إذا ذُكر العراق ذُكِر الشعرُ، وإذا ذُكر الشعرُ ذُكر العراق، ولا ينفع أن نذكر الاثنين منفصلين عن بعضهما البعض.. سيبدو الأمر كمن يستتر على نسب الابن الشرعي ونحن نعرف حق المعرفة نسب الشعر، وطالما كانت الكلمة أول ما عثر على هذه الأرض.. وطالما كانت الألواح والأرقم الطينية شاهدة على ولادة أولى النصوص الشعرية والمتمثلة بـ ( ملحمة كلكامش) التي تشكل أقدم وأجمل وأكبر نص شعري تم اكتشافه في العالم القديم والتي تعتبر درة تاج حضارة وادي الرافدين، وهي تمثل أولى الملاحم البطولية التي تركت بصماتها الواضحة على الملاحم التي جاءت من بعدها بآلاف السنين،علماً بأنه لا نظير لها بأي لغة قديمة عرفتها منطقة الشرق الأوسط، وقد أثارت اهتماما كبيراً في العالم الغربي منذ اكتشافها، ومع أنها دونت قبل 4000 عام وترجع حقبة حوادثها إلى أزمان أخرى أبعد، فإنها في مجالها، ومداها وأغراضها، والمشكلة التي عالجتها، وقوة شاعريتها كل ذلك يجعلها من الآداب العالمية الشهيرة *.
لا أسعى هنا إلى تقديم المشهد الشعري محاكاةً لهذه الملحمة الرائعة، وإنما هي محاولة رصد المسيرة الشعرية الراهنة، ومحاولة الإقتراب من تجارب الشعراء وتقديم نبذة موجزة عن حياتهم ونصوصاً رأيتها من وجهة نظري أنها تمثل تجاربهم الإبداعية .
لا أنكر أني كنت قلقة ومتوترة أثناء إعدادي للأنطولوجيا التي كُلِّفت بها نظراً لاختلاف التوجه الشعري في العراق من حيث الكم والنوع ولتاريخ الريادة في الشعر المعاصر والحداثة التي أبتلينا بها!.
إن معظم الأنطولوجيات العراقية إنما كانت مشاريعاً لجهود شخصية لبعض الشعراء العراقيين أو لبعض المؤسسات ذات العلاقة المباشرة بشعراء عراقيين وخصوصاً المتواجدين في المهجر، ولا أدعي إنني بإعدادي لهذه الانطولوجيا سوف أغطي المشهد الشعري العراقي تغطية كاملة أو سأمنحه حقه التاريخي ومكانته بين المشاهد العربية الأخرى، ولكن لنقل أنني حاولت قدر الإمكان رصد الشعر المعاصر منذ بداياته في مرحلة الستينات مروراً بشعراء السبعينات وطبعا الحقبة التي أعتبرها ولادة جديدة وجيدة في نفس الوقت من شعراء الثمانينات والتسعينات والتي أبرزت جيلاً مكافحاً بالفعل وكل ما كان يملكه من أسلحة هي الكلمة التي دفع ثمنها غالياً من ألم وحسرة جراء ما عاشه هذا الجيل من مواجهة الحرمان والحرب والحصار والجور الثقافي آنذاك، منْ غادرَ.. غادر، ومنْ لمْ يستطع المغادرة بقي إلى يومنا هذا يجر خيبات الأيام ونكباتها المتوالية على الفرد العراقي بشكل عام، فكيف نريد أن نختزل المشهد الشعري بكتاب أراه بسيطا جدا أمام هذا الكم وهذا النوع من الإقدامات الشعرية ؟ .
تبقى مصيبة المثقف عموماً، والشاعر خصوصاً، هي إقحامه في مسار السياسة التي برأي تقتل الإبداع الداخلي في الروح الشعرية، إنْ أُقحمت الكلمةُ لخدمة المنهج السياسي وبشكلها القسري.. ولهذا نتج هناك، وهذا أمر لا بد أن أمرَّ عليه، مفهومٌ جديدٌ وخاطئ على صعيد المشهد الثقافي العراقي، وهي ثقافة الداخل وثقافة الخارج، أو أدب الداخل وأدب الخارج مع تحفظي على التسمية غير المقنعة والمجحفة في حق الكلمة، ولكن الوضع الراهن يفرض علينا المرور والوقوف عند هذه النقطة المهمة.
كان همي فعلاً هو العمل من أجل الكلمة والإبداع والفن أولا وترك كل امرئ لدينه وتوجهه وعدم إقصاء إبداع على حساب إبداع آخر، وكنت أتمنى أن يستطيع هذا المشروع أن يجمع شعراء رفضوا أن يجمعهم منبر واحد في معظم المهرجانات ولكن احتراما منّا لموقفهم آثرنا عدم إدراجهم لئلا تظهر الاعتراضات فيما بعد، وبعض الأسماء لم أستطع التوصل إليها لأجمع المعلومات عن سيرتهم الشخصية وحتى أني لم أجد نصوصا لهم عبر شبكة الانترنيت التي أصبحت المصدر الوحيد لنا في الداخل أمام غياب الكتاب الورقي، ولهذا ، فإن عدم إدراج بعض الأسماء لم يكن متعمداً وإنما كان للأسباب التي ذكرتها وكذلك لضخامة المشهد نفسه الذي لا تستوعبه أنطولوجيا واحدة.
وما آلمني أكثر أثناء بحثي وإعدادي للأسماء المدونة وجمع أعمالهم، أننا نفتقر لأعمال كبار شعرائنا من الرواد وكما نعلم أن حال الكتب الآن لا يختلف كثيراً عن حال الإنسان العراقي، غريبٌ ومنفيٌ ومُهجَّر في كل زمان ومكان، ويكاد البحث عن كتاب معني بشاعر معاصر كمن يبحث عن مخطوطة نادرة نظرا لتراجع المسيرة الثقافية في الآونة الأخيرة بسبب ظروف الاحتلال وعدم استقرار البلد من الناحية السياسية وتبني جهات متعددة لبيانات وفتاوى إقصائية في حق مثل هذه الكتب، وأظن إن التقصير من شعرائنا الذين يملكون المصادر التي كنا نتمنى أن يمنحونا الفرصة للإطلاع على أعمال الشعراء الكبار من خلال إتاحتها أمام الباحث على شبكة الانترنيت.
إن الريادة بمفهومها المنطقي والمُطلق لا تعني الأسبقية، من وجهة نظري، في طرح التجارب الشعرية، وإنما الاستمرار في المسيرة مهما كانت العقبات التي تواجه التجربة. ويبقى التفاعل مع الكلمة الإبداعية المطروحة هي مسؤولية المبدع الذي يأخذ على عاتقه إيصال تجاربه دون اللجوء إلى أساليب تفسيرية ومساعدة في تقديم مادته الشعرية حسب مفهوم القارئ، وأظن أن هذا الجيل أوفر حظاً من سابقه في بداية الخمسينات والستينات من ناحية النشر، إذ أن النشر الالكتروني ساهم كثيرا في التعويض عن غياب النشر الورقي أحيانا، ولكن مثل الصورة الفوتوغرافية الأصيلة.. تبقى للقراءة الورقية نكهة خاصة وتضفي جلالاً وهيبة للكلمة المطبوعة والمحفورة على جسد الورقة، لهذا، فإن إصدار مثل هذه الموسوعات بين حين وآخر يوفر على المتذوق والباحث عن روح الكلمة عناء البحث الالكتروني من حيث إيجاده نماذجاً لنصوص شعرية ولمختلف الأجيال، وان كنت ضد قضية التجييل تماما، إذ بتجييلنا للمشهد نحدد عمراً معيناً للنصوص، والنص الإبداعي الحقيقي لا عمر له ولا يموت وفي كل عصر وأوان له قراءة مختلفة.
وكنت آمل، على الصعيد الشخصي، أن أجد أسماءً شعرية نسائية موازية لأسماء الشعراء من الذكور، وإن كان الإبداع لا يحدد بنوع الجنس، والقلم المغادر يغادر أولا جسده ليكون مع تجسداته القادمة في النص الطارئ لحظة الكتابة، ولكن نستطيع أن نقول أننا نلمس الاختلاف الواضح لقلم الشاعرة العراقية نظراً لخصوصية حياة المرأة المبدعة من كل الزوايا فهي ـ كنظيرها الرجل الشاعر ـ، واجهت الحرب والحصار، وشاهدت الدمار عن كثب أبان الأحداث الأخيرة لتوظف كل ما رأته وما عايشته في إبداعها الشعري / الملحمي، إضافة إلى ثقافتها المميزة لمرجعية تاريخها الحافل بالحضارة والإبداع المتأصل، ويبقى بالــتالي الشاعر/ الشاعرة العراقي حفيد الذي رأى كل شيء، وأبناء الكلمة الواحدة .
* قصة اكتشاف درة تاج حضارة وادي الرافدين / د.أكرم محمد عبد كسار.
صدر لها ديوان شعري بعنوان: غوايات البنفسج.
