طلال معلا
(سوريا/الإمارات)

تشارلز بلجريفكانت وما زالت الصورة في البحرين على ارتباط وثيق بالايقاعات الموسيقية، وبالتطريب اللوني الذي يمنح هذا المحترف خصوصية تمتد عميقاً في التاريخ الحضاري، مما يبرز الذاكرة كمركز تأتلف حوله جملة المنطلقات البصرية المتواترة منذ منتصف القرن الماضي،
حيث بدأ الفنان التشكيلي البحريني يتلمس خطاه المعاصرة اعتماداً على تجربة مشرقية سبقته في خوض هذه المغامرة، إذ تمكنت "أسرة هواة الفن" في الخمسينيات ان تأتلف لترسم بيئة البحرين بعد ان تمكنت تجارب "تشارلز بلجريف" للفنان الإنجليزي العابر ان تؤثر في إبداع اللوحة بمفهومها الغربي في الحاضن البحريني، والذي تمكن المصري عبدالرحمن مرزوق ان يقيم له أول معرض تربوي العام 1952 في ثانوية المنامة لتبدأ ريادة التشكيل البحريني الذي بدأ الخروج من التقليدية السياحية إلى عوالم اللوحة المعاصرة التي تعيد صياغة الرؤية في إطار الفهم الحي للمكان والبيئة وروح الانسان الذي تحتضنه الميثولوجيا وصراع القدر في جزيرة بحرية تركت خصائص وجودها على أعماق المبدعين فزادتهم متانة وتنوعاً.

نادي بابكو، عبدالكريم العريض، راشد سوار، راشد العريفي، ناصر اليوسف، قصر القضيبية، معارض السني والعريض والخنجي والزباري، معارض الربيع، صالة ومحترف العريض، جاليري البانوش وصالات وعروض تستمر لتؤسس لوحة المحترف البحريني موقعها في التشكيل العربي بعد ان حققت ريادتها الخليجية، وإذا كان التشكيل في البحرين يمتد إلى ما يزيد على النصف قرن، فإن العقود الثلاثة الماضية شهدت دون شك تطوراً ملحوظاً في حركة الفن التشكيلي، واحتلت التجارب الفنية مواقع متقدمة في مسيرة الثقافة العربية الحديثة بنتيجة الجهود الحثيثة للمبدع التشكيلي رواداً ومحدثين عبر إنجازاتهم البصرية والفكرية في ميادين هذه الفنون، وبما يتكامل والعطاء الثري والمقدر للإنسان البحريني في تفاعله مع المنجز العربي والإنساني والقيم الحضارية في الثقافات المختلفة، فهذه الجزيرة تمتلك مقومات حضارية ومعرفية تجعلها تستشرف المستقبل اعتماداً على تشارلز بلجريفماض حضاري كان له أكبر التأثير في الحضارات المجاورة وخاصة في المجال الفني، الذي ترك تراثاً صورياً هاماً بدءًا من الأختام الدلمونية المعروفة.

اليوم ترعى الدولة في البحرين الثقافة بصفة عامة، والفن التشكيلي بصفة خاصة وعلى مدى ثلاثين عاماً هي عمر المعرض السنوي للفنون التشكيلية الذي تحتفل البحرين ببلوغه هذا العمر والذي تحرص وزارة الإعلام على إقامته بانتظام باعتباره المعرض الأكثر دلالة على الحركة الفنية، وما فيها من تطلعات قد حققت للفن التشكيلي هذا التجذر الواسع في الحياة الثقافية، والحضور المميز والسمعة الطيبة التي تحققت خليجياً وعربياً وعالمياً، بما يملكه من أسماء فنية تفاعلت وتعاملت مع العديد من التيارات والتوجهات الفنية المعاصرة، الأمر الذي جعل مثل هذا الاهتمام بالمبدعين والإبداع مكملاً لأدوار أخرى يلعبها المثقف لإعطاء الثقافة مكانتها الحقيقية بوصفها بعداً أساسياً من أبعاد عملية التنمية الشاملة للمجتمع.

المحترف البحريني متماسك يمتن صورة التشكيل الخليجي، ويقدم لغة تواكب ما يجري في المنطقة العربية والعالم، والتي تعلو لهجة تميزها كلما زاد الاحتكاك فيما بين المبدعين وكل ما يجري حولهم بعد ان امتلك هذا المحترف شخصيات أسلوبية محددة ومتميزة استطاع المبدع التشكيلي البحريني المبتعث للدراسة أو المشاركة في الأنشطة العامة العربية والدولية ان ينقل سمات التشكيلات الجمالية في الخارج وان يطوعها في مسار وتوجه الحركة العامة في بلده، ولهذا فليس غريباً ان نلمح تأثيرات عربية من مصر وسوريا والعراق وتأثيرات غربية أو أوروبية أو أمريكية، الأمر الذي أضاف إلى الوحدات الجمالية المحلية ما يغنيها ويجعلها أكثر تعاملاً مع الحلول الشكلية والمضمونية، وقد استطاع الجيلان، جيل الرواد، وجيل المحدثين أن يؤمنوا تراكماً وإنجازا يحتاج للدراسة والتأريخ والتوثيق والتحليل، وهو الأمر الذي يحتاج ندوة متخصصة على المستوى العربي يكون موضوعها التشكيل البحريني، بعد ان وازت المعرض الثلاثين ندوة لدراسة واقع وآفاق الفن التشكيلي العربي والتي تطرقت في بعض جوانبها للمحترف البحريني عبر دراسة فنان تشكيلي بحرينيوحيدة للناقد أسعد عرابي عنوانها "خارطة المحترف وذاكرة المكان، التشكيل البحريني بين مد وجزر" وقد حاول عبر جهده ان يلم بأطراف التشكيل البحريني منذ التأسيس إلى اتجاهات الحداثة وما بعدها، منوهاً بأهم التجارب التي درس أصحابها في القاهرة كالمحرقي والكوهجي والعريض الموسوي وغيرهم، والذين درسوا في بغداد كالسني ومحروس واليماني وبوسعد، والذين درسوا في دمشق كالمحرقي وغضبان وخميس، ويذكر.. حمل هؤلاء مخاضات النهضة، وتجارب وجدل الحداثة من الأقطار الثلاثة، وذلك على غرار ما حمله عبدالله المحرقي من حساسية رمزية ترتبط بالميتافيزيقية والسوريالية المصرية، فهو الأقرب إلى منهج عبدالهادي الجزار، ثم ما حمله عبدالجبار الغضبان من احتدامات التعبيرية السورية ومفاهيمها عن مركزية الانسان في الفضاء التشكيلي ثم ما ذكرناه عن علاقة ابراهيم بو سعد بالمدرسة البغدادية خاصة من الناحية التعبيرية الجرافيكية.

ورغم ما يذكره النقد عن التأثيرات الخارجية على المحمل التشكيلي البحريني، وما يتداخل والنبرة المتميزة لخصائص الذاكرة، إلا ان أحداً لا ينكر موقع فنانين كالشيخ راشد آل خليفة وعبدالرحيم شريف والراشد وبلقيني فخرو وأنس الشيخ وجمال عبدالرحيم وغيرهم ممن استطاعوا ان يكملوا أدواراً كالدور الذي لعبه بوثوق الفنان د. أحمد باقر والذي درس في فرنسا مع عدنان الأحمد، إذ نرى تأثير باقر ليس على المحترف البحريني وحسب
وإنما على غيره من المحترفات التشكيلية الخليجية بما استطاع ان يولفه للروح المحلية وهي تتزين بالخبرة الوجودية الغربية ليزداد المشهد صلابة وضبطاً ويمنح المحترف التشكيلي البحريني علامات جمالية ملفتة للانتباه فيما حققته هذا العام الفنان منيرة الجلاهمة عبر إنشائها التنصيبي الذي أجمع على تميزه مختلف النقاد الذين كانوا ضيوف هذه الدورة، مشيدين باحتفائها البيئي وهي تضيف للمبدع البحريني موقعاً متميزاً على خارطة التشكيل العربي، لتقدم دورة المعرض العام الثلاثين توجهات حقيقية للذات التشكيلية البحرينية المبدعة وهي تؤكد دورها في حماية الكيان والثقافة العربية، وبما يؤكد على تماسك هذه التوجهات لصياغة مشروع بصري ومحترف متماسك بتقاليده وشخصيته فمعرض هذا العام قدم الفنان محمد المليحيحوارية مسموعة تشتمل على لغة حوار إنساني عالية السوية ورؤية متميزة لمعاني الصورة التي ينتجها المبدع العربي، وإذ تعددت أنواع العرض فاشتمل المعرض على أغلبية تصويرية فإن النحت والحفر والتنصيبات الإنشائية لم تغب إضافة إلى حضور واسع للمبدعة التشكيلية البحرينية أكدته مشاركاتهن الواسعة والتي يشار بحق إلى تميزها ورقيها.
كما ان الندوة الموازية أفسحت مجالا رحباً للنقاش في قضايا الفن التشكيلي العربي بعمومه والبحريني بخصوصه حضرها النقاد: علي اللواتي من تونس والفنان محمد المليحي من المغرب وأسعد عرابي من سوريا وشربل داغر وسمير صايغ من لبنان، وفاروق يوسف ورافع الناصري من العراق، وحميد خزعل وعبدالهادي الوطيان من الكويت، وعادل السيوي وآدم حنين وجورج بهجوري من مصر، وأحمد باقر من البحرين وهشام المظلوم وطلال معلا من الإمارات، وسأقوم لاحقاً باستعراض أعمال هذه الندوة المتميزة.
جوائز هذا العام استحقها المبدعون د. أحمد باقر، جائزة الدانة، الفنانة منيرة الجلاهمة، جائزة لجنة التحكيم للعمل المتميز، كما حاز كل من الفنانين علي مبارك ومهدي البناي وعبدالرحيم شريف على جوائز تقديرية، أما الفنان يوسف قاسم فاستحق التكريم لريادته وقد أكد الفنان ان هذا التكريم تكريم للفن التشكيلي العربي وللإبداع والتميز.

البيان الثقافي-الإمارات