ومتفوقا أحيانا على فن أخيها الرجل.. والمهم ان في ذلك المعرض ومنه يمكن التعرف إلى ملامح الوعي بالفن والرسم التصويري وشكل التأثر التقني بالمذاهب الفنية التي لاقت رواجا وصدى لدى نفسية هؤلاء الطلاب ومنها المدرسة التسجيلية الواقعية المباشرة.
ونظرا للإمكانيات المادية الكبيرة التي اتاحتها مداخيل النفط.. فإن مجتمع الإمارات بدأ بالنهوض المتسارع وخلال السنوات الخمس الأولى من عمر هذه الدولة تغيرت الكثير من الملامح الحياتية بسبب نشوء المدن وانتشار العمران والطرق الحديثة وكان الفن التشكيلي احد أشكال هذه النهضة حيث تشكلت بعد ذلك المعرض في دبي سلسلة من الاتجاهات الفنية الدؤوبة والعادات الجديدة على نمط الحياة في الإمارات ومنها عادة "المعارض الفنية" الشخصية والمشتركة، والوافدة.. وبالتدريج تكون لدى الناس معنى جديدا للفظة "اللوحة!".
شهدت مراحل السبعينات حركة تشكيلية نشطة وسريعة حيث في الداخل كثرت المعارض الفنية وتعددت الجهات الحكومية والمحلية التي تضع التشكيل نصب اهتمامها، كما ظهرت في هذا العهد الصحافة اليومية والمجلات الدورية وأفردت للفن التشكيلي مساحات كبيرة.. ومن جهة ثانية بدأت الدولة تختار فنانيها للمشاركات الخارجية في مهرجانات الشباب العربي منها المهرجان الأول في الجزائر 1973 والثاني في طرابلس 1975 والثالث في بغداد ،1977 والرابع في الرباط ،1979 والخامس عام 1981 في دمشق ثم السادس في مدينة الرياض عام 1983 كما شهدت الدولة تنظيم سبعة معارض فنية للشباب ابتداء من العام 1975 باسم المعرض الفني للشباب. وكان الأول يضم 34 فنانا و101 لوحة. وفي النصف الثاني من السبعينات اتجهت الدولة الى اختيار نخبة من الطلاب الموهوبين في الرسم وابتعاثهم للخارج لدراسة أصول ومدارس الفن التشكيلي في كل من مصر وبريطانيا وأمريكا وبغداد.
وفي ذلك الوقت انتشرت أسماء مجموعة من الذين يمكن اعتبارهم الرعيل الأول في الحركة التشكيلية الإماراتية وذلك في العقد الأول لقيام الدولة ومنهم محمد يوسف وإبراهيم مصطفى وحسن شريف وحمد السويدي وعبدا لقادر الريس وعبدا لرحيم سالم وعبيد سرور وعبدالرحمن زنيل ومحمد المندي وحسين شريف وفاطمة لوتاه ونجاة مكي وهشام المظلوم وثريا أمين واحمد الأنصاري ووفاء الصباغ وشفيقة إبراهيم عباس ومحمد القصاب وصالح الأستاذ ومنى الخاجة وسالم الماس.
ومن تلك الأسماء هناك مجموعة من الذين توقفوا وطمست مواهبهم ظروف الحياة ومن هؤلاء محمد خليفة ذيبان ومحمد أمين غياث وعبيد الهاجري وغانم المري ويونس الخاجة ومحمد العيدروس وزعل سلطان لوتاه وبدر بوناصر وكاظم محمد سعيد وسيد الموسوي وعبدالباقي احمد ويوسف احمد وعبدالله ابراهيم عتيق. ومن النساء روية خالد ونورة عبدالعزيز ودرية عباس وشمسة جمعة.