الليلةُ.. ليلةُ أقمارٍ ناريّه
الليلةُ.. ليلة آمالٍ فضّيه
الليلةُ ليلتُنا
لو كنتُ أحلّق كالطيرِ
لديَّ تِلسكوباً أرضيّا
فأرى كيف يطوّق أحبابي
آلافَ الوعلِ البريّه
لو كنتُ أشفّ.. أشفُّ
وأُبصر مثلَ الزرقاءْ
وبرأسي تِلباثُ الوصلْ
فأرى ما يجري
في أرضي الخضراءْ
في الحرب يصير المطرُ الهامي
ببلادي نُقَطاً ماسيّه
ثروةَ حبٍّ، أحفظها في علبٍ سِرّيه
وأرى النخلَ شمعداناتٍ
تشدو للنار بأغنيّه
وتشدّ إليها كلَّ عذوق النارِ
الذهبيّه
في الحرب تصير الرملةُ مسكا
وتصير سَمانا بِلّوراً
وفضاءً رحباً.. رحبا
نعقد
ترسم أيدي النصرِ
على قبّته الأبديّه
الغيمةُ تنشر رغوتَها
بيضاءَ.. رماديّه
فتُظّلل أذيالُ سراياها
شفقَ المرجانِ دما
في الحربِ..
وفي هذي الليلةِ
والفاوُ كزهرة لوتسٍ
يحضنها الماءُ عراقيا
فتمدّ إليه مليونَ يدٍ من نارْ
فرسانَ البرّ وفرسانَ البحرِ
وفرسانَ الأقمارْ
لِتُحرّرَ حسناءَ العصرِ الذهبيّه
في هذا اليومِ يهيم الجوُّ رصاصا
فترقّ له حتى أشجارُ الكالبتوسْ
وتفيض سَناً سعفاتُ النخلِ
وحتى الدِّفلى تحلو
ويصير لها طعمُ الحلوى
وتفوح الريحُ هَوى
كم حلو هذا الطينُ البُنّيْ
فيه نُحوتٌ ونقوش ورموزْ
ورسومُ طفولتنا
في هذي الليلةِ
تتجمّع كلُّ الأشياءِ الكبرى والصغرى
تتوهّجُ
في بلّورة ذكرى
حيث الآسُ وأوراق النارنجْ
بأباريقٍ من فَخّارْ
وشموعُ البهجةِ تزدان بها
كلُّ صواني «زكريا»
فنُعمّد هذا الطينَ البنّيَّ ونعشقُهُ
في الحرب يشعّ الصحوْ
ليس كمثل هواءِ بلادي
في الكون هواءْ
ونجومُ بلادي ليس لها
في الكون نظيرْ
وليس لها في كلّ الأزمانِ نظيرْ
فتصير لآلي
دُرَراً فضّيه
أقماراً ذهبيّه
تغزل أحلامَ الأمسِ مرايا
كلُّ الأحزانِ وما مرَّ ندى
تتوهّج مثلَ البلّوره
تختزن الحاضرَ والماضي
والمستقبلَ حيث الضوءُ الآسرْ
يتجسّد قنبلةً
فتدمّر كلَّ فلولِ الأعداءْ
والفاوُ كزهر اللوتسْ.
أُوتِرِوّا.. أُوتِرِوّا
منفاي الجميل(1)
شوارعُكِ النحيفة كخصور النسوة
مزدحمة بأشجارٍ تجيدُ الرقصَِ
حدائقكِ تعيدني الى الجنائن المعلقة
تستلقي على ذاكرتي
تَتَعرّى بطريقةٍ تثيرُ إشمئزازَ
حبيبتي التي إستوطنها المسيحُ
أنهاركِ لا تشبه الفرات
أراها تَتَعَرّقُ أمام تبغددِ دجلة
جبالكِ تحملني الى آشور والآلهة الأربعة
تُباغتني وتَندسّ في مخيلتي
كيف لم تفتحي ذراعيكِ إبتهاجاً
بِعرباتِ أسلافي العظام؟
الذينَ علّموا الغرينَ اللغة
ولماذا اختبأتِ بعيدا؟
حين همَّ فتى أُوروك
أن يستحمّ في شلالاتِ بوين فولس(2)
حيثُ لا أفاعيَ تسرقُ مجده الأبديّ.
يندلق الخرابُ.. فأتكئ عليه
صدر له:
- لا أعدُّ الهروب خيولاً، عن دار الشؤون الثقافية، عام 1999.
- التفاتة القمر الأسمر، عن اتحاد الكتاب العرب في سورية، عام 2001.
أرملةٌ في جـنوب القـلب*
مازلتِ تَعتَقِدينَ
أنَّكِ سنبلَةْ
أو أنَّكِ امرأةٌ
بطعمِ قرنفلَةْ
أو أنَّكِ النهدُ الوفيّ لِرَبِّهِ
مهما تباعدَ
أو غَفا
أو أغفَلَهْ.
ما زلتِ تَعتَقِدين
أنَّكِ بذرةٌ
كانت بأسئلة السماءِ
مُبَلَّلَةْ
تَهَبينَ للفلاّحِ سُمْرَةَ خَدِّهِ
وتعلِّمينَ الماءَ
نُطْقَ البسملَةْ
تَتَجمَّلينَ لوجهِ حزنٍ عائدٍ من حَربهِ
وتلوِّنينَ تبدّلَهْ
وتُعلِّقينَ القرطَّ في أغصانهِ
وتُلَملِمينَ الضوءَ
حَولَ السلسِلَةْ
وتُهَيّئينَ سريرَ خصرٍ
مُطْفَأٍ بالفقدِ
بالرجل الذي ما أشعَلَهْ
والزوجُ يُقبلُ
من أعالي الحربِ مُنكَسِراً
ليدخلَ في سرير الأسئلَةْ
ومضى
وكان الموتُ يَطوي ظِلَّهُ
ويدٌ تَرشُّ عليهِ
حَفْنَةَ أمثلَةْ
لم يترك الزوجُ
الفقيد فُحولةً
ذكرى
وقد تركَ الثمارَ مُدلَّلَةْ.
ما زلـتِ حتّى الآن
تحت عَباءَةِ ا لرحمن
تَنتَظِرينَ ظلاّ ً أرسلَهْ.
ما زلتِ تَدَّخِرينَ
بعض صفاتهِ
تَتَحسَّسينَ
دنوَّهُ وتوغُّلَهْ.
مَن في زوايا الروحِ
يزرعُ صوتهُ
ليعلِّمَ الأحزان
أنْ لا تسألَهْ ؟.
مَن أودعَ المعنى
بكاءَ حَمامةٍ ماتت
وأوصتْ بالبكاء لِبُلْبُلَةْ ؟.
فلقد ذَوى
عشرونَ نَذراً
في شفاهِ ا لماءِ
وا حترقتْ
صلاةُ ا لسنبلَةْ
ظهرَ الهلالُ
على مَساءِ الشَّعرِ
والحنّاءُ
تجلسُ فوقَ رأسِ الأرمَلَةْ.
الله يا امرأةً
حَليبُ عيونها صبحٌ
تلوّنَ من ليالٍ مُقبِلةْ.
الله يا امرأةً
أخافُ بذكرها
أنْ أشتهي موتي
وأنْ أتسوَّلَهْ.
مُتوضئٌ وجهُ الجنوبِ
بحزنِها
يمضي ليمسحَ في خفاءٍ أرجُلَهْ
صلّى وأهدَرَ دمعَتينِ
وليلةً
ودُعاؤهُ يَفْتَضُّ سِرّاً أهمَلَهْ.
هذا جَنوبكِ
فيِ جنوبِ ا لقـلبِ مَنـْزِلُهُ
وكم وطناً يخبئُ مَنزِلَهْ.
هو طفلُ هذا الماءِ
وابن النخلةِ الأولى
سليلُ قبائلٍ مُتَنَقِّلَةْ
كم قَمَّطَتهُ الريحُ
كم غنّى لهُ شَجرٌ
وغيمٌ في المرايا غَسَّلَهْ
كم أرضَعَتهُ الشمس
كم سَهرت له النجمات
كم نزلَ الهلالُ وقبَّلَهْ.
هذا جنوبكِ
لم يَجد أسماءهُ
إذ أنتِ من أسمائهِ المتحوِّلَةْ
فبأيِّ طَعمٍ تَمضَغينَ الحرب
لُقْمَتها بقايا الميتين وقُنبلَةْ !!.
* أرملة من جنوب العراق فقدت زوجها في الحرب.
أعـيدوا ليّ الآن أمــّيت
سلمتَ من الحبرِ يا صاحبي
وأمَّا أنا فأبتليتُ به
كتبتُ/ كُتِبتُ
وها أنا أندَمُ
أني تعلَّمتُ يوماً
وأني قرأتُ كتاباً
فكم أتعبتني دروبُ المدارسِ؟
أتعبني أصدقاءُ الطريقْ
فعدتُ بنعلينِ مخصوفَتينِ
وثوبٍ ترقعُهُ الحادثاتُ
وعدتُ لذاكرةٍ لم تجد نفسها
بين أنقاضِ بيتٍ وبيتِ.
********
سلمتَ من الشعر يا صاحبي
فهو علَّمنا أن ندخِّنَ
حتى تجيء القصيدة
وإذ لا تجيء فنسعُلُ مُختَنقينَ بأحزاننا
أعيدوا لي الآن أميِّتي
أعيدوا لي الآن بدويْ
وماشيتي
والصحارىْ
وفزاعتيْ
والحقولْ
أعيدوا لي الآن ما تشتهونَ من الضائعاتِ
سأقبل
على أن يكون الذي سيعود إلى حوزتي أولاً
كلُّ أميِّتي ثم ما تشتهون
وتبَّاً لكلِّ المعارف
ترجزُ ما بين أنياب من ظفروا بالحروبْ
وتبَّاً لكل الأناشيدِ
تنشدُ عند وقوف الملوك على موتنا
وعند وقوف الذي لا يراهن
أي الأناشيد أجملْ
تباً لكل القصائد
إذ لا تباع كلوحةِ رسَّامنا في المعارضْ
ويبقى على الشاعر الفذِّ أن لا يمدّ يداً ويعيشْ
وتباً لكلِّ الذين يظنون أنفسهم مؤمنين بنجمٍ بعيدٍ
يعودُ يطببُ أحزانهم
ويحني البيوتَ بحنّائِهِ
وحناؤه من رماد
وتباً لمن قد أفاضَ على همِّنا
بالكلامِ النبيلِ.
********
سلمتَ من الشعرِ يا صاحبي
وأما أنا فتعبتُ
وآمنتُ بالخوفِ
بالصمتِ
بالخرسِ الأبدي
وتبتُ
ولستُ الذي يحتمي بصديقٍ
ولستُ تعبتُ
كنت أظنُّ الكتابةَ خيراً
إلى أن كتبتُ
وكنتُ أظنُّ القصيدةَ ربَّاً
ولم يرزق الربُ عبداً
وها قد كفرتُ
رعيتُ الكلام وقطعان ماشيةٍ في حقولِ المعاني
وبددتُ كلَّ الأغاني
وكانت خرافي تُرافقني
وتسترقُ السمعَ حين أقولُ القصيدةْ
وكانت خرافي سمينةْ
دخلتُ المدينةْ
وصلتُ إلى القصرِ
عند الأميرِ
وفي حضرةٍ من جلالٍ بهيٍّ وقفتُ
لأمدحَ مولايَ
كان أبو الطيب المتنبي
على طرفٍ من لسانيْ
وكان حبيبٌ يلقنني بالمعاني
فكم بيتَ شعرٍ حفظتُ ؟؟*
وإذ بالخراف التي كنتُ أطربها في الطريقْ
غدت شعراءْ
وألقت بأصوافها والجلودْ
وإذ بالأمير استدارَ بسحنتهِ نحوها
وأصغى لها
فصرختُ
- أنا يا أميري
أنا الشاعر العربيُّ وهذي...!!
وأومأ لي ظلُّ سبابةٍ
فصمتُّ
وباشرتِ المدحَ كلُّ الخراف
وكان الأميرُ بها طرباً
والقصائد شعري الذي قد نظمتُ
********
سلمتَ من الشعر يا صاحبي
وأما أنا ما سلمتُ
ألم تشهد الحزن في مقلتي ؟
ألم يشهد الآخرون علي ؟
وأعلم أن ليس منهم يدٌ قادرةْ
وأعلم أنهم الآن لا يملكونَ رجوعَ الزمانِ
ومثلي يُطالبهم أن يُعيدوا له المستحيلْ.
********
سلمتَ من العلم يا صاحبي
أباركُ أمَّكَ إذ أنجبتكَ بريفٍ قصيٍّ
ولم تسع يوماً إلى المدرسةْ
فما نفعُ أن يغرقَ المرءُ بين الحروفِ
وبين كثير من الأسئلةْ
وتمضي السنونُ عليه
تعلَّمْ
تعلَّمْ
تعلَّمْ
فسوف تكون كسحليةٍ
تصعدُ الآن سلمَ دائرةٍ للحكومةِ بائسةٍ
تعلَّمْ
وسوف تجوعُ من العلم والشعر
سوف تُساقُ
لكي تتظاهرَ
تشجب مستنكراً والجماهيرُ تشجبُ
تصرخُ
تصرخُ
تحمل لافتةً لا تعي ما يرادُ بمضمونها
وصورةَ من حكموكْ
سترفعها فوق رأسكْ
لماذا تردُّ لهم دينهمْ ؟
فهم علَّموكَ
وهم ألَّفوا قلبَكَ الصلدَ
ولم تحفظ العهدَ أنكرتَ كلَّ المكارم والفيءْ
وأنكرت تقبيلَ كفِّ المبجلِ
أنكرتَ
أنكرتْ
وها أنت دوماً تجرُّ إلى المعركةْ
فأنتَ الذي ستكون الشهيدَ على جهلهِ
ماتَ من أجلِ أنهم علموهْ.
********
سلمتَ من الحبِّ يا صاحبي
فحمداً لقلبك حين تزوجت بامرأة من قُراك
وباركَ ربُّك
لم يكن الحبَّ مفتاحها
فلا امرأةٌ في زمانكَ
إذ ما أحبَّتْ أصيبت بداءِ الوفاءْ
ولا الحزنُ حزنُكَ حين تُحبُّ
وتبكي وأنت تظنُّ الحبيبة قد شاركتك البكاءْ
سلمتَ من الحبِّ أنت على الأرضِ أرضٌ
وأمَّا أنا
فنصفي أرضٌ
ونصفي سماءْ
تقاسمني
الحبرُ
والحبُّ
ضاع اتجاهُ السحابة
تمطر حبراً
وتمطرُ ماءْ
********
سلمتَ من البيع يا صاحبي
فاحمد الله
فإن الذين يباعون في عصرنا من عبيدٍ
هم من تملّكهم حرفهمْ.
********
سلمتَ من الحبرِ
والشعرِ
والحبِّ
والبيع
يا صاحبي
سلمت قليلاً
سلمتَ كثيراً
سلمتَ
سلمتَ
ولم أسلم
عثرتُ على الندم المستحيل
فلا ندمٌ بعد
لم أندمِ.
رجعة الشهيد
لمن هذا الجلالُ لمن تجلى؟
وأرخى سفحَ دمعتهِ وصلّى
ولعلمَ نفسهُ وعلى يديهِ
نذورُ دمٍ أفاقت وهي عجلى
وما رفّتْ على أعباء نفسٍ
ولا حطّت على الأوجاع إلاّ
بقايا رعشةٍ نفرت إليه
وآخر بسمةٍ في الروح تبلى
فطافَ على المنازل إذ رآها
تُريق دموعها وتظل خجلى
تحس دنوّ عاشقها إليها
وتبتسم النوافذ وهي كسلى
وتسأله رجوعكَ من غياب
أمن ذكراك يا حلماً أطلاّ
أمن نجمٍ تأخر عن صحابٍ
تشاغلَ عنهم فمضوا وظلا
أمن صوت المآذن وهي تتلو
مناسكها على فجرٍ تدلّى
أمن سور الوفاء على شفاهٍ
تكاد هي التي بالقول تُتلى
تجيء من الحنين وقد تناءى
وتاه الوعدُ ثم بك استدلا
وقفتَ على المواجع فاضمحلت
جراحٌ تحسبُ الأوجاعَ خيلا
وها تلك الليالي كنّ دوماً
شحيحات الضياء يعشنَ بخلا
شتاءات مضغن الصبر بردا
وأرسلن السحابة وهي حبلى
فمن أمل المروءة كنت عهداً
يذكرها بأن الأرض أغلى
وأن دماً يراقُ على يديها
فداءٌ كلما هضمت تجلى
تظلّ بها البنادقُ صاحياتٍ
تزيح نعاسها ليلاً فليلاً
تزيحُ القول عن شفة ارتيابٍ
وتعصمُ من دخيل الشكّ قولا
رجوعك يا فسيل الروح أدلى
بقولٍ يجعلُ الأحلام نخلا.
في المأثور الشعبي أن أرواح الشهداء تزور منازل الأهل ليلة الجمعة.
أحزان لسيدة الصحو
وَتَدْفُنُ أحزاني رمالُ توهمي
وفوقَ رمالِ الوهمِ بانتْ رؤوسُها
ويصبحُ وجهُ الأرضِ ساقاً تدوسني
وتثأرُ مني كيف كنتُ أدوسُها
ولي شبرُ أحزانٍ يقيسُ مسافتي
وكنتُ أنا المحتار كيف أقيسُها
قوافلُ من عيني تشدُّ رحالَها
فخدي صحراءٌ.. ودمعيَ عيسُها
ومثلي مكسورُ الجناحِ حمامةٌ
ومثلي معصوبُ العيونِ حبيسُها
وأنظرُ من خلفِ الدخانِ فلا أرى
سوى وجهِ من قد أسكرتني كؤوسُها
هي امرأةٌ تصحو فيورقُ جسمُها
ويُظهر ما معنى الجمالِ جلوسُها
أُكسِّرها مثل الزجاجِ.. تبعثرتْ
أجمِّعُها في راحتي وأبوسُها.
القمر والقمح
قمرٌ تدلَى من كلامي
قمرٌ يُغيَرُ صحبهُ في كلّ يومٍ
يلبسُ الأشياءَ يخلعُها كأثوابِ الغمامِ
قَمحٌ فراتيٌّ تَدلَّى من ثُقوب الناي
يحملُ بسمة امرأةٍ
ويحملُ ما تبقَّى
ورداً وعشقَا
وبكاءَ عام
وهُما معاً لاذا بأطرافِ التَّحيَّة والسَّلامِ
وهُما اللذان يُقصقصانِ الآن أجنحةَ الحمامِ
كي لا يُغادِرْ
كي لا يَرى أرض الخِتامِ
قمَرٌ وقَمحٌ في يَدي
ومَدينَةٌ سكَنت غدي
ومضت تُحدِّثُ كيفَ يَكتَهلُ المغنِّي
ما بينَ تمتمةٍ ولحنِ
كَم أطفَأ الأصحابُ عَبرتَهُ
وتاهوا بين أنفاسِ الظَّلامِ
هذي أغانيه دروبُ العائِدينَ
دُروبُ فُرسانِ الحُروفِ
وَثوبُ مَا يعرَى منَ الأيام.
*******
الله
يا قَمَري وقَمحي
الله
يا لَيلاً عرَاقيَّاً تعلَّق فيهِ صبحي
يا نخلةً ما أمطَرَتْ إلاَّ ابتساماتٍ (وبَرحي)
يَا كفَّ مَن أعطَتْ
ولَم تأبهْ بِإصبَعها المُشحِّ
هَذا عَطاؤكَ كَيفَ أضحَى
تيناً
وزَيتُوناً
وقَمحَا
حتَّى ولو كَبُرَ الصِّغارُ
وغَادَروا قلقَ الفطامِ
قَمرٌ سَيبزُغُ من جَديدْ
ويُولَدونَ من الكَلامِ.
* البرحي: من أجود أصناف التمور في العراق.
***
بشار عبد الله
- من مواليد الموصل، عام 1961.
- يعمل حاليا في جريدة الزمان والفضائية الشرقية.
صدر له:
- الترجمة الانكليزية للمجموعة القصصية: الشيخ نيوتن، لفاتح عبد السلام، صادرة عن دار النمرود للنشر، الموصل 1986، ورواية هذ الأخير: عندما يسخن ظهر الحوت، عن دار هاتس أوف الأمريكية، 2003.
- كتاب: ألقاب الجمجمة، بالإشتراك مع الناقد العراقي سعد محمود بجزئين 1993- 1996.
- له رواية شعرية حصلت على جائزة الاستحقاق ناجي النعمان بعنوان: من يسكب الهواء في رئة القمر؟.
ترتع السواحل بزرقة البحر
لكنها
عبثا ستكتشف
بأن صبغة ماء البحر
هي زرقة وجوه الغرقى.
***
يوما ما
سأهرب إلى السماء
لكن عليّ أولا
أن أقطع كل الحبال
التي تشدُّ الأصيل إلى الأفق
فانا أكره أن ينال من قميصي الأبيض
رذاذ الدم.
***
تمر الريح وتنحني
إجلالا للفراغ
الذي خلفته الغابة المحترقة.
***
وأنت تمرق
وتخرق حاجز الصوت
أيها الطيار المتغطرس
قد تجهض جنيناً
لكنك لن تجهض خير الله المعقود
فوق نواصي الجياد الأصيله
لأنك أبدا
لن تخرق حاجز الصهيل.
***
طائرات الحلفاء
تمزق كل مساءٍ
قميص سماء مدينتنا الأزرق
وبإبرة صبرٍ
وخيط حنان
نرفو كل صباح
قميص السماء الممزق.
***
كان طريقي
إلى منزل السياب
يحدثني بالنوق العصافير
التي قادها لابنة الجلبي
وحين سقطت قنبلة
صارت النوق خيولا
وطارت العصافير.
***
كنت في زمن الحرب
آمر حضيرة للنبالة
أصنع طائرات ورقية متلاحقة
وأرفعها فوق السواتر للتمرين
فيسقطها الجنود بغصاتهم
وحين أسألهم:
لماذا لا تطلقون نبالكم ؟
يجيبون:
نخشى أن نحدث ثقبا في التراث
فنمنح للغرب فرصةً للتسلل.
***
تيممت بتراب الفلوس
فطردتني المساجد النقدية
لأنني دخلتها حافياً
صمت عن الجميلات
وحين أذن المؤذن
لم أجد غير جميلة جائعة
فأفطرت على حزنها اللذيذ
هل أنا سادي ؟!.
***
أنا الذي اكتشفت
ما بين عينيك وجرحي بئر زمزم
فكيف تسوّلُ نفسك
حرمان قلبي
لتقولي له حين ينوي الوضوء:
تيمّم.
***
بيني وبين فم الموت
جسرٌ مداه
صفير رصاصه
وآيتهُ
أن يراني الذي خلف خط الحجاب
على غفلة وأراه.
***
كان بيني وبين الحبيبة
قبل سنين ثمان
صباح جميل
وخاطرة حلوة وحنان
وزيتونتان مباركتان
تصب بجذعيهما زمزم
والآن
بيني وبين الحبيبة
بعد السنين الثمان
ليل طويل طويل
وديوان شعر ذليل
وجرحان ما لهما بلسم.
***
ما الذي لم يره عنتره ؟!
رأى كل هول
ولكنه لم يرَ
دمعة ذرفتها حبيبته
وهو ملقىً
وحيدا ببطن الثرى.
***
ليس للملائكة زاريه
ربما ارتباك الموقد
هو الذي فضح سري المحتمي بالجمر
وطارد القداسة
إلى زريبة الأفق
كي نتساءل:
هل يكفي رسول حليب واحد
لإفحام شحنة من الرضع ؟.
***
والآن
هل جن شراع البحيرة الموقوت
على هلوسة الريح ؟
هل عطس الفانوس المدمن
سماواتنا القديمة ؟
ومع ذلك سأقول:
ربما نحن المهزومون
تحت بلاط الجنون
وصمت هذه البرية الملطخ بتهجئة البرق
حيث ريش الفجر دائما
يدغدغني إلى شفق متروك مع المعوقين
وحيث المفاتيح كلها
متنكرة بنصائح لا نيات لها
غير التحرش بأقفال السراب.
***
الموت طريدة
الجندي الذي فكر كثيرا
صنع أحلاما كثيرة
وأثثها بالماء
والخضرة
والصهيل
ثم نصبها عند المداخل
فخاخا للسلام
الجندي الذي انتظر طويلا
جمع أحلامه من المداخل
لفها ودخنها الواحد تلو الآخر
ثم نصب نفسه فخا للموت
الجندي الذي نصب نفسه فخا
أصطاد الموت في أول جولة
فانحنى له السلام.
***
والآن
أأملك غير يومي
لأشحذه وأسدده في خاصرة الغد ؟
أأملك غير الأخضر
لأضغط على زناده
كي أحرر الغابة من تضاريسها وأمضي؟!!.
***
تنفرد المصطبات الحجرية بالحدائق
لتجمع نفايات القبل
وتعلقها على الأشجار
نكاية بمكنسة عامل البلدية.
***
ما أشد ملوحة اليقظة
وما أكثر حموضة الصدى
في فم النعاس.
***
الخيول التي تستحث الصحراء تحتها
لن تصل أبدا.
***
في قبضة المنسي
تستيقظ زرقة المناديل
فتولدين تحت ظلال الدموع.
***
لن أغفر لك أيها الفجر القادم
من صحراء الزمن
لتعلق نهاري المتأجج على جدار الغروب.
***
سماء تتوسد لثغة طفلتي
كيف لا أقذف بروحي
في زجاجة الهديل.
***
أيها الحارس النابت
من ليالي الحروب
حذاري
إن فراستي مصفحة.
***
في زحمة التهجم
ينحل شريط القهقهات
لكنه يبقى على علاقة طيبة بالرصيف
لأن الإسكافي
يعول كثيرا على الحروف المسمارية
في تدوين يومياته.
***
هل ينبغي عليّ الاحتفاظ بخيولي
وأنا أمتلك اليوم لجر عربتي
قطيعا من اللهفات.
***
لماذا يدخر طائر الكركي تحليقه
ويجلس القرفصاء
فوق خوذتي المثقوبة ؟
لماذا يهبط دمي هبوطا اضطراريا
كلما طقطقت الأفكار الغريبة في رأس الشهر؟!.
***
أنا الذي فوضت الفكرة
في اقتراح شكل الضربة المفاجئة
فكيف يوقفني الأحمر في علامات المرور
وأنا المندلق من فم عصر غير مدون.
***
ها أنذا اليوم
أمتلك أذنا قصفية
لذلك
سأرشح الانفجارات
وفق أبجدية الذخائر.
***
لماذا تسمونه ليلا
وهو ليس أكثر من نهار
مقمط بسواد عيونها!!.
***
مثل كرة بليارد يتدحرج حلمي
وينسكب في عُرس المصّبات.
***
أنا أدفع الحمى إلى قاع الروح
لئلا يعلق بها زمن
أنا أفعل كل هذا
لحاجتي إلى عرّاف
لا إلى طبيب باطني.
***
لا خُفَّ للذكريات
وذاكرتي كثبان
فدعي الفراغ
يرقص تحت رفيف النسيان
وسأكتفي أنا
بسكب الهواء في رئة القمر.
***
ولأنني أطلقت رحمتي على الحصان المحتضر
سأتوج البغل
وأسكب في عروقه دم الأوسمة.
***
أيها التجار الحفاة
دوما
ترفعون أصواتكم عاليا
وتعرفون أننا لا نمتلك السلالم.
***
أيها الهاون
دُكَّ ليلَ المهزلة
ورجّ القُرمز مع آخر هزيع في القربة العاطلة
كي يكون للنهار شفق يصغي للنجوم
ويدغدغ تخومَ الوقت في المزولة.
***
أيها الليل
أتل تعويذة الذخائر
قبل أن تفضَّ مظروف النجوم!.
صنابير الحرب
يفتح البورصويون
صنابير الحرب
فيتدفق الشهداء
إلى السماء
تاركين استخفافهم الأحمر
علامات استفهام.
يا نهارات طفولتي الضائعة
ماذا يفعل
طائر أبيض مثلي
إذا حطَّ عليه المساء
سوى أن يصير غرابا ؟.
يا نهارات طفولتي الهاربة
ماذا يفعل غراب مثلي
إذا جاع
سوى أن يطحنني في جرن نعيقه
وينثرني مثل غاندي
فوق كنج الصمت ؟.
يا نهارات طفولتي الـ ………
ماذا يفعل غريق مثلي
إذا رجرجه الغروب
سوى أن يسفح ظليّ
فوق بلاط النهار
ويعلقني على عمود صحفي مقروء ؟.
خفافيش فوق العراق
تدقُّ صافرة الإنذار
نفس الخفافيش تمرُّ
فوق سماء العراق
والعراق
هو العراق
يقول لي سائح غريب:
عجيب
كيف تنامون ؟
كيف تعملون ؟
كيف تسيرون في الأسواق ؟
كيف تتطاولون على قوانين الإنذار ؟.
إنه سائح غريب
يلتزم بقوانين الإنذار
والدفاع المدني
أما نحن
ففي العجاجة منذ عقد
كلنا نعمل لكي نعيش
لا نختبئ لكي نهرب من الموت
أصغي إلى السائح الغريب
وهو يلعن الحرب
والطائرات
تماما كما نلعن نحن الجوع
ساعة يتسلل إلى بيوتنا
فلا نملك سوى أن نتطاول
على قوانين الإنذار
والدفاع المدني
وننزل إلى العمل.
ماذا يراقبون
منذ عشر سنوات
وأنا أنزل كل يوم
إلى السوق
أحيانا للعمل
أحيانا للتبضع
وأحيانا للتسكع
وأرى بين الجموع الكادحة
بريق باج الأمم المتحدة
على صدر أحد المراقبين الدوليين
وهو يدخن غليونا
وفي يده حزمة دولارات
أنا أعرفهم من ملابسهم المكوية
ووجوههم المتوردة
ودولاراتهم المتناسلة كأرانب
اسأل نفسي:
ماذا تراهم يراقبون
داخل السوق ؟
لماذا لا يراقبون الجوع
وهو يمشي على قدمين
ويدخل الأزقة والمنازل ؟
لماذا لا يراقبون الفقر
وهو يقرض مثل فأر
جيوب الملايين
الملايين الكادحة من أجل الرغيف ؟
أقطع الأسئلة المريرة فجأة
وأتشبث بأول حافلة تغص بالهموم
إذ أتذكر طفلتي الصغيرة
إنها تنتظر أن أحضر لها الحليب.
***
بلند الحيدري
- من مواليد عام 1926.
- توفي عام 1998.
- كردي الأصل واسمه يعني شامخ في اللغة الكردية.
- في بداية حياته تنقل بين المدن الكردية، السليمانية وأربيل وكركوك.
- ولما توفيت والدته التي كان متعلقا بها كثيرا في العام 1942، انتقلت العائلة إلى بيت جدتهم والدة أبيه.
- لم ينسجم في محيطه الجديد وقوانينها الصارمة فحاول الإنتحار، وترك دراسته قبل أن يكمل المتوسطة في ثانوية التفيض، وخرج من البيت مبتدءاً تشرده في سن المراهقة المبكر وهو في السادسة عشرة من عمره.
- عاش لفترات طويلة متشردا، وقام بأعمال مختلفة منها كتابة العرائض (العرضحالجي) أمام وزارة العدل حيث كان خاله داوود الحيدري وزيرا للعدل وذلك تحدي للعائلة.
- بالرغم من تشرده كان حريصا على تثقيف نفسه، فكان يذهب إلى المكتبة العامة لسنين ليبقى فيها حتى ساعات متأخرة من الليل.
- كانت ثقافته إنتقائية، فدرس الأدب العربي والنقد والتراث وعلم النفس، وكان معجب بفرويد وقرأ الفلسفة وتبنى الوجودية لفترة ثم الماركسية، علاوة على قراءته للأدب الغربي من خلال الترجمات.
صدر له:
- خفقة الطين- شعر- بغداد 1946.
- أغاني المدينة الميتة- شعر- بغداد 1951.
- جئتم مع الفجر- شعر- بغداد 1961.
- خطوات في الغربة- شعر- بيروت 1965.
- رحلة الحروف الصفر- شعر- بيروت 1968.
- أغاني الحارس المتعب- شعر- بيروت 1971.
- حوار عبر الأبعاد الثلاثة- شعر- بيروت 1972.
- زمن لكل الأزمنة- مقالات- بيروت 1981.
أنت مُدان يا... هذا
وخرجت الليلة
كانت في جيبي عشر هويات تسمح لي
أن أخرج هذي الليلة
اسمي:
بلند ابن أكرم
وأنا من عائلة معروفة
لم أقتل أحدا
لم أسرق أحدا
بجيبي عشر هويات تشهد لي
فلماذا لا أخرج هذي الليلة ؟.
كان البحر بلا شطآن
والظلمة كانت أكبر من عيني إنسان
أعمق من عيني إنسان
ورصيف الشارع كان
خلوا إلا من صوت حذائي.
طق….طق …..طق……
أجمع ظلي في مصباح حينا
وأوزعه حينا
وضحكت لأني
أدركت بأني
أملك ظلي
وبأني أقدر أن أرميه ورائي
أن أغرقه في بركة ماء وحل
أن أسحقه تحت حذائي
أن أخنقه بين ردائي.
طق….طق …..طق……
والظل ورائي
طق ... طق
الظل ورائي... ورائي… ورائي
ما أكبر ظلك إنسانا يملك عشر هويات
فيما لا يملك أي هويه.
غنيت
صفرت
صرخت
ضحكت… ضحكت... ضحكت
وأحسست أني أملك
كل البحر
وكل الليل
وكل الأرصفة السوداء
إني أجبرها الآن على أن تصغي لي
أن تصبح رجعا لندائي
أن تصبح جزءا من صوت حذائي
طق….طق …..طق……
ومددت يدي
ما زلت عشر هوياتي في جيبي
هذا اسمي
هذا رسمي
هذا ختم مدير الشرطة في بلدي
هذا توقيع وزير العدل وقد مد به زهو حز فمي
وأطاح بسن من أسناني
خدش بعضا من عنواني
وخشيت بأن ...
فبلعت لساني
ومعي سبع هويات أخرى
أقسم لو مر بها جبل أحنى قامته
ولقال :
هي الكبرى
عن شعري
عن أدبي
عن علمي
عن فني
ولاني
أحمل عشر هويات في جيبي.
غنيت
صفرت
صرخت
ضحكت... ضحكت...ضحكت
ما أكبر ظلم إنسانا يحمل عشر هويات في عتمة ليل
عشر هويات في زمن لا يملك أي هويه.
في اليوم الثاني
كان ببابي شرطيان
سألاني من أنت ..؟
أنا.. ؟!
بلند بن أكرم
وأنا من عائلة معروفة
وأنا لم أقتل أحدا
وأنا لم أسرق أحدا
وبإني…
فلماذا ..؟
ضحكا مني
من كل هوياتي العشر
ورأيت يد تومض في عيني
تسقط ما بين الخيبة والجبن.
- أنت مدان يا هذا
- يا هذا
ماذا فعلا باسمي
وبرسمي وبتوقيع وزير العدل ؟
لم أدر.. لم أدر
لكني
أدركت بأن هوياتي ما كانت إلا شهادة زور
وبأني سأنام الليلة في السجن وباسم وهوياتي العشر
وضحكت… وضحكت… وضحكت.
في زمن لا يملك أي هوية
سيكون مدانا من يملك أي هوية
مزقها
مزقها يا سجاني
اسحقها
اسحقها يا سجاني
وسمعت خطاه ورائي
طق….طق …..طق……
كان البحر له
والليل له
وجميع الأرصفة السوداء
طق….طق …..طق……
ما أقسى برد الليلة
سيدتي
تلك المنبوذة في الحزن
المنبوذة
في ليل عفن
سيدتي
تجمع رجليها
تلتصق الركبة بالصدر
بدمله
كالوهن
وتقول :
- ما أقسى برد الليلة .. البرد شديد.
أتراءى شبحا أسود في ظلي جفنيها
وتعيد:
- ما أقسى برد الليلة .. البرد شديد
- ما رأيك في فنجان آخر ..؟
- ما رأيك في أن تسترجع أمسينا في عتمة فنجان
نقرأها كالأمس
زمانا في وعد
نقرأها ألقا يومض
في صوت الرعد
أو نقرأها شفقا في شفة
أو شفة في شفق قاني
ما زالت تسأل عن وعد ثاني
سيدتي توشك أن تضحك
سيدتي تبكي
سيدتي تسألني
ما رأيك أن نحلم
أن نكبر
أن نصغر
أن نسخر مما كان لنا
مما كنا ..... ؟.
النافذة العمياء
صوت أبي
يصرخ بي
يتدحرج بي
أخطأت
لقد أخطأت
وأحسست به يكبر
سوطا
موتا
مملوءا بالنقمة والرعب
وأحسست نفسي تصغر حد التوبة
تصغر حتى كدت بأن لا أعرف نفسي
إلا في الذنب.
ثانية .... ثالثة
ألفا يصرخ بي :
أخطأت
لقد أخطأت
لقد شاغلت دروس العلم
ولم تتعلم
أدركتك بالوعظ
فلم تسلم
ونصحتك
لم تصغ
ولم تسمع
إلا فمك الأبكم
يا ولدي
يا ولدي كن حطبا لجهنم
وبكيت
بكيت
بكيت
ولم أتكلم
فأبي لن يسمح لي إلا أن أبكي
وإلا أن أصمت حتى الموت
ولن أتكلم.
***
جواد الحطّاب
- من مواليد البصرة، عام 1950.
- شغل منصب الأمين العام لإتحاد الأدباء العراقيين.
صدر له:
- سلاما أيها الفقراء، شعر.
- في إنه الوطن .. إنه القلب، منشورات عن يوميات الحرب، دار الشؤون الثقافية - بغداد.
- يوميات ابن الهيثم، رواية عن الحرب .
- يوم لإيواء الوقت، شعر، 1991. بغداد.
- شتاء عاطل، 1997. عمان.
كما أصدر كتابات للأطفال:
- يا قمرا في البصرة، مجموعة شعرية.
- تلال يغسلها الصباح، قصص.
- ترجمت قصائده إلى لغات عديدة.
مرثية لأطوار بهجت
ها أنا ألبّي أمنيتك أخيرا
وأكتب عنك قصيدة
لكنها
ويح أصابعي
مرثية.
ما أنتن الرجولة
حين تنفرد الرشاشات بـ.... امرأة
كانت تعتقد أن القتلة قد جاؤها بدورق ماء أو بحليب بقر
فهي منذ الشمس
قبالة قباب (علي الهادي) الكانت مذهبة
والتي يممت وجهها نحوه
وقالت:
(سيدي
يا ابن رسول الله
ستبقى قبابك مذهبة داخل الأنفس)
وساعة داهموها صارخين:
(أين المذيعة ؟)
أحسّت بالخذلان
فالذي لا يفرّق بين (المراسل) و(المذيع)
ويحمل رشاشة آلية
هو قاتل بالتأكيد.
ما أتفه الرجولة
حين تنفرد رشاشاتها بـ... امرأة
امرأة
كل سلاحها
ما تيسّر من (خارطة)
وما تحفظ من دعاء
توصي به الأمهات – عادة – لمواجهة المآزق.
تباين شاسع في الأسلحة
كتباين القباب الذهبية
والألغام السود
كتباين الخناجر
والجسد الفتي.
القادمون من العتمة
الهواة بــ (سمكرة) الأجساد
نصبوا الكمائن للغزالة
وتراهنوا :
خارطة العراق على صدرها
ذهب
أم ..
شبه ؟!!.
السمكريون
الهواة
اشتغلوا
بغطرسة على جسد الغزالة
واكتشفوا
أن الخرائط:
من بهجة
وأطوار.
كيان أبيض يتدحرج من حافة الروح إلــى .. القبر
أعدت إلى الموت قيمته الحقيقية
بعد أن أبتذل من كثرة الاستعمال .. !!.
يا طفلة
روضت موتها
وقادته – كمشاكس صغير –
من النسيان
إلى الشهادة
ومثلما تستعرض مقتنياتها الأثيرة
استعرضت أمامه
طعناتها
الرصاصات اللئيمة
ثقوب الــ (أدريل)
اللحم المفقود هنا
وهناك
و..
حتى بكى الموت ـ خجلا ـ من القتلة.
غيابك
مجاز
لا علاقة له بالوثوق والتأكيد
فها أنت
أيتها اليتيمة
التي تدعيها الآن جميع بطون العشائر
يتردد صداك في الأمم المتحدة
ويلهج باسمك كبار رؤساء العالم
وينشد المغنون في حضرتك.. مراثينا
فطموحنا أنقاض
ولم يعد في علب الألوان
ما يكفي لفبركة البياض
وماذا في رحيلك يا قدّيسة ؟
عينان خضراوان
احتاجهما الله
لأضاءة ليل الجنة
فارفعي أطراف كفنك
وأنت تمشين على الماء
إني أخاف على النجوم أن تبتلّ
أيها الشعراء
اقترحوا أطوار على الربّ
فعلى أيّ كتف شاء يجلسها
لن تحصي سوى
الانسان.
في صحراء (سرّ من رأى)
كان (السيّارة) على بعد (بئر) من أطوار
ورغم أنها بلا إخوة
ولم تقصص رؤياها على المرآة
إلا أنها رأت أكثر من كوكب يسجد
لكنه (الغراب) هذه المرّة
وليس (الذئب)
سحائب من غربان احتلت (الكادر)، حتى أن (الكاميرا) لم تستطع
متابعة الطائرات الورقية
وهي تعود إلى أكف الأطفال
محترقة.
يا يوسف
ألف ذئب من ذئاب إخوتك
ولا غراب واحد من غربان (ساء من رأى)
ويا طور بهجتنا
تكاثرت انفلوانزا الأشواك في مزهرية الطيور
فضعي (حجابك المدمّى) على عين العراق
عله يبصر الفاجعة.
على سجادة صلاتها
تطحن أمّي دعاء يابسا
وترشه
قبل النوم على الأولاد
خذ لي (أخي القاتل)
صورة أخيرة
كتذكار لأولادي القادمين
أريدهم أن يروني فيها
مبتسما
وبكامل أناقتي
لكن (أخي القاتل)
يعصب عينيّ
ويحفر نفقا – بالأدريل – في صدغي
وعاريا
يرميني
بمياه الصرف الصحي
يبكي الله على سجادة أمّي.
نماطل الأموات .. بالموت
نماطل كاتم الصوت
نماطل المفخخات
نماطل المداهمات
نماطل المحترفين
نماطل الهواة
وفي نهاية كلّ يوم
ينعب
في خرائب روحنا البوم
فنمرّ على بنادق القناصة
ونكتب اسمنا على رصاصة
يبكي الله على وجع العراقيين.
ما أقذر الرجولة
حين يكون مجدها صرخات امرأة
أنتظر القتلة صرختها
ليرتقوها – سلالم – إلى المسرّة السوداء
لكن أطوار – أعرفها – ربتت على كتف خوفها
وهمست بأذنه:
(من النذالة أن يتخاذل المرء أمام قاتليه)
فحققت المعجزة
أن يمشي الخائف إلى ذعره
دون أن يستغيث
بأمل مثلوم.
الحدائق
أصابتها التأتأة
وتوقف العطر عن الخفقان
طوال الليل
ظلت تنزف الوردة
لا
لم .. تمت
خيبات
الأمل
تتنفس.
في سامراء
لا ننتظر الظهور
في سامراء
نكرر الغيبة.
التماثيــــل
في ظلال التماثيل
الأرض وقت الظهيرة
تأتي بأطفالها الأربعة
وتنام بظل التماثيل.
في ظلال التماثيل
تكبو المساءات
قبعة الشمس تسقط
والليل يسكنها: قوقعة.
والتماثبل
الفضاءات مرعى لها
والرياح بأسنان محراثها
تفتح الغيم:
صوب التماثيل.
والتماثيل
يا مرمراً شكل تاريخنا
يا طفولاتنا
باب ألغازنا
ا.. نــ .. فـ .. تــ ..حْ.
والتماثيل
بول الكلاب
التماثيل
نوم السكارى
التماثيل
سوق الثياب القديمة
بيع القناني
النفايات
كم سخر الصيفُ من درعها المطري
والشتاء تهكم من عريها.
والتماثيل مشغولة
غير آبهة بالكلام
العصافير: في أذنها تتزاوج
والريح: تربط أفراسها في الظفيرة
بيضاء
لامعة
و
وحيدة.
ظنها اللص
آماله
فاستعدّ لها
واستراب بها العاشقون
ولكنها
غير آبهة بالظنون
ترى وتفكر
تراقب فجر اخضرار النجوم على الماء
(أن الحياة تظل البهية
فالسماوات
تبارك بالطين
أقدامها الحافيات).
في الهدوء
في هدوء الهدوء
في سكون الشوارع
تمشي التماثيل
مزهوة
فالتلاميذ
كل صباح يخطون في صخرها
درجات امتحاناتهم.
ورقة من تقرير شرطة المقابر
ليلة دفن الشاعر رشدي العامل
ما إن غادر المعزون المقبرة
حتى نهض "المدعو" رشدي العامل
وتفقد بيته الجديد
كان بلا أثاث
ولا موائد للكتابة
فانتظر مجيء الليل
ليحصي:
كم قتيلا يمتد بين الكلاشنكوف والشعر.
وإذ انتبه "المدعو" رشدي العامل
لعيون تتقفى آثار خطاه
حتى قرفص
وكأنه يهم بقضاء قصيدة
ثم تسلل إلى أقرب قبر
ليؤسس تنظيما سريا لفقراء الموتى.
الله
يا رشدي
يا صديقي الذي قلدته الحكومات
أرفع معتقلاتها
في الآخرة
لا تكن "اشتراكيا"
لا عليك وحقوق من يشتغلون في الجنة
أو في النار
فقد أصبحت شيخا
ولن تعينك عكازتاك على "نش"
ذباب الشرطة عن وجهك
"غورباتشوف" تنازل عن لينين
والثورة الأممية
تباع بياناتها للذكرى
لسنا سوى
حروف مصحح
أما العناوين الكبيرة
فــ: للــ..
وللــ..
كم عمرا يحتاج الكون
ليولد شاعر؟
كم نبعا تحتاج الأرض
لتخلق نهرا ؟
كم وطنا نحتاج
لنستوعب
طفلا مثلك رشدي.
***
حسن النواب
- من مواليد المناذرة، عام 1960.
- بكالوريوس زراعة.
- عضو اتحاد أدباء العراق والعرب.
- يقيم حاليا في استراليا.
صدر له:
- أنا هناك حتى يضيء دمي وشريعة النواب، شعر، بطبعتين واحدة في العراق وأخرى في بيت الشعر الفلسطيني.
- ضماد ميدان لذاكرة جريحة، كتاب إستذكارات عن حرب الخليج.
- النحل والبستاني الطيب، مسرحية للأطفال.
- الشاعر والحرب، مسرحية للكبار.
- قصائد لا تنام، شعر بالإنكليزية والعربية عن وزارة الثقافة في غرب استراليا.
الهائمون
أنكرتهم أنسابهم
وخذلهم النصيب
يومّ شحّ الخبز في التنور
وفرّ لبن التقوى من ثدي النساء
هاموا بلا قنديل هدى
بين مجون الأرض وطهر السماء
لهم مجالسهم التي يتسيّدها الحزن الوفير
ويسوّرها الأسى و جرعة الجنون
من تراب الرصيف يقطفون ثمار حرمانهم
وإذا جاعوا
من عرق قمصانهم يشبعون
أحلامهم كلّ عشيّة
حورٌ من الفردوس وكأس من معين
ونسوتهم
من أين لهم نسوة ؟
في وهم ٍ أقول:
نسوتهم المهملات عرش عفاف
ومضجع بتول تنتظر عودتهم
غير أن مسالكهم موغلة بالجحيم
تراهم في الحدائق
ثكنات همّ ٍ
وخير دليل
للغريب
والنسيب
وعابر السبيل
يتشاجرون على ضياعهم
ويتصافحون على خديعة الزمان
لا صداع في رؤوسهم
ولا أوجاع في صدورهم
هم الفاقة ُ بأحلى فساتينها
والحرمان الذي تجذر في العيون
يحصون ساعات اليوم بدموعهم
ويكنزون شهقة للفجر الأخير
فحولتهم تتقدم ظلالهم المكسوفة بالندم
وغربتهم .. شمس ظهيرة
وانتظار باص ٍ
وكأس أخير
يلوذون بالمقاهي ساعة سهو ٍ
يدخنون أصابعهم
ولا يشحذون
ورغباتهم مكتومة
تسمع أنينها آخر الليل
لا سواد في عواطفهم
يبكون أكثر مما يضحكون
بيوتهم المرآب المهجور
والزقاق المسكون بالجنون
وأنفاق مشاة
لا تسكنها حتى القطط
يفطرون بالشتائم
وعشاء ثريهم أوراق عنب
منهم خرج
الشعراء
والحكماء
والشهداء
والعشاق
لا مذاق للمدينة بدونهم
وبرغم ضياعهم القسري على الدوام
تراهم يقبـّـلون خدّ التراب
قبل أن يناموا نومتهم
ويبتسمون.
قصر الخورنق
هكذا أبدأ
من طريق رمّلتهُ حوافر التأريخ وخانته النيازك بضوئها الفاسد
خذلته شرائع البرق أيضا
ووعودها السراب
أشير إلى الضوء هنا [ رأس الشاعر] وأبغي الطريق
لكني أبدأ
وغراب برأس بوم ٍ يتبعني
ربما أنا الذي أطارده في دائرة الدرب التي شيّدها شغيلة هذا العصر
دائرة ٌ مركزها باب من خشب الطوبى
قيل إن الفردوس نهايتها
فردوسٌ ما أبصره سوى المتصوفة في ترتيل الغيب والكتب السماوية الممهورة بدمع جدي.
مَنْ يؤمن الآن بأصابعي وخواتمها تطرق هذا الباب
باب من خشب الصندل أقول الآن
ليّ الحق أنْ ألوّن الكلام وأعقره في أية لحظة ماجنة
ما دمت أعيش في عصر المسالخ والمسالك التي شريعتها الغاب
ولي شرف السؤال الآن
من جاء بهذا الباب من أقصى الهند الى الحيرة ؟؟
الجنود.
هكذا إذن
[ المحارب صورة مُثلى للإنسان المضطهد بالسُنن ]
أدفع مصراعيها بذاكرة قدّدها الخوف ورأس البوم بجثة غراب على كتفي
رأس الغراب لم يزل يشهد فجيعة الطوفان الأخير
ورأسي المأوى لنزيل أعمى يدعى الجسد
هو جثة بوم شاهدة على الخراب
تترقب من يدوّن على أديمها التأريخ المهشم الأسنان
والمسروق اللسان.
يا لهذا التأريخ الأدرد
الأرتل
كيف سيطلق من لسانه المبتور يوم الحشر حرف الضاد ؟؟
أتجاوزه كصعلوك لا شروى لنبله الملوكي
ينسلّ من بار شبع خمرا ولطما ونواحا وبصاقا على موائده
موائده من خشب التوابيت.
ها أنا الآن أخطو على قميص الماء في رواق من فيروز
أرى جدرانا ً ترتدي سيوف الذين قتلوا من أجل هيبتهم والدين
سيوفٌ
أقف منكسرا وأعرّفها
من فضة كانت
كلا
من إبريز يتباهى بالعقيق
أسأل أيضا من جاء بالعقيق
والبكراج
والياقوت
والسندس
ودر النجف لتلك السيوف ؟؟.
هواءٌ لم يهبط على أية أرض من قبل
الآن أستنشقه
أية جنيّة تعوم في غيهب روحي تلك التي اصطادت هذا الهواء السماوي لرئتيّ التي نخبتها الحروب
هواءٌ مشبع بالبخور
وعنبر الأضاحي
ورائحة طين يتسرّب من جثث مزكاة بنهر الكوثر
يجوب أزقة الجسد المتخمر من الخنادق والعرق(الفل)
ويلامس جلدي الذي طبخ على مهل
على جمر قنابل الإنفلاق
لكم يشبه هذا الهواء لسان جارية بتول تلحس ما تبقى من عسل في إناء الملك.
مازال الرواق يصاحبني
وأنا منسرح بأجنحة ما أبصرها
يا إلهي
ربما صرت أثيرا ً
ولي السحر الذي يبطل نبوءة الكهنة والعرافين.
قصر الخورنق هذا
أمسكُ هيبة خيوله من غرر نواصيها المدماة بحروب خاسرة بيد ثكلى من التلويح
أسأل هشيم الوجود:
أين الأمير؟
في رحلة لصيد الغزلان مضى
ونسيّ نشاب قوسه
من قال هذا ..؟
سترون أن الأسئلة تتكرر
لأن الأجوبة انقرضت مع آخر فرس كبت في الحروب.
صار السؤال هو الجواب المتلعثم في قصر الخورنق
آجرهُ يخفي الخديعة وخيانات الأمير
أسأل ُسنمّار:
لماذا تركوا قبرك دون شاهدة:وجثتك من أعلى القصر تطيح ؟..
أصابع النعمان لا ذنب فيها
الذنب عقلك
على حطام شيّدت المملكة
الذنب
ذنب التملق للملوك.
هذا الرواق مشجب سيوف أصابتها الدماء بالصدأ
ألوّح لفجيعته برموشي المذهّبة غبارا
وأقدامي في صالة العرش
[هل تذكر مآتمنا
راياتنا السود
صدورنا المدمّاة؟].
ها أنا ألمح بغيبي إمرأة لها ذيل الطاووس
يدعوني كرستال عينيها أن" أدنو
[الذي يدنو
تدنو هيبته]
أدنو
فما بطلت حكمتي بهذا السحر
تدنو
تقبّلني من جرح باغتني في معركة للشعر كنت بها أنا الشهيد الوحيد
قالوا:
قدّيسا لفظ مجرة الفردوس من جبّة جنونه الرهيب
قبلتها
صراع الديكة والأكفان التي طالها دم الغزال
أجففّ قبلتها بتراب مفخور للصلاة
أينعت بثيابه الدموع القادمة من مزارات بعيدة
وأنشغل بإحصاء بيوت العناكب المعسكرة في ضفائرها
[مازال في رحلة صيد.. هو.. وجواري القصر تعطـّر حمّام السباحة بإنوثتها التي ضاعت بهتانا بين نزوات الأمير].
ما بطلت حكمتي
سيعود من غنائمه بقوس الندم
يا لهذا البوم الذي انتحل جثة غراب
لا ينام إلا في تاجه الكذوب
يا روحي
يا روحي
لماذا أراك دوما تعانقين الملائكة بالخفاء.. ؟؟
أما أنت يا ذيل الطاووس
أوقفي زحف الخيانة التي تتخفـّى في رضاب شفتيك الباسلتين
أخشى العدوى
مناعتي فسدت في قصر الحيرة
وأية حيرة مستجيرة ؟؟.
هو ذا ياقوت تاجه يستجدي لمعانه من دم مشرقي
ودمع الرعيّة يفتش عن عائلة في الطبيعة ينتسب إليها
كيما يتـُهم عرقه بعدم الأصول
أُنسـّب الأشياء الى جذورها
وأترك جذري المشرقي الموشّح بالسواد
رقيم رماد في أرجوحة
حبالها التأريخ الكذوب والعدم الذي لا يزول.
ما بطلت حكمتي
لإن جثة سنمّار سقطت سهوا من أعلى القصر
ولذا سأترك شرفة الرؤيا مغلقة على ظلامي
ستفضّ ُ رغبات الأمير كوّة عريها من جديد
يا إلهي
تلك إمرأة ذيل الطاووس
تـُحصي النمل الصاعد إلى سرّتها بأرقام أعجمية
يك ْ.. دو.. سيه.. حفتْ.. مليار
بينما فحولتي تتهرّب من ظهر الضاد [ظهر جدي] إلى قنوات المجاري
كم من الأطفال أنجبت من عادتي السرية في المراحيض ؟؟
يا لهذه الشهوة التي لا يعرف معدنها غير الأنبياء.
ما ظل لك يا ذيل الطاووس سوى ذلك العفن الذي يكسو قلب الأمير
أقف الآن على قصر الخورنق
وحكمتي في ثديّ أمي تضيء
أقف على أصابع الكلام
وأصهر جليد اللغة ودواة التأريخ بجمرة الهذيان
الشعر لا تكتبه ريشة في تاج الملك
الشعر تكتبه بسالة هذي الأنا
الشعر يكتبه كل من ظنه الناس كان مستحيلا ودميمْ
[أسكنت الميم الأخيرة فلا مأوى للشعراء]
أيها الشعر أنا قائم على المرصد دائما في النهار
وأنا واقف على غصن شجرة الطوبى في الليالي القراح
ماعدت أأبه لخجلي
الخجل الذي يكبـّلني قادني إلى الشجاعة
الشعر يكتبه كل معتوه
الشعر يكتبه الجنون.
ما بطلت حكمتي
هذا باب من خشب الصندل
باب من هلام الطبيعة التي تعوم برئتي
يتقدّم قصرا آجرّه من الدماء
وصهيل الخيول
وغوث الجنود
وثكنات الجرحى
والرايات التي صارت كفنا للطين.
بلاطه الماء
جدرانه جثث السيوف
وعرشه رأس البوم الذي يجرّ جثة غراب غريق
خذله الطوفان أيضا
بينما كان الدليل.
ما الذي ظلّ الآن من الحيرة ؟
النعمان.. مازال يجزّ رقاب الخيول بسبّابة العناد
هو اليأس بجلباب الشجاعة
لأن صهيل الخيول
هو حنجرة الملائكة التي خانها معنى الكلام
سبّابته الأخرى متحف الخواتم
وعظامه سارية الرايات التي تقطر بالدم الخؤون
من جيده تتدلى مسبحة الكهرمان
وقلادة الملوك الذين غرسوا نصال سيوفهم في بطن السماء
هي مسبحة جدي التي فقدت من سجادة الصلاة
وقلادة سومري ضاع بفردوس الفرات.
آجرّة
آجرّة
هوى قصر الخورنق فوق ظلي
هل يدفن الظلّ.. ؟
صاح غراب البوم من يشتري ؟؟
لكن أراهن روح تراب لا تباع
تعويذتي هذا التراب
أرثه قصر الخورنق
والخورنق بين يدي
هل أبيع ؟.
منتظرا صوت جدّي
جدّي
يا بلاء
يا رياء
يا خفاء
يا بهاء
يا زقوم
يا حيزوم
يا مجنون
يا مفتون
يا ملعون
يا مطحون
يا مأسور
يا مفخور
يا مجرور
يا مسرور
يا آخر صفحة من سيرة الكون حين تطوى الكتب
جدّي
يا مشكاة قاب جرحين وأزكى
من جنون
وسدف الشعراء
جدّي
يا رؤية بوم
ونبوءة لجثة غراب.
قصائد حب ساذجة
[1]
ضيّعني العشق
فلملمني الشعر المتألق
في عينيك الشاسعتين.
[2]
ولإنك عاشقتي
سأخاف عليك
من غدر نساء
ونساء.
[3]
ما جدوى
أن تختبئي
وأنا آخر قلب يؤويك.
[4]
اقتربي
حتى أتطهـّر من خمرتي
وريبة قلبي
وجنوني.
[5]
ما أقرب وجهك مني
لكن
ما أبعد قلبك عني.
[6]
لما أطلق سهما
لم يصطد
إلا قلبه.
[7]
حين امتدت كف البنت
لتقتل نحله
حزنت ورده
لمّا امتدت كف البنت
لتقطف وردة
لسعتها نحلة.
***
حميد سعيد هادي
- من مواليد مدينة الحلة العراقية، عام 1941.
- أنهى دراسته في جامعة بغداد، كلية الآداب، قسم اللغة العربية.
- عمل في التعليم وفي السلك الديبلوماسي والصحافة .
صدر له:
- شواطئ لا تعرف الدفء، 1964.
- لغة الأبراج الطينية، 1970.
- قراءة ثامنة، 1972.
- ديوان الأغاني الفخرية، 1975.
- حرائق الحضور، 1978.
- طفولة الماء، 1985.
- مملكة عبد الله، 1987.
- ديوان حميد سعيد، 1984.
- باتجاه أفقي أوسع، 1992.
- فوضى في غير آوانها، 1996.
- من الحدائق التسع، 1997.
تخطيطات بالفحم والدم
على جدران المتحف العراقي
سبعة كُهّانٍ من أور
سبعة حُكماءٍ من بابلَ.
سَبعُ أميراتٍ من آشورْ
النيرانُ تُحاصرهم في فردوسِ الوطنِ المغدورْ
يَطردهم وحشُ العتمة
من حقلِ النورْ
السومريون أَفاقوا من سَماديرِ الرؤى
فانفتحت على جَحيم العالم السفليِّ
ألفُ بابْ
وجاءَ رَبُّ الجُنْدِ من ممالكِ الحقد
إلى أوروك منتقماً
فأَشعَلَ النيران في نَخيلها
وأَشعَلَ النيرانَ في الأعنابْ
أيقَظت المليكَ البابليَّ من سُباتهِ البعيدِ
ضَجَّةُ اللصوصِ في الأسواقْ
وفَزَعت كاهِنةُ المعبدِ في آشورْ
أهذهِ نهايةُ الكون ؟
وهذي فَورَة التَّنّورْ ؟!
خائفةٌ عشتار
قالِتٌ تمّوز
