عندما يتوقف المرء لكي يتأمل "الباب العربي" في ثنايا المدينة العتيقة، وإذا كان هذا المرء مهتما بعض الاهتمام بقضية الفن البصري، فسيكون بامكانه أن يتساءل فيما إذا كان ينبغي اعتبار هذا "الباب" ضربا اصليا من ضورب الفن الإسلامي وإنجازا كاملا من منجزاته.
سوف لن تنقص متأملا بصيرا الأسباب الوجيهة لمثل ذلك الاعتبار التي نلح نحن بدورنا على ما يبدو جوهريا منها، ونميل إلى طرح فرضية تقول بأن هذا الباب هو في المقام الأول حامل تشكيلي(SUPORT) أي "لوحة" يشهر الأنساق الفنية والشكلية ذاتها التي تظهر على حوامل أخرى.
يحدد الحامل في الكتب التعليمية الفنية بتعريف مثل التعريف الذي نستعيره هنا من واحد منها، القائل بأن الحامل هو "كل سطح يسمح بتنفيذ عمل تصويري PICTURAL القماشة وألواح الخشب والورق والكارتون والحائط ... الخ، انه اذن بعد تقني بدهي وشرط أولي من شروط الممارسة الفنية فلكي ترسم عليك في البدء أن تلتقي بسطح ملائم تمرر عليه الآثار التي تود إنجازها: قلمك على الورقة أو سكينتك على الحائط أو ريشتك على القماشة، وما إلى ذلك انه السطح الذي يحمل الأثر ويعلنه للعين ، والذي يتماهى مرات مع الأثر ويصيره، أو الذي يأخذ الأثر منه طبيعته النهائية وملمسه ويستمدها، لان الطبيعة التصويرية نفسها لعمل مرسوم في كهف (أي الجدار وهو من أقدم الحوامل) تستلزم ألوانا وتقنيات تثبيت خاصة بها ستمنح العمل كلية فنية ومذاقا يختلف إلى ابعد الحدود عن عمل منفذ على شريحة زجاجية لماعة لا تقبل طبيعتها إلا مواد خاصة وطريقة خلط للألوان خاصة.
كانت الطبيعة المادية للحامل تتغير حسب وظيفة العمل الفني ورسالته فرسوم كثيرة في الكنائس الإيطالية لم تستخدم إلا الجدران والقبب والواجهات المزججة كحوامل أساسية اعتبرت أكثر قدرة من غيرها على الاشتغال المباشر في المكان أي مع رواد المكان الذين كان يلزم لفت انتباهم ، وصدم عيونهم من اجل إيصال الرسالة المطلوب نقلها وهى قصة دينية مقدمة لجمهور قروسطي لم يكن يعرف القراءة والكتابة في غالبيته بل كان مستعدا لقراءة من نوع آخر: بصرية.
إن حجم الحامل البصري يتغير بدوره تبعا لذلك فان شواهد القبور الرومانية والمنمنمات الإسلامية ستكون صغيرة القياسات علا لما ان وظيفة الشاهد تتركز في التدليل على اسم المتوفى وسنه وعمله المحاطة في الغالب، بإشارات ورموز بصرية مقتصدة في فضاء لا يسمح بسوى ذلك وعلا لما ان ا لمهمة الأساسية للمنمنمة، الوظيفة كانت سهولة النقل ، وربما سريته ضمن أعراف ثقافية لم تكن تسامح بسهولة التمثيلات التشخيصية التي تحتوي عليها بينما ستكون أحجام "الجداريات" ضخمة للغاية طالما أنها مطالبة بمخاطبة أوسع جمهور ممكن وفى فضاء على امتداد البصر.
لقد مر الحامل بتطورات جوهرية أدت في نهاية المطاف إلى تناسى الدروس أعلاه والى ان تعتبر "القماشة" لوحدها، وبعبارة أدق اللوحة المعمولة من القماش، وبارجة اقل من الخشب هي الحامل الوحيد المعترف به أوروبيا ويعتبر ما يرسم عليه فنا راقيا.
لقد جرى لوقت طويل ازدراء الفن الإسلامي ضمن مبررات كثيرة تقع واحدة منها في انه لم يعرف أبدا اللوحة / الحامل وظل مقتصرا على حوامل ليست من ذات الطبيعة التي عرفها الفن في القارة الأوربية في مقارنة متعسفة بين فضاءين ثقافيين مختلفين، وبين تقليدين ليسا متشابهين ويتناس صارخ للتاريخ الدقيق لظهور فكرة اللوحة نفسها ان تحديد "اللوحة" بوصفها الحامل الوحيد الجدير بالاعتبار سيصطدم بعقبات كثيرة في تاريخ الفن وفى الممارسة البلاستيكية نفسها، كما بعقبات من طبيعة نظرية إذا لم يجر الالتفات إلى شروط المكان الذي يعرض العمل نفسه فيه ووظيفته في هذا المكان، كما حسب المعنى والأهمية الممنوحين للفن كله في سياق ثقافي معين.
ليس هجران الحوامل التقليدية في الفن الحديث : القماشة بالنسبة للوحة والقاعدةSOCLE للنحت بل رفضها لدى بعض الاتجاهات الفنية البارزة رفضا قاطعا، على أساس كونها تقع على النقيض من مفهومة أكثر حداثة للفن، واعتبار ان فكرة اللوحة، التقليدية من أوجهها كلها:
حواملها وطبيعة ألوانها وملمسها وطرق تحضير ألوانها وشكلها الهندسي وإطارها الخارجي إنما هي فكرة شائخة ، Ji إنها تستحق إعادة النظر الجوهري لأنها استنفدت أغراضها التاريخية وتشي بوعي جمالي متخلف في النحت يجرى نبذ "القاعدة" التي تستند المنحوتة إليها ويلجأ الفنانون إلى عرض منحوتاتهم على أرضية القاعة مباشرة أو تعليقها في سقفها كما هو حال الفنان كالدير CALDER مشددين على ان العودة إلى ذلك الحامل النحتي القديم يتضمن بالضرورة تصورا قديما عن دور القطعة وطريقة اشتغالها وطبيعة وعى الجمهور بها.
إننا اليوم أمام قيمة نسبية تماما ممنوحة للحوامل التقليدية بالمقارنة مع العناصر المعتبرة أساسية في الخلق الفني إننا نتأمل العمل الآن من وجهة أخرى تضع القيمة الأكبر لما يعتبر جوهريا: علاقاته الداخلية وتقنيته والإحساس العميق بماهيته البلاستيكية المحضة، لقد هجر الحامل، من بين ما هجر لصالح الذهاب إلى أعماق اللغة البصرية، التفتيش عن صفائها، والتدقيق في الهواجس والقضايا التي تسم مفرداتها وقواعدها في محاولة لاستبعاد الهامشي، الطفيف منها، أو ما يعتبر هامشيا.
لم يعرف الفن الإسلامي اللوحة سواء كانت على القماش أو عل الخشب، التي هي بهذه المناسبة إنجاز متأخر في تاريخ الفن وتاريخ الفن الأوروبي نفسا قبل جيوتوGIOTTO لم يكن يوجد تقريبا في أوروبا التصور نفسه عن فن الرسمPIENTURE المعروف فيها اليوم ، ففي العصور الأوروبية الوسطي من القرن الرابع الميلادي إلى القرن الثالث عشر فان هذا الفن كان غائبا كليا تقريبا بالمعنى الممنوح لكلمة رسم في القاموس المعاصر، كان يجرى تقديم الهيئة الإنسانية بشكل جد تخطيطي SCHEMATISE تكوينيا وكانت الحوامل هي المنمنمات والجدارات بشكل أساسي قبل ذلك عند ظهور الفن الروماني في القرن الحادي عشر، كان الرسم ذد طابع غير شخصي، كهنوتي وكانت حوامله في ذاتها، في حين انه لم يتحسن إلا في فترته المتأخرة نحو تعبيرات أكثر حرية فتحت الطريق أمام الفترة اللاحقة المسمدة بفترة الفن القوطي وبدءا من القرن الثاني عشر ويفعل الازدهار الحاصل انفتحت آفاق جديدة وبدأ الفن يزدهر من جديد كان الحامل في فترة جيوتو (1276- 1337) يتحول نوعيا ويصير بشكل رئيسي "اللوحة الخشبية" وكان الرسم يجرى بتلك الألوان المسماة detrempe a l'oeuf الألوان المائية المخلوطة مع البيض لان الرسم الزيتي لم يكن مكتشفا بعد.. لم تكن القماشة قد ظهرت بعد أيضا، إنما ظهرت لاحقا نتيجة ازدياد النشاط التجاري وتحول اللوحة ال بضاعة مربحة كان ينبغي التفكير بوسيلة جديدة من اجل تسهيل نقلها: القماش سهل الطوي وخفيف الوزن كان الحامل الرئيسي في فترة طويلة سابقة هو الجدار لوحده.
وبالمقارنة ومن باب الطرفة قبل كل شىء : الطرفة الدالة ، بما كان يحدث في الفن العربي الإسلامي التشخيصي منه، فان رسوم الواسطي المؤرقة بسنة 1237م، أي السابقة على سنة ولادة جيوتى بـ 39 سنة فقط ومن وجهة نظر الحامل فإنها كانت تستخدم، بوصفها منمنمة، الحوامل المعروفة تاريخيا وتمتلك قيمة جمالية أخرى طالعة من تقاليد مختلفة كليا في تصور فن الرسم التشخيصي، وفى سياقات لم تكن تسمح بان ينجز مثلا واحد من أعمالها التي تمثل "الفرسان يوم العيد في برقعيد" بحجم ثلاثة أمتار على ثلاثة في مكان عام، لو تحققت هذه الأمنية لحصلنا على عمل مدهش ولأختلف جذريا السياق الذي تطور به الفن الإسلامي كله، يقال الأمر ذاته عن "كتاب البيطرة" المؤرخ بسنة 1209م والمجهول الرسام، وقبلة كانت رسوم قصر المتوكل "الجوسق" المؤرخة بسنة 836-839 الميلادية رسوما جدارية، لا تبتعد طبيعتها التكوينية الإجمالية عن رسم العصور الوسيطة الأوروبية غير ان موضوعاتها وموضوعات مجمل الرسم التشخيصي العربي لم تكن البتة موضوعات دينية ينبغي ان يلاحظ ونحن نتحدث عن تطور فن الرسم وحوامله بأنه بدءا من سنة 1200م وما بعدها بقليل والتي ربما كان الواسطي يعاصر فيها جيوتى أو احد أسلافه فان العصر كان انحدارا حضاريا مستمرا بالنسبة لثقافة الواسطي (سقطت بغداد على يد المغول سنة 1258م) بينما كان عصر صعود حضاري مستمر بالنسبة لجيوتى، وها نحن نشهد الثمار كونيا.
لقد عرف الفن الإسلامي حوامله الشخصية، المختلفة لأسباب فقهية "كي لا نقول دينية" ولتصورات جمالية خاصة به، فمن جهة ظل هذا الفن فنا تجريديا بشكل أساسي ملتقيا بحوامل تسمح له بأن يعرض أعماله على أوسع نطاق هي جدران المساجد وقببها وعلى حيطان المدينة، منوعا ومكاثرا إياها مستخدما فنون النقش والارابيسك والخط العربي ولكنه استمر بدرجات خافتة ، بأن يكون فنا تشخيصيا والتقى بحوامله الملائمة في الورق وجلود الرق التي طلعت كحاجة ثقافية لعلها تشابه تلك التي دفعت باللوحة في مكان وزمان أخوين للظهور لم تكن القماشة نفسها مجهولة ضمن حاجات هذا الفن، فثمة اشارة طفيفة لدى ابن منظور (1232-1311م) وعلينا ملاحظة انه يعرف مواد تسبق كثيرا عصره) عن قماشة يسميها العرب بـ "المهرق" ويصفها اللسان بأنها ثوب من حرير ابيض يسقى الصمغ ويصقل ثم يكتب به، كما لو أنها كانت حاملا لواحد من ضروب الفن العربي الأخرى وهو الخط، بل انه كان بمكاننا ان نرى في معرض (النسيج المصري: شهادات عن العالم العربي) قطعة قماش بيضاء مريعة، عليها رسم تشخيصي لوجه اعتبره منظمو المعرض وجه دمية ، ويمكن اعتبارها بمعنى من المعاني "لوحة -قماشة" طلعت بمحض الصدفة في تاريخ الفن الإسلامي، وهو أمر لا نورده هنا من باب إيجاد موضع قدم للثقافة العربية الإسلامية في هذا المجال وإنما من باب الطرفة ثانية.
لكننا نجازف بتقدير "الباب" بوصفه حاملا ليس بالمعنى الاستعاري للكلمة ولكن بالمعنى الدقيق لها من باب لا يمكن النظر إليه كما ينظر إلى أبواب قوطية أوروبية مثلا، أي كتعبير عن ممارسة محكمة الدقة لفن تطبيقي محض، أو كممارسة وظيفة باردة دون خلق فني يصير "الباب" في الفن الإسلامي حاملا تصويريا عن جدارة خالطا في مجال عمله جماليات الفن الإسلامي ووظائفه، تماما مثلما يجرى هذا الخلط والاختلاط بين ذينيك الدورين في الأنواع كلها من هذا الفن.
تقع واحدة من خصائص الفن الإسلامي في التماهي العميق بين الجمالي والوظيفي الذي تلخصه العمارة العربية الإسلامية كما. يمكن توجيه نقد قاس إليه واعتباره دليلا على فقر روحي غير قادر على منح المكان المناسب ، المتميز والأرستقراطي للتأمل الجمالي المحض مثلما فعل بعض نقاد الفن الأوروبيين لوقت طويل حيث لم يكونوا ليجدوا في هذا الفن وذلك الرسم جمالا وبهاء، وما يستحق الاحترام سوى في فن العمارة لوحدها، التي يظل تاريخها في المنطقة على أيديهم رغم ذلك ناقصا ومبتورا ومنقطعا لأنه لا يؤرخ لها إلا بدءا من العصر الأموي الذي يبدو وكأنه انبثق هكذا من عدم مطلق دون ارث يسبقه في المنطقة ، ودون استلهام من هذا الإرث.
وتبدو عمارته خلال بعض البحوث من جهة أخرى عمارة دون استمرارية واهنة كأنها قد اختفت فجأة مثلما ظهرت فجأة ولم يتبق منها إلا الآثار القليلة الشاخصة فعمارة اليمن الحالية لن تدرس البتة لهذا السبب في أي من الكتابات الجادة عن تاريخ الفن - العمارة العربية، ولن ينظر إليها إلا كفن شعبي، خصب يندرج في الكتب السياحية والتصوير الفوتغرافى الملون الذي يبقى تلك أنها الحقيقي، أنها مقطوعة الجذور عن عمارة المنطقة التاريخية رغم أنها من يمثلها تماما.. ربما.
وعلى العكس من هذا التصور يمكن اعتبار التماهي بين الجمالي والوظيفي دليلا من نمط آخر نتقدم به إلى فحص آخر، يزعم، مبتهجا ومكابرا بأنه دليل على إقامة الكائن المسلم الدائمة في ارض الجمال : ان الجمال (كان) الوجه الآخر لليومي وانه (كان) ينبغي لضرورة من الضرورات أدراج الجمالي في تفاصيل الحياة الأقل شأنا دليل لم يكن مطروحا بالضرورة بذات الوعي الحاد الذي تقوله هاهنا وكان حدسا، فلنقل انغمارا لا واعيا في مزاج سعيد لحضارة واثقة من نفسها، بل تمظهرا للازدهار الحضاري في داخل الكائن المنهمك بترفها ومجدها الغابرين الم تكن حاجيات وأشياء ومنتوجات هذه الحضارة تمثل لدى الاوروبى في الحقبة الوسيطة كل ماهر باذخ وراق وجميل؟
كان صعبا للغاية عل المسلم القديم ان يفرق تفريقا حاسما، لدى تأمله لمجمرة أو لإبريق، بين روعتها الجمالية والوظيفية التي كانت تقوم بها كانت أروع القباب اللازوردية وأجمل الأقواس وأكثرها رهافة لا تستوقفه مثلما لا تستوقف المغربي اليوم أو التونسي الوفرة الجميلة من أقواس مدنه القديمة، بل تلك الأقواس التي يعيد إنتاجها اليوم في سكناه الراهن ، كانت جزءا من فضائه الثقافي كله، وما زالت بالنسبة للغالبية الساحقة غير المعنية حتى الآن بعمق بمسألة التأمل الجمالي.
لم يكن السؤال الجمالي بمعنى التأمل "بقضية الفن البصري" مطروحا كما نطرحه الآن، حتى في أوروبا بداية عصر النهضة نفسه، الم يكن فنانو تلك الحقبة الأوروبية يعتبرون مجرد "حرفيين يدويين" وكانوا بدورهم يقدمون من أوساط اجتماعية متواضعة: اندريا ديل، كاستينويو وبينوتزو كوتزوللى من اصل فلاحي، كان أب اوجيللو حلاقا وأب فيليبوليبى قصابا وأب بالايولو يتاجر بالدواجن وأب مونتينيا خشابا فحاما وأب كوزيمو تورا اسكافيا، ليكون الأمر مدهشا للغاية بالنسبة لثقافة أوروبية تعطى البصري حصة جوهرية إزاء ثقافة عربية أدبية في المقام الأول كان المسلم يعيش الدورين كليهما في آن واحد وهو يستخدم تلك المرآة الرهيفة وتلك المجمرة ، ولعله أمام "باب" جليل، منقوش باب "معمول" بحرص وجمال لم يكن البتة يفكر ببداهته الوظيفية بل كان في الغالب يستمتع بأمر آخر فيه كان بامكان أي حاجز من الحواجز الخشبية أو المعدنية التي يحكم إغلاقها ان تقوم بدور الباب دون الذهاب بعيدا بصناعة معقدة له وشغل متأن دون وضع كل هذا الجهد والمعرفة فيه لعل هذا الكائن كان يصر على ان الأبواب ليست مجرد حاجة وظيفية وإنها تمتلك "بعدا" آخر.
هكذا سيصير الباب "مدخلا" مشحونا بالدلالات وكان عليه، لكي يحققها ان يتخذ "هيئة" و"شكلا" آخرين أكثر تعقيدا وابعد من الدور الوظيفي كان على الباب من اجل تحقيق هذا البعد المفترض ان يتحول تحولات لا تطرأ على الحسبان من قطعة من الخشب العادي إلى حامل فني، ان يتقمص ما ينجز عليه من أشكال ويصيرها بمعنى من المعاني وبشكل تلقائي.
وفى الوقت الذي كان يتوجب عليه التوطن في معمار المدينة العربية القديمة وينسجم مع مكوناتها وخصائصها وقبل ذلك كله مع وظائف بناياتها، كان عليه كذلك ان يمثل يوميا فنها ويشهره للمارة .
كانت طبيعته العمودية ، القائمة مواجهة، وصرامته الهندسية تمنحه طابع الحامل المثال الذي يواجه الناس ، ان واحدة من خصائص الحامل التقليدي التي ينساها التعرف المذكور قبل قليل هي قدرته على المواجهة فلم تعتبر حوامل مثالية تلك البلاطات والأرضيات المنقوشة بكثرة في الكنائس والأبهاء الأوروبية القديمة وبعضها رائع الجمال ، ان الصرامة الهندسية "التي تليق بالاحري باللوحة" والمواجهة هما خاصيتان جديدتان علينا ادراجهما في عملية تحول هذا الباب من نشى OB- GETمبتذل إلى حامل فني، والى عمل فني بالنتيجة.
تنبه الباحثين الأوروبيين الأوائل إلى جماليات الباب العربي
لقد تنبه جملة من الباحثين والمستشرقين الغربيين في وقت مبكر إلى الأهمية التشكيلية للباب العربي، واجروا وصفا لها بصفتها بعضا من الفن الإسلامي فالفرنسي جورج مارسيه وهو واحد من أعمق المهتمين بالعمارة والفن العربيين ينشر في كتابة "تونس والقيروان" الصادر سنة 1937 صورة لباب غربي "مزين بالمسامير" على حد تعبيره بينما لا يفوت الفرنسي جاستون ميجون في كتابه "القاهرة" الصادر سنة 1909 نشر باب أثرى من أبواب العاصمة المصرية مشيرا إلى ان البوابة لسوء الحظ قد انتزع منها بابها الرائع ذا المصراعين البرونزيين اللذين قلعهما السلطان المؤيد لتشييد مسجده ص 64 وفى كتابه "النيل" المنشور بالفرنسية سنة 1937 ينشر الألماني إميل لودفيج بابا مصريا أخر (بين الصفحة 208-209) لا يقدم له من الأوصاف سوى كونه بابا في منزل مصري وتنشر المجلة الفرنسية "الوستارسيون L'ILLUSTRATION تحقيقين لها الأول عن اليمن (العدد 6450 الصادر في 16 ابريل 1932) بابا قديما، والثاني عن جبل الدروز في لبنان "العدد 4886 في 24 أكتوبر سنة 1976) بابين قديمين مختلفي الطراز تماما دون تعليقات تذكر وفي كتابه "المغرب" سنة 1937 ينشر الفرنسي ر. توماسيه مجموعة من هذه الأبواب يقدم عنها تعليقات مشحونة بالتفوق العنصري الاستعماري السائد في تلك الحقبة من قبيل "ان المغاربة المعلمين على أيدي الأسبان يظهرون سريعا البراعة مثل أساتذتهم في أشغال الخشب والحجر والمعادن باب من القرن السادس عشر ينتمي إلى دار البطة في فاس يمنح فكرة جيدة عن العمل المرهف للنحاتين المحليين ص 51 وتحت صورة أخرى يقول "هذا الباب العهود ينتمي إلى النمط الاندلسي المشيد في الفترة الأموية، تاج العمود فيه يمتلك خصوصية كبيرة كما ان حالته العامة تسمح بتذوق التفاصيل ص 74.
مقارنة بين أبواب أوروبية قديمة والأبواب العربية
لقد وجد الغربيون في الباب العربي حالة تختلف كليا عن حالة بابهم القديم ، ففي حين كان الأول يقوم بشكل أساسي بوظيفة محضة كان الباب العربي يستجيب لمتطلبات جمالية ورؤيوية في المقام الأول ، لم تكن العناية في أوروبا إلا للبوا بات الكبيرة الجليلة في حين ان ابسط الأبواب العربية وأفقرها كانت تشغل بصبر وعناية لم يكن الأوروبي يمنح للزخرفة على الباب إلا أهمية نسبية في حين ان العربي كان يشغل السطح طه بموتيفات فنه الإسلامي عندما يذهب المرء بنفسه لفحص بعض أبواب أوروبا كما فعلنا سيجد ان كتلة الخشب تظل طاغية ، أنها توحي بالثقل الروحي لأنها مصممة عمدا لكي تؤدي فحسب دورا محددا القليل جدا من تلكم الأبواب، ومنها باب في المدينة العتيقة في دانيون . السويسرية تحيل إلى رفاهية وتلقائية الباب العربي رغم ان موتيفاتها مختلفة تماما، جمال هذا الباب يجىء من تقشفه غير المعهود وتجريدية موتيفه التزييني.
في الدلالة الرمزية للأبواب
ان جماليات المدينة العربية الوسطى مازالت قائمة في المدن العربية العتيقة الواهنة، مازال الباب يعيد إنتاج نفسه ، فإن بابا ينتمي إلى مدينة سامراء العباسية "محفوظ اليوم في المتحف البريطاني" يظل يتشابه بعمق مع أي من الأبواب القائمة اليوم في مدينة القيروان التونسية "مبنية سنة 669-670م" من النواحي كلها خاصة من ناحية التصميم المستهدى بطرائق الفن الإسلامي، يمكننا بكل ثقة لهذا السبب الحديث عن "باب" عربي وإسلامي بالمطلق عن هذا النوع من الأبواب الذي لم يغير من طبيعته شيئا يذكر، إلا القليل منها عبر جميع التواريخ التي مرت على المنطقة عن باب تاريخي يروح ابعد من مظهره الخارجي ويصير رمزا حسب الباحثة الإيطالية "فيتوريا اللياتا" ففي عمان وحضرموت والجهة الإسلامية لأفريقيا الشرقية فان الأبواب تعتبر من الأهمية بمكان بحيث يجرى بناء المنازل بدءا أولا من إنشاء الأبواب ... كأن الكائن مسكون بهاجس آخر سابق على الهاجس المعماري الحيوي ثمة فسحة من التأمل الرمزي قبل أي أمر: فإذا كانت جدران المدن "العربية" تحدد الفضاء الداخل فان الأمر هو ذاته بالنسبة للباب "في البيت" ليس الباب في الأصل من الحجر أو الخشب ولكنه من الروح، انه غير معنى بالناس الغادين والرائحين ولكنه العتبة الرمزية للكون هذا النوع من الأبواب مازال موجودا في بعض قرى شرق الجزيرة العربية وفى أطراف الصحراء.
يتجاوز الباب منذ البداية هيئته المادية ويتعبا بالدلالة عبر شكله والأشكال المرسومة عليه يحترس المعماري منذ اللحظة الأولى التي يقوم بها بوضع المخطط العام لإنشاء الباب انه يبدأ من "العتبة" التي ترسم حسب الباحثة أعلاه : الحدود بين المداخل والخارج ... ويمضى حز اجل توكيد هذه الدلالة بإنشاء باب احتفاليMONIMONTAL بألوان ورموز تجلب الحظ السعيد... ان للباب الرئيسي خصيصة سحرية ... خصيصة رمزية وسحرية عليها، معماريا ان تعبر عن الإلهي عبر توتر عمودي يجرى الحصول عليه باستخدام تلك الأقواس ذات القمم المسمدة بالقوطية AOGIVE خاصة في المنازل المصرية لأنها ديكوراتها تصل حتى السقوف.
أية مدلولات ؟
يشكل الباب مفردة رمزية أساسية في الموروث العربي: حالة الانتقال من وضع إلى وضع جاء في الحديث النبوي مثل الرزق كمثل الحائط له باب فما حول الباب سهولة وما حول الحائط وعث ووعر، وفى الحديث كذلك "الوالد أوسط أبواب الجنة، أي أفضلها".
الباب بهذا المعنى قيمة رمزية يجرى تلويها كل مرة لحساب هم مقيم معين ، تصل ذروة التأويل لدى النفري الذي يكرس في "كتاب المواقف" الشهير موقفا للأبواب "وأوقفني في الأبواب إلى كلمات لكل باب ألف كلمة، كل كلمة منها موقف فيه.
ففي كل باب ألف موقف والأبواب بينك وبيني والأبواب لك إلى، ليس لى إليك باب، ولا بيني وبينك باب، أنت لى، والأبواب لى، فأنت والأبواب بين يدي أوقفك منها فيما أشاء ص 23. من الناحية المجازية فان الباب هو المعبر لى للآخر والمستهل إليه إما من الناحية الفنية فان الوضع الراهن في تشييد الباب العربي فهو امتداد لهذه الاستعارة البابية المتوطنة بعمق في الثقافة العربية الإسلامية وفى الفن الإسلامي كله التي تقوم على أساس تخزين المدلولات في أكثر الأشياء زهدا، وتظهر شكليا في الانهماك بتزيين وتجويد وتلوين البسيط وإخراجه من حالته الأولى المبتذلة النحاسية أو الخشبية أو الجصية إلى مصاف عمل فني تجريدي.
يشكل الباب من ناحية المصطلح الذي يشغلنا حاملا مثاليا ينقل المدلولات الرمزية وتصورات الفن الإسلامي الفلسفية التي طالما أشبعت درسا في بحرث كثيرة، انه المربع التجريدي المثال لممارسة الرسم العربي التجريدي، ظل الباب حتى اليوم حاملا لهذا الرسم ولكن بطريقة تنسجم مع وضعيته داخل المدينة، وضمن التقنيات اللونية والمادية المفروضة عليه، من قبل المناخ الجغرافي وكثرة الاستخدام بعيدا قليلا عن هذا البعد البرجماتيكى، إذا صح التعبير، يمكن تماما تخيله معلقا مثلا في صالة عرض واسعة ملائمة للتأمل بصفته عملا فنيا لوحة حاملا.
في تلك الصالة سيدرك المرء بجلاء بان هذا الباب يشتمل على الهندسي والمقدس كيهما انه المستطيل المنسوبة إليه في التأويلا الصوفية والغنوصية قدرات خارقة للعادة انه المربع المطلسم من حيث المبدأ ولكن المضافة إليه ، كما هو حاله في أبواب العمارة الإسلامية، جميع المزايد المعتبرة فنا صافيا، والمعروفة في أنواع فنية عربية وإسلامية أخرى سيخرج الباب بهذا المعنى من الحيز المعماري المحض إلى الحيز الجمالي المحض انه الدائرة الطقسية التي طالما تحدث ابن عربي عنها، سيصير حاملا، وسوف لن يعالج بالتالي في فصل العمارة ولكن في فصل الفن التشكيلي الإسلامي.
يرى المرء ان كل ضروب الفن ذاك موضوعة على الباب : النقش والرقش والزخرفة والخط والأشكال النباتية وغيرها، كما ان هاجس التجويد والإتقان حاضر بدوره عليه، ولن ننسى بالطبع فنون الترصيع والحفر التي هي ميزة من ميزاته الشكلية حول تقنية صناعة الباب يذكر عبدالرحيم غالب بان "أرقى ما وصل إليه صناع الخشب هو استغلال القطع الصغيرة وتقطيعها بأشكال هندسية مختلفة وتشبيك بعضها ببعض بتوزيع متين بديع تجمع في ما بينها "اطر" و "خيزرانات" مما يرفع عدد القطع التي يتألف منه المصراع الواحد أحيانا إلى المئات وكلها مخرمة ومحفورة، مرصعة ومنزلة بمختلف المواد من صدف وعاج ونحاس ، أو ملونة بتقنيات وألوان انفرد بها الفنان المسلم ويذكر المقرى التلمساني ان منبر المسجد الجامع في مدينة ترطبة الضائع اليوم كان مصنوعا من شتى أنواع الخشب : الساج والأبنوس واليتم والعود وانه كان مكونا من (ستة وثلاثين ألف وصلة ) إما الوصلة فهي كما يشرحها د. محمد عبدالعزيز مرزوق فهي الحشوة وما يعبر عنه بالإنجليزيةPANEL بأنها ابتكار من "الفنان" المسلم في مصر في القالب ثم ذاعت في بلاد العالم الإسلامي وهى تقوم على تجميع الوصلات أو الحشوات بعضها إلى بعض وتعشيقها في بعضها البعض ، وقد كانت الوصلات الخشبية في أول الأمر كبيرة الحجم ثم أخذت تصفر بالتدريج حتى أصبحت الوصلة الواحدة لا تكاد ساحتها تتجاوز السنتيمتر المربع كما يرى من جهة أخرى بأن هذا الابتكار قد جاء تحت ضغط عامل الطقس والفقر: إما الجو فقد كان يجعل الخشب يتمدد شتاء ويتقلص صيفا (......) ولاحظ النجارون المسلمون ما ترتب على استعمال الخشب قبل تمام جفافه من تشويه واعملوا فكرهم للتغلب على ذلك حتى اهتدوا إلى فكرة الوصلات أو الحشوات التي استطاعوا بواسطتها ان يتركوا فراغا صفيرا بين كل حشوة وأخرى تسمح بالتمدد وتحول دون التقوس وبالتالي دون التشويه ..
حامل يستلهم تقاليد الفن الإسلامي: ففي باب من مدينة صنعاء يمكن تلمس التكرار الشكل المتمثل في رؤوس المسامير الكبيرة "النقاط" دائرية القمم التي تتكرر أفقيا بصفوف عشرة ورؤية الخطوط الكوفية التي تزين أعلاه، بينما يحتفظ جانباه بنقوش تزيينيه توائم بين ما هو هندسي وما هو نقشي وفى باب يمكن ان نواه في مدينة جدة يثقل الباب الحامل بالنقوش التي لا يوفر الفنان مساحة دون ان يشغلها توحي في المساحة السفلى من الباب بأشكال وجوه آدمية على طريقة كثير من الخط العربي الذي يستخدم الخط لكي يرسم به شيئا ادميا، هذا الباب في الحقيقة هو صفحة تشكيلية غنية غرافيكيا بالخطوط متوازنة شكليا ثمة مستطيلان متماثلان يعلوان مستطيلين آخرين متماثلين بدورهما، يفصل بينهما خط هابط من أعلى الباب إلى أسفله من ذات الطبيعة الشكلية لزخارف جانبي الباب إما في الباب العباسي المشار إليه آنفا يصير الحفر على الخشب ، التجريدي سمة بارزة، وهو يبسط حاذقا، أشكاله الدائرية وشبه الدائرية المحكمة والصافية وفى باب مغربي "فاس ، القرن الرابع عشر، الارتفاع 443 سم" نلتقي بفكرة الحامل واضحة كليا حيث تحضر مرة أخرى جميع ضروب الفن الإسلامي على هذا الباب، ثمة شكلان هندسيان أساسيان ، الدائرة رمز الكون الدائري، القبة الكونية، والمربع الطلسمي المكتنز بالدلالات السحرية ، ثم ثمة النقوش الفنية الرهيفة والدقة التقنية في صناعة الخشب المعشق ، المثبت بطريقة "النقر واللسان" دون ان ننسى الألوان: الأزرق، والأحمر والأخضر والأصفر الصافيات المهيمنات غالبا في الفن الإسلامي ولا الكتابة الكوفية التي تلعب هنا دورا بصريا يضفى على الأشكال الأساسية الحيوية ويحيطها بالجلال .
يطلع الباب من التقاليد ذاتها ففي باب في احد القصور الإسلامية في مدينة اشبيلية يلاحظ سمير الصائغ بان تخطيطات زخرفته قد جمعت بين اسلوبى الخيط والرمى الخيط في الأشكال الهندسية البارزة والرمى لمل ء المساحات الداخلية لهذه الأشكال كذلك يمكن ملاحظة الخط الكوفي القريب من أسلوب الخيط وتوريقه الذي يعتمد أسلوب الرمى، والخيط والرمى هما المصطلحان التراثيان اللذين يراد بهما التعبير عن الخط المستقيم وما يدور في فلكه بالنسبة للخيط بينما التعبير عن الخط المنحنى وما يدور بفلكه بالنسبة للرمى ان هذين الخطين "سيتكرران في جميع أنواع الفن الإسلامي بما فيه العمارة والنسيج".
يستشهد الباب بالممارسات الفنية الإسلامية المعروفة ، ويعرضها في الحياة العادية للكائنات، ان انفصال الفن الحاسم للفن عن الممارسة اليدوية أو الاجتماعية لم يحدث في أوروبا مثالنا ومشكل ثقافات العالم اليوم ، ويتحول إلى موضوع قائم بنفسه إلا في وقت متأخر نسبيا إما الحال في العالم العربي فان انقطاعا مثل هذا لم يحدث ربما أبدا مؤديا اليوم إلى نتائج سيئة لم يكن الموضوع الجمالي البصري يمتلك إلا حيزا غامضا في الحقيقة لأنه كان يعاش في المكان بمثابة حقيقة لا تستاهل عناء التبصر النقدي كان واقعا لا نستطيع الحكم على لحظته بالسلب أو الإيجاب ولكننا نستطيع ان نفعل اليوم ستسائلين لماذا يستمتع مشاهده الراهن بسجادة تجريدية وهباب تجريدي ولا يستطيع بالمقابل الاستمتاع بلوحة تجريدية معاصرة ؟
سنتكلم منذ الآن فصاعدا عن سطح تشكيلي عند الحديث عن الباب، لكن يمكن الحديث عن جمالية هذا الباب واختصارها بأنه سطح يتميز بسمات الوضوح والصراحة والبساطة علينا التفريق هنا بين نوعين من السطوح ينبسط الأول ويتبسط إلى حد لا يتبق منه سوى لوح خشبي مقوس أو مربع، ملون غالبا بلون صريح تماما كالأزرق والأخضر والأصفر وليس الأحمر الصريح الذي يجرى استبعاده من سطح الباب كأنه لا يتماشى مع طبيعته، والذي هو مستبعد من جهة أخرى بصفته سطحا مهيمنا في الفن الإسلامي "سوى ربما في السجاد" إما الثاني فهو سطح أكثر تشابكا وامتلاء بالنقوش والكتابات لكن تشابكه هذا لا يبعده كثيرا عن سمة الوضوح طالما انه لا يفعل سوى استحضار وإعادة قول النسق الفني العام الذي يطلع منه ، ان الأبواب التي تتخلى عن وفرة الزخارف إنما تفعل لصالح "نقطة" واضحة مكرورة على الباب هي قاعدة عامة في الفن العربي لا مجال هنا مع الأسف الشديد لتناول نظرية "النقطة" في الفن الاسلامى التي تمتلك حيوية مطلقة في فهم وتأويل حضورها الكثيف على الأبواب العربية إننا نلاحظ ان النقطة تتكرر في أبواب المدن العربية القديمة كما في مثال الباب الصنعاني المذكور ويجرى إشهارها تقنيا عبر رأس مسمار حديدي كبير ثم يجرى اللعب بها لتشكيل الرفرفة المراد إظهارها دائما ضمن خلفية لونية آحاديةMONOCHROME دورها خلق تضاد لونى عام يسم المشهد: النقطة الحديدية سواد، تعوم في لون واحد صريح اصفر أو ازرق.
يستخدم اسود المسمار "النقطة" اذن بوفرة من اجل خلق التضاد وتستخدم لهذا الغرض كذلك عروتان حديدتان بمثابة جرس قبل الدخول إلى الدار من نفس اللون، عروتان "أو حلقتان" لهما شكل دائر، منحن، إلى جوار كرتين معدنيتين يضيفان على مرأى الباب المزيد من البلاستيكية.
إما الأبواب الفخمة القائم جمالها على الترصيع والتعشيق الصعب التنفيذ والغالي الثمن، وعلى أساس حفر دقيق على الخشب فقد ظلت تستخدم، بشكل أساسي في البلاطات والمساجد المهمة، معلنة تعقيدا بالغا في أشكالها واحتشادا بزخارفها الهندسية والنباتية ينسجم مع طراز العمارة المعقد الذي تعيش وسطه ، يمكن القول بثقة ان باب المارستان النوري في دمشق (1154م) الموجودة صورة لبعض تفاصيل تعشيقاته في كتاب عبد الرحيم غالب ص 75، لم يكن بابا شعبيا واسع الانتشار، وان جماليته تنتمي إلى ذلك الطراز من الجماليات الأرستقراطية المحصورة في بيئات وطبقات معينة ومثلها أبواب ضريح الخوجة احمد الاصفي في كازخستان "احدها مؤرخ بسنة 797 الهجرية أي 1394م" ويسمى نعيم بيك نور محمدوف وهو مؤلف كتاب عن الضريح يمكن رؤية صور إجمالية وتفصيلية للأبواب هذه فيه، (صانع بعضها خاصة الأبواب الخشبية لما يسمى بالغرفة البرونزية وقبة الضريح وهو الفنان "سفر"..) التي يقول المؤلف عنها بأنها فريدة في جمالها ان النقش على الخشب كان سائدا في آسيا الوسطى منذ وقت طويل حيث استخدم في عمل هذه الأبواب حسب الجوز والعرعر والدلب والحور... باب الضريح منقوش ومزخرف بترصيع من العاج الدقيق . ومحيط الباب ينتهي بحديد وبكتا بات ذهبية، وفوقه ثمة حجر بكتابة تقول ان الباب مبني من قبل الأمير تيمور" انه باب أرستقراطي، عال، مبنى لأصحاب البلاطات وهو يكشف عن "تعقيد" ذى مهمة محددة إعلان هيبة الحضرة أو البلاط الذي يوجد فيه . تعقيد لم يكن دوما سمة لهذا الباب بينما كانت الأبواب الشائعة في المدينة العربية القديمة، ومازلت تنحو نحو بساطة خلاقة وهى تعلن هيبة من نوع آخر قادمة من مكانين من ضخامة خشبة الباب نفسه، المسماة "احتفالية" لدى مؤلفتنا الإيطالية، غير المنتمى إلى التعشيقات الصعبة ولا الترصيعات المزخرفة وثانيا من انتشار اللون الواحد اليتيم على ساحته وهو يحاول بهذا الانتشار نفسه، الإيحاء بجلال ابسط ولكن ذو عمق لأنه يسجن العين في الوحدة اللونية، وفي تشابه عريض.
ثمة أبواب لعلها تشكل جسرا بين هذا الباب البسيط وذلك المقعر الصعب، هي تلك الأبواب المحفورة الخشب التي لا تذهب ال الإفراط ولا إلى التبسيط المتناهي لقد تحدثنا عن باب سامراء غير ان ثمة أمثلة أخرى كثيرة قديمة وحديثة، من بينها احد أبواب جامع القيروان الذي يبدو ان جماله يأتي من طريقة العمل عل الخشب الرهيفة، الصبورة، ومن استطالته ومن كمية الكائنات المحفورة على خشبه وربما من لونه الكستنائي الغامق ثمة أبواب معاصرة تقتصد في حفرها الخشبي وتظل تحتفظ بموتيفات مبسطة هندسية أو اقل هندسية مازلت صناعتها قائمة سوى ان من الجل ان انحطاطا كبيرا قد أصابها مع تدنى المستويين الثقافي والاقتصادي حيث لا يسمح الأول بتقدير قيمتها الجمالية ولا يسمح الثاني بدفع المبالغ اللازمة لتنفيذها لم يكن هذا الأمر في متناول الجميع، يقدم د: غالب وصفا للباب العربي ربما يساعد في تقدير حجم الجهد والمال اللازمين لتنفيذه "يتألف الباب من صندوق أو إطار يثبت في الجدار، ومن "حاجب" يخفى خطوط الالتصاق بين الحائط والباب ومن عدد من المصاريع، تزداد وتنقص حسب اتساع المدخل ويخفى خط التصاق المصراعين "انف" يثبت في احداهما ويتكون المصراع بدوره من إطار وعوارض تتخللها حشوات منجمة أو مضلعة تصفر وتكبر وتزداد "حلياتها" أو تنقص حسب الميزانية المرصودة وللباب عادة عتبة عليا تسمى "الساكف" وسفل هي "الاسكفة" أو "البرطاش" بالعامية وتتنوع "المزاليج" و "المفاتيح" و "الأقفال" و "الساقوطات" و "المطارق" من الشكل الوظيفي البحت، إلى أعلى مستوى من روعة التصميم ودقة التنفيذ وارتفاع الكلفة وأحيانا إلى مبالغ لا يمكن ان يتصورها عقل بل إلى مجرد تصميمات شكلية للأبواب دون أبواب حقيقية في ذلك الباب المسمى بـ "الباب المبهم أو المصمت" الذي يعرفه غالب بكونه "باب لا يهتدي إلى فتحه أو هو شكل تزييني له هيئة الباب ولكنا جدار غير نافذ" منزلقين معا كلية من الوظيفة المحضة إلى الجمال المحض.
تتبقى الصدارة اذن للباب الواضح الرخيص وهذه الأبواب تقع في مرحلة وسطى بين الفن الأرستقراطي الفأل وبين الفن الشعبي بينما يستمد البعض منها جماله من "وحدة المادة الخشبية ووحدة اللون" فحسب أي من حالة الشكل الفطري الذي لم يجر الا القليل من التشذيب فيه والتدخل عليه احد الأبواب المنشورة هنا هو مثال دال على ذلك فهذا الباب الأصفر اللون يظل يمتلك "شيئا" محببا عصيا على الوصف قادما في الغالب من حالته البدائية ، من لونه الأصفر البدائي من طلوع المربع "الباب الصغير الهامشي" في داخل القوس الكبير الذي هو كلية الباب، من المزلاج المثبت ليس من الداخل وإنما المطل على المدرة من لون المزلاج الغامق المتعارض مع اللون الفاقع للباب، من المكان الغريب الذي يحيطه وربما من ذلك كله في آن واحد.
لا يمكن إدراج هذه الأبواب ضمن الفن الشعبي تماما، فهذا الفن الأخير يمتاز ضمن أشكاله التعبيرية التشخيصية على وجه الخصوص بمخيلة قادرة على تبسيط المفهومة الكونية، البطولة أو الحب أو غيرهما إلى أشكال وصور أولية تشي بالسذاجة والطرفة وتفضح تقنيات مبسطة واقل تبسيطا دون ان تكون التقنية هاجسا اصليا لديها ان تتميز ببسط الخارق والاسطورى إلى مستوى وعيها التبسيطي بالعالم ، وتحميله بالتالي ألوانا زاهية مجانية تقريبا أنها تلون محا لمها بدهانات صارخة وألوان أساسية ولا تهتم بالقوانين المدرسية وشروط العمل المتعارف عليها في العمل الفني كما أنها لا تمنع مرات الكثير من الاعتبار للوحدة الشكلية في إنشاءاتها COMPOSITION يرسم السوري أبو صبحي التيناوى (1888-1973) عنترة ممتطيا حصانا دون ذيل، لأنه لم يجد مكانا فوق سطح اللوحة لرسمه، فرسمه في أعلى اللوحة وكتب "هذا الذيل لهذا الحصان" قبل ذلك كان أخوان الصفا يتحدثون في نص مهم مجهول في سياق حديثهم عن قوة المخيلة ، إلى ما كان ينتجه الرسامون من رسم فوق واقعي "مثال ذلك ان الإنسان يمكنه ان يتخيل بهذه القوة جملا على رأس نخلة أو نخلة ثابتة على ظهر جمل، أو طائرا له أربعة قوائم أو فرسا له جناحان ، أو حمارا له رأس إنسان وما شاكل هذه مما يعمله المصورون والنقاشون من الصور المنسوبة إلى الجن والشياطين وعجائب البحر مما له حقيقة ومما لا حقيقة له.
مثلما لم يفوتوا الفرصة في أكثر من موضع في ذكر "التصوير والتنقيش والتصبيغ" والتصاوير والنقوش التي على وجوه الألواح وسطوح الحيطان" أي على الأبواب نفسها يختلف الفن الشعبي عن غيره بهذا كله كما بتفارقه الأسلوبي، الجوهري مع الفن التجريدي العربي الإسلامي إننا نتحدث عن باب تجريدي، يمكن فيه ان يلوح كذلك هاجس تقنى ضعيف وتبسيط لونى ففي باب "حمام القشاشين" في المدينة العتيقة في العاصمة التونسية يود قوس الحجر أعلى الباب، جاهدا الاستهداء بهذا النمط من الطرازات المسمدة بلقاء، أبلق BATIMENT STRIE DE DEUX COU-
LELJRS التي يتعاقب في جدارتها مدماك قاتم وآخر فاتح والمستخدم في الزخرفة المعمارية متناسيا رهافة التلوين القديم منهمكا بطلاء صارخ يظهر فيه الأحمر صارخا من بين مرات قليلة على الباب الذي أعيد كلية رسمه من جديد، ويظهر التلوين في النهاية اقرب إلى ألوان الفن الشعبي منه إلى الألوان الرصينة ان تقاليد الطلاء بالدهانات هي تقاليد قديمة في ارث المنطقة كانت الألوان الأساسية المستخدمة هي نفسها تقريبا وكانت مشكلات تثبيتها هي نفسها تقريبا، إننا نقرأ في نص طريف لابن دقماق انه في مصر "سنة 257هـ (وهى تعادل سنة 870 الميلادية) زمن احمد بن طولون اشتد الحر على الناس ... كان الحاكم قد أمر بان تدهن هذه العمد بدهن احمر أو اخضر فلم يثبت عليها فأمر بقلعة ونقرأ في نص أخر بأنه قد جرى في مصر نفسها سنة 687هـ أي سنة 1288م دهن واجهة غرفة الساعات بالسليقون والسيلتون أما السلاقون هو الرصاص الأحمر أو أكسيد الرصاص الأحمر وما يسمى بالإنجليزية RED LEAC و MINIUM .
هكذا يبدو بأن الفن الشعبي قد امتد تأثيره في الفترات المتأخرة ليتدخل في طبائع الأبواب القديمة نفسها وهو يمرر طبقة لونية جديدة على الطلاء القديم بل ليرسم أشكالا تشخيصية على الأثر الأصلي كما في ذلك الباب التونسي الذي اعتبره الفنان الشعبي لوحته عن جدارة وصار يرسم على ب نبيه وعلى "آنفة" أشكالا نباتية محاولا الانسجام مع أثرية الباب وموقعه وهيئته و لكن بوضع ذات الألوان الشعبية الصارخة الأحمر ثانية على خشبة الباب الرئيسية محاطا بشريط عريض ازرق، مطعمين بقليل من الأبيض في رسم الأشكال النباتية لونان أساسيان صريحان، صارخان ، تدخل يشي بالأحرى بفن شعبي ليس بالضبط من ذات الطبيعة التاريخية والفنية للباب على الرغم من نواياه الحسنة في تجديد عمر الباب واحترام خصوصيته.
المصدر : مجلة (نزوى) عمان - العدد2
أقرأ أيضاً: