• نهر الليثي:
هو نهر النسيان في الأساطير الإغريقية، وذكر الكثير من البحاث أنه يمثل العالم السفلي أي: دار الموتى كما ورد في الأساطير الإنسانية.
ويكتب نهر الليثون، ويذكر البحاث أيضا أن هذا النهر يوجد في مدينة هيسبريدس مدينة بنغازي الحالية ـ كما تصفه الأساطير الإغريقية.
وقد أشار المؤرخ الليبي محمد بازامه أن موقع نهر النسيان كما يعتقد هو ما يعرف بالجخ حاليا حيث يوجد كهف عميق تجرى فيه مياه لم تحدد مصادرها.
• وهناك حي شهير في مدينة بنغازي يعرف اليوم بحي الليثي.
شطبت من نسختي المعتمدة
نصف الذي كتبت في المسودة
شطبت من مسوداتي الأصلية
نصف الذي كتبت في نسختي الرملية
لكنني . . .
من قبل
أن أنقل ما خططت
في هذه البطاح
تسبقني الرياح
تمضى بما كتبت.
سعيد المحروق
جففت رياح القبلي ما كان فى أبار قبيلة البسلى من مياه، فتركتهم ولا ماء لديهم بالمرة لأن ديارهم كانت كلها ضمن صحراء خليج سرت الكبير، ونتيجة لذلك انعقد مجلسهم وقرر بالإجماع إعلان الحرب على رياح القبلي، فساروا فى الصحراء حيث عصفت بهم تلك الريح، ودفنتهم في الرمل.
هيرودوت
إن مسألة المنهجية فيما يخص الأدب، ليس لي عنها تصور واضح وثابت، لذا سأقول كما يقال عادة عند التواضع، إنني أبحث عن نفسي.
عبد الفتاح كلييطو
نبحث عن هذه الذات التي لا نعرف أين توجد بالمعنى الصحيح للكلمة؛ هذه الذات التي تظهر متنكرة بأقنعة التاريخ .
داريوش شايغان
أعنى أفهم السر
وأفهم بالذات أن المرء أحيانا يخدع نفسه طائعا ببعض الفلسفة ويهرب من "سوق الجمعة" بحثا عن الفردوس، يركب رأسه من باب الملل من نفسه ويعلق ذنوبه فى عنق سوق الجمعة ويتخذ قرارا نهائيا جدا بالبحث عن جنته الضائعة ثم يجد المفتاح جاهزا على مقعد أول قطار متجها للغرب يصادفه، ويسارع بمد مخالبه قبل أن يذكر اسم الله ويفتح باب الجنة على مصراعيه، إذ ذاك، إذ ذاك يرى بعيني رأسه أنه يفتقد سوق الجمعة.
ادق النيهوم
كنت أتجول بدراجتي وما لبثت أن أخطأت الطريق.. توقفت عند دكان صغير وسألت صاحبه عن أقصر طريق إلى ونشستر، فما كان منه إلا أن سأل آخر لم أكن أراه وإن كنت أسمع صوته:
ـ ما أقصر طريق إلى ونشستر.
ـ ونشستر؟.
ـ نعم.
ـ أقصر طريق!.
ـ نعم.
ـ لا أدري.
تلك هي الفلسفة.. أن تفهم السؤال والإجابة، فثمة من سوف يعنى بأمرها.
براتـند راسل
أغرس خطوتك في عتمة بيتك وأزح عن رأسك قتامة السقف الذي ظفرته سلطة نص شائع واستضيء بشمسك أنت.
عفيفي مطر
ديباجة
ليست الحداثة ليست أسلوبا فقط بل هي بحث عن أسلوب بمعنى فردي موغل في الفردية فالإيغال في الفردية ليس هو هوية حداثوية، ولكن سمة من سمات هذه الحداثة التي هي على النقيض من أي إيغال في الوثوقية، وعليه فالباحث الجاد هنا والآن، باحث يبحث عن ذاته، عن معنى لهذه الذات أو معنى الكيان باستعارة إصطلاح عبدالله القويري، ويكون المعطى الأول لمسألة البحث هذه أو بتعبير آخر مقدمة البحث هو الإغتراب الذي ينشأ حينما يطرأ تغير في مفهوم شخص ما عن ذاته، إنه ليس شيئا يفعله المرء أو النتيجة المقصودة لتصرف صدر عن عمد، فالمرء يجد نفسه وقد حل هذا الوضع بساحته على حسب قولة هيجل، أو كما قال إبراهيم الكوني: (كان هذا الحافز التعس هو الغربة! لا أعلم عما إذا كانت غربة نفسية أم اجتماعية أم ثقافية، كل ما اكتشفته أنه غربة والسلام الغربة التي تقتلني وتعذبني وتمسك بخناقي طوال سنوات الوعي دون أن أجد حيلة في مواجهتها غير الكتابة.. أنني أكتب كي أدفعها عني فحسب، لقد أمست الغربة جزءا مني، تعيش في داخلي، وتتشبث بحذائي، وتختفي في جيوبي، وبين طيات ملابسي، وتركض فوق أوراقي، وعملية محاصرتها لا تتم إلا بأداة عظيمة وحاسمة هي: الفن).
وهذا كما يبدو لي ما يجد الباحث الجاد نفسه فيه وهو ذات الوضع الذي جعل عبد الله القويري ملتبسا في سؤاله حول مفهوم الهوية في إطار الخاص، وتعين هذا المفهوم في خاص بعينه، ويعمل هذا الإنشغال وهذا الاشتغال فى النتيجة إلى نقض الخاص المعين لتظهر المقولة الأساسية حول مفهوم الهوية دون هوية؛ أي دون محددات.
إن البحث عن هوية ثقافية ليس كلاما يمليه احتلالا مباشرا، أو تضاد إثني في مكان واحد، بل يخص بناء الفرد لروحه ولذاته معا في أي ظرف أو أي مكان، وفي هذا البحث فإن الحداثة بسبب قدرتها تقلب فضائنا الطبيعي، بلا رحمة ولا شفقة، وتصنع قوالب عالمنا الإدراكي، ومن هذا الإدراك فإن الهوية الثقافية يمكن أن تتحول للآسف إلى وهم أو إذا شئنا، إلى صورة مزيفة للذات. وإذا كانت الحداثة وكانت الهوية كما يبدو على طرفي نقيض فإنهما أيضا الأطروحة والمرفوع بالمعنى الجدلي وهذه العلاقة تكون كما القصيدة (لا يجب أن تعنى بل أن تكون)، وإذا كان الشعر هوية الغموض فإن ما نضرب فيه هو العتمة الواضحة والجلية والعارية من كل يقين، والواضح فيها أنها مسألة شائكة؛ أن يكون المرء وهو يبحث في الموضوع يكون يبحث في الذات عن هذه المسألة التي تفرض منح أنفسنا المزيد من الحرية في التعبير عنا، وأن ما نواجهه لا يمنحنا أي امتياز ولا يشكل عقبة تتميز بالخصوصية.
أننا حين نتحدث عن الحداثة نتحدث عن الخصوصية يجيء من (أن الحداثة أمرا واقعا لا يمكن نكرانه ولا رده، وبشكل خاص، لا يمكن الإحاطة به، فالتقاليد في صورتها الراهنة، لم تعد التقاليد التي كانت، والإلتباس أننا نتحدث عن أنفسنا ولم نعد نحن الذين نعرف).
فالتغير الذي طرأ حقيقة موضوعية تعني الوجود وتعني الفاعلية أيا كانت نتائج هذه الفاعلية، فالحداثة في هذه الحالة تكمن في السؤال الذي يعني أنه لا يكفي أن نقول الحقيقة بل ينبغي أن نكون في الحقيقة وأنه استشراف متطلع لتحقق الإمكان، والحقيقة التي نحن فيها فيما يخص البحث أننا نبحث في الجزئي عن الكلي، أي في المسألة الشعرية الليبية التي تبين الإشكال الذي نحن فيه، فالمسألة الشعرية الليبية سواءا كان ذلك في الحداثة أو في الهوية تفتقد لأوليات شروط البحث: توفر مادة البحث التي غيابها يتجلى في أن منطلق الباحث هو إفتراض ما؛ وهذا الإفتراض حتى وإن تم فيه الحرص على جمع أكبر قدر من الدلائل فإنه مشوب بالخيال فهو يعتمد نقطة متخيلة ما، ركيزة للبحث، في هذا تقول فريال غزول: (ليس أصعب على ناقد من أن يبدأ دراسته بلا سوابق نقدية في موضوعه الصمت أقسى على الناقد منه على الشاعر)، لكن كلما كان التحدي كبيرا كانت الجهود الكفيلة بالسيطرة عليه مضنية، ولا يجب أن نعتقد أننا بهذا نكون على الضفاف؛ فالحق ليس ثمة ضفافا ولكن ثمة لجة عميقة مضطربة لأن اللاسمات هي السمات التي يجب أن نخوض فيها، ولأن تحديد المفاهيم في هذه الحالة من أهم المهمات التي لا بد أن تتشح بالغموض مهما كانت فصيحة، فالمفهوم حصيلة فكرته، حصيلة الموضوع الذي سلمنا بخفاه أو على الأقل عدم تجليه، وسوف نحاول البحث عن تحديد ما للمفهوم من خلال تجلياته في الموضوع الذي نبحث فيه .
إذا افترضنا أن البحث في الحداثة الشعرية الليبية بحث خالي من المسلمات الأولى فإن هذا الإفتراض نفسه بحاجة لبرهان وبذلك يتزايد حقل المجهول أو الخفي، وإذا افترضنا أنه ثمة حداثة شعرية ليبية فإن هذا الافتراض أيضا يستند على عكازين أولهما المجهول، حيث أن موضوع بحثنا بكرا، وثانيهما التباس هذا الموضوع في مجمله فيكون المعلوم ملتبسا وبه نستعين على مجهول .
وإن أعتبرنا مع "داريوش شايغان" أن الحداثة تشكل شئنا أم أبينا، خلفية وجودنا الأولي، والمحيط الذي نحيا فيه، والفضاء الذي يغلفنا وفيه نتطور وننمو، والبنى الابستمولوجية اللازمة التي تشترط معرفتنا والتي تغير بيئة علاقاتنا الاجتماعية، فإن الحداثة هكذا تكون وجود بالقوة الذي يؤسس حياتنا في هذا العصر المليء بالتناقضات، وبالتالي أمكن لنا تعليل هيمنة غياب الدلالات، غياب المعنى من حياتنا الذي تكشف عنه الكتابة الآن التي تنأى عن التفسير لأنها لا تمتلك العالم أيديولوجيا، وترى العالم مغلقا غير قابل للإدراك وانهيارا للمركزية، هذا الانهيار الذي ليس حالة من حالات النص المفرد بل حالة من حالات عمل الفنان كله، كما أشار كمال أبو ديب .
غير أن هذه الحداثة ليست نصا مفارقا ومرجعية دوغمائية، مغلقة، وخطاطة عامة نهائية ولكنها تعين وتمكن من استقراء وقائعه ودراسة تعينها، وهكذا يكون افتراض "داريوش" مدخلا معقولا أو مبدئيا لدراسة هذه الظاهرة أو هذا النص الذي يبدو لنا مبدئيا هو المعلوم للبحث في المجهول، ومن هذا فإن عزو الكثير لعامل الصدفة وللإتصالات العابرة والميول الشخصية يبدو في عصر التفسيرات العلمية هذا أقرب إلى الهرطقة والغيبيات، وبحث ميتافزيقي في دفاتر التاريخ لا يصوغه أي مصوغ إلا وسواس الأصول التي يتميز بها الفكر التقليدي ذي النزعة الوثوقية العدمية وهذا ليس توصيفا أخلاقيا؛ فهذا الفكر المرجعي لا يدرس الظاهرة بهكذا منهج بقدر ما يستبعدها أو يعيد تشكيلها لمقتضى الحال في أحسن الأحوال .
إن التشوش الذي يتبدى في ثنايا البحث يصوغه نهج الريبة وهو شبكية عين الحداثة أي الظاهرة التي يتم البحث فيها والتي تصوغ النهج وهو مسألة المنهجية فيما يخص الأدب، ليس لها تصور واضح وثابت، ففي الأدب لكل قارئ قراءة.
وهكذا فإن قارئ الحداثة الشعرية الليبية سيجد أن ليبيا حدث حديث، وهيرودوت يقول من ليبيا يأتي الجديد، لكن الجديد هنا هي ليبيا الحديثة ذاتها التي ظهرت على الخارطة إثر مرسوم ملكي إيطالي قبيل بدء الغزو والاحتلال. لهذا فإن هذا الظهور المفاجئ يحمل في طياته مفارقة فالوجود تعين لحظة الدمج والإلغاء؛ وقد اعتبر المرسوم بلاد الشاطئ الرابع للإمبراطورية الرومانية الحديثة، وأعتبر نفسه امتدادا للحضارة الرومانية ومن ثم الإغريقية / الليبية، التي استمرت لمدة ثمانية قرون، معتبرا الوجود العربي الإسلامي الذي تجاوز العشرة قرون مجرد دين آخر وتقاليد شعبية أخرى، أي أثنية الإمبراطورية الرومانية الحديثة.
في خضم كل هذا ولدت المقاومة المسلحة ـ التي استمرت منذ الإحتلال فى أكتوبر 1911 وحتى زواله، عقب الحرب العالمية الثانية ـ، ووفق ذلك المرسوم، ولدت ليبيا الحديثة وبقدر ما كان المرسوم يتجلى في الأسطول الحديث الذي دك قلعة دايات طرابلس (السراي الحمراء)، وفي ظهور الطائرة لأول مرة في الحرب وبالتالي إسقاط أول طائرة حربية في التاريخ بصحاري طرابلس، فدانتي ـ مثلا ـ الذي ترجمت له (الكوميديا الإلهية) لأول مرة للعربية غب الإحتلال ونشرت هذه الترجمة في الصحافة الليبية التي تأسست 1866، وماركوني نبي حضارة الإتصالات الذي دشن مجتمع ما بعد الحداثة في نهاية القرن التاسع عشر، وافتتح به الإذاعة الليبية وسميت محطة طرابلس الماركونية.
في هذا وبه، بدأ حدث ظهور ليبيا الحديثة وبالتالي ظهر السؤال / سؤال هوية: (هذا السؤال بل هذه الكلمة هي النهضة Rinasciment، وإذا ما نسبناها إلى هذا الفرد العظيم والقطر الكبير بجميع أناسه وكل محتوياته إلى هذا القطر الذي دعوه ليبيا فليس يكون إلا هذا السؤال وهو: هل لليبيا نهضة ؟..)، كما جاء في دراسة محمد زيتون: (النهضة الليبية: هل هي موجودة ؟.)، ومن تيارات هذا السؤال من تمسك باسم إيالة طرابلس الغرب في مواجهة ليبيا؛ الإسم الذي أطلقه المرسوم الإيطالي على البلاد، ومنها من واصل البحث في الأصول الإسلامية ونشر بحوثه، ومقالته، وأحاديثه في الصحف والإذاعة الإيطالية، ومنها من ترجم لويجى بيرنديللو وكتب في عصر النهضة الإيطالي، وقبيل هذا كان قد نشر أول ديوان شعري مطبوع 1892، للشاعر بن زكري مستعيدا فيه التوشيح والطرز الأندلسية للبلاغة العربية، فيما أخذ شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي على عاتقه مقاومة الإحتلال، والمدرسة الكلاسيكية الحديثة منهجا وأسلوبا.
رفيق حداثة هوية
أم هوية حداثة ؟
في هذا الخضم ولد من يكنى بـ (شاعر الوطن)، في وطن لم يكن وطنا، في زمن كان الوطن فيه هو الكون.. في يناير 1898.
حين ولد (أحمد رفيق المهدوي) تقول أوراقه إنه مواطن عثماني، وإن والده قائم مقام بلدة (فساطو) في إيالة طرابلس التي سوف يكون فيها شاعر الهوية، الهوية / الوطن الذي سوف تخرطه المدافع ويسميه المرسوم الملكي الإيطالي / صاحب المدافع (ليبيا).
أين هو(أحمد) هذا من يناير 1898، إلى يوليو 1961 تاريخ وفاته، أين هو من سجل مولده العثماني إلى جنسيته ـ القسرية ـ الإيطالية، إلى لسانه العربي إلى شعريته الوطنية التي عرف بها ؟؟!!. هل هو المواطن الكوزموبولتي والشاعر المحلي ؟، وهل حقا (إنه لا توجد سيرة ذاتية إنسانية مقنعة وسط الصحراء؟).
إذا ما كانت السيرة الذاتية إشكال، فهل يكون الشعر هو الهوية حيث إن الهوية وهم لابد منه؟، وإن (أحمد رفيق المهدوي) هو (شاعر الوطن) حيث الوطن يكمن في الشعرية أي مشروع مخيلة، وفي اللسان حيث الشعر لغة ؟، أم أن (الشاعر هو الذي لا يكون في العالم رغم أنه موجود فيه، هو الذي يكشف لنا أكثر الحقائق قوة دون أن يكون متأكدا منها) ؟ .
إذا ما ذهبنا من هذا إلى غير هذا، من نظرة الريبة بحسب منهج (الدكتور نجيب الحصادي) من السؤال في الوجود أو في معنى الكيان بحسب (عبد الله القويري) إلى المنهج الإستقرائي، بحس الإنطباعي (خليفة التليسي) الذي يعد كتابه (شاعر الوطن) النقدي أهم كتاب في الثقافة العربية ـ في ليبيا ـ، سنجده يبحث في الوقائع لهذا الإشكال: من هو (أحمد رفيق المهدوي، شاعر الوطن ـ وكما منحه الناقد كنية ! منحه هوية، على الأقل على غلاف الكتاب)، ونحن نقفل القوس لأن سيمياء الكلام أفصح: إنها علامة الإستفهام التي يطرحها الكتاب بين غلافيه حيث نجد أن الناقد (خليفة التليسي) ضمن حدود منهجه ومدرسته وفترة عمله؛ المنتصف الأول من هذا القرن الغارب، كأنه يكشف عن شعرية رفيق العارية من معطف عصرها، وإذا ما كان الشاعر ليس في الزمان فكيف يكون في المكان؟، وفي هذا أيضا لا يألو جهدا في الكشف عن الغياب لأنه وبجهد قارئ النصوص يكشف عن عريها أيضا من الشعر، فهي في المحصلة تناصات مع شعر كلاسيكي حديث ومشرقي، وفيه تناص مع أضعف الشعر فيه.
فهل هو تناقض الناقد الذي يجمع بين منهج إستقرائي وحس إنطباعي، أم أن الأعمال النقدية الموضوعية هو الذي أتى بهذه المحصلة، أم أن افتراض الغلاف: (شاعر الوطن) ينقضه المتن، أم أن (أحمد رفيق المهدوى) هوية للإلتباس، وبالتالي الشعرية هنا ضرورة للموضوع، وبشكل أوضح فالشعر عند رفيق؛ رفيق سفر أو سيرة ذاتية مستحيلة ؟.
على ذلك فإن (خليفة التليسى) ـ كما كل رومانتيكي ـ، يخلق إلهه من عجين ليأكله حين يجوع، أي يفترض (الوطن) وبالضرورة (الشاعر)، ومدرسته ومدرسة كل الوطنيين والقوميين الرومانسية التي تفترض الشاعر نبيا، هي ذاتها التي تعلي من شأن الذات، وهي صاحبة دعاوى الفطرة الأولى التي شعارها ـ أو كوجيتويها ـ: جيل بلا ريادة ! (لم تكن هناك تلمذة لهذا الجيل على ذلك الذي تقدمه)، كما يقول (خليفة التليسي) عن جيل ما (بعد الحرب) جيله .
هكذا يبدو (أحمد رفيق المهدوى) عمودا ووجدانا لكيان يبحث عن معنى في عالم تكشفت فيه نسبية كل شيء، فصار الوجدان ـ بهذا ـ (البصلة)، وإن هذا الوجدان ـ الذي يبدي استعدادا لبيع نفسه لأية عاطفة يتأت بلغة (بيرنديللو) لغة العصر ولغة الحداثة !.
إننا لن نبتعد كثيرا في حيرتنا حول: من هو (أحمد رفيق المهدوي)؟، فرفيق يكمن في البرزخ.. في اللحظة، اللحظة التي هي عند (أرسطو) الزمن، ورفيق عند (يوسف القويري)، هو شاعر اللحظة البسيطة: (ينتمي رفيق المهدوي ـ في وقت واحد ـ إلى صفين مختلفين دون أن يفقده هذا الإنتماء المزدوج صفته الأساسية كفنان له موقف. والحق أن هذا الازدواج هو ميزة رفيق وربما كانت هذه الميزة هي التي دفعت به ليحتل مكان الصدارة في الشعر الليبي كله).
ما هذه المميزة المقرونة باللحظة البسيطة التي يمسك بها بألمحية وبتدقيق الناقد (يوسف القويري)، وبإقتضاب؟، أليست هي ما هوية (رفيق) ؟، التي تكمن في شعريته، والتي تبدو كما نتبين من قراءة (يوسف القويري) مقتضبة أيضا، وفي الهامش أي في تهاميش متن رفيق، أو الديوان.
بدأ هذا الهامش يطل بعناد الشعرية (التي تكشف عن أكثر الحقائق قوة دون أن تكون متأكدة منها)، التي هي صدق الشاعر في أنه (أقرب ما يكون من الآخرين وهو فريسة شياطينه الحميمة ويبدو لنا غارقا كل الغرق في مكافحته لها)، أو أنه كما يقول (يوسف القويري): (الفنان، هذا الطفل العميق، النزق، القوي الملاحظة، القادرعلى النفاذ إلى باطن الأشياء، الذي لا يكف لحظة عن خلق العالم من جديد، هذا الفنان القابع في نفس رفيق أندفع بكليته نحو المياه الجديدة ليسبح فيها، وبرغم ذلك الإلتحام والغوص، فإن رفيقا لم يولد مرة ثانية لقد ظل الجدار..)، هو آخر كلام رفيق.
إن هذا الجدار يبرز جليا في: التناقض الذي يكثفه (رفيق) الشاعر، ويكشفه (التليسى) الناقد، وهو ما يلمسه الكاتب (القويري)، هو طاقة العصر التي تبدو للشاعر طاقية إخفاء لا تطال!!: حلم مبدد، وطاقة مهدورة هو روح دانونزيو، روح رفيق الشاعر البوهيمي الذي عنده الوطن مسألة من مسائله اليومية، ولم يكن الشعر عنده شغلا يبحث فيه بل كان يلتقطه كما يلتقط النزوة على الشاطئ أو في جولة عابرة أو في اتكاءة فى مقهى (العرودي) 5 .
لهذا كان رفيق يتلقف الكلام، الكلام العابر والقضايا اليومية، وكان يشارك في القضايا العامة في شعره، وبشعره وهو يلاعب (النرد)، ولهذا تحول الوطن عنده إلى معنى من معان الذات أو حالة معايشة يومية، وصار الشعر وجدانه الفصيح وكان وجدانه عاميا شعبيا يعيش اللحظة، فكان الوجود عنده حسيا يعيش الشاعر فيه على اليومي؛ سواء أكان هذا اليومي لحظة سكر أو موقفا وطنيا أو ثقافة مشاعة تمثلت في شعر شعبي، أو فيما هو منتشر من أشعار الزهاوي وحافظ إبراهيم الشاعرين اللذين يردد الناس أشعارهما، حيث الأول صاحب مفاهيم والثاني لسان الناس.
وبهذا يجد رفيق روحه ـ هذه الروح المتطلعة ـ، في إرتشاف الحياة والإستمتاع بها فالوطن هو سويعات على شاطئ (جليانة) أو الشاب الذي يلاعب النرد، فالشعر عنده ما يستمتع به في هذه السويعات أو ما يرتشفه هذا الشاب، لذا لم ينشغل رفيق بقضايا الشعر بقدر ما أتخذ الشعر مطيته، فرسه !، الذي دربه على أن يركبه بطريقته بأسلوبه وبنزواته، فالشعر وسيلته، وسيلته التحريرية في التعبير عن الشفوي، فكان الشاعر الشعبي الذي عاميته الفصحى، والذي مشاعره حسية وسهلة وسلسة وقريبة قرب نفسه إلى لسانه وما يرتشفه هذا اللسان، نواسى ومحدث، عنده الحياة مذاق وليست معنى، وهو صياد الشاطئ، ولم يكن يتوغل في أعماق النفس لأن نفسه هي هذا الشاطئ، وحتى أنه وهو يناجي روح (دانونزيو) الشاعر النيتشوي، كان يناجى روحه المتطلعة إلى ما يوحي به هذا الشاعر من معاني الإنطلاق والتحرر، وإن كان (رفيق) لا يعرف (دانونزيو) حق المعرفة فهو كان يعرفه كما كان يعرف القضايا العامة أو كما يعرف نفسه !، فما يهمه هو الدلالة النفسانية وما يثيره عنده هذا الإسم، وقد كان رفيق يعيش في مجتمعه الثقافي الذي فيه من تابع ويتابع وعايش الثقافة الإيطالية ومن كان يعيش روحها، وما يرمزه دانونزيو في هذه الثقافة التي حتى وإن كانت ثقافة الآخر / المستعمر، فهي في نفس الوقت ثقافة مجتمع حديث متطور متحرر وقومي وغالب وفي الغالب مآرب لنفس المغلوب، ثقافة العصر / الحداثة.
ونقرأ شعرية رفيق في هذه القصيدة، رفيق الذي لم يرث شيخ الشهداء البطل الوطني (عمر المختار) !، ورثى دانونزيو؛ رثى نفسه، النفس الشعر، وإذا كان من رثاه يمجد القوة والروح القومية فإن رفيقا ماثله حيث مجد وطنه؛ وطن الروح، وروح المقاومة روحه. وإذا كان دانونزيو ـ حتى من خلال المعلومات الأولية ـ، شاعر الحس أو كما أورد الأستاذ (خليفة التليسي) عن الناقد (فلورا): (إن داننزيو صوت الإنسانية التي تعني الجنس والمادة)، فإن رفيقا حسيا حد التصوف؛ والصوفية هذه صوفية جسدانية ليست ثنائية تضادية بين الروح والجسد، بل إنها تظل صوفية جسدية تشتمل على الحواس جميعا هي صوفية لا تنفي الجسد بل ترمي بجذورها في الجسد ببعدها الشبقي وبغيره؛ وكأن رفيق يقول أن في كل شعر صوفية ما ـ فابن الفارض هو أبو نواس ـ، والروح هي الجسد والمعاناة الشعرية والصوفية هما نفس المعاناة من كل وجه، ولهذا ففي هذه المرثية يمدح هذه الصوفية التي تمزق الستر، وإن هذه الروح / الجسد، الكبيرة صاحبة نزوات رفرفة، مرح، وهي روح تجعل الموت وسيلة ومآرب لهذه النزوات حيث شهداء الحب والشعراء.
هكذا يبدو داننزيو عكازا، عكازا التقطه رفيق من الشائع ليسبغ على روحه الدلالة، فما داننزيو إلا الروح الوثابة التي تمتطي ـ أيضا ـ حصان الموت لتحقيق نزوتها.
ووطن رفيق هو هذه الروح؛ روحه الشاردة، الشاذة، وروحه الشعرية التي تعيش كل معط جاهز والذي يتغذى عليه فيكون هو لا أحد غيره، وبهذا برز ـ وهو الشاعرـ مشغولا عن الشعر بشعرية الحياة؛ من حيث أن الشعرية هي القدرة على الإستمتاع باللذة (ربما لذ عذاب لنفوس الشعراء )، أو كما قال، لذة المفرد فم الجماعة، شيطان اللحظة المنغمس حد التلاشي في لذائذه، وكأنه متشيـع لا أدري، مذهبه قورينائي ( لقد بنى أعضاء المدرسة القورينائية، أصحاب مذهب اللذة، مذهبهم على نظرية المعرفة والأخلاق، وهي تقوم على الحكم داخل نطاق الإنفعالات الباطنية وما يتصل بسلوك الإنسان، وكل ما يتعلق بما هو جميل. ووقف فيلسوفها البارز(أرسطيفوس) على مستوى يضارع ما وصل إليه أفلاطون، واحتدمت بينهما المنافسة، وألف هذا الفيلسوف ثلاث كتب في تاريخ ليبيا، هذا بالإضافة إلى كتب أخرى مثل: فى فسق القدماء.)، أو كما قال عبد الرحمن بدوي، وإن رفيقا الخارج بنفسه عن كل شيء، عن كل قيد يراه، هكذا حدث.
عش الحمامة
حلم الجماعة .
لكن هذا النهج الرفيقي قوبل مبكرا ومنذ البداية ـ العقد الثاني للقرن العشرين ـ بالجبرانيين الذين يقول عنهم رفيق نفسه: "أسلوب جبران جديد، ولكن هناك أساليب جديدة كثيرة إذا قسناها بها ـ وليعلموا أني إن كنت متحاملا فعلى تقليدهم (أسلوب جبران) ـ ظهر لنا قصوره عنها وشذوذه عن جميعها؛ فهو أسلوب أقرب إلى الفرنجية منه إلى العربية، ويتبين ذلك للمدقق من تركيبة الجمل وترتيب الكلام على الطريقة الغربية وبالأخص إستعماله الإستعارات، وهو كثير الإستعمال للإستعارة أكثرها نافرة لا تلائم الذوق العربي وسبب ذلك على ما أرى تشبعه بالأفكار الغربية وترجمته الكثير من آرائهم في كل كتاباته ".
وقوبل هذا بالرومانتيكية فم الذات ولسان حال المكلومين في عصر الغلبة فيه للفرد، والذات عش الحمامة وحلم الجماعة.
ولهذا كان لا بد مما ليس منه بد، فلقد انتهت الكلاسيكية الحديثة على يد أهم مبدعيها انتهت على يد (أحمد رفيق) إلى تكرار منطقها الصوري؛ صارت محاكاة إنشائية نثرية يغلب عليها العقل ويغلبها، وكان في آواخر أيامه ناظما وباحثا عن القوافي، عن المعقول فمات الشاعر قبل أن يموت رفيق.
حينها كان تلاميذه قد أخذوا عنه الشعر كأغنية للحياة، حيث ضرورة إختيار مواضيع الشعر من حياة العامة اليومية لكي تأتي معبرة عن بساطة حياتهم ورقة إحساسهم فتأتي مباشرة مفعمة بمشاعر فياضة، وضرورة أن يستعمل الشاعر الكلمات التي يستعملها الإنسان العادي، كما ينبغي على الشاعر أن يكون (متعبدا في محراب الطبيعة)، وأن لا ينسى مجتمعه ومشاكله وأن لا يتنكر لقوميته وبلده؛ أو هكذا حدث بيان الرومانتيكية.
بذا بدأ الشاعر (رجب الماجري)، يخرج عن معطف رفيق وعن المدرسة الكلاسيكية الحديثة إلى آفاق الرومانتيكية، حيث الروح أكثر أهمية من الشكل، فالرومانتيكية (عاطفة أكثر منها عقل، القلب في مواجهة الرأس)، كما تقول (جورج صاند) .
هذه الرومانتيكية التي كانت بواكيرها الأولى وضعها شاعر من مدينة الماجري (درنة) هو الشاعر (إبراهيم الأسطى عمر)، والذي يقول في قصيدته (الطائر السجين) في بداية الأربعينات:
أيها المسجون في ضيق القفص
صادحا من لوعة طول النهار
ردد الألحان من مر الغصص
وبكى في لحنه بعد الديار
ذكر الغصن تثني
وأليفا يتغنى
وهو في السجن معنى
فبكى وجدا وآنا وتغنٌى.
وقد كانت الرومانتيكية لسان حال الحركة الوطنية، ومن ثم القومية منذ عشرينات القرن التي تعينت في الثقافة داخل ليبيا باعتبارها تعبيرا عن وجود الفرد فم الجماعة الذي يعيش في عزلة، عزلة النبي الذي يعانى الغربة والاغتراب، والذي أقصى نفسه متمردا على الجماعة التي يعتبر نفسه فمها !، وبهذا فقد كان المبدع فردا ينشغل بتأصيل نفسه وجدارته في أن يكون وأن يكون الكيان الذي ينتمي له ؛ فكان يتلبس ملامحه الحزن وأطواره الغرابة (4)، وإلى جانب الإنشغال بقضايا فنية تقنية، فإنه يطرح موضوعات تجد الصدى في نفسه لأنها تجعله صوت المجموع، وعلى ذلك كان هناك اعتناء خاصا بالشابي الذي (يقف شاعرا، متفردا بخصائصه الذاتية، معروفا بسماته الخاصة، واضحا بعواطفه وأفكاره.
إنه صوت عميق، بقية من تلك القلة الخالدة من الشعراء والفنانين الذين يغمسون أقلامهم وريشهم في الدماء، ويرسمون بدم قلوبهم قبل أن يرسموا بالألفاظ والألوان، وما أقل الأصوات التي تنطلق من الأعماق، كما ينطلق صوته الخافت الهامس في قصائد الحب والعاصف الثائر في قصائد الوطنية، وبكروتشه وجبران وأبي العلا المعري، والإهتمام بينتشه ـ وعلى الخصوص من خلال جبران ـ، ومن هذه الأخلاط بدأت النزعة الليبية الرومانتيكية بحثا في الذات وعنها، وتلمسا للكيان ومعناه ونظرية في الشعر.
تجلى هذا في فكر (عبد الله القويري) ـ مفكر الكيانية مرادف الخصوصية عنده ـ في إطار الفلسفة المثالية الألمانية؛ فمفهوم الهوية عنده ديالكتيكي ثالوثه: الذات المركز التي هي الجوهر ـ جوهر الوطن ـ، الخلاق، والمبدع، والمفارق فهي تنتج الوطن خالقها، والذات في هذه الحالة هي الصيرورة، فيما الوطن هو الكينونة؛ الوطن الأزلي الذي توطنت عليه النفس لا بالميلاد أو باللغة ولكن بالتوارث، بالطبيعة ؛ فالمرء يرث وطنه أينما كان وكيفما كان حتى أن (القويرى) يحلل لعنة (أوديب) بأنها لعنة الوطن التي تطارد كل من يعبث بقدره (وطنه)، ويحاول الفرار من ظله أو يظلل عن هذا الظل، وكذا (عطيل) المجرم الذي بدأت جريمته الحقيقية ساعة ناء عن (مغربيته) وطنه؛ والكلمة التي هي الوجود الإنساني؛ الإنسان صاحب كلمة والتي ليست هي اللغة الأم وحسب، بل الكلمة الكينونة ووجدان الوجود الحي والفاعل؛ دم العرق، وإن الكلمة خيمة الكيان التي تقيه رياح الآخر، وسلاحه لمحاربة رياح القبلي، فالكلمة قطر الدائرة / الهوية التي مركزها الذات ومحيطها الوطن .
كما تجلى في الشعر بإعتباره قصيدة البيت الواحد عند الناقد (خليفة التليسي)، فالشعر صوت الفطرة والأصل (وهو البيت الواحد، وعندما كان الشاعر العربي القديم، يرسل البيت الواحد، ليعبر عن لحظته الشعرية، لم يكن يواجه أية مشكلة تعبيرية. فقد كان البيت الواحد، يعبر عن حاجته، ويستوعب اللحظة الشعرية التي يعانيها بكل أبعادها)، ثم كرومانتيكى أصيل، لم يفته أن يسند نظريته الشعرية إلى مسند أولي في النظرة الرومانتيكية: الآداب الشعبية؛ ففي أدبنا الشعبي (مثال هام ورائع على قصيدة البيت الواحد هو أغنية [العلم] ـ الحديث هنا عن الشعر الشعبي الليبي ــ التي تعتمد على بيت واحد يعبر عن اللحظة الشعرية بكل أبعادها وهو قصيدة الشاعر ومقصده دون زيادة أو نقصان. وهو يقدم بهذا التكثيف والتركيز دليلا على تحكم هذا المفهوم الفطري للشعر الذي لم يفسده التكلف والتصنع، وإنما يجري سمحا هينا لينا موافقا لطبع الشاعر ولحظته النفسية)؛ ويعرف قصيدة البيت الواحد بأنها ليس بيت القصيد، بيت الحكمة المجردة ولكنها التي تتضمن جوهرا شعريا سواء تمثل في صورة فنية رائعة أو بيت شعري يحمل ذات الشاعر ومعاناته، وحتى الحكمة تكون من هكذا شعرية إذا احتوت ذات الشاعر وتجربته في الحياة.
إن النزعة الرومانتيكية بهذا بدأت وكأنها أنفاس أشباح يهيمون في الكون كالومضة التائهة أو أنها الفكرة تشع عن بعد حيث كل شيء، فالشعر استعادة لتلك الومضة، للروح وهى أثير وكذا أن تكون ليبيا ؛ وبدا أن روح الجمال تهبط على الشاعر فكانت الرومانتيكية الليبية في النهاية عبادة للبداية ووسوسا للأصول.
ولأن الرومانتيكي يضع على لوحته ألوانا خالصة متجاورة بديل أن يمزجها، فقد ظهر أن هذه اللوحة استنفذت هذه الخاصية فما كان جليا بدأ أكثر غموضا؛ والحال أن هذه الأفكار الجذابة، الشديدة الإغراء، بانت استعادة مقنعة للمثل العليا التي صاغتها التقاليد الشعرية الأصولية.
ولقد مزقت الحرب العالمية الثانية هذا القناع كما مزقت كل شيء في ليبيا، و كما أنها في نفس الوقت منحت هذه البلاد: دولة وعلم ودستور، استقلال وبطاقة هوية، أظهرت التمزق أشد بهذه الوحدة: تناقض هذه الرومانتيكية، لكن هذا التناقض الظاهر بين الخصوصية باعتبارها بحث في معنى الكيان وبين اعتبارها بحث في معنى الوجود هو تناقض في الأساس كامن في المنهج والرؤية المثالية التي تبحث في الجوهر باعتباره معطى أولي وكلي، وإذا كان غائبا عن الذات فهو غياب بالفعل وليس بالقوة، وسرعان ما يظهر حين تتوحد الذات بموضوعها، حين يصير الكيان وطنا والشعر لغة لهذا الكيان، حينها تكون اللغة العربية والقومية العربية وسيلة وليست غاية.
من هنا فالقصيدة الرومانتيكية الليبية قصيدة البيت الواحد، المفرد المكتفى بذاته اللاتاريخية، وإن كانت تتجلى في المستقبل فإن هذا المستقبل هو غد الأمس، لكن هذا المستقبل بدأ للرومانتتكيين ـ أولا ـ، مقلقا، ومتوترا، وتضيق به مرآة الحاضر الذي هو واقع يتحرك ويمور ويتصدع؛ وبدا أن ثورة تدق الباب الموصد على لا شيء أو على خلاء مترامي الأطراف هو أشبه بالصحاري الليبية ؛ الصحراء التي تتصل بالبحر، حيث اللا شيء وحيث لا حركة غير قبائل القبلي المتعددة، لكنها في نفس الوقت الثابتة وغير الحقيقية؛ لذا فإن أية قصيدة لا تذوب في هواء العصر لا يمكن أن تكون قصيدة، وأن الشعر ليس تعبيرا عن ذات الشاعر الخاصة إلا بمقدار ما ترتبط هذه الذات باللاوعي الجمعي للعرق، ومن ورائه بالتجارب الإنسانية جمعاء.
تفعيلة الواقع
وفصاحة المجهول .
وإذا كان الشاعر (لا يلعب النرد فحسب، ولكنه فى بعض الأحيان يلقيه حيثما لا يرى)، فإن الشعر العربي الذي بدأ يتآكل بفعل التكرار، صار يضرب فى المجهول، كأنه حية أنكيدو فلقد (انتهت الطريق القديمة لكتابة الشعر، وعلى القارئ لكي يتأثر بالقصيدة الحديثة ويفهمها أن يتعب في إدراك المعاني والانفعالات التي تتناولها، عن طريق التعبير بالصور والإيحاء، وعن طريق الوسائل الحديثة للفن والأدب، التي أصبحت من أكبر خصائص الشعر العربي المعاصر، لقد أصبح الشاعر المحدث يتأثر بجميع الثقافات العالمية، ورفض أن يكون مجففا في صناديق ليمنع عن قلبه وعقله ثقافات العالم والشعوب لمجرد الإدعاء الأجوف الذي ينادي بعدم التأثر بثقافات الغرب)، علي الرقيعي .
ولم تكن قصيدة التفعيلة التي كتبت في بداية الخمسينات إلا تجلي الرومانتيكية الأخير، فإذا كانت هذه القصيدة قد تجلت عربيا في (كوليرا) نازك الملائكة؛ أنثوية وحيية، فإنها في ليبيا كانت (موكب الجفاف) المرثية التي هي لسان حال الرمق الأخير للرومانتيكي الذي ظهر له أن الاستقلالية: دولة للعشائر الوطنية، وأن العلم الوطني تسيج للمدن بأكواخ الصفيح وأن المحتل الإيطالي قد غير بحارس أنجلو أميركي.
كانت حركت التحرر العربي بقيادة العسكر قد احتلت ساحة التحرر والتقدم الذي صار الشاعر بوقه، وبدا أن الشاعر بشير وصاحب رسالة، وأن مشروع التحرر والتقدم مشروعه؛ في هذا وجد الشاعر الليبي الواقعي كيانه، ومن هنا أعتبر أن إنجاز القصيدة انعكاس للواقع الذي صار تيمة هذه القصيدة، وأيقونتها مديح النضال وغزل التحول.
أما البنية الإيقاعية الجديدة فهي للتحرر: إستبدال إيقاع الخليل بضابط للإيقاع، أي أن هذا التحوير الذي تم للإيقاع الخليلي هو مفتاح الحديث، ومواكبة لبنية إيقاع التحرر ومشروع التحديث فـــ (الأديب الواقعي هو الذي ينسجم مع المجتمع ويعيش في جوفه، ويتفاعل بانسجامه مع المجتمع، والأديب غير الواقعي الذي ينتج الفن للفن هو الذي فقد الإنسجام، فقد المنابع الحقيقية للفن والحياة. والرؤيا الشعرية تأخذ مجالها، فالشاعر في مشاهدته للبؤس البشري، لا يمر عليه مر الكرام، ولكنه يستوقفه محولا معايشته، والغوص في أغواره، وفي هذه الثنايا يعمق إحساسه به، ويجد فيه انعكاسا لثوريته الفكرية التي تنكر القهر والظلم، وتنعكس هذه التجربة في أبياته الشعرية، ويخرج منها أشد حماسا لثقافته الإنسانية التي وجدت مصادرها في الواقع الحي المتحرك أمامه، وبمقدار ما يعمق هذه الثقافة بالتجربة الحية، بمقدار ما ينفر، ويسخط على الأفكار الغيبية من بقايا الميتافزيك)، مفتاح السيد الشريف.
وبالتالي فالشعرية تكمن في الواقع، وظهر في نص المرحلة أن الشعر ليس من إهتماماته فالشاعر لسان حال الخطاب الإجتماعي السياسي للمرحلة، وقد تحول البشير إلى أداة السياسي، وبإنشغاله هذا تفرغ لخوض المعارك الثقافية؛ بخاصة ضد فلول الرومانتيكية والفلسفة الوجودية التي ظهرت وكأنها معقل الليبراليين والقوميين التقليديين، وخطاب الفلسفة المثالية في مواجهة الجدلية المادية، فقد(حاول بعض الأدباء الجدد إستيراد مذاهب لا تستقيم مع تطور الإنسان.. فنادى البعض بوجودية سافرة، فيها تحد لقيم شعبنا واستفزاز لمكاسبنا الوطنية التي أتت نتيجة اندماج الفرد مع مجتمعه لا انعزاله عنه في حرية غير محدودة، ونادى البعض الآخر بمفاهيم ضيقة تشكل العالم إلى أقسام وتتعصب للأجناس، وانساق البعض نحو أديب شرقي أو غربي ينقل عنه ويستمد منه ثقافته، ويقلده وكان الشابي بالذات محور للكثير من التقليد والكثير من الدراسات. وكانت هناك قلة تشرف على العالم بمفهوم إنساني صادق، غير واع في بعض الأحيان، واع في أحيان أخرى، قلة تمسك خيوط الوجود الإنساني كظل، وتؤمن به، وتكافح في سبيله، ومن هذه القلة برز على الرقيعي وخالد زغبية كشاعرين يستمدان كل قوتهما وكل شاعريتهما من هذا المفهوم.)، كامل المقهور.
ولم يكن الأمر في ذلك مجرد انعكاس لمعركة التحرر الوطني، بل كان ذلك تعبيرا عن أزمة وبحثا استكانيا لمعنى الكيان، فقد تجلت الذات أخيرا في الإنضواء تحت المشروع الإنسانوي، والذي بدا أنه يدق الأبواب ويفتح الآفاق، فالنص مرثية لباتريس لوممبا ومعتيقية شهيدة الإمبريالية:
يا أبي آه ما أروع دفء الكلمات الطيبة
صرت أفهم روعة الحرف
الذي يصنع للإنسان سلم.
لقد أتضح أن زحزحة البنية العمودية هي تحول في الشكل وليس في الخطاب، فالمشروع النهضوي غيرت صيغه فصار التحديث لغة ثنائية الأصالة والمعاصرة ؛ حيث الأصالة بحث عن الذات والمعاصرة انتماء للمستقبل، وهذا الشعر يمتاز(بالتكثيف.. وهو ميزة حاسمة في التعبيرعن نفسية إنساننا اليوم وأزمته، فإنسان اليوم يداوم على ترديد الشعر عندما يضيق به خناق المنفى وتجتاحه عواصف الغربة والتغرب، فالشعر ـ كأداة تكثيفية لمضامين الرفض والثورة، يعزي كثيرا)، إبراهيم الكوني.
كانت الغنائية سمة هذه الشعرية المتوترة التي تغطي نبرتها العالية ومباشرتها عن عجز الشاعر أمام السياسي، وتشف المواجهة هذا العجز؛ فيكون الشاعر المناضل المتصوف الذي يلهج تحت وطأة القمع الذي يواجهه بالقضية العامة باعتبارها النهج، ويكون نصه الإنجيل الجديد الذي يردده الجمهور بإيمان ديني، وفي هذا النص يخبئ ذاته أو يستبعدها. ولذا تحول نص الواقعية شعريا إلى منشور يبتغي الوعي لكنه الوعي الشقي: الإنقسام والتحيز ومغالطة النفس؛ فالتغيير في النص، والنص ميتافيزيقيا جديدة تحول الواقع إلى مردافات: الثورة، التحرر، التطور، الحرية (الديمقراطية)، ويتم تكرار المفردة حتى التصدع وحتى تبهت وتكل المخيلة بهكذا مكرور. .
وأنها (قصيدة الخيش) لا الغامضة حيث الوضوح (يحجبنا عن اكتشاف الجديد، فالوضوح حين يستحوذ علينا فإنه يجعل وأد براعم الفكر الحي في مهدها أمرا جد محتمل. ونلاحظ أن الوضوح ليس بأي حال معيارا لصحة الواضح فكرة كان أم سبيلا للإفصاح، فكون الفكرة واضحة تمام الوضوح لا يضمن بذاته تطابق ما تقرره مع ما يقره الواقع)، فهذه القصيدة الواقعية كانت تجنح إلى الوضوح، ومن هنا تأت غموضها؛ بمعنى أنها بهذا شفت عن مأزقها الفلسفي فهي في انفصام مع هذا الواقع الذي تتغياه، وفي انفصام مع الشعري في هذا الواقع لأنها لبوس غيرها: السياسي الذي صاغت شعاراته وهي تهدف إلى نقضه؛ نقض تعسفه.
ومن ذا فهي (قصيدة الخيش) ـ حسب إصطلاح (خليفة التليسي) ـ، ترتكن إلى الجاهزية لا تسبر غور الواقع الذي تتسربل به وبالتالي غمضت!، وتحليل الظاهرة يبين الخطوط البيانية لها، وبالتالي فإن استقراء هذه الخطوط هو هذه النتائج الملتبسة بمقدماتها، لكن هذا ـ أيضا ـ، يعني أن لكل ظاهرة استتنائتها التي تجلت في قصيدة الغنائية الواقعية الليبية في شعرية (على الرقيعي) كما بينا في دراسة منفصلة حول هذه الشعرية .
إن المشروع التحرري الذي كان لسان حال القصيدة الواقعية الغنائية العربية يكشف عن أوهام، وأوهام كبرى، كان الشعري يكمن فيها ولسان حالها: وضع الشعر في سلة السياسي فغدت القصيدة عارية.
وهذه الأوهام هي الزلزال الذي هز بنية القصيدة ورؤية الشاعر، وبدا وكأن العقلانية مرادف لهذه الشعرية التي تختزل الإنسان في أنه أداة لمشاريعه المادية ولأيدولوجيا هي محمول هذا المشروع، هذه العقلانية التي تبين أنها مقولات مغلقة تغيب في الأخير العقل، وتستبعد النقد الذي هو نهج العقلانية مما (شكل خطرا ساحقا على الفن الذي يرصد ممارسات الإنسان الأخرى، فالإنسان ليس عقلا فحسب، إنه مشاعر أيضا، وهنا تكمن عظمة الفن لأنه يرى الإنسان كلا واحدا.. ولذلك فإن الفن فوق الفلسفة وفوق الأيديولوجية كفلسفة بالتالي)، إبراهيم الكوني .
هكذا بدأ نقد هذه الشعرية ببيان الحداثة الشعرية الليبية فى عقد السبعينات، حيث ظهر تعدد وتقاطع لهذه النقدية، لم يعد ثمة صوت غالب بل إن هناك خطابا شعريا جديدا وشعرية جديدة تحل محل هذه الأغلوطة؛ التي أحلت الأيدولوجيا محل الشعر وصوغت المقولات الفكرية التحررية بديلا، فتم وأد ثورة الشعر بسم الثورة.
بيان الحداثة
مرة ثانية لا بد أن نذكر بأن الحداثة لا تزال في كثير من ملامحها أدبا، ولا تزال مشوبة بالنزعة إلى الخصام ومن الصعب أن ينأى المرء عنها بتجرد، ومن العسير أيضا أن يتحدث عنها. ومن الملامح التعريفية للحداثة هو هدم الحدود الوطنية التقليدية في مسائل ذات هموم أدبية ثقافية، وهي ليست انقلابا بقدر ما هي انقطاع، تحول، وانتقال، وقد يقول قائل تحللا.
لكن قبل هذا وذاك لا بد أن نؤكد أن الحداثة كلمة حاسمة بالنسبة لنا، لكنها مربوطة بتعاريف لحالتنا المعرضة للتغيير، ففكرة (الحديث أوالمحدث) يعتريها انتقال دلالي أسرع بكثير من مصطلحات مماثلة تشابهها في الوظيفة مثل: رومانتيكى أو الكلاسيكية الحديثة، وقد غدت هذه الحداثة شغلنا الشاغل، غدت أسلوبا مشاعا على نحو خفي في العمارة، والتصميم، ووسائل الإعلام كالأفلام والتلفزيون.
ولهذا فالحداثة موجودة بالفعل ولا يمكن حجب الإعتراف بها على نحو معقول، كما أن كتابات كتاب الحداثة قد تصدرت الاهتمام الفني، والصدمة، وانتهاك الإستمراريات المتوقعة، وعنصر انعدام الخلق، والأزمة من تجليات هذه الكتابة .
على ذلك ففكرة الحداثة في شكلها الأعظم طموحا كانت التأكيد أن الإنسان هو ما يصنعه (وأنها لا ترتكز على مبدأ وحيد، وأقل من ذلك على مجرد هدم العوائق أمام سيادة العقل؛ إنها مصنوعة من الحوار بين العقل والذات.. الذات دون العقل تغدو حبيسة وسواس هويتها؛ والعقل دون الذات يغدو أداة القوة)، أو كما قال آلان تورين فى: نقد الحداثة الحداثة المظفرة.
لقد بدا أن الحداثة بيان العقل وفصاحة الذات في اللحظة، وتجلت في الآداب التي تتقدم بخطوات أسبق من خطوات المجتمع وأقوى، فغدا بيان الشعر ـ أولا ـ أن (يبلغ عنفوانه الأقصى حينما يكون احتفالا هائلا بالحياة والكون، رقصا صاعقا، ومهرجانا لولادة الأشياء وهي تتفتق وتتشكل وتعلن عن تكتماتها الداخلية، ويبلغ الشعر أيضا عنفوانه الأقصى إذ يتلبس الصرخات البدائية وزخمها الإنفعالي، مشحونا بالإحتجاج، ومنتهكا بجرح لا يغالب. وفي الحالتين الكليتين هنا ـ أو في تداخلهما واندفاعهما العجيب؛ موقف إزاء العالم أحدهما تتخذ فيها ذات الشاعر في لحظة أليفة محببة، وتنسحب إلى الوراء بعيدا عن مشاعر الغربة والعتمة والوحشة، وفي الأخرى يبرز موقف التنافر والخصومة، فيشتد السخط والرفض، ولا يبقى أمام الشاعر إلا أن يواجه العالم بخصوبة الإنفعال الشعري وشموليته. يكاد ذلك أن يكون قانونا عاما للرؤية الجمالية في التعبير عندما تتوغل صوب بؤرة الشعر، أعني عندما تكون الشحنة الفنية، حارة، متوهجة، بحيث تقبض على اللحظة الشعرية التي هي مركب غنى مذهل، شديد التعقيد بين الذات والعالم. هكذا يمارس الجدل لعبته الشائكة، ويضفي على القصيدة شموليتها وخصوصيتها )، محمد الفقيه صالح .
في السبعينات الليبية غدت هذه المفهومية الجديدة للشعر تغزو الثقافة والصحافة، وتتصدر النتاج الشعري، وظهرت فيما بعد في صفحة ثقافية بجريدة الفجر الجديد (آفاق ثقافية كتابات شابة)، وكانت كتابات محمد الفقيه صالح وعاشور الطويبي وعلى الرحيبي وعمر الككلي وعبد السلام شهاب وفاطمة محمود وفوزية شلابي .. وغيرهم، هي التعبير القلق عن روحية جديدة، وشعرية شائكة تجعل الجمالية بؤرة الشعر في نظرة لتعقيد العلاقة بين الذات والموضوع، وبالتالي لا واقعية الواقع ففي ليبيا أن " تقرأ عن السريالية شيء، وأن تحياها شيء آخر"، لقد غدت الحياة أكثر سريالية مما تذهب مخيلة الشاعر.
لهذا ألتبس الأمر على البعض فعدوا الشعرية الجديدة هي تنويعة للنص الواقعي الذي هيمن في فترة الستينات، ويجيء مثل هذا الإلتباس من إعتبار بعض البيانات الشعرية التي ظهرت في مرحلة الاقتتال العربي؛ مرحلة بيروت هي المقياس الشعري بإعتبار أن النظرة الشعرية تقع تحت طائلة وهيمنة المرحلة السياسية تلك، ومثل ذلك ما جاء فى كتابة لفوزية شلابي من أن الشعر (الذي لا تفوح منه رائحة الوطن، جثة هامدة ميتة / جيفة كلامية مكانها الطبيعي أقرب محرقة للقمامة اليومية حيث تضع البرجوازية قاذوراتها، وتصرف البيروقراطية فضلاتها، وتخفي السلطة جرائمها الاقتصادية والسياسية، وتموت كل الاحتمالات الوضاءة والأحلام والأمنيات!!)، وهذا الإلتباس يتجلى في قراءة مفتاح العماري للممارسة الشعرية في السبعينات حين يكتب (في عشرية السبعينات، استطرادا، برزت بقوة قصيدة الحس القومي والنضالي ـ مقاومة العدو الذي كان عدوا مشتركا ـ القصيدة المنشور السياسي، الخاضعة لتوترات مقولات الإلتزام والإنتماء للجماهير والثورة)، وأنه في هذا ( يتجلى بؤس الحداثة الشعرية[عاطفيا]، فعلى الرغم من التواشج الحميم مع متطلبات التجديد بمفاهيمها المجردة غالبا [فعل الرؤيا]، التمرد، الخروج، الكشف.. إلا أنه، وبالمقابل كانت تخضع لترسبات سلفية تجعلها مشدودة إلى ذاكرتها الشعرية).
فهل أن هذا الإلتباس الظاهري يموه الظاهرة الليبية في نكران الأب حيث تبدو الساحة دائما خالية، وأن الجديد نبت شيطاني وبالتالي موت التناص، وأن الانزياح يتم على لا شيء ؟، وهل تكون هذه هي خاصية الحداثة الشعرية الليبية بأن تكمن خصوصيتها في انعدام الخصوصية، وأن الهوية لا جوهر لها فهي في الزمان حيث الشعرية كونية المنحى وتكمن في الوجود كما (اللغة منزلة هذا الوجود)، وأن الشاعر لا يكتب لأحد أو هو لا يكتب بالمرة فالشعر ـ لغة الغموض ـ حشرجة أو حلم وليس كتابة؛ من هنا فالشاعر الحداثوي الليبي لا يتمظهر إلا في مسوح المترهب عن الشعر رغم الصوفية الشعرية التي يعيشها، وهو بقدر إنشغاله بنصه بقدر إنشغاله عنه، والشاعر الحداثوي الليبي كما ينكر الأب ينكر أو على الأقل لا يتحمس لأبوته.. لنصه، وكأن الشعر في هذه الحالة مشاع للروح هذه الروح الملدوغة بذباب الواقع اليومي والمشغولة أو النائمة من أثر هذا اللدغ؟، وهل هذا الكون الذي هو مطرح الروح هو ما يصوغ دفن المكان ومحو الذاكرة في النص الحداثوي هذا أم أن الكون هذا هو تجلي هذه الحداثة حيث الحداثة أن تكون في الزمان وأنها وجود بالقوة يصوغ التماهي في الشعر العالمي لأنه شعر الزمان؛ الزمان الذي غدا يحرق الروح بتجليه في تفاصيلها حتى صار اليومي الوجود، والأيقونة الجسد الذي كل ما يحيط به مدلهم ومظلم والذي هو الروح في هذه الشعرية التي كثيرا ما تكتسحها الغنائية وهي نوع يدير فيه الشاعر ظهره إلى جمهوره.
وتظهر مفرداتها من سقط اليومي لكن تراكيبها عجائبي وصورها ـ إن كان لها صور ـ تجنح للسريالية التي زادها في كثير من الأحيان كابوسي حتى غدا القبر بيتها الذي تتمظهر من خلاله جماليات البؤس وتنجلي قبح هذه الجماليات، لقد تحول حس المقاوم في نص السبعينات إلى إحساس بالموات نتبينه في هذا البرود الذي تكشفه علاقة النص هذا بالعالم عالمه، ومن هنا فالغنائية جنائزية والإيقاع همهمة مكلومة وكتم للأنفاس أكثر منهما صدح بمشاغل الروح، فالليل إيقاع النص حيث السكون المريب.. المشهدية التي ترصدها العين قبل النفس فيه .
لقد جاء بيان الحداثة الشعرية الليبية قاطعا وحادا ولكن في صمت، وهو يسعى لمزيد من الإنزواء ليبين ملامحه، ويتماهي مع الواقع من جهة أخرى حين يكون في النص الإبداعي وحسب وكأن هذا النص في حالته هذا هو رحم الأم وأن الفعل هذا نكوص لهذا الرحم، ولقد أستبعد عن مسرح هذا البيان العقل النقدي والتحليلي، واكتفى نص الحداثة الشعري بوحدته مما جعله النص الغريب الذي وجوده في هذه الغربة، كذا غاب الشاعر في اغترابه ينسج نصه في مهل وتؤدة مقلا في الكتابة والنشر الذي لم يكن بالإمكان حتى لو توفرت الإمكانات الخاصة .
فأي حداثة شعرية هذه التي وجودها في استبعادها؟، وأي عقل نقدي هذا الذي وضع في الحجر الصحي؟، وكيف لنقد أدبي أن يكون والظاهرة التي يدرسها تبدو كجبل الثلج من ناحية، ومن أخرى أن هذا النقد يسجل غيابه في العقل النقدي المحجور؟، ولكن أليس هذه هي دواعي البحث ووجوبه، وأن في هذا يكمن تميز يستدعي بذل الجهد والمثابرة من أجل تحليل الظاهرة التي تبدو وكأنها تكمن في الخفي ؟.
هوامش :
- البصلة، هي لب شخصية من شخصيات المسرحي النرويجي ابسن، التي لا لب لها بطبيعة الحال وليس بمقتضاه، وكذا يشير إليها لوكاتش وهو يحلل عمل ابسن باعتبارها لب الشخصية البرجوازية التي لا لب لها في أدب هذا الكاتب.
- يرنديللو، كان من أول مترجميه الليبيون حيث ترجم له مبكرا رائد القصة الليبية القصيرة وهبي البوري قصة، ثم أخذ الأستاذ خليفة التليسي في ترجمته والكتابة فيه .
- مثل " مسعودة " عكاز رفيق رفيقة حياته والتي يضمها ركن رفيق في مكتبة جامعة قاريونس ـ بنغازي .
- (وفي الخامسة والعشرين من عمري عندما أخفقت ـ في حبي الأول ـ، تحطمت آمالي، وتحطم معها شعري، وميلي للأدب. وكان لي صديق يعطف علي، ويعلم أنني كالرجل الذي قضى عليه سوء حظه فشرب الكأس الأول، ثم أندفع في الكوؤس الأخرى ما يستفيق منها حتى ينقلب إلى غيرها ليواصل نهاره بليله شاربا ثملا. فقدم لي مؤلفا عن فريديناندو فتبين لي العالم هائلا، وظهر لي العالم على حقيقته، غيره في الكتب، ومنذ ذلك الحين انقطعت صلتي بالشعر والشعراء).
* راسم قدري / قاسم فكري، كتب القصة والشعر والمقالة منذ العشرينات، وهو من الجبرانيين بل أهم من هاجمهم رفيق في مقالته المشار إليها. كان رئيس تحرير مجلة (أفكار) التي أصدرتها عام 1955 الجمعية الليبية التركية. كذا نلفت الإنتباه إلى الحياة التي عاشها الشاعر إبراهيم الأسطى عمر في المنفى بالشام وتشربه لتجربته الشعرية هناك، ثم تجنده في الجيش الليبي الذي شارك الحلفاء في الحرب بالأراضي الليبية، وأثر ذلك على الشاعر العصامي والذي محى أميته وثقف نفسه، وكذا الشاعر محمود محمد عبد المجيد المنتصر الذي هاجر وعمل باليمن في نهاية الثلاثينات لما " أحس بشعور نفساني بأنه مضطهد من والدته " والذي " اتهمه بعض الأدباء بأنه سارق لشعر بعض شعراء اليمن والعراق، وهذه الدعوى فرية كما يقول الشاعر، وأكذوبة يدعيها بعض المغرضين "، ومن شعره :
نشدتـك بين الربـا والنجـود ودون الوجود، وخلف الوجود
أفي الكون أنت ؟ أم الكون فيك أم البحث عنك سيفنى الجهود ؟
نشدتـك بـين بديـع الزهور ونـور الخدود، وصافي الورود
طلبتـك بـين رياض الجمال فـكان الـجمال كثير الصدود
تـرى أين أنت ؟ أنجم حواك ؟ أم الـنجم يرجو إليك الصعود ؟
فـلـلنجم نـور تـراه الـعيون ولـكن أراك كـيوم الـخلود
دنوت، دنوت، فكنت المنى وخـلتك حولي ظنون الحسود
وبنـت فـكنت شقاء النفوس وأي شقـاء كـنحس الجدود
أسئـل عنـك جميـع الأنام شـبابا، كهؤلاء، نيام المهود
فكان الجواب؛ كما تعلمين: بـأنك شـيء مضى لن يعود.
- النفس المبتورة / هاجس الغرب في مجتمعاتنا، داريوش شايغان، الناشر: دار الساقي لندن .
- موسوعة المصطلح النقدي / المجلد الأول، ترجمة: د.عبد الواحد لؤلؤة، الطبعة الثانية 1983، الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
- النقد والمجتمع / حوارات، ترجمة وتحرير: فخري صالح، الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى: 1995 .
- ميخائيل باختين/ المبدأ الحواري، تزفيتان تودوروف، ترجمة: فخري صالح الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية: 1996.
- نقد الحداثة، القسم الأول / الحداثة المظفرة، القسم الثاني / ولادة الذات، آلان تورين ترجمة: صياح الجهيم في دراسات فكرية عدد (39)، الطبعة الأولى، 1998، منشورات وزارة الثقافة السورية.
- حداثة التخلف / تجربة الحداثة، مارشال بيرمان، ترجمة: فاضل جتكر، الطبعة الأولى 1993، قبرص، منشورات: مؤسسة عيبال للدراسات والنشر .
- قضايا الشعرية، رومان ياكبسون، ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، الطبعة الأولى 1988، المغرب، المعرفة الأدبية / دار توبقال للنشر .
- المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، عبد الفتاح كيليطو وآخرون؛ مقالة المنهجية بين الإبداع والإتباع، الطبعة الثانية 1993، دار توبقال للنشر.
- الإغتراب، ريتشارد شاخت، ترجمة: كامل يوسف حسين، الطبعة الثانية 1995، القاهرة دار شرقيات للنشر والتوزيع .
- إنفردات الشعر العراقي الجديد، اختيار، توثيق وتقديم: عبد القادر الجنابي، الجزء الأول: الستينيون، الطبعة الأولى، 1993، ألمانيا، منشورات دار الجمل.
- من روائع الشعر العربي / مختارات، خليفة التليسي، الطبعة الثانية 1985، الدار العربية للكتاب .
- رفيق شاعر الوطن، للأستاذ خليفة التليسى، الطبعة الأولى 1965.
- الشابي وجبران، خليفة التليسي، الطبعة الأولى 1955، الطبعة الرابعة 1978، الناشر الدار العربية للكتاب، طرابلس، ليبيا .
- كراسات ليبية 1 / معنى الكيان، محاولة نظرية لفهم الواقع الليبي، عبدالله القويرى الطبعة الأولى، 1965.
- ملاحظات على جبين الغربة، إبراهيم الكوني، الناشر دار الكتاب العربي: مصطفى المجعوك، طرابلس، الطبعة الأولى، 1974.
- الليل والسنون الملعونة / قصائد ومقالات مجهولة للشاعر علي محمد الرقيعي، جمع وتقديم: بشير العترى حنين، الناشر: أمانة الإعلام والثقافة ببلدية طرابلس، الطبعة الأولى 1990، مقالة أدب وحب، على الرقيعي، جريدة طرابلس الغرب فى 26 - 12 - 1962، ص 152 من الكتاب .
- مهرجان رفيق الأدبي، إعداد: الدكتور محمد دغيم، منشورات جامعة قاريونس بنغازي، الطبعة الأولى 1993، مقالة: رفيق وفلسفة الجمال، محمد مصطفى بازامه ص 153 من الكتاب.
- حدود القراءة، إدريس المسماري، الناشر: الدار الجماهيرية، مصراته، ليبيا، الطبعة الأولى 1998.
- الكلمات التي تقاتل، يوسف القويرى، الناشر دار المصراتي، طرابلس، الطبعة الأولى 1968.
- الشعر والشعراء في ليبيا، محمد الصادق عفيفي، الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية الطبعة الأولى 1957.
- فعل القراءة والتأويل، مفتاح العماري، طرابلس، الدار الجماهيرية، الطبعة الأولى 1995.
- أفاق المحتمل، د نجيب الحصادى، منشورات: جامعة قاريونس، بنغازي، الطبعة الأولى 1994.
- قراءات عاقلة جدا، فوزية شلابي، طرابلس، المنشأة العامة للنشر، الطبعة الأولى 1985 .
- شاعر من ليبيا / إبراهيم الأسطى عمر 1907- 1950، للأستاذ علي مصطفى المصراتي، الطبعة الأولى 1957، الناشر مكتبة الشرق طرابلس.
- سقوط "ال" التعريف، شعر: سعيد المحروق، بيروت دار القدس، الطبعة الأولى 1979.
- ديوان رجب الماجري، مخطوط .
- ديوان بدايات، طرابلس، الطبعة الأولى 1994، الدار الجماهيرية للنشر، شعر: فرج العربي .
- السور الكبير، شعر: خالد زغبية، دار النشر الليبية، طرابلس، الطبعة الأولى 1964.
- الشاعر بودلير/ زهور الألم، قصائد نثرية، ترجمة: مصطفى القصري، الناشر دار الكتاب المغرب، الطبعة الأولى 1964 .
- الحنين الظامئ، شعر، علي الرقيعي، الطبعة الأولى: 1957، الطبعة الثانية: 1979 الناشر الشركة العامة للنشر، طرابلس.
- مجلة ليبيا المصورة، السنة الثانية، العدد العاشر، يوليو 1937، مقالة: المتجبرنون وأعيد نشره بديوان شاعر الوطن الكبير(الفترتان الأولى والثانية)، الناشر: وزارة العمل والشؤون الإجتماعية، الطبعة الأولى 1965.
- مجلة الرواد، السنة الأولى، العدد التاسع، 1965، مقالة: الرومانسية في الشعر الإنجليزي، أبو بكر الفيتوري المصراتي .
- مجلة الفصول الأربعة، اتحاد الكتاب الليبيين، المشهد الشعري الليبي 1970- 1990 عدد خاص وهو دون تاريخ ولا رقم عدد، والعدد 87، السنة الحادية والعشرون، ابريل 1999، مقالة: لحظات متوترة في خطاب التجديد الشعري في ليبيا، محمد الفقيه صالح ص 8، ومقال الدكتور محمد محمد المفتي: في البدء كان قنانة.. الأسطورة كامتداد للهوية ص 58، وأعداد أخرى من المجلة.
- جريدة الفجر الجديد.
- ألف / مجلة البلاغة المقارنة، قسم الأدب الإنجليزي والمقارن، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد الحادي عشر، 1999.
- جريدة الأسبوع الثقافي، أعداد 1978 على الخصوص .
***
رجب الماجري
- من مواليد بدرنة شرق ليبيا، عام 1930.
- تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة في منتصف الخمسينات من القرن الأول.
- عمل وزيرا للعدل بالحكومة الليبية 68 / 69 .
- يعمل في المحاماة.
صدر له:
- ديوان رجب الماجري يضم كل أعماله، عن المجلس العام للثقافة ليبيا، 2006.
إلى روح رفيق.
لن أريق الدمع في ذكراك إني لن أريقه
أنـــا لا أبكيك يا شاعر شعبي يا رفيقه
يا مضيئا في دروب البغي واليأس طريقه
يا صدى آمـالــه الثكلى ونجواه الرقيقه
أنا لا أبكيك فالــمـبـكى مــن مــات حقيقه.
عمر المختار ـ رغم الموت ـ هل غيب ذكره
أنـــه أنــشـودة النصر لدى الشعب وفخره
ولأنــت الــيـــوم مــنــه قــلبه الحي وفكره
كيف أبكي شاعرا يحدو خطا الأجيال شعره
كيف يطويه فناء من حيــــاة الشعب عمره.
أنـــا لا أبكيك بـل جئتك أستلهم ذكرى
إنني جــــئـــت أنــاجـيك بأفكاري مسرا
كنت حر الفكر في الدنيا فهل ما زلت حرا
أم ترى لاقيت في أخــراك إرهابا وقسرا
فتمردت إباء أم اتــخـــذت الصمت عذرا.
نـحن ما زلنا ـ كما تعلم ـ في الوهم الخطير
نحــن في حرية نمرح في السجن الكبير
ليس في أرجلنا القيد ولكن في الشعور
وإذا جــمـــد إحساسي على وضع مرير
أترى أملك فـكــري أترى أدري مصيري.
أيـها الرائــد والــرائد لا يكذب أهله
قل لنا ما عالم الــروح وهــل ثـمة دوله
تتولى الحكم فيها ملة مـن بــعــد مـله
وصراع مذهبي وشعـــارات مــضـله
أم ترى قد بسط الحب عــلى الأرواح ظله.
نحن في دوامة ملأ مفاهيم عليله
نحن باسم الدين باسم الحب نغتال الفضيله
فهما في عرفـنا للــشـر والــنكر وسيله
قل لنا ما الخير قد نسلك في يــوم ســبيـله
ربما نمضى جميعا نحو غــايــات نـبــيله.
نحن شعب لم يزل يجتر حــلــو الذكريات
لا يرى إلا رؤى ماضيه في كـل الـجــهات
يوم أن أيقظ بالإيـمان أعماق الـحياة
قل لنا كيف يفيق القوم من هــذا الـسبات
ومتى ينبلــــج الــفـجر فيرنون لآت.
ربمـا يـنـطلق الركب إذا صوت تغنى
من وراء الغيب يـــدعوهم للجد مرنا
ينزع الخوف من الأنفس يكسوهن أمنا
فأبعث الإيمان في أنفــســنا نورا ولحنا
ربما يحيى ضميرا بات للأهــواء مغـنى.
مدينتي
مدينتي
مدائن العالم لا تشيخ
حتى إذا توالت السنون والقرون
تضمخت بعطرها المعتق
وازينت بفكرها القديم والمخضرم
وزينها المطرز الخضيب
فاختلجت بعشقها القلوب.
وأنت يا مدينتي
ومنذ نصف قرن
تقرحت جدرانك البيضاء
فها هنا بقية من قنبلة
وها هنا أثاره من الدماء
ما أوسع الشروخ
لكنها تنزف بالطيوب.
وكنت في مدرستي القديمة
أطل من شباكها على الحياة
أراقب الغادين والآتين
فبعد كل عشرة
وعشرة من الرجال
وخمسة أو سبعة من الأطفال
تلوح من بعيد
امرأة ملفوفة (بجردها) الحصين
وحسبها بنصف عين
أن تبصر الطريق
وتتقى شر العيون الجائعة
ومن وراء الجورب المزركش
أو من وراء (الرقعة) المنسعه
تنفذ ألف عين
تلتهم الخصور والصدور
وتلثم الشفاه والنحور
ما أطيب المتعة في الخيال.
وكنت يا مدينتي
في كل يوم جمعه
أخرج من زنزانتي
أجوس ما استطعت في الشوارع
وأذرع الأزقة
مختلسا من كل فرجة في باب
أو فتحة في نافذة
طيفا يدغدغ الإحساس بالفتوة
لم أبلغ العشرين
لكنني جاوزت سن العشق
ولم يكن هناك يا مدينتي نساء سافرات
إلا صبايا أربعه
يصغرنني
أحببتهن الأربعة
لكنما أوسطهن إن بدت
حيث بدت
تثير فيما حولها
من الفتون زوبعة
نظرتها سحر
وفى لفتتها غنج
وفى مشيتها دلال
وخالها الشاخص فوق الشقة العليا
وتحت أنفها
عاصفة من الصبوة والجمال
عشقتها
بكل ما في القلب من حس
ومن نبض ومن أشواق
وحين شرقت بنا وغربت
رغائب البلاد
وشطت الديار
واستطال الديار
واستطال بيننا الفراق
طوى كلينا البعد في دوامة النسيان
وعندما قابلتها في عامها الخمسين
لما تزل كما هي
كأنها لم تبلغ العشرين.
وأنت يا مدينتي القديمة
خلال نصف قرن
كبرت ألف قرن.
واحسرتا على البلاد
والعباد
لم ينصفوا الآباء
أو يحفظوا الوداد
فشوهوا مدارج الصبا
وهدموا مغاني الذكريات
فأين يا مدينتي سوق الظلام
وبهجة الحياة في الرخام
ومعصم الدلال
تثقله العقود والأساور
وصوته يعلو على الضجيج
مرددا في آخر المزاد
(حرج).. (حرج)
وأين يا مدينتي (الركينة)
والراصدون كل عابر وعابره
والحافظون سر كل بيت
ألم يكن فضولهم ذاكرة المدينة ؟.
واليوم يا مدينتي يلفك الضباب
وتحضنين الليل والذئاب
وأضحت الشوارع الضيقة النظيفة
أكبر من جروحك القديمة
نزيفها مجار
تعتصر القلوب .
مواكب الجفاف
هجم الجفاف
وأتى على عيش الكفاف
فمضى الجياع الأشقياء
خلف الحفاة
يستمطرون من السماء
خبزا وماء
بحت حناجرهم ولم يجد الدعاء
حم القضاء
ما يصنعون ؟
فليسجدوا للأغنياء المترفين
ويقدموا مجهودهم ودموعهم للناعمين
كنزا ثمين
والغاصبون المجرمون
الأدعياء التافهون
متطفلون
يستمرئون
طعم الدماء طعم الدموع
أما العباقرة الدهاة الأذكياء الحاكمون
متواضعون
في الحق لا يستكبرون
فمضوا يمدون الأكف ويضرعون
يستنجدون
بمقسم الأرزاق في دنيا الرقيق
السيد "الدولار" سلاب الحقوق
طلب النجاة
لا للجياع
أو
الحفاة
أو
العراة
بل خشية الجوع العنيد
أن يستفز بلذعة همم العبيد
فيفكرون ويشعرون
ويسائلون عن المصير
ويراقبون ويهمسون
وغدا
غدا
يتفجرون
فيحطمون وينسفون تلك السدود
ويودعون مع القيود
عهد الطغاة
ويهللون ويهتفون
إنا انتصرنا للحياة .
***
علي صدقي عبد القادر
- من موالبد طرابلس الغرب، عام 1924.
- أشتغل بالمحاماة، وحاليا متقاعد.
صدر له:
- أحلام وثورة، شعر، صدرت طبعته الأولى في بيروت، 1956.
- صرخة، شعر.
- زغاريد ومطر بالفجر، شعر.
- الكلمة لها عينان، شعر.
- ضفائر أمي، شعر.
- اشتهاء مع وقف التنفيذ، شعر.
- الأعمال الشعرية الكاملة، عن المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان طرابلس، 1985.
خارج الزمن والحروف
بئر
حفرت بئراً
وجدت
بدل الماء
حفرت وجدت فردة حذاء
بخيط مقطوع
رأت حبيبتي نفسها بالمرآة غرناطة
وضعت قدمي بالحذاء
فانتعلت البحر
تعبت
وجاءني نوم واحد فرددته
لجيئنيي بنوم للبحر
فذهب ولم يعد.
رمان
المرأة حامل
يجرها بطنها للخلف
رأيتها تأكل حبة رمان ونجمة
رأيتها تمزق رسالتي
وترتدي حروفها
رأيتها تتسلق المطر
وتعدهما
خيطا
خيطا
وظلها غادرها
ليسرق باب الحديقة
فهل تلد رمانا
أو
رسالة
أو
باب حديقة؟!.
وردتي
حين مددت يدي إليها
كانت القارات بيننا تخرج لسانها وتفك شعرها
وحين افترقنا
وجدتها قمرا حبيبي
شربت نصفه
وغرست نصفه وردة حمراء بصدري
وخرج الأطفال من المدرسة ليقرؤوا وردتي
وتبعتهم أسواق
وأعراس مدينتي.
مشرحة
وقفت أمام المستشفى أسأل:
من المريض؟
قالوا:
وجدنا ببطنه أقواس أزقتنا الملتوية
وجدنا أياماً أصواتها حافية
قلت خذوا نيويورك والأطلنطي
ودعوه يحيا
جروني للمشرحة فتحوا رأسي
فطار في وجهي حماما
من هرب من المستشفى؟
أنا
أو
المريض
أو
المستشفى.
واحد/ اثنان/ ثلاثة
هدل الحمام
في شكل إشارة
تعجب
قالت حبة قمح لجارتها:
الحلم حار الليلة
الكون يتخلق في أحشائي
سألده فجأة
الجارة:
أنت تتوهمين
الكون أكبر من حبة قمح
آه
أخطأت في الحساب
يا جارتي الطيبة
أنا عاشقة
لذلك سألد الكون
أرضعه
وأفطمه .
يا قمر علالي
لا أجد أصابعي في نهاية كفي
لأنها ذهبت خلسة لتطمس حلمي الأخير
وعادت وهي تحك أنفها
والحلم يدير الحبل ويقفز مرددا
أغنية من بلدي مغشوشة:
(يا قمر علالي)
متجاوزا برتقالتين وأربع قارات
والخامسة فرت إلى حضن أمي
ونجمة آخر الليل التي تتفرج
كانت امرأة تغزل المطر والحب
لابد أن تكون هي من أحببت
لأن عيد طفولتي
مذاقه الآن في فمي
فأنا الشاهد الوحيد
يوم خلق الله التين والنار
ورفعت لوحة كتبت عليها:
لا يمر من هنا إلا الله
والشاعر
والربيع.
وحمل الناس قبورهم
وهربوا
ولأول مرة وقف الموت عاطلا بلا عمل
يدق على باب مأوى العجزة
وجمعت الدنيا فساتينها وكحلها
لتبني العالم من جديد
بلا قبور
بلا موت
فلتعد النجمة
والكلمة
والزهرة ترتيب بيتها
وتبقى ملفات المحكمة تدين
تدين ولا تشبع
تتمنى لو تأخذ إجازة في سلة المهملات
إني كثير كثير عندما يحدثني قلمي وهو يخربش
وأنا أقل من حفنة دقيق
حينما يسند يتيم ذراعه إلى الحائط ويبكي
ودون أن أسمع آذان ميقات العصر
أذكر الوقت قبل مرور بائع اللبن
فأصعد لسطح بيتي وأغير اتجاه الريح
وأعطي للشمس لون الشفق
ويناديني الأطفال لنلعب
وأترك اللون مسرعا فيندلق الشفق قبل الأوان
إذا ماتت الوردة مستديرة
فحروف اسم فاطمة مستديرة
وكفاي على القطب
وميناء طرابلس مستديران
بلهاثي سماء تحترق
فانحنيت على حنفية الشارع
وشربت
ومسحت فمي بيدي
ونفضت رذاذ الماء
وتحسست مفتاح بيتي بجانبي
وأنا أصفر لحنا شعبيا قديما
(يا قمر علالي)
عندها أخرج باب موارب رأسه بالزقاق وسألني:
من أين تأتي حمرة التفاح ؟ .
غرناطة
حفرت بئرا وجدت مرآة بدل الماء
حفرت وجدت فروة حذاء بخيط مقطوع
رأت حبيبتي نفسها بالمرآة غرناطة
وضعت قدمي بالحذاء فانتعلت البحر
تعبت
وجاءني نوم واحد فرددته
ليسجنني بنوم للبحر فذهب ولم يعد.
الواحد والعشرون
من يطرق بابي من
القرن الواحد والعشرون
يا قرن الواحد والعشرين
بقلبي كلمات
أمهلني آلاف قرون أخرى
كي أكتمها
لا فرق هنالك بين الأرقام
فأمهلني
بين الواحد والمليون
مجرد أوهام
أرقام
يا (سقراط) حقيقتك أكبر كذبة
فعدد اثنين وسبع
يصبح أحيانا مجرد واحد.
الديك
أمدد كفك للمطر
لملايين القطرات
لن تجد فيها إلا جرعة ماء واحدة
وأشعة شمس الظهر المنشورة
بالدنيا
أجمعها في صفحة دفتر جيبي
الأصغر
فالشارع يملأه الناس
وبالليل يعاني الوحدة برد فراشه
هل الشمس ولادتها الأولى
في عرف الديك
كوكو كوكو.
الخميس
أخضر:
الإثنين بلح
ونشيد الأطفال
أحمر:
الخميس حناء بالكف دعوة للقاء
أبيض:
الجمعة حمائم
وقمح
وأغنية النافذة
وأمتد خوان مائدة الشوق
الضيوف لا يأكلون الخبز
واللحم
وأوراق العنب
تناول أحدهم حلمه
يكلمه يشمه يقشره
ولا يأكله
تناول أخر الكلمات
تعني لو قالها وأرتداها
ولا يأكلها
تناول بعضهم شهوة كتمها حياء
قال هي أو أسقط السماء
وأكل الضيوف بعيونهم
هل الأصابع في مكانها ؟.
مدن في حواصل الطيور
القرط
عمري نخلة
وبحر
وأغنية
أزدحم العطش بيابي
وملأتني باسمها
الساعة تدق برتقالا خارج الزمن
والحنظل أنكمش
أنكمش
في إبرة
وهرب
وترك الشارع مكانه
في حراسة شجرة
ونام
ونجمة ببابي تسألني:
متى تضع القرط في إذنك ؟.
العشيات
وألتقى الفرح بالحزن
ليعلمه كيف يصفق
وأنا ألاحق طيورعيني تنقل المدن في حواصلها
وأتهجى أبجدية العشيات الحافية
أنا أمي
لكني أقرأ وجه من أحب
أمشي بكلماتي
أقرأ بالنار
أنام بالصراخ
أنا أمي
لا أعرف يدي الشمال
لا أقرأ السلاسل.
الفراش
يا أيام الأسبوع
نامي بفراشي
لتنجبي يوما ثامنا
وأسماء جديدة
فالفرس للطراد
والليل لشاعر يكتب حبتي عسل وخل
فالريح تملك حقول القمح
وتعجز عن أكل حبة
والحجر الذي قتل قابيل.
كم .. أشتهي !!
كم أشتهي
أرجوحة في شعرها
وبحيرة في قرطها
وأحيك تحت الشمس
عمري كله من خطوها
أنا أشتهي
ما أشتهي
حتى حوائجها الصغيرة
أشتهي
مرآتها بالمحفظة
والمكحلة
منديلها الغافي
وطابع البريد
يأتي على طرف الرسالة
يأتي بها ساعي البريد
منها إلى
آثار إصبعها الرقيقة
وأظل ألحق كل آثار لإصبعها الرقيقة.
كم أشتهي
أن أضمك
ضاحكا
أو
باكيا
أو
خائفا
ذا لا يهم
ما دمت متحدا معك
كالطفل تدمع عينه
ولسانه يمتص حلواء
وأدس أنفي فوق نحرك
لأشم عمري
خوفا من الغول
الذي يدعونه بالذاكرة
تطفو عليها حادثات
أبتغي نسيانها
كم أشتهي
إني بلا ماض
وليس هناك غد
لأعيش يومي وحده
يومي فقط
كم أشتهي النسيان يغسل خاطري
حتى العظام.
وأود لو جمعت في كيس أغاني بلادي
ورنين ضحكات الطفولة بالسرير
والوشوشات لفلة عند المساء
حتى تكون لها وسادة
منى هدية
في عيد ميلاد البراعم
عيدها
لأرى الزمان يلوك أصبعه بثغره
في دهشة منها
يكفكف من لعابه
وأراه مأخوذا بمرآها
فأسخر بالزمان
وأشد أنفه
أقول في هزء له :
كفكف لعابك يا زمان
فحدوده خلف الزمان.
علي الرقيعي
- من مواليد طرابلس، عام 1934.
- توفي عام 1966.
- عمل موظفا بوزارة الصحة.
صدر له:
- الحنين الظامئ، شعر، دار الفرجاني ليبيا، 1957.
- أشواق صغيرة، شعر، اللجنة العليا لرعاية الفنون والآداب ليبيا، 1966.
- الليل والسنون الملعونة، شعر، دار أعلام طرابلس،1991.
أغنية حب إلى أصدقائي
على صورته وسدت رأسي
وتمسحت بخديه
وقبلت عيونه
وتضرعت طويلا للسماء
كي تصونه.
إنه يا أصدقائي الطيبين
زيت مصباحي لآلاف الليالي الآتية
إنه في خاطري يروق أشهى أغنية
غسلت قلبي بأفراح الحياة.
أصدقائي
في ليالي السهد لما
ينشر القلب لمن يهوى جناحه
ويمد القمر الأخضر للعشاق راحة
ساكبا في رفة الصبح إليهم موعدا
فأعلموا يا أصدقائي الطيبين
أن آمال الهوى لن تخمدا
لن يظل الليل في الأعين
وهما أسودا نزقا
ما دام في الأعماق نبض يتوهج
وحنين يتأجج.
للعيون الشاعريات الحيية
بعثر الله عليهن ضياه
وسقاهن بأجلاف الأماني الأزلية
ما يصير العمر لولا لمسة الحب السخية.
أصدقائي
قال لي:
يوما سألقاك هنا
ضمني شوقاً إليه
مثل عصفور تعلقت به
ثم أختفى
آخذا روحي معه
وأنا ما زلت لم أبرح مكاني
وأنا أهتف:
يا سرب الصبايا ألف آه
هل رأيتن حبيبي
في ليالي القلق الحلو
وفي ظل العيون الشاعرية.
كان يا ما كان أن ضوء روحي بحنانه
وعلى ضحكته وسدت رأسي
وتمسحت بخديه
وقبلت عيونه
وتضرعت طويلا للسما
كي تصونه .
الخباز والأطفال
يا جذوة الحب العميق
لا تنطفيء
فلكم يعذبنا الحنين.
لك
في قرانا الخضر
في يوم انتصار
صاف كوجه أبي يدندن للنهار
حيث المسافات البعيدة
والقفار تعنو
وحيث بلا جدار
تنساب أغنية الرفاق الظافرين.
بيضاء يشربها شعاع الشمس
بيضاء الجبين.
يا جذوة الحب العميق
شبي بأضلاعي فلي يوم انتصار
ما زلت أنشده
ويا خباز شارعنا التريب
فلتستفق أبتاه
ولتعلن بغنوتك الحنون
ميلاد أفراح الصغار
في حينا
يا أيها الرب العظيم
ولتكتسح أيامنا الجدباء غنوتك الحنون
يا زارع البسمات
في أحلامنا العطشى
ويا أمل الغداة
أبتاه يا أمل الغداة
لا تنتظر
أطفالنا يتعذبون
والليل في أحيائنا
لا تنتظر
قاس
ومعبره صعيب .
انتظار
أورادنا ذبلت
ولم نبرح على حر اللهيب
وفي انتظار
أحبابنا يا أيها الحادي الوديع
عرج علينا
أه
تيمنا الغرام
إلى اللقاء
والقلب لا يشفي بغير الحب
يا حادي الحبيب
عرج فقد طال الفراق
وتقرحت أجفاننا شوقا
وأوراد اللقاء
ذبلت
وما زلنا على جمر الحنين .
فتاة تونسية
الليالي الدافئات التونسية
لم تقل لي
كيف لا تصفو العيون العسلية ؟
كيف لا تبقى وفية ؟
وأنا أصلب أشواقي على صدر طفولي
في عشية
طمعتني بالهوى حتى انتشيت
خبأت لي بسمة خضراء في هدب صبية
يا صديقة
كيف بعد اليوم آنستي ؟
هل تودين الحقيقة
أه
لو يوماً معي قلبك نضرت طريقه
من لهيب الشوق في قلبي
ومن نور عيوني
فأعذريني
وأغفري لي يا صديقة
إنما يأسرني دفء القلوب الطيبة
القلوب الشاعرات الأنثوية
وهي دنيا حلوة السكب ندية
بالأماني
يا صديقة
خبريني لم تحتال العيون العسلية
ثم تقسو
إنما أبهرني إحساس عذراء على جنح قصيدة
فانثريني
وأبحري
عبر شطآن المدى عبر الزمان
في شراع من حنان
إنني أشتاق أن أغفو في حضن حبيبي
ذات ليلة
من ليالي صيف يوليو القمرية
حيث آتيك بأشعاري
وأوهامي الحيية
راعش المهجة
سكران الهوى
فأنتظريني
وسأجتاز المسافات الطويلة
أحمل الحب لعينيك
وأشياء جميلة
وأنا أرقص كالطفل
أشدو
وأنادي
يا حبيبي
كيف بعد اليوم أنسى ؟
ذكريات أشعلت روحي أنسا
لست أنسى
يا حبيبي عشت لي
عشت في قلبي شمسا .
ماذا أخبر عنك ؟
ماذا أخبر عنك ؟
هل تجدي وسيلة ؟
يا جنة الغرباء
يا مثوى طفولتنا الجميلة
ماذا وخيرك يا بخيلة
بددته للريح ؟
خيرك يا بخيلة
يا من يعذب حبها قلبي
وما بيدي حيلة.
أنا ههنا في الصمت
تحرقني عذابات الطفولة
أرنو لشاطئك الحزين
وما تبقى فيه شيء
أمواجه بله السنين تضم رقدتك الطويلة
والريح تسرق أغنيات الصبح منك أيا كسولة
وهضابك الجرداء تستلقي قتيلة
في كل قلب
في عيون الآخرين
يا زهرة لم تلتمع يوما ببسمة
مدي برغم الليل
مدي لي يديك
أنا
ههنا في جنح غيمة
متيبس الخلجات
مدي لي يديك
فلعل في عينيك رحمة
ولعل
يا بلد الهموم
لعل ضرعك فيه قطرة
لإبل هذا القلب
كي أشفي غليله.
أواه
من حبي العميق
ومن جحودك يا بخيلة
يا مرفأ الغرباء لو تدرين
أي يد ثقيلة
تمتد للشعراء
أي يد ثقيلة
في الليل
ليل الصمت مذ أرخى سدوله
لكن حسب الشعر
لأسمك يا... جميلة
إني أعري صدري الدامي الممزق للرياح
كي تنظري أعماق جرحي.
ما زلت أؤمن أن في عينيك رحمة
مهما قسوت
ففي دمي تجري أمومتك الجليلة .
غربة
بلا عينيك تبتسمان لي في وحشة الدرب
أنا جوعان
بلا مأوى
بلا حب
أبعثر يومي المصلوب من مقهى
إلى
مقهى
وفي قلبي
فراغ موحش الغربة
وفي رئتي طعم التبغ
والأقداح
والليل
ومخدع امرأة همجية العينين تأكلنه
ببطء الليل تأكلني
وتصلبني
على نزوات فستان بلا أزرار
أقول لها:
أنا جوعان
أقول لها:
أحس النار في قلبي
بلا حب
أصارع في خضم العمر محترقا بلا مجداف
بلا مرفأ
عليه أنظم الأشعار
أرقد عنده
أدفأ
عليه ألتقي بيدين تبتنيان لي مأوى
عليه أنام
لعلي ألتقي بطيوف أحبابي ولو مرة
وأشعر إنني إنسان
حبيبي
في سبيل العيش جئت مدينة الأضواء
بلادا مـــرّة
الطرقات لا ترحم
على أمثالنا تقسو
بلادا تحضن الغرباء
تميت طفولة القلب
بلا قمر شفيف الضوء في شغف عبدناه
بلا أغنية خضراء تلهج في ثناياه
بلا عينيك تبتسمان لي في وحشة الدرب .
أشواق صغيرة
إن تململتم بالأشواق في الليل طويلا
فلتظلوا ساهرين
لا تناموا قبل أن تحضن أحلام الكرى رمش الحبيب
وسدوه بعد أن يغفو حبات القلوب
دثروا عينيه في رفق بأستار المحبة
دفئوا بالحب قلبه
هدهدوه بالحكايات وخلوه ينام
في سلام
وأصنعوا من وجهه الحالم ذرعا لليالي
يا خطاه
خبريه دفقة الشوق محال أن تموت
وشراع الملتقى ما زال يحكي الموج عنا
إنني عبأت بالحب عيوني
كي أراه
وأمتطيت الأفق
غنيت
وصارعت الليالي
في هواه
وعلى الثلج مشيت
أحمل العبء لكي يحيا معي
في أمان
يا شراع الملتقى
إنني أفردت للموج جناحي
لا تقل إني لعينيه بكيت
لا تقل إني على النار مشيت
ذات يوم
قسوة الصبر
عذاب الشوق أقسى
وهو مازال على الشاطئ وعدا يلوح
وهو قلب طيب الخفق ولكن لا يبوح.
يا عناقيد الضياء
سيجيء شباكه الأخضر في الليل برشات القمر
وأحملي لي مرة من وجهه الحلو خبر
وأصنعي لي منه درعا وحجابا
وقدر
دفقة الشوق
شراع الملتقى
لا تعلموه
إنني يوما لعينيه بكيت
وتململت على الأشواك وحدي ذات ليلة
فتظلوا ساهرين
لا تناموا قبل أن تحضن أحلام الكرى المسحور رمشه
دثروه بعد أن يغفو في رفق بأستار المحبة
دفئوا بالحب قلبه
وأحرسوه إنه صار حبيـبي .
***
جيلاني طريبشان
- من مواليد عام 1944.
- توفي عام 2002.
- تخرج من معهد المعلمين.
- عمل كمدرس رسم.
- ثم عمل في الصحافة.
صدر له:
- رؤيا ممر، شعر، الدار العربية للكتاب ليبيا، 1974.
- ابتهال إلى السيدة (ن)، شعر، الدار الجماهيرية، 1999.
عن البرنامج اليومي
كنا خمسة فى باريس
يقتعد الواحد منا أرضية الغرفة
وجريدة "لوموند "
ويدير الآخر منا "جرامافون" الصمت
فتغنى " لوليتا " أغنية حب
أو تهمس فيروز تناجى العودة
كنا خمسة لا نملك من أمر الأرض
سوى الصمت.
فى "الباص" الهابط من مونمارتر
يفاجئني الإفريقي الهارب من تطوان
يبيع الصمت
وأردية النسوة
والعادات السمجة.
فى "الشانزليزية" تصحبني إيزابيل إلى المطعم
أقتات بباقات الورد
وألتهم شطيرة لحم الأوعال
فى "اللوفر"
أعقل ناقات زياد
وأبيع قصائد طرفة بن العبد
وأكتب شعرا في "تواليت" الصمت.
أقفل باب الغرفة
أطفئ تبغ الغجر على منضدة من وجدة
وأقلم أزهار الأصص البلورية
وأغنى:
"بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه" *
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له:
لا تبكي عينك إنما
نحاول ملكا أو نموتا فعذرا "
وأقفل مرتعدا صوب ألحان .
* مقطع شعر لإمريء القيس .
مكابدات
إلى فرج العربي
ما الذي جئت تفعله ؟
في بلاد
لست تعرف فيها أحد
لقد آن أن تستريح.
ما الذي جئت تفعله ؟
فالدوائر ليست كما تتراءى الدوائر
والشوارع عامرة بالأفاعي
البنات يداومن في الصبح في الثكنات
والقبائل تتهيأ للرقص
في مهرجان النظام الجديد.
ما الذي جئت تفعله ؟
تجلس الساعة في فندق يطل على المتوسط
ليس فيه من بهجة النزل سوى الضجيج
قبل عشرين عاما
عرفتك الشجيرات في أول التل
طفلا صغيرا
يطارد سرب الحمام
ويبني قصورا في الرمل
أو وطنا يحلم أن يتبادل فيه المهمات
وها أنتذا الآن في جبل
ليس فيه من الأطلس غير الحجارة
تنتظر الشعر
تخلق طقسا من الوهم
تفتش في ذكريات الليالي الطويلات.
هل كنت أنا حقا ذلك المارد المتدفق بالأمنيات ؟
أيها الشعر أسألك الآن:
كيف تخبو الأماني الصغيرات ؟
هل ذبلت زهرة القلب ؟
أيها الشعر:
آه ...
لو جئتني قبل هذا السكون
حين كان القميص مشجرا .
مقاطع ما قبل الرحيل الأخير
يذكر السرو
والطير يذكر
تذكر الأمسيات
ويذكر المترفون على الطرقات!
ويذكر الليل (صالة الشاي الهندي)
تذكر
تذكر القبلات
القبلات السريعة
والقبلات البطيئة
والقبلات التي قذفتني في لجج الظلمات
يذكر النهر
وقد تذكر القبرات
حين كنا نهاجم كل الطقوس البليدة
وكنا نعربد
نعري
ونسكر كي تفهمون القصيدة
وكنا نغني إلى أمة لم تعد تنجب الأنبياء.
أيها السادة السفهاء
أيها السفراء
أيها المرتشون
الفاسدون
النائمون على سرر الفقراء
منتهكي البراءة
مغتصبي الطفولة.
أيها
لكم ساعة قد تحين قريبا
ولنا أوبة المقاهي الوضيئة
ولنا وطن
حين نبغي نفجره في قصيدة
ولنا الله
والطفل الحجر
ولنا (رغم كل الظروف)
سهوب المنافي البعيدة
تاركين لكم
كل شئ.
قال قارون:
دول الزيف
مستنقعات النفط
نساء المعارض
غرف التعذيب
غرف التزوير
برامج التنشيط
وكل شئ قابل للتداول
ابتني الأرض مملكة
وجزيرة
أنشر في مجمع اللغويين بعض القصائد
أنشر الأرض مزرعة
وأخاطب كل الذين أتوا قبلها
وأتوا بعدها
أصافح كل الرجال الذين يضنون عنها المرايا
يضنون عنها الوسائد
يضنون عنها الرواق
قاعة الخلد (منزل الأقنان).
ايه
يا وجهها الذى كان يومض في مرايا الدخان
هو توسده النبي
هو
سور السجن
وشرفة العشاق
تب أيها الحجر
وإلا ضربتك بحاكم مستعرب.
قداس إلى " كاتب ياسين"
نجمتك الآن تصعد في(ساحة البرج)
في ساحة الجامع القروي
تصعد حينا لتهبط في حانة
في (الرباط)
تحاور كل التصاوير
عن وجهك المغربي
تحاور آلهة الزيف
والصنم الأوحد
تحاور كل دراويش عصر القبائل.
هل أنت فينا ومنا لنذكرك ؟
الآن
يا سيدي راية لا تساوم
حوافر خيلك خمستك الآن واحدهم
أحد
لا أحد
لا أحد.
وحدي أغني رحيلك في بلد التيه
والشعراء
الأنبياء الجدد
أنت منهم
ولم تكن منا
هنالك مقبرة ترفع الآن وجهك
اسمك
شعرك
فقرك
نارك
لكن مقبرة الأصدقاء القدامى الجدد
لن تعيرك بالشيب.
عم صباحاً
مساءً
لا فرق عندي
هو الوقت
لا نعرف الآن أين الدليل
وأين الرفيق
وأين العدو
وأين الصديق
وأين الأحبة.
طريق دمشق خراب
كل الدروب خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب
خراب.
تضيق(الجزائر)
علمتنا أن (الجزائر) يمكن أن تنطق في لغة (الصين)
أيضاً (جزائر)
لا فرق
خرق الصوف
همهمات القبائل
حزمة من حطب
جثة نائمة.!
لم يطوقها غيرك في الساحة القانية.
ما الذي تذكر الآن قل لي ؟
ما الذي تذكر؟
رحلة الصيف
رحلة الزيف
رحلة الريف
النساء
الخلاخيل
المحارم
إن كل النساء محارم.
يسقط الثلج
وقد كان يسقط فوق برنسك الصوف
آه كم مرة في أعالي جبال(اليمن)
في أعالي جبال (الجزائر)
والطفلة النائمة
هدهدتها الأمومة كي لا تقوم القيامة .
إنها الدائرة
ضاقت الدائرة
الفراغ
الطباشير
المرايا
الكتب
السجون
المنافي
المحن
المقابر
كلنا سوف يملك يوما صليبا
ومقبرة باقية
لا أقول وداعا
وعليك السلام
وقبلك يرقد فينا عمر
فعليه السلام
وسلام على الأولين .
***
محمد الفقيه صالح
- من مواليد طرابلس الغرب، عام 1953.
- تخرج من جامعة القاهرة في العلوم السياسية.
- إطار بوزارة الخارجية.
صدر له:
- خطوط داخلية في لوحة الطلوع، شعر، الدار الجماهيرية طرابلس، 1999.
- حنو الضمة سمو الكسرة، شعر، نشر شخصي، 2001.
قصيدة إلى طرابلس الغرب
جرحان
إيقاع المدى
والخاطرالمفتون.
جرحان
ذاكرتي التي تهمي
وجمر فى اشتهاءات العيون .
جرحان يا قلبي
وصمتك حائط يعلو
لماذا كلما انتابت حديقتك اختلاجات الندى والعشق
سربلك السكون؟.
أختار من بين اللغات:
الصخر
من بين الجهات:
الفقر
من بين المرايا:
وجهها
ويسيل درب من ربي قلبي إلى ميعاده
فى ساحة للحلم إبان الهطول
ليكن حضورا قاصما
ولتجرف الريح العفية ما تبقى من صراخ يابس في الأرض
ولتعصف غيوم الوجد بالأشعار.
هاهنا انشقت غيوب عن هبوب
فأنجلى عن كل عين حاجب
عن كل قلب ليله
وهنا ازدهى فى نبضك الدامي
أريج من صهيل الحلم
وانداحت سهول خصبة
فهفت إلى النبع الطفولي الرهيف رصانة الأحجار.
سبحان من خلق النساء
وأضرم الإيقاع فى أجسادهن
وسبحان الذي لا يكتئب
قال السجين
وقد تلفع بالحنين
وبالسحب.
وتهاطلت فى القلب جدران الأزقة
والحواري
والقباب
وتقاطر الصناع
أينعت المطارق في الأكف
فأزهر الإيقاع
أيقظني
وكان النبض موصولا بمن رفع السقوف
وموغلا بالصبح في جسد المدينة وهي ترفل في الأيادي.
يا أبى
واستغرقني في جنون الطرق حمى القارعة
(الحلم يا محبوبتي زادي
دم الرؤيا الذي أحيا به
موتى
وميلادي
والحلم ميعادي
وذاكرة الهوى المخضر في وجه الخريف
والحلم لم يصهر دمي صهرا
ولم يشهق عميقا في يدى جرح الرغيف
هذا اعترافي
فأشهدي).
لمدينتي يتهدج الحرف العنيد
وبطيبة الصناع
والفقراء يختلج النشيد
مست يدي ـ في الصبح ـ خاصرة المدينة
فاستفاقت في المواعيد الندية كوشة الصغار
وارتحلت بي الصبوات
حين تفتقت في زنقة العربى شمس ـ طفلة
وانشق باب عن قوام عامر بالخوخ والنوار.
البرق
يا لأناقة التكوين
يا لعراقة الأسرار
البرق قد يأتي من الحناء
إذ يتفتح الصبح البهيج على أصابعهن
باقات من الضحكات والأشعار
ومن البخار الصاعد الموار أزمنة تطل وتختفي
في كل منعطف ودار
وفتحت صدري ـ عبر باب البحر ـ
للريح التى تنحل
فوق الشاطئ الصخري في الزبد الكثيف
البحر حين تخضه الأشواق
والصياد حين يؤوب
محتدمان في قلبي إلى حد النزيف.
أمضي
تسير بجانبي الطرقات
والأقواس
والدور العتيقة
تحتويني فى المساء نقاوة المشموم
والأطفال
إذ آوي إلى مقهى بباب البحر
سيدتي تطل الآن من شباكها
وتذوب في ريقي
حليب صوتها
ورموشها تنساب في لغتي
إلى أن لا يصير القيظ تحت جنونها قيظا
أشم عبيرها ينثال من حجر
وأرشف سلسبيلا من تفتحها
ويعصمني من الإغراق في الرمز
اشتعال علاقة ما بين قهوتها وطيب
ضفيرتيها.
إنني أمشي على حد الزمان الصعب تفعمني
اختلاجتها
وأشهدني محاطا بالبهاء
كأن سيدتي استفاضت من كيان الصمت
وانداحت مع الأنفاس في جسد الهواء
فسبحان التي فتحت خزائنها لمن يحتاج
سبحان التي أسرت بعاشقها إلى لغة الندى والارتواء .
زبد هدير القحط ـ سيدتي ـ إذا أخضل اللقاء
الليل
والطاعون
والباشا
وجند الانكشاريين
ماذا يتركون ؟
حطت على رأسي المدينة كفها الزيتي
فاشتعلت على صدري الحبيبة بالغناء :
إن البيوت كثيرة
والسقف واحد
والأمنيات جريحة
والقلب صامد
والكادحون تناهبتهم غابة الأسمنت
غول هائل
والنفط ـ لو أدركت ـ شاهد
فأرقص إذا ما شئت أن يبقى الهوى حيا
على إيقاعه الصاعد
إن المدى والمد
إن المدى والمد.
علاقة
للتفاحة طعم المرأة
للتفاحة فيض يشبه بسمتها
ولقلب العاشق أسرار التكوين .
يخطر للتفاحة أن تتكور
أن تتأنق
أن يتجاسر فيه اللون.
راق
ورقيق جسد التفاحة
وبدائي شوق العاشق
آه لو في وسع العاشق أن يتغور
أو في مقدور التفاحة أن تتكشف
لصحا البرق
وجاشت في القلب الأمطار.
ثمة موسيقى تنساب
ومرج من دفء وسكون.
يا الله
أهذا جسد التفاحة
أم حلم يصعق قلب الجائع
أم أنثى تتسلل مثل رحيق الفجر
وتزهر في الأعماق ؟.
خشب
مل قلبي الخشب
الكلام
الخشب
والأغاني
الثواني
المرايا
الخشب
صار يلزم عود ثقاب
وشيء من الهول في لغة يقشعر المدى
من حشاشتها إذ تهب
لتنتزع الروح من قاعها
وتطلقها في مدار الغضب
ويلزمنا أن نزيح الستائر
ضاق المكان بنا
وتعنكب هم الزوايا الرطب.
ثمة الآن من يستريب :
السياج
الرتاج
الندوب
الغروب
وثمة من يستجيب :
البذار
الشرار
الوثوب
الهبوب.
وهذا أنا فى احتدام الهجير
على وقع وثبتهم أستطيب
وينداح في الأرض منى وجيب .
إطراقة
لعلها تتكئ الآن على مراراتها
أو تنتزع آهة من القلب
وتذيبها في إبريق الشاي.
أو لعلها تتذكر الآن
أطفالها الذين أزهروا في حديقة الموت
وولدها المطعون
على حافة الصمت والانفجار
وربما يحدثها الآن أبي
عن نقص القصدير
واكتئاب المسرات
أو يحكي لها عن وطن جميل
تموء على أطرافه الغنغرينا
لكنها تضع يدها
على رأس أخي الصغير
ويأخذ شيء من عينيها
إلى أن يفاجئها الجمر بالاحتجاج
والرائحة النزقة
ولعنات أبي المنصبة كالسياط
على الشاي
والشيطان
وسجون الفاشست.
نـون
شذرات
1
أول صورة للبوح
سير في صباح ماطر
وتوغل في غابة
حتى إلتماع الصمت والصهوات.
2
طوبى لمن خلق النون من عدم
ثم شكله من نغم.
3
منذ أن صعقت قلبي أول مرة
الفراشة التي تتوج استدارته
حل بأسه في الأشياء كلها
ودخل في ملكوته
وكل ما انفتق
وانبثق
وكل ما نفر
واستنفر.
4
ليس صعبا على النون
أن يكتري جملة
يستجير بها من فحيح الإغواء
ليس صعبا
ولكنه مؤثر أن يهيم على وجهه
ناثرا ـ أينما حل ـ من جمره ما يشاء.
5
يقول الإنسان قولا
ويفعل النون فعلا.
6
ترى
ما الذي سوف يحدث
لو ساق كل اللغات إلى حتفها
هل سيبقى الظلام ظلاما
وهل سيظل الكلام الحبيس
يفرخ تحت الجلود دمامله ؟.
7
فى استواء السكون الناغل هذا
أما من نون ؟
أما من صرخة ؟.
بورتريه
ليس كنزا
وان كان فيه نفحة من خفاء
ولا فيضانا
وإن عد فيوضيا ضليعا
هو الغر ـ المحنك
والعابث ـ الرصين
لا ينفرد بأمر
حتى وان كان وحيدا
ولا يطعن إلا في نزال
وليس من شيمته أن يستكين
إلا إذا كان في الأمر شرك
أو شريك حميم .
***
عاشور الطويبي
- من مواليد طرابلس الغرب، عام 1953.
- تخرج من جامعة ايرلندا / كلية الطب.
- يعمل كطبيب، ويدرس الطب.
صدر له:
- قصائد الشرفة، شعر.
- أصدقاؤك مروا من هنا، شعر.
- نهر الموسيقي، شعر.
- صندوق الضحكات القديمة، شعر.
كآبة
كآبة 1
البحر:
أجلس على رمله يلتصق بجسدي الرقيق
الناعم
الصغير
أنظر إلى البحر تنتابني فكرة فارغة
ومخيفة
أتزحزح قليلاً عل ارتعاشاتها تسري في الرمل
أقول لماذا يجئ الناس إلى ساحته يقفون
دائما يقفون ؟
أشعر بشيء يقبض على أنفاسي
فأهرب إلى هبة ريح جاءت تسأل عن حرارة الماء
يزيد الضيق التفت
فأرى عراة في البحر يغتصبون البحر
أسمعه هذا البحر الخانع
المائع
أسمعه يتأوه
أنهض
ألعن البحر
الرمل
الريح
وكتل اللحم العاري
تتساقط حبات الرمل الشره الثقيل
أوف
أوف
أوف........
كآبة 2
عبثاً أتذكر فكرته عن صرامة الطحلب
لم يقلها
كانت في عينيه
رأيتها حيث أطرق رأسه
لم يجلس
كان يسكن حوض ماء
لا أريد أن أكون حجرا في متحف
رقما في سجل
أو
لوحة مثبتة
على حائط في شارع مقفر.
كآبة 3
أريد أن أكون كل الأشياء الجميلة في الحياة
بيدي أفصل:
بين الراحة
وأول الشارع
بين أي مساء
وهذا الذي يجلب الماء
بين العاشق وظفيرتها
خدها
قوسها
نارها
بحرها
والشفة المضرجة
أطلب الإذن للدخول إلى بوابات الصديد
والبلبل الليلي
لعلني أعقل ولا أعود
لعلني أنتحر بالأعداد المقدسة
لعلني أقلب الأرض بين يدي
وإن شئت أثقبها
فسسسسس.
كآبة4
بعد أن أكلت
شربت
ودخلت الحمام
جلست قرب النافذة المطوية
قرب الديك المعتوه
قرب الصور الباهتة
قرب الحيطان العارية
قرب نشرة الأخبار الصامتة
قرب يدي
ورأسي.
اطرابلس
اطرابلس :
تواصل
عرق
خوف
حيرى
ومكحلة لتضاريس الوجوه الضاحكة
الأزقة الملتوية
في المدينة القديمة
وزحمة النهار
في الهضبة الخضراء.
تنكمش على أوجاعك
تخفين جروحك بالضحك البسيط
وترفعين راياتك
(آي رايتك ترفعين؟)
تعلقينها على سعف نخيلك الذي لا يخون
بعض الذين عبروا
وقفوا
وحيوا
وبعض غرزوا سيوفهم فى كلمات
وما دروا أن أنفاسك حملوا
أن القطارات مذ غادرتك
سكتت
أن الخيول حين رأتك لوت أعناقها
وبكت
ما دروا أن للصمت سره
يفصح حين تجلس الشمس على شباكها
ويستغيث بالماء حين تغيب
وما دروا أن البحر صديق قديم
لو أن التربة قامت
ومشت بيننا
لو أن السماء غطست في البحر
مرة
أو
مرتين
لو أن البحر ركب سفينة
وغاب
لو أن الطيور هاجرت
ولم ترجع
لو أن كل ما لا يكون كان.
ما صدقنا أن الذي حدث قد حدث
أمور عادية
دخل
وهوى بالسيف على عنقي
سال دمي
اثنى الحاضرون على براعته
وقبل نشرة الأخبار جلسنا على طاولة الأكل نمضغ الهواء .
ثلاث برقيات
ـ ثلاث حصن قادمة مع الليل .
ـ ثلاث حصن متورمة الأقدام تقف وسط الساحة.
ـ ثلاث حصن وجدت ميتة .
مشاهد من الشرفة
الظلمة على شاطئ البحر كثيفة
تغطي السماء
الرمل
والماء المالح
أحيانا تقفز كرة من الضوء
لتختفي بسرعة ويسر.
الوردة حمراء بثلاثة أغلفة
تميل برأسها المرتفع
على ساق في الماء.
ضحكات الرجال الواقفين قرب السور تبدو منسجمة
والنسمات الصغيرة القادمة من البحر
تمر أمام الحارس الليلي
يحييها بانحناءة خفية
بينما الطفلة ذات الفستان الوردي
ترسم شمسا وعربة.
حال
ها غبار يلوح من بعيد
من أقبية السذاجة برفع أفكار باردة
يسند كبرياء مكسورا
مجرد غبار
لا يعد بشيء .
ها أرض تلعق خوفها
تخرج من عنق الوقت
تفتح منحنى المحبين
وتدور حول نفسها
برتابة
رتابة .
الأرض الضاحكة اليابسة
تسأل الأسماك
أن تمسك لها القمر
لكنه يفضحها ويهرب
صاعدا منحنى المحبين
إلى حيث يرقبنا
الآن
من بعيد !.
***
مفتاح العماري
- من مواليد بنغازي، عام 1956.
- عمل كجندى بالقوات المسلحة.
- يعمل حاليا بالصحافة.
صدر له:
- قيامة الرمل، شعر.
- كتاب المقامات، شعر.
- رجل بأسره يمشي وحيدا، شعر.
- منازل الريح والشوارد والأوتاد، شعر.
- ديك الجن الطرابلسي، شعر.
الشيطانة النائمة
كما لو أنني أهذي
رأيتك أيتها الشاردة
وأنت تهتفين نحوي
توقف أيها الجندي
كما لو إنني أحلم
أنزع معطفك العسكري
وأجلس قريبا من شواطئك القاسية
أفكر فيك بحواس مرتبكة
وحزن شفيف.
أنت يا صديقتي الماكرة
يا شيطانة الشعر الذي يولد
لكي يرضعك
بأي مستقبل سأفكر فيك ؟
فالذي يخطفك يكون شبيها لرغبتك في اللعب
مقطوعا من شجرة منقرضة
حتى لا يعاوده الحنين إلى أمه
مختلفا عن أقرانه
يدخلك متأبطا هدوءه الحالم
شاعرا
يقود الخيال من أذنيه
هذا الخجول الفاحش قريني الذي
خانني
علمني كيف أهوى
وكيف أعبر واثقا باتجاهك
في وداعة الأسرى
لأكون أول وافد يضع حدا لهيمنة العطش
أهبط إلى شوارعك الحارة
الخانقة أوهام عابريها
في ظهيرة طاغية جدا والهواء يترنح
بأسنان وسخة وفم كريه
طاغية تراوح كسلحفاة مقلوبة على قفاها.
الذي مر ليس مثلي
له رغبة حصان عجوز
رغبة نافذة معطلة
ليس مثلي
الشاعر الذي رافق العسكريين
وهم يقفزون من الشقوق
وارفف الغبار.
مثلي من يخطفك بعيدا
حيث لا أحد يطرق الباب سوانا
أيتها
الأمارة بكل الغوايات
الغامضة لأنها تضحك دائما
وتعد القهوة للأصدقاء
المستبدة
تهب المستقبل عصير أنوثتها.
أحبها يا ربي
هذه الشيطانة النائمة في سريري
بشعرها الجامح
وقامتها السادرة في المعصية
بشعرها الذي ربته مشاغبا
علمته الرماية وركوب الخيل.
الحنونة
حاضنة القصائد
والشهوات
لم تولد بعد حين ذهبت إلى الحرب
لم توجد الحرية الفاتنة
لكي أقبلها أمام المسجد
في نهار كبير وزاحم
أغازلها داخل السوق كأننا وحدنا
لم أدخل المدينة بعد
كبدوي خاسر
فترفقي
ما من ذكر ليس مشروطا بك
كلهم يشتهونك مقشرة فوق المائدة
مفروكة بالعطر
مبللة بمزيد من صراخك الفتي
لكن ما من أحد يقوى على هزيمتك
لأنك عصارة كروم متوحشة.
أيتها البدوية المدللة
الطفلة المسنة المأخوذة باللعب.
المرأة الضالة
الابنة الوحيدة في سلالة الذكور.
العنيدة
فقدت نصف سكانها لتكون هي
وتبقى.
يا معركتي المؤجلة
الآمرة بالتوقف
أستعد أيها الجندي
أنا خندقك الأخير
فتزود لحربك المؤبدة
بنار لا تأفل
وهواء لا يحترق.
أنت المنزوعة سلفا لأجلي
المقتلعة بسطوة الريح
لكي أكون إلى جوارك أبدا
أهربك خلسة من حلم
إلى أخر.
يا وشمي التائه بين الدلالات
يا لغتي التي تجدد قاطنيها
يا أمي الصغيرة جدا
أنا المغرور بك
العابر مكتفيا بنفسه لأنك معي.
لأنك امرأة تشبه نفسها
لم أرها تخاف الغد
أو تشتكيه
إسمها يكفي لإثارة الفتنة
عنقها رحيل لا يفسر
وعنقها سعيد لأنه عنقها
عيناها يرتبك فيهما المعنى
وفمها يبشر المؤمنين بالجنة
حيث يقف العابد خاشعاً
شكرا
يا ربي على اختراع النبيذ
والفاكهة.
يداها
أعترف أنى حين لمست إحدى يديها
ارتجفت مثل بلاد خائفة من شغب
عاشقيها.
قالت:
توقف أيها الجندي
أن تذهب بعيدا
يغدو الضحك مقلوبا
ويصير صدري بلا مأوى.
قلت:
لمثلك يتطوع الخيال فدائيا
يكرس حواسه لمشيئتك وحدها
ولأجلك ترتكب المؤامرات
ويغدو كل شيء ممكنا
المستقبل بثياب نظيفة
وغرف مرتبة
المقاهي تسترد أمسياتها الحميمة
والكلام
براءته العابرة.
توقف أيها الجندي
لست مدينة مستباحة
لكي تحتلني
ثم تنسحب حين تشاء.
قلت:
أحبك أيتها الكافرة
سأهبك ما تبقى من شعبي
ليزرع حواسك بالقبلات.
أحبها يا ربي
لها إذا أرادت
رعايا هذا الجسد
عبيد طيعون
يرتبون لها العالم كما تشتهي.
ساعدني يا ربي على بلواي
أنا الفتى الخائف
الشاب العربيد
العابر الضروري
الضيف خالق الوقت
والمسرات
الزوج الأبق الوفي
الولد الشقي
حامل الألعاب
والمطر
ساعدني
قبل أن أخسر مفاتيح بيتي
كان بيتي قريبا من بحر لا أراه
شرفته تطل على محطة الحافلات
وباعة الحصر
والأغطية
كان بيتي بعيدا.
ساعدني لكي أقول:
أرجو المعذرة أيتها البنت العاقلة
يا فتنة الشعراء
يا قبلة التجار
والقراصنة
لأني الليلة حلمت كثيرا
فامتزجت ألواني بي
كأن أراك
بين عيني وبيني
ولا أمشي إلا بك
وإني كبرت كثيرا
وشطحت كثيرا
فصنعت لك
نهرا بحجم الحصير
وشيدت وطنا
فوق المخدة.
متع
نتفت ريش قلبي كله
هتفت مدعياً:
أنا سعيد بقفصي
كذاباً في الأربعين
أمشي على رؤوس
مخاوفي مثل محكوم هارب من حبل المشنقة
لا يعلمني أحد
خارجاً عن الطاعة
ألوذ بمدينة تقام في الريح
أجذبها من عنقه
مغمضاً حواسي
على متع شاقة للحظة كفيلة بأن ينسى العالم
مفاتيحه
ويمشي هائماً إلى لا أين.
أيتها الشابة الفارهة
وحدي أريدك لي
مسروقة بلؤم من سلالة الآهة
منزوعة من صفحات كتاب مقدس
منهوبة
دونما إشفاقة
أعصب عينيك بروحي
حتى لا تبتكرين شيئاً بعدي
مثل نمر مهذب أشملك برعايتي
تصخين لهذياني باستسلام عظيم
كرعية مغلوبة على أمرها
أريدك
وحدي لا شريك لي
أنت خاتمة المعرفة
آخر محطة الوهم
تأتين محاطة بالضوء
تدخلين كل فراغ في
مثل نار في أطراف الظلام
خفيفة تحرقين الحواس
وعارية أكثر
تتبددين بفيض خارج الليل
بعيداً عن خدمي
جبارة تفتكين المستقبل بأسنان مرحة
رحيمة كأم
بمشيئتك يعصر النبيذ من الشفاه
تستخرج النار من عناصر سائلة
وحدي
ودون أن يبصرني أحد
أصعد إلى فمك الصغير
إلى أنفك
إلى عينيك برفق
وإليك مرة أخرى
هكذا
أحبك دائماً
كيفما كان
أو يكون
داخل الثياب
وخارجها
هذا
كل
شيء
شهادة
يقول الماء
هذا باللوري
على رفرف البهجة مستكين
وأعدته على الرقص في أحراش
البحيرة وقت امتلائها
فأتينا ولم تأت
بحثنا السماء والأرض عن بحيرة
أخلفت موعدها
فلم نجحد غير دمعة تتحاشى السقوط
أنظر إلى بيتي تتقاطع أوقاته
تنتشي أوردته
بوقت يدور
يدور
ولا ينتهي إلى...
يقول:
هذا غيابي وموئلي
هذه فورة الورد قبل الشروق
هذه اشتهائتنا عند اشتباك حميم
هذا رونق الفوضى بعد تبعثر الضحك الطفولي
يقول
وأستمع أنا
ولا ننتهي إلى شيء.
أحتفل بك.. ربما أكثر، ربما أقل
لا أحد يذهب
لا أحد يجيء
امرأة ورجلان
وصبية فى العاشرة
تحب
الموسيقا
والرحلات .
المرأة تحكى عن آخر مسرحية للجنون
وتضحك ملء الذاكرة
لا أحد يذهب
فقط أربعة أشخاص فى الحافلة
امرأة ورجلان
وصبية فى العاشرة
متعبة بعض الشيء
ربما لأن آباها سقط سهوا من حكاية الطريق
لا أحد يذهب
لا أحد يجئ
وأنا ضاج كقنبلة موقوتة فى صالة رقص
أتوهم قيادة العالم حين أنظر إلى المرأة الجالسة
على مرمى الأذن:
كان الثدي حالما يقتفي تعاسة فمي
حيث ثمة صحراء
تغرق فى الهذيان
والحروب الخاسرة
لا أحد يذهب
لا أحد يجئ
رتقت لغتي برباطة الجأش
وأطلقت سراح يدي
ربما أكثر
ربما اقل
وفي الصباح توقفت الحافلة
قلت أرجو المعذرة
ومشيت.
سيرة العطب
أريد أن أخسر هذا الاحتفال المزور، أن أموت دون ضجة نساء وأطفال ورجال غرباء يشربون الشاي، ويتبادلون النكات السمجة، تعبت أنا... لا أريد شيئا سوى أن أمحو كل بقعة من وجهي، وكلماتي الضائعة في خبل، لا أحد يفهم ما تهذي به يداي، أظفاري حين تحفر وبقسوة حلمها المهدد بالإنقراض، شربت ما يكفى أردأ الخمور وأعنفها .
مضى العالم من دوني وأنا أسكر عند حافة العتمة، أصخب بأغنيات بذيئة تعلمتها من جنود قساة كانوا معي في الجيش، ينهضون قبلي ويشتمون كل شيء.
هلاك فاشي يتناسل مع قهوة الصباح، ساحات أسمنتية نضربها بنعالنا، ونهدر بأصوات غابات توشك بطرائدها الوجلة أن تدمر قانون السكينة.. ونرعد مثل سحاب خلب .
يذهب الليل
ويأتي الليل
موحشة الأسرة بشخيرها الحامض
ماذا تبقى من جسدي حتى أطعم هذه القشعريرة الخائفة ؟.
والأوقات الميتة تساقط في حمرة صيف لزج يشي بفداحة مفازة تخون سكانها، وإلى أي حد يمكن أن نجل الماء الذي يقهرنا بملوحته، فنحن قد كبرنا وصار لنا أطفال يرقبون الضحكة كمن يسكب نهاية اللعب.
أنا بعيد الآن
أسافر بأسرى إلى قبر الطمأنينة
لن أشكو من تعاسة تحيطني برعايتها
لن ألتفت إلى ظلي وهو ينحدر بسفالة وقحة ليمحو مشيتي من رصيف لا صوت له .
ليكن النهار مقلوبا مثل صرصار فى بالوعة مرحاض، قميء، ومهمل يعبر عن نفسه في بلاغة سادرة في تمجيد العفوية واحترام مشيئة الفوضى .
لن أسد أنفي متقززا، بل سأعبر محييا السادة وهم يدخنون، ويبصقون، ويدحرجون النميمة بينهم مبتهجين بأعضائهم التناسلية أولا، هاتفا بخجل وعلى نحو سرى بأسماء فتيات جميلات كبرن بعدي .
كنت أتبدد داخل بيتي المظلم
أتخبط مثل ذئب أصابته الحمى
شوارع بليدة تلتحف بغبارها النظيف تحت الشرفات والنوافذ المطفأة. صراخ آخاذ، مخيف ومدمر يقع قريبا من صرة العاصمة ضالة البدو، والعسكر، واللصوص، والزنوج الأفارقة والعمال المهاجرين بأوبئتهم وقضاياهم الصغيرة. امرأة ما تقتنص شرودي بمقص صاخب ومفاتيح يعزوها الخجل تدخل خلسة حيث لا أحد في المنزل سوى طفلي الصغيرين. ماذا يحدث وراء هذه اللغة المنتزعة ؟
وفي وقتي المحتل عنوة فونى أميا للحظة وأنا مريض وخائف.
سأترك كتبي وقصائدي جبنة لفئران وحرائق رثة لست راغبا في ثديك بعد الآن
خذي صدري برفق إني أتنفس بمشقة. مملكة من الذباب تسكن حنجرتي. يتشظى الهواء على تخوم فمي. لست غاضبا هذه المرة من مخلوقاتي وهي تخسرني .
فما أروع هذه الخيانة !
جميل منى أن أهدر فكرتي وأمشي
الضروري يحدث غفلة
فيما غيري يتملكني بفظاظة لص متلبس
وأنا أعرف الردى ببداهة طفل
يشطب عائلته
ويهرب بقفزة واحدة .
رجل بأسره يمشى وحيدا
وحيدا مكتفيا بالذي أنا
بالذي جسدي في الثياب البسيطة
أركض كما لو أن البروق أحذيتي
وحيدا أعوي.
أيتها الذئبة
خذيني من فمي
بعيدا عن صدرك
يغدو كل شيء في غاية الفساد والأبهة
العصافير ترتدي خوفها الغامض
والشرفات تهذي بشموس منقرضة
وحيدا
كل ليلة
بأذنين خائفتين
أترقب سقوط بيتي
خذيني من فمي.
أيتها الذئبة
بدأت أتعب
من زوجتي
حين ترتبني يداها بخيال واثق
قم يا عزيزي
طلع الصباح
بدأت
أتعب
من أطفالي وهم يكبرون
دون ألعاب وحلوى
من مؤامرة المياه
فى أحيائنا الرثة
مالحة وهاربة
بدأت أتعب
من البدو وهم يقتحمون الشوارع
بسراويل الجينز
كل شيء في غاية الفساد والأبهة
لا الطمأنينة سقف
ولا النساء
هن النساء
وحيدا وكفى
باطل كل حلم
لا يفضي إلى
وكل احتفال بموتى هراء .
الحبر مملكتي
دائما لي خبر أسميه
ألوان مدينة أطفالها
لا يعطشون
وأرسم امرأة أخرى
وربما ألعب بالنار التي ليست معي
ثم وحيدا أعوي :
أيتها الذئبة
خذيني من فمي.
ثلاثون صيفا
حافيا يأتي المساء
كان لي جسد هنا
ويدان
وكانت نافذتي معي
قمرا يسكب شكله على أمي
وأنا لست أفهم
لماذا كان الحب سريا للحد الذي
صرت فيه لست أفهم ؟ .
دليني يا أمي علي
قالت:
مرضعتي الريح فأتئد
لا حليب فى القدح
لكي تشرب.
قلت:
لا بأس
سأكتفي بخيالي الأوحد
وليكن كل شيء
في غاية الفساد والأبهة
فنحن هادئون
هادئون جدا
دائما نركب الحافلة
نعبر إلى اليوم الذي يلي
حيث الوجوه تنظر حائرة إلى ظلي وتفكر:
رجل بأسره
يمشى وحيدا
يعوي
أيتها الذئبة
خذيني من فمي .
مقامة الرؤيا
ــ
كأنني أراني في عيون الغائبين
وأسأل عن لوني فى الحبر الذي
لم يستو
وأفشي بالذي حلفني الرغيف عليه
وأذهب تاركا فى الكأس
ما تبقى
من كلام
ونبيذ .
ــ
كأنني أعيد تشكيل بلادي
وانزوي في الركن غريبا
أطرح ما تقدم
وما تأخر من دمي.
ــ
كأنني أقول ما كنت أطارده قرونا
وأشيع جنازة أنا الجثمان فيها
حينها أطفئ الوقت
وأوقف الأرض التي دورتها بأصابعي وما انثنت
لا بأس
سأقول حتفي واكتفي
وأقول أمي في الوجع
وأقول أمي في الفرح .
ــ
كأنني أراني في عيون الغائبين
وأسأل عن لون الحبر الذي
لم يستو
لا بأس
سأبوح بأوهامي التي أحفظها عن ظهر قلب
وأوحدنها مدارا للعذاب
لأنني حتى وإن تضوعت بعطر عابر
يمر خارجا عني بعيدا
أسويه قبل النوم ليلا رؤوفا
أعد له قمرا من الشعر
وقليلا من النجوم
وأغنية مرارا ليستكين
ثم أعيد صياغة الجسد ائتلافا
وأبوح بالذي حلفني الرغيف عليه.
ــ
افتحوا الباب إذا.
منازل الحلم
إلى يوسف الشريف
نهرب الريح
ونضرب موعدا للمطر
هذا صحيح
لكننا لسنا وحدنا .
نفترض حبرا لم يمس
نكون امرأة من لغة الجمر
ونخطف بصر الوقت
وعلى صهوة البرق نسافر
لسنا وحدنا.
نشاطر الأين رغيفه
ونتقي ثلج الأسئلة
ونغافل الظلمة بقصائد الضوء
لسنا وحدنا.
كلنا يا أم متهمون بالحلم
الزيتونة الطيبة الظل
والولد الذي خذلته العشيرة
فانكسر
والريح
والمطر
وأنت أول الخبر.
هكذا لسنا وحدنا
نحن فتية الرمال
والمواقيت الطليقة
كان توقنا صغيرا
وكان حبنا كبيرا
وفيما أنت تخبزين من الصبر المملح
عشاء الليلة الفاصلة
كنا الإشارة بين زمنين
وصرنا.
لسنا وحدنا
فالصباحات الآن تشبهنا
والبراكين من حالاتنا إذا ما أطلقنا
العنان لكائناتنا الهادرة
هكذا لسنا وحدنا
ففي الأمر
حكاية ما
وسؤال هو الرحلة الغائبة
وأنت
أول الأسماء .
***
فرج العشة
- من مواليد البيضاء، عام 1954.
- عمل في التدريس ثم الصحافة.
صدر له:
- BAR FLY، شعر، دار الأرض قبرص، 1992.
- إلى فاطمة كيفما أتفق، شعر، دار الأرض، 1993.
النادر بالنظر إلى نفسه
1
ينظر في صورته
متوغلا في تفاصيل النسيج
بمجسات رخوة
ينبش ذنوبا تفتك بالذاكرة
روحه نزل مجانيا للخطايا
يلفق استمراره في العيش
بمزيد من إتلاف الكبد.
2
هناك
يجثو بحزنه الفائض القيمة
منكبا على أساريره
بغية فحص مكونات غاية في الصفر
حتى أنها عدم.
3
لا تقل شيئا
أدخل بهدوء
الوقت معد للتفكه باتساع
كأن تحتسي المدى بملعقة
كمن يلوح لمسافرين
يودعون أنفسهم
وقت لي ولك
العزلة ذاتها
سيادة مطلقة
تلتقط اللذائذ بالشوكة
والسكين.
4
في أيامه الأخيرة
إذا ما جلس بجواره الماء
يتساءل :
ما السر فى السر ؟
ما هو الشيء ؟
ماذا عن ذلك اللامع
كذهب الزمان ؟
النادر بالنظر إلى نفسه
يبدد غبطته
كطفل مستاء
من أقواله:
لو أن العالم لعبة فك وتركيب.
السيدة الجمرة
أعرف أن الطريق إليك
يقود إلى المنفى
أعرف أن هواك
ضار بالذاكرة
أعرف أنك قاتلة
وأنا قتيلك المقبل في اللائحة.
لكن
أحبك
وما باليد حيلة
إن ما بين الخنجر
والطعنة
آه
ثم
آه .
فلا تمنحيني فرصة للهرب
إني منقاد إليك
كالسائر في نومه
أبحث عن جزء ثان
لحلمي المبتور
متلمسا طريقي
متعثر الخطى
كشحاذ أعمى
أضاع عكازه
أمسد ظهر الضباب
المعشش في ثنايا الذاكرة.
هاذيا باسمك :
أيتها السيدة القصيدة
القصيدة الجمرة
لقد تجمد الحبر في المحبرة
وهاجرت الحروف أعشاشها
توسد القلم السطر الأول من الورقة
ونام
نام منكمشا في بعضه
كمن يتلمس لذة الدفء
في حضن غانية.
أيتها السيدة القصيدة
القصيدة الجمرة
إني مبعوث إليك
من طرف شعوب مخدرة
على موائد الطغاة.
أيتها السيدة الجمرة
الجمرة القصيدة
هذا وريدي رامض
كنسغ منخور
أنا الساق
وأنت الجذور
لقحيني بألم العصارة
كي أمنح أغصاني النشور .
ولد محظور
ولد محظور كيورانيوم مخصب في حوزة العرب
ولد محاط بحاشية خاضعة للذاذاته
والموسيقى سرب جوار.
هلا يا فتى
لو أن الحجر أنت
نسيج وحدك
المرح سداة
والبرم لحمة.
يا ولد:
من أين لك
هذه الأم الصاخبة
الندابة فى الأعراس
الراقصة فى المآتم
من أين لك كل هذه الفراهة ؟.
صاعدا
دو
ري
مي
ف
صول
لا
سي
دو
دو
لا
سي
صول
فــا
سي
ري
دو
ولد
ولد من تلاقح.
"كلمتها
واطت العين علي"
وخطوات مايكل جاكسون
على القمر إلى الخلف .
يا عذب
يا شاغف بالمسرات
أمير عازف عن السلطة
مهلك
وأنت تضبط المفاتيح
المفاتيح
دموع من كريستال
ونشيج من ندى.
كم وزن هذا العويل
1
يروق لي
أن أطلق عليك
أسفا جما
طوال بقائي حين نلتقي
كنت أتفحصك بمتعة قراءة كتاب مسروق
أيتها الممتلئة بابتسامة نادل تبتى
أسألك
كيف تنظرين إلى المصاب بأهوال
جلبها عنوة
لتمارس أرقها الفوضوي في ذهن نوامى الكهوف .
2
أتذكرك وفاطمة تسلك أسناني من فضلات جنون باذخ
ـ هكذا يتقدم المخمور
بإعتذارات حلاق ثرثارـ
حتى يتسنى له
معرفة صناعة الحبيب من لا شيء.
3
يا صديقي
أنا على يقين من إيغالك في ريبتي
كم طول قاماتنا المتطاولة على الحقائق
كم وزن هذا العويل ؟
من يغفر لنا إن لم نتطاول ؟.
4
تروق لي أعمال متنوعة
أحب كثيرا ضغط الزناد
والفوهة لصيقة بصدغ القرين
يغريني اهتراء اليقين
وقد أعتراه الخجل
يلاحقني ضحكك كشعور بالاضطهاد
لو كنا بطاقات بريدية
كيف كنت ستكتبيننا ؟.
الفرح البري
أنا الفرح البري
النامي
في أصيص الكآبة
على شرفة قلبك
لماذا كلما هربت إليك
أرسلوا في أثري
علماء النفس
السلالات المنقرضة
وأبي ؟.
هناك وهناك
ألق
يرعى قطيعا من الدهشة.
ألق
منفلت منقاد باشتهاءات مارقة
الخيل ظله الوفي
عبد ذليل للذة
السؤال المحرم
من الشجرة اللئيمة الجذور
لمن يعصي.
يخرج عاريا
يطلق النار على المارة
فقط
لأن امرأة قالت له :
أنت مهذب.
ضحك
نافذة على القلب
حيث حلم طرى
يقضي عقوبة مؤبدة.
زمن
بحر ينسكب من كراسة الرسم
يغمر غرفة الطفل
بالأسماك
والجزر المجهولة.
أصدقاء
ـ لنكن أصدقاء
ـ حسنا، لنكن
ـ أنا دون كيشوت، وأنت ؟
ـ أنا حمار سانشو .
***
فرج العربي
- من مواليد البيضاء بالجبل الأخضر، عام 1961.
- تخرج من كلية الآداب / جامعة بنغازي.
- إطار في وزارة الخارجية.
صدر له:
- بدايات، شعر، الدار الجماهيرية ليبيا، 1994.
- الوقت دفعة واحدة، شعر، الدار الجماهيرية ليبيا، 1998.
الســلام عليكم
السلام على الداخلين
والخارجين
أبناء السبيل
وبنات آوى
المخلوعين من الجنة
والصالحين المحرومين من اللذائذ
الفجرة وهم يهيئون غدهم للرغبة
وأمسهم للنار.
السلام على أسياد المال
والوقت
والطيبين من الرعاع المنقادين إلى حتفهم دون أن يدرو.
السلام على من تقدمني
ومن جاء بعدي
من حفر في قلبي
مثلما حفرت في قلبه.
السلام على طفلي
كلما لاعبته قادني إلى نقاوة بعيدة
أيام كانت الحياة في عيوننا لعبا
لعبا في الكلام
ولذة في الكذب.
السلام على الخل غير الوفي
والغول الذي يفتش في بطون الصغار
عن معنى لخوفهم.
السلام على الأصدقاء البعيدين
على مرمى اليد
والقريبين الذين لا أعرفهم.
السلام على إخوتنا في اللغة
الكبار
الكبار.
السلام عليكن
عليهم
عليه
على يوم في متناول اليد
دونما الذهاب إلى سين من الناس
السين تقود إلى عين مغمضة
العين تقود إلى حرف للمرض وإسم للإشارة.
السلام عليكم.
عناق في الظهيرة
العناق يتبخر في الظهيرة
وفوق قلبي.
حذاء ثقيل
وجه رئيسي في العمل
يغري بالشتائم.
الأقرباء يوغلون في البعد
والبعيدون طوال الليل
لأجلهم نحرس المنارة
أية منارة .. ؟!
خلف ظهرنا أقبية
لإدارة صفقات وهمية.
خلفنا الفقدان
وأمامنا
لعلنا نوقظ بعض ما فينا
كي نرى الشيخوخة تتسرب إلى عروقنا
ونحن الفتيان .
متفرجون من طراز رفيع
على جناح السرعة
آخر النهار يأتون
إلى بيوتهم الزجاجية المعدة بأحجامهم
أحيانا
يسيرون ـ في الليل ـ بغرفهم
يلوحون لبعضهم البعض
والشارع مفجوع
يحملون تابوتا فارغا
ويصرخون
من أجل حتفهم
يتفرجون على غابة تنتحب
سلاحف لا تحد
تنتشر في ساحة المهرجان .
ناقمون أوفياء
يحيكون حقدا دفينا
بحفاوة ـ أمام المتفرجين
ـ من أنتم ؟
ـ نحن متفرجون من طراز رفيع .
الماء والضحك زادنا
الماء والضحك تؤامان
والبكاء خدعة
اخترعناها ولم تسكت أوجاعنا.
الماء هذيان
كما لو أننا نموت من الضحك.
الماء يسر
والسراب يسرق لمعاننا
الوقت يتبدد بحسرة
الوقت مفعول به
مثلنا تماما.
مع ذلك نتهكم
لأن الماء يفضي بنا إلى الضحك
والضحك يفضي بنا إلى السؤال.
يد في الظلمة
صرخات عالية تلطخ الجدران
ضحكات هرمية في غرف مجهولة
أصوات تتهامس في العلن
نحيب ينتعل امرأة
ضجيج يسكب فوضاه
صوت أقدام خافت في الممر
واحد إثر الأخر يركضون
لا أحد منهم يدري
إلى أين ؟!.
كل شيء لأجلي
آخرون ليسوا أنا
يشربون من نبعي الطري
ويضرمون قلقي.
أكتاف تلتف حول أكتاف
وكتفي بريء
عدا ذلك
كنت أمضي معتما
ووحيدا
بجوار صديق ـ هو أيضا ـ
مرمي للقتامة.
أسير صباحا
حاملا نعش الأسبوع الماضي لأدفنه.
نداء يستهويني
كلما آويت فجرا إلى الفراش
كلما استيقظت ليلا ـ في غرفة فندق ـ
ونظرت من الشرفة إلى..
أيها النداء
بابي
أشرعته لأصدقاء كثيرين
قليلا منهم يشبهني
كثيرا منهم سقط
آثار سياط أبي في لساني
حين أتحدث إليكم
راغبا في كل شيء
هذه غايتي
عندما أكون معك
أشتهي أن يهتف كل شيء لأجلي.
الوحل
إلى خديجة
الغد متوج بشهيتي
فيما كانت امرأتي
تمد ذراعيها عاليا
لتخبئ كآبة الطقس.
عاليا
لحظة مراودة الليل لجسد النهار
والنهار مرغما
يعلق على شجر الحديقة سترته
ويمضي.
ليكن وجهي أشد بياضا
الخوف قطة زرقاء
تركض على عشب ملغم
وريش نوارس محترق
يسقط على ولد يبكي
يبكي.
البكاء الحلو كتفاحة فاسدة
الضحك المر
مشنقة تنصب صباحا لعصافير من زجاج
نحن نرقب الديدان المريضة تصفق
والنهار علق كلامنا
على شجر الحديقة
ومضى.
هل كان صباحا
يصعد باتجاهنا
شبرا
ودماؤنا تهتز.
كان مبددا
في شرفة تطل على "لا أحد "
قال :
أصنع من الوحل قاربا ومجدافين
قال :
نجمتي تغفو بردانة
قال :
لا تحبوني كثيرا
ومضى.
ما كان ينبغي أن تذهب مبتسما
عيناك شاغرتان
تطلان على شتاء منكسر على ذاته
متشبتا بالوحل.
ما كان ينبغي
ينبغي
لا ينبغي
أن أراك وحيدا تلوح لإمرأة متمهلة
تدس رأسها في الرمل حين تراك من بعيد.
ما كان ينبغي
ينبغي
لا ينبغي
الجسد الذي اشتهيناه
يركض فيه رجال يتقهقرون
رجال بذيول سوداء.
مرحبا أيها السيد
ذراعك الأيمن في كتفك الأيسر
ذراعك الأيسر في......
ثم أسألكم أنتم
حين ينقلب الكأس على المنضدة
من الذي سيتبدد
الخمرأم نحن ؟ !.
يا للوحل
نصنع منه أكواخا نأوي إليها
نوافذ لإطلالة الرعب
أسرة من ريش نعام.
يا للوحل
نؤويه
ولا يأوي إلينا
نبدده
ولا يبددنا
نتركه خارجا
ونرميه في نفايات الكلام.
وحل يهطل هذا المساء
الصياد العالق في الشباك
الليل حين يبصق غيمة
وأنتم
أيها الملفوفون في جيوب الأباطرة.
وحل يهطل هذا المساء
أيها الصوت الشاسع أمامي
المهلهل كأسمال الراهبات ورائي
أعني
كي أستجيب لتركات أجدادي
وأخرج
من هلع يزركش زجاج نافذتي
من قطار التاريخ الأبله
حين يعبرني
يعبركم
حين يسير على أعناقنا ـ الطرية ـ ببطء.
كيف أخرج مني ؟
كيف أخرج منك يا.. فرج العربي ؟
أو قل لي
كيف نخرج منا
من وباء أصابنا معا
أعني علي
على الموتى في منفضة العصيان
الأحياء في جحيم الرب.
أنني أكثر إضرابا حين أهجو العالم
وخديجة مرحة
لها عيون
ترتجف في البرد
وجنون نمرة تتثاءب
حافية تركض
على زجاج الحاضر التكسر
تحرر حلمها بهدوء
وتتقدم الآن :
فيا خديجة
وجوهنا مخلوقة من المتعة
أصابعنا
تلوح لمارد
يمر ليلا
بجوار نافذتنا
يأمر الليل
أن يتعرى
ويأمرنا بالصخب.
فيا خديجة
أنصتوا جيدا
أنصتوا لما تقول امرأتي :
العبيد لا تقتل
البياض أن تسبح عاريا حرا
تلبس اللغة
وتلبسك
وأنت تنظر مستبشرا إلى مشنقة الأبجدية
تتدلى من دفتر قديم
أنت حر
وليس على الحر حرج.
هنا
يجمع التعب أطرافه
وتتوسدك الملامة
يتوسدك الذنب
الذنب أنك أحببت
وأشعلت صوتك صهيلا .
بين يديك لعبة
إلى قيس في منتصف عامه الثاني
لإطلالتك البهية فرحي
لك خوفي عليك
حين تلعب مع اللعب وحدك
في كل ركن من البيت نلتقيك
دراجتك
تقود إلى طريق تراه وحدك
في الممر ممشاك
والأرنبة البالونة تضحك في الصالة
يمكنك أن تستقبل الزوار باللعب
لذيذ لعابك
حين يسقط مباشرة في القلب.
ـ آخر الليل ـ
تغالب النوم
من أجل المزيد من اللعب
أراقبك
يفلت مني الوقت
أصاحبك
تعشق اللعب
كل ما لك لعب
حتى أنا بين يديك .
***
فاطمة محمود
- من مواليد العاصمة التونسية، عام 1956.
- تخرجت من معهد المعلمات.
- عملت بالتدريس، ثم الصحافة.
صدر لها:
- ما تيسر، شعر، الدار الجماهيرية ليبيا، 1986.
حين أبصق أملاح النهار
وأنا
أبصق أملاح النهار
ما ضرورة
أن أهندم الأمكنة
أرتِّب الضوضاء فـي دمي
وأقنِّع الـحرب التي فـي أصابعي
والأعضاء تتخـثَّر فـي أحـماض كون يتحلَّل.
ما ضرورة أن لا أخرج من النفاية
مـخمل أظافر
انتهش سـماواتٍ متحذلَقة
حيث أغنيات
تلمع فـي وحل عال .
ما ضرورة
أن أفتح النوافذ
لشمس الـماء والـحجر
الفاسد يفسد
والـميت يـموت.
ما ضرورة ألا ندع الرب يـحيك
منافية
مُدناً متزلفة
لإتقاء براءتنا.
وأنا
أبصق أملاح النهار
من يدي
وأسـمل رغبة تراني
ما ضرورتي
لذاك الـحجر
وهذا الـماء
لـهذه العجينة الفاترة
فـي دم الرجل
لـجسدي
يُراق فـي الـحدقة الـميتة
هذا الآبق
على مقصلة ورع مضحك .
ما ضرورتي
لقدمي التي من أوسـمة حرب تبلى
ورماد أجرامٍ سعيدة
لقدمي
وهي ترقص
وهي تغرق
وهي تقهقه
وهي تطير دخاناً أبيض .
وأنا أبصق أملاح النهار
من فمي
وخبز اللحظة يستدير جوعاً فـي الأطراف
أسألُ
أسألُ مَن تَعُبُّني؟
وتـمضي
تترهَّب في الـحانات .
الريحُ
الريح الـماجنة العملاقة
تنحني فـي القبر الأبيض
القبر الذي
بَخَّرته المبخرات لنا
فـي القرن الـخامس
قبل التابو
بقربان
ورقصة
أسأل الريح التي
تبسط جسدها كخطيئة نبي
قبل أن تُخمِد الفضيلة فتيل الأطراف.
أسأل الريح الـمحمومة
القورينائية
التي تهرق أجنحتها
وتطير
ناسيةً ريشها فـي خدر أعضائي
والأرض مغلقة هكذا.
أسأل الريح
ما ضرورة أن نـحزم أجسادنا
حقائباً
مـحشوَّةً بالنوافذ الـمرتـجفة
صوب خلاءٍ موصَد .
غرف
أنظرُ
إلـى خطواتنا الفظة
غير آبهين بزنابق ورعك
فـي طريقنا
إلـى شكٍ بـحجم الـمُخيِّلة
نطأ أراضيَ صَلْدة
لا تلمسنا طمأنينة .
بأي لغةٍ ستضرع إلينا
وقد ذرعنا كل ما حسبناه ذرائع
وأتيناك بالقميص عينه
مُبقَّعاً بافترائنا
وفـي رأس كلٍّ منَّا
تتوارَى
جُـثَّة نقيضة .
خذ
إليك ودائعكَ
فلا ينبغي لنا ــ نـحن البرمين ــ أن
نتملَّق وداعتك بعد
مُلبِّدين نزاهتك
بطنين آثم
هل
لك أن تـمنحنا ــ أبانا ــ أصابعاً
أو خيطاً
أو أي خديعة أخرى؟.
ــ أبانا ــ
الذي فـي الغرفة (624)
إذ يسَّاقط رُطَبٌ من مـخيلتنا
فلِزَّاتٍ
تبرق فـي طينك
وتشتبك مع ثنائيتَك فـي علاقة وثنية
أو
حين تدلف إلـى الغرفة
كمَن
يدلف مذبـحاً
تاركاً فـي الـممرِّ آلـهةً ضجرانة
وكذباً فاتناً
يتأنَّق على ثوبك الكهنوتي
مُهيِّئاً طُهريتَك لأن يستأنسها العامة .
قل بـحق الرب شيئاً
ــ أبانا ــ
أقلَّ خطورة
من أنك "قلقان" علينا .
تراني
ــ متبتِّلة لطفولة علقتْ بي ــ
أصقلُ مواهب البُنوَّة
ترانا ــ كلنا ــ
نـخفق شيئاً ليوسف
يا ليوسف
"أبونا" الذي فـي بغداد
جـميعنا
يُدَبـِّر مكيدةً ليوسف
بـما فينا
يوسف نفسه .
اقـتـرافات
بالشجر الـمقوَّض
باختلاج الغواية
وزلَّة القلب
بهشيم اللذائذ
وقد تبدَّد
بالسرِّ كلِّه
بالإفـتضاح كلِّه
بالـجريـمة الكاملة
وقد أُنـجزت بامتثال القتيل
وهدوء القاتل فيما يغسل يديه مصفراً
لـحناً لـموزار
بالـخبرات كلها
وبالذي لا أكنه
أركضُ
أركضُ
أركضُ نـحو يوسف
يقتفيني نُباح حذاءٍ ضيِّق.
فـي سخاء دمه
فـي دفء الصديق
فـي عطرٍ خفيف لنساءٍ يعبرنه
حلماتهن
قُـبَّرات على الـحواجز
حليبهن
نبيذاً مُدَّخراً لـما بعد الـحرب
خيوط جواربهن
حالة لتسلُّق النعومة
زهور تنانيرهن
حديقة فوق كتفيه
فـي يُتم ساعدَيه أركضُ
أركضُ
نـحو يوسف
نـحتسي ما لن يُنجز أبدا.
2
كنتُ غمامة أتسيَّح فـي فضاء الغرف
يا لَعدالتي
وكنتُ
أتكثَّف بـخاراً على الزجاج تلك الليلة
أسترقُ النظر إلـى الطريق مُستنبطةً
شكلاً
لـهروبي
يا لَعدالتي تلك الليلة .
3
ما يشغلني
ليس فـي رأسي
ليس فـي حواسي
ليس فـي مدينة تفرغ منِّي
حيث تُفقأ تـحت شـمس مـخسوفة
دمامل الذكورة
وحيث أولادٌ يُساقون نـحو الليبيدو
بـمعية نساءٍ متشقـقـات
وكائنات تـحفر فـي الفضاء
مستنقعاتٍ غامضة .
كيف تسنَّى
وبَدَوْنا مبتهجين
مَن يـجرؤ ويـخدعنا
لذلك
أعلك كلَّ هذا
أُعيد على ضرسٍ نَشِطٍ دورة تصلُّبه
"الطرقعة" تُزعج نُعاسَ.
صديقي
ليس فـي فمي ما يشغلني الآن
أعصفُ
فـقط
أنا أعصف وراء نوافذَ بعيدة
وما قد يبدو يشغلني
لا يشغلني .
رانية
الأصابع
الغضَّة
تـحبو على زناد الـمعرفة الـمُرَّة
تُصوِّب نـحو طفولاتك
يفزع الـحليب الـمخبَّـأ فـي علبة ألوانك
تثغو أقمطتك التي
ما زال خيطها الناعم معلَّقاً
فـي نُعاسك الأبيض .
أغنيات ما قبل النوم
تزقزق فوق الأشرطة الـمعقودة
حول ضفيرتك الـمدرسية
لا زال حذاؤك يلثغ دهشته
والـحيوانات الـمفترسة
فـي قصص الأطفال
تنـزع مـخالبها
وتأوي إليك.
يا لاَتـِّزان الطفلة
وهي تينع
وأنت تُلوِّحين لـي بطفولاتك
كم أنزعُ
لأن
أَلِدَك.. ألف مرَّة .
***
خديجة الصادق
- من مواليد بنغازي، عام 1962.
- تخرجت من جامعة بنغازي/ كلية الآداب، قسم فرنسي.
- تعمل موظفة.
صدر لها:
- ليل قلق، شعر، دار ورد بيروت، 1992.
امرأة.. لكل الاحتمالات
هل لي
دون سرادق وضجيج
دون أن أختم
شهادات الوفاة
هل لي
أن أرثي
طفلة صغيرة
تلك الباصقة على وجه
الكلام المزيف
الراكضة على زجاج المستقبل
النار
البردا وسلاما
على فراش حبيبها.
هل لي أن أرثيني
حين كنت
أشرع لدفء
الحديث شساعتي
وأصنع من زاد محبتكم
قوتي
كنت حين يراودني البكاء
أفتح صدري لدموعكم
وحين النعاس يغالبني
أفترشني لرؤوسكم المثقلة.
هل لي
أن أطفئ جذوة الجسد
وأختم على قلبي
أوقد نارا مزيفة
وأتربع
على عرش فحولتكم
أراقبكم
وأنتم تتساقطون
كالذباب
كالفراشات
لا فرق عندي
فالخيبة هي
من يحتضنكم.
هل لي
أن ألملم وردة الضحك
الذابلة
وأنا التي فتحت ابتسامتي
العريضة
كشاطيء ودود
تسرحون عليه
صبية عرايا
بلا خجل
لكنكم ولطول ما اتسعت
ابتسامتي
ذررتم الرمل
فى عيوني.
هل لي أن أربت على ظهر شهوتي الهادرة
أجرجر عاصفة الجسد
إلى كرسي هزاز
أحبس غيمة أنوثتي
عن الإنهمار
وأبيع بروق رغبتي
في حوانيت الأعياد
امرأة من الكريستال
حين صافحتـها
بحرارة
تناثرت أشلاء
وقفت لله تتوسل
أن يرسل للكون نبيه
تبيح لهذا الجسد
عشقه
وتفك رباط الزوجية
خشية الجحيم والآخرة
لونت ثوبها القاني
بلون الوقار
لكن ذات الساق
مازال مارقا
وشهوة الجسد
تصطاد عشاق النار.
الأرصفة الميتة
في إنتظار
عودتي إلى منفاي
أرسل الكثير من الأسرار
كي تغنمها قطعان الوجوه
البرية.
قد تتساقط أحرفنا
الهشة
وتمحو بسقوطها معادن
بدايتنا
هكذا استقبلتنا الأسوار
ببهجـتـها الوحشية
تستعرض أمامنا
جيوشها المرصوفة
بأناقة النمل
لم كلما انتفض الدم
يصير لوجهك شعوب وممالك
تفتح مواسمها على أرصفة ميتة
لتعلن انتهاءها من نشوة الأشياء.
سأبقي
الأشياء فى السر
مفخخة بجدواها.
نفاق
شاطيء أخرس يحدق ببلاهة فينا
يمزق بيننا الصمت
يحمل على كتفيه نعش اللهجات.
هكذا أجدني
محاطة بود مهترئ الوجه من شدة الأصباغ
لأني أنتظرك أكسر هشاشة الأيام
أحطم زجاج الساعات
وأربط عقاربها بقلبي
وألهث شوقا عساه الوقت يمضي
يبتسم الوقت كقائد عظيم يحيي الجموع
وهو يسير فوق قلبها أتعرف هذه الابتسامة
التي تشبه الوقت
الوقت الذي أعلقه في قلبي.
كيس
منذ طفولتي
والليل لونه أسود.
يا ماء
ما السبب ؟
ضم أطفاله لصدره وتركني.
يا لعبتي
ما السبب ؟
قالت:
الليل أخطأ في اللعب
فعاقبتـه بإغماض عينيه
على الحائط فكان السواد.
يا شمالة أوراقي الأخيرة بجيبي
أين تقيم الألوان الخجلى ؟
لأرسم لها عصفورا
وأهديها حناء أمي .
%مضاجعة
هبت الريح
ضاجع الليل النخلة
صرخت
تساقط الرطب
وشما وشما
بخدود البنات
صاحت السنابل
متى تمر النار
طي بيتنا ؟
فما أحلى النار
وما أحلى الحرام الأخر.
خذوا صمتكم وأتركوا
ضجتي تتكحل
تفك ضفائرها لي
فالضجة طريقي لصهيل
فرس الغجرية
من يشعل اللبن.
لا دخل
للقرط في أذن النجمة ؟
من
من
واحد
اثنان
ثلاثة ؟.
***
مديـحة النعاس
- من مواليد طرابلس، عام 1965.
- تخرجت من جامعة طرابلس.
- عملت في الصحافة.
لم يصدر لها أي كتاب، وأنقطعت عن النشر.
قبضة
لتأخذه
نحو مراتعكم
هنالك
تجتمع حشود
باحثة
عن اسم مبتدأ
لسلالة زبد.
لتأخذه
نحو ما حمل الوقت
لتفتت
في الماء المالح
آخر بذرة تنسكب
على أرض رطبة.
ليكون كما تحلم في صمت
قدماً تحمل كتفاها وشائج غابات غضة
ليكون
كما تحلم في صمت
قدما تحلم في صمت
قدما تحمل كتفاها
وشائج غابات
غضة.
ليكون كما تحلم
في صمت
رسولا يقطع
أطراف أصابعه
حين تغيب وصايا
الأب.
سيحمل من طين بدايته
أخر ما كتب الملح :
أنا من قطع أصابعه
ليكون كما شئت
فقعات الزبد.
ستأخذه
ليشاهد في الصمت
كيف يكون القلب
فلقات أربع
أو أكثر
تتساوى
في راحة كف
سيشاهد
كيف يكون
القلب
فلقات أربع
أو أكثر
تجتمع على دمه الحار
وترتب أوردة النبض
سيكون كما تحلم في الصمت .
قد لا يكون هناك حلم آخر
ربـما
لـم يكن حقيقياً أن أبدأ
بهذه الأقدام
لـم يكن يسع الـحقيقة
لكن أويا كانت تشبهني
كلما وطئتـها الأقدام العارية
كنت وحدي أنتزع الـحسكة
من حلق أمي.
هي طفلة
عندما نـما صدر أبيك
هنا بين كتفيك
قد لا يكون هناك حلم آخر
تنتصب لأجله الأروقة الـحالكة
لكن أوراقي جذبتها رائحة السواد.
لـم يعد مـمكناً للحلم أن يتسع
لكل هذه التشابكات القانية
فقط يـمكنني أن أنتزع من هذه الأنابيب
الـملونة
أماكن
أكثر رحابة .
بهاء أصابعك البيضاء
ها أني أنتظر
نزول توائم أخرى
تـجرُّ تضاريس أجنتها
الـمشتعلة
كقناديل الوقت.
لـم يسبق أن عرف الوقت
مذاق البكم
كما عرفته
قناديل فـقدت
أطراف الروح.
ها أني أعبر
أروقة الشك
مـحمَّلةً
بـحشودٍ
فـقدت
ما بين مسافات
تسقط
آخر أنـجمها
الـمنطفئة
بقتامة ملح يـمتد.
ها أني أعبر
ما بين بهاء أصابعك
البيضاء
يتساقط إبهام غوايتك
يتساقط ألق أصابعك
يتساقط من حولـي
رخام
ويدعوني الظل
وحده يغيبني والعرق .
الـموت الـمنتخب
تـحضر مأخوذة
بـخلق موتاها
حين تؤاخيها
نهارات
تفسح لوثوبها الأحداق
تنتظر السفر الأخير
تـجمع سلاميات اللغة
فـي زهوٍ منعدم.
كلما زاحـمتـها الـخيبة
تتوقع أن تسيل الوجوه
معشقة بأصداف بـحرية
تبرق بانتظام
يصافحها الـموج
يأخذ قدميها
إلـى حيث تتدرج الأطراف
مـخضبة
بلا سلاميات
ولا أرساغ.
تباغتها وجوه
تقودها
إلـى حيث تفزعها الـجماجم
تقف
على حافة صخرة
كان قد وطئها
الـموت
قبلها.
تنتظر
تنفخ فـي خلقها
تأخذها نشوة الـخلق
وتأخذ الـموت نشوة التستر .
الآبق العظيم
ذلك الناهض بقامة مهيبة
لـم يكن يتفرس فـي الـحُفَر الـمتراصة فـي كفه
كان يلهو فـقط بوشـمه الـجميل
يـمنحه رواسباً مهلكة
ظناً منه أن الـهلاك وحده
الباقي
بعد التشظي .
تلك الليلة
كان الله يبكي معي
ونـحن نشم رائحة
كائنات تتـفسخ بلونها القاني
حين نهض ذلك الآبق العظيم
مزهواً بأوشامه الفسفورية
وهي تبرق فـي الدكنة
كأنها بقايا سيرته النازحة
عن هامته الـمرتفعة .
سيد الحلم الـمشرع
هناك
عند ديـمة التـعذر
حين فـقد الزمن
أوراقه الثبوتية
وشرع الـمكان
فـي مسح بلورات الثلج
عن سترته القانية
كانت الـحشود تعني لـي
قسماتك الـمحفورة
على طابعي البريدي .
لـم أسـمع وقع أقدام الراكضين
حين غصَّت القاعة
بالوجوه
كنت وحدي
أبـحث لـهم
عن أسـماء
حين فاجأتني راحاتهم
بالتـحية
لـم أستطع أن أصفك لـهم
فـقد كانوا يـحملون شهاداتهم
الصحية
ويعبرون الـممر
فـي سرعة
أدركت عندها
أن الـجدار الذي أسندتُ
له رأسي
لـم يكن غير بقايا
أصواتهم الـمتداخلة
لكن ملامـحك الـمنسابة
من أناملي
كانت تسبح وتلوِّن
زجاج النوافذ
الـموصَدة
لـم أكن أستطيع أن أُلغي
تقاطع الطرقات الـمائية
فـقد كان رُوَّادها
يـُجيدون انتعال ذاكرتهم
ويُفرِغون
فـي صمت
شرايينهم من الأسـماء
الـمتراكمة فيها.
حين ارتطمت الـحشود
بـجدران الشمع
كان ألق عينيك
يـجمعني
بـما سقط من راحاتهم
من قطع تـحمل ذاكرتهم الـمعدنية
لـم أستطع رفع البراقع
الـمشغولة بـإتقان
فـقد كانت ذاكرتهم
تضجُّ بوجوه
الأباء الصارمة.
كنت أنتظر أن تُصفِّق الـحشود
لتغطِّي على أصوات
الأحذية الـمطاطية
لكنك لـم تكن
سيداً للحلم
حين بزغ قمرك
مُكتمِلاً
ولـم تطبق عليه
أظافرك .
مـحضية
وكان أن ازدانت
العاشقة الـمحضية
حين تبدَّدت أسرارها الغضَّة
وافترشتها الرياح
عشيقة الـهلاك.
تـمددت فـي صمتها
تبحث
عن خواتم اللذاذة
وتُسهِب
فـي وصفها لاستدارة الأقمار الـمكتملة
وتساوي الأشياء
حين يغمرها الـمَدُّ.
هنا
وتـحت فـقعات الأسـماء
والألقاب
تسكن تـحت اللوح
وجوه الشمع لا تبرق
لكنها قابلة للإشتعال .
أناشيد النسغ
وكان أن خذلني البحر
وأنا أحـمل الظل إلـى القاع
حين ضجَّت
أوردتي
بأناشيد النسغ
الأولـى.
خرجت أسراب الرخ
تـحلِّق فوق تلال
تسقط
فـي صمت
لـم يلبث
أن صار رماداً
كان الظل يعانق أطرافي الـمنتهية فـي الصحوة
كانت لغتي
تـختبر تـخوماً أخرى
بـحواس
يـمنحها الظل
نبوءته الأولـى
وكان لذاك الـهالك
فـي أعماقي
ضجيج سقوط
تهتزُّ له
أصقاع الروح
ويغادر فـي غمرته الظل
يتقدمني نـحو مواكبه الشفافة
كي أختار
أي نصال أصابعه الـبـرَّاقة
ستفوز بأوردتي
الـمكتضَّة بوجوه الغرباء .
يتبع