إشهار جمعية الإمارات للفنون التشكيلية

وفي العام 1980 أشهرت جمعية الإمارات للفنون الشكيلية ومقرها في الشارقة، وعلى الفور تولت الجمعية مهمة الإشراف على عدد كبير من المعارض الفنية التي أقيمت داخل الدولة بالتعاون مع الجهات المختصة مثل وزارة الإعلام والثقافة والمجلس الأعلى للشباب والرياضة والدوائر الثقافية في كل إمارة الى جانب غرف التجارة والصناعة. كما ساعدت على توجيه الوزارة في اختيار الأعضاء المشاركين في المناسبات والمهرجانات والمسابقات الدولية وتمكنت الجمعية في اقل من عام على تأسيسها من استضافة اجتماع الأمانة العامة لاتحاد التشكيليين العرب وفي22 نوفمبر 1981 تم قبول الإمارات عضوا في هذا الاتحاد.. وكان ذلك آخر اجتماع منظم للتشكيليين العرب حيث بدأ دور هذا الاتحاد يتقلص تدريجيا كون مقره الرئيسي في بغداد التي شهدت ظروفا صعبة في تحولاتها خاصة إبان الحرب مع إيران وحرب الخليج.. وفي العام 1982 دخلت الإمارات عن طريق الجمعية عضوا في الرابطة الدولية للثقافة والفنون ومقرها "باريس".
الى جانب الدور القيادي للجمعية وبسبب غياب التعليم النظامي الممنهج في المدارس والكليات لمادة "الفن التشكيلي" لجأت الدولة لابتكار أسلوب المراسم الحرة لتدريب الشباب على هذا الفن.. وكان أولها المرسم الحر التابع لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية الذي أقيم في مقر الجمعية في الشارقة عام ،1980 وبعده بعام فقط أنشأت الجمعية مرسما آخر في مدينة رأس الخيمة، وفي عام 1982 تم افتتاح المرسم الحر للشباب في مقر جامعة الإمارات في العين.. وباشرت العاصمة ابوظبي في العام 1986 بإنشاء المرسم الحر الخاص بالمجمع الثقافي، وتبع ذلك قيام وزارة التربية والتعليم والشباب في شهر سبتمبر من عام 1987 بإنشاء المرسم الحر في دبي كما انشىء في الشارقة عام 1995 مركزان لتعليم الفنون، الأول في خورفكان والثاني في الشارقة.. وكانت المهمات الرئيسية لتلك المراسم تتلخص في توفير المواد والخامات والألوان لتدريب الشباب تحت إشراف مجموعة من المتخصصين والدارسين المواطنين والعرب.. وكان طلاب هذه المراسم يدخلون في دورات قصيرة لتعليم أساسيات فن الرسم ابتداء من رسم الطبيعة بقلم الرصاص وبالفحم وبالأسود والأبيض ثم الانتقال لفهم العلاقة والإدراك بالمنظور الخطي والمنظور الجوي والوعي بالظل والضوء.. وفي تلك المراسم كان يتم التطرق للنظريات اللونية والقرص اللوني ومفهوم المزج بين الألوان ومفاهيم الألوان المتممة وكانت تتم في تلك المراسم ايضا دورات في الخط العربي والتصوير الفوتوغرافي وفنون الكولاج وغيرها. وعادة ما كانت تنتهي كل دورة بمعرض فني من إنتاج الشباب المنتسبين. وقد تولت هذه المراسم مهمة تخريج الفنانين التشكيليين الهواة، فيما انحسرت تدريجيا حركات ابتعاث المتعلمين لدراسة الفن وصارت في أواخر اولويات سياسة التعليم العالي. وحتى عام 2000 لم يتمكن احد من أبناء الإمارات من الحصول على درجة الدكتوراه في الفنون التشكيلية.
في مطلع الثمانينات انتعشت الحركة الثقافية في الإمارات بشكل استثنائي وتناقلت الصحف الأخبار والمقالات عن معظم المعارض الرسمية والخاصة التي تقام في مدن الدولة وهي كثيرة جدا.. بعضها خاص بالمواطنين والعرب وبعضها خاص بالجاليات الأجنبية. وقد كانت لهذه الجاليات فعالية كبيرة في ساحة التشكيل خاصة عندما ذهبت لتنظم عددا من المعارض لفنانين من اوروبا كما إنها كانت المبادرة الأولى لافتتاح "محلات الفن" في الأسواق التجارية الراقية والفنادق. وطيلة هذه السنوات لم تكن هذه المحلات مؤثرة في حركة الفن التشكيلي لكنها كانت الجهات الوحيدة في الساحة التي تربح ماليا وتبيع معظم لوحاتها يوم الافتتاح. وتعتمد هذه المحلات على نوع نادر من العلاقات العامة مع معظم رجال الأعمال المواطنين والعرب والأجانب.. وهي تبيع بالجملة للفنادق والشركات والبنوك في صفقات خيالية.
ولسنوات ظل الفنان الإماراتي بعيدا عن لعبة السوق وهمه ينصب فقط على المعارض الرسمية الجماعية التي تنظمها الدولة والدوائر الثقافية.. ورغم وجود الإحتفائية والتكريم والمكافآت في تلك المعارض الرسمية فإن الفنان فيها لم يذق طعم الفوز المادي الكبير أو التجاري وكان يكتفي بالجوانب المعنوية والاجتماعية التي يحققها له موقفه من الفن.. وكانت معظم محلات الفن تبيع لوحات تسجيلية موضوعها الأهم هو البيئة الإماراتية حيث اللوحات تنقل القلاع القديمة والصقور والبدوي والمرأة في الزي القديم ورسوم البيوت القديمة والأبواب والحصون ومناظر البحر والجبال.. وجميع من أنتج هذه اللوحات هم هواة وبعض المحترفين الأجانب وبعض العرب وتكمن خطورة هذه الأعمال ليس في نجاحها المالي فقط، بل في سرعة انتشارها في الاحتفالات والمهرجانات التجارية التي تنظم في الأسواق والطرق العامة وتعطي انطباعا بجماهيرية هذه اللوحات.

تسويق الفن

وما يهمنا من قصة "سوق الفن التشكيلي في الإمارات" ان مجموعة من فنانينا استطاعوا كسر حاجز السوق ووصلت أسعار لوحاتهم الى مستويات توازي سعر أعمال بعض فناني اوروبا. والى جانب ظهور فنانين أجانب مقيمين في الإمارات ظهر ايضا عدد من الفنانين العرب المقيمين وهؤلاء استطاعوا ترك بصمات قوية على الساحة المحلية نظرا لطول مدة إقامتهم والتي امتدت عند بعضهم الى أكثر من عشرين سنة. والى جانب وجود هذه المجموعة المقيمة داخل الدولة تمت استضافة اشهر الفنانين التشكيليين في العالم العربي عبر المعارض الشخصية أو عبر المشاركات الجماعية. ويمكن القول ان تجربة الإمارات الشكيلية ظلت مخلصة وأمينة لبعدها الجماعي العربي وكانت جزءاً من نسيج حركة التشكيل العربي وذلك في تناولها قضايا وتعوم في أسئلته.
وفي الثمانينات ايضا ظهرت المراسم الحرة للشباب وتمكنت مؤسسات رسمية مثل وزارة الإعلام والثقافة والمجمع الثقافي بأبوظبي ودائرة الثقافة والإعلام في الشارقة وندوة الثقافة والعلوم في دبي الى جانب جهات ومراكز ثقافية أخرى من استضافة وتنظيم المئات من المعارض الفنية المهمة، وظهرت في تلك الفترة ايضا بوادر إقامة "جوائز" تشجيعية من الدولة لرموز الفن التشكيلي وان كانت حتى الآن قليلة جدا.
في أوائل التسعينات بدا ان المشهد التشكيلي في الإمارات مقبل على حالة ازدهار غير مسبوقة في منطقة الخليج.. وكانت أهم بودار ذلك الازدهار الخطوة العملاقة التي اتخذتها حكومة الشارقة عام 1993 بتنظيم بينالي الشارقة الأول بمشاركة مائة فنان وفنانة من الدول العربية والأجنبية من مختلف أقطار العالم إضافة الى الفنانين المواطنين والعرب المقيمين في الإمارات.
وتعد خطوة "البينالي" في الإمارات تتويجا لمرحلة الانتعاش تلك حيث رسخت الوجود الدولي للأمارات على ساحة الفنون العالمية وقد تطور مستوى هذا البينالي بشكل كبير خلال دوراته السابقة.
وفي الفترة نفسها نشطت إمارة دبي بنمطها الاقتصادي الذي عرف بــ "مهرجانات التسوق" السنوية.. وبعد عام على إقامة بينالي الشارقة تم تنظيم معرض دبي الدولي الذي لم يتخذ صفة رسمية أو حكومية واشتمل على أعمال جديدة وحديثة ومتطورة لفنانين مهمين من اوروبا وآسيا وأمريكا إضافة الى العرب والمواطنين.. وأروع ما في هذا المعرض ان الجائزة الأولى منحت في النهاية لفنان من الإمارات.. والى جانب دورها في إقامة المعارض والمهرجانات الفنية المحلية شهدت دبي إقامة معارض دولية مهمة لفنانين من ايطاليا وانجلترا وفرنسا.. كما اشتهر المجمع الثقافي بأبوظبي باستضافته مجموعات نادرة من الأعمال الفنية من كل دول العالم تقريبا.
ان رصيد المنجزات التي حققتها دولة الإمارات في مجال الفن التشكيلي يعد كبيرا نسبيا قياسا بعمر الدولة الحديثة وهناك في الجعبة العشرات من الميداليات الذهبية، والجوائز التي نالها فنانون من الإمارات في ابرز المحافل الفنية العربية والقارية وأكبرها على الإطلاق فضية بينالي بنجلاديش السادس لفناني دول آسيا عام 1993 التي فاز بها الفنان عبدا لرحيم سالم وهو صاحب اكبر رصيد من الجوائز المحلية والدولية.. والى جانب عبدا لرحيم سالم وجدت مجموعات أخرى من الفنانين ممن يمثلون اتجاهات فنية مغايرة وتنتمي لعدد من المذاهب الحديثة والجديدة في الرسم والنحت وأبرزهم الفنان حسن شريف الذي أسس لتيار الفن "المفاهيمي" ونشره لدى مجموعة من الشباب.. وعلى مستوى المرأة تحضر الآن بقوة على الساحة التشكيلية مجموعة من الأسماء النسائية العربية والإماراتية وتتقدمهن جميعا الفنانة نجاة حسن مكي التي تحضر حاليا لأول رسالة دكتوراه في الفن التشكيلي كما تمكنت مجموعة من الهواة والشباب ممن تخرجوا في المراسم الحرة وبعض الدورات من الفوز ايضا بجوائز دولية ومحلية وإقليمية.
لا يمكن تحديد المدارس والاتجاهات الفنية الشائعة لدى أبناء الإمارات فمثل هذا التصنيف ولى منذ زمن حتى في اوروبا، وصارت بانو راما الأعمال الفنية التي تنتج داخل الإمارات شاملة ومتنوعة وتضم ابرز الرؤى والأنماط والمذاهب، فهناك جيل ممن يتبعون حتى الآن المدرسة التسجيلية ويعتمدون على نقل العناصر الحسية المأخوذة مباشرة من أشياء التراث والواقع، وهناك آخرون انخرطوا في تجارب التركيب و"المفاهيمية" مبتعدين كليا عن شكل الإطار واللوحة التقليدية.
ويعد الفن التجريدي اللوني واحدا من ابرز الاتجاهات السائدة بين الفنانين في الإمارات رغم ان قلة فقط مارسوه بوعي واستطاعت هذه القلة ان تفوز لوحاتها التجريدية في المعارض الدولية.. والى جانب "التجريد" تمسك عدد من الفنانين بقيم التعبيرية وتأثروا بها وصاروا الآن من إتباعها الملتزمين. كما مر عدد كبير من الفنانين على انتهاج أسلوب الانطباعية الحسي والحر لكن لم يبرز هذا الاتجاه بقوة بسبب عدم استمرار هذا المذهب وسرعة تحولهم الى قيم واتجاهات أخرى.. وبين ووسط هذه الاتجاهات تذوب تجارب البقية الباقية من الأسماء وتتداخل.

فن الخط العربي

اشرنا من قبل الى ان أبناء المنطقة ومع توافد المد الإسلامي والحضاري ربما تعرفوا الى فنون الخط العربي الذي بدأ في العصر العباسي مع مقامات الحريري ولوحات الواسطي لكن الوصول الى هذه الحقيقة يحتاج الى براهين بحثية. ولكن، وفي الإمارات الحديثة، ومع انتشار الوعي التشكيلي ظهرت مجموعة من الفنانين الخطاطين المواطنين والعرب الذين شكلوا عبر حضورهم الدائم في المعارض الفنية حالة متطورة من أساليب الإبداع الخطي والزخرفي الإسلامي وكان الاتجاه الغالب على أعمال هؤلاء هو استخدام الخط الحر.. كما ذهب بعضهم الى معالجة الحرف كقيمة لونية.. وقد تأثر هؤلاء الخطاطون بمدارس وأفكار بعض رواد هذا المجال من العرب والمسلمين كما التزموا بالأصول الكلاسيكية المعتقة من القوالب والقواعد التي لا تكسر مع محاولة اقتراح الأفكار والأشكال والأنماط الجديدة.. وقد آثر كل هؤلاء الاحتفاظ بأصول فن الخط وكأن هذه المحافظة هي مهمتهم الإبداعية الأولى.. ومع ذلك فاز عدد منهم بجوائز وشهادات إقليمية ويعد الفنان الإماراتي محمد مندي من أوائل من اشتغلوا على فن الخط.
ويجب الالتفات هنا الى ان دولة الإمارات وابتداء من تأسيسها شهدت نزوح مجموعات كبيرة من العمالة الآسيوية وافتتحت في كل مدن الدولة محلات للخط العربي تتولى تصميم وكتابة لافتات المحلات التجارية والإعلانات. وكان معظم العاملين الآسيويين المسلمين يفتقرون الى المهارات الإبداعية والأسس الأصيلة في الخط ما ساعد بالتالي على إضعاف الذوق العام بهذه الخطوط التي انتشرت بشكل هائل في ملامح الحياة المدنية العامة.
ورغم الإنجازات التي حققتها الساحة التشكيلية على مستوى اللوحة فإن فن النحت يظل على الدوام متأخرا ليس بسبب عدم الوعي بالأصول الفنية التي تحكمه بل بسبب التكاليف الباهظة التي يحتاجها الفنان لإنتاج أعماله، ومع ذلك ذهبت مجموعة من الفنانين المواطنين والعرب المقيمين لإنتاج أعمال مهمة جدا في مجالات النحت وبرز أكثر من اتجاه تجريبي وتحديثي في هذا المجال لكن معظم هؤلاء ابتعدوا في ما بعد واتجه أكثرهم الى اللوحة التجريدية وبرعوا فيها ايضا.
الإلمام بالجوانب والمؤثرات والأبعاد المختلفة التي ترسم صورة المشهد التشكيلي في الإمارات بلا شك مهمة عسيرة وصعبة فإلى جانب الرصد الذي تعمدناه في هذه الورقة يجب الاقتراب من مناطق تحليل الأعمال وقراءة مجموع الإشكالات الفنية والفلسفية والفكرية والتاريخية التي تعشعش في مناحي حركة التشكيل في الدولة.. وهذه المهمة نلقيها على عاتق الباحثين والنقاد المتخصصين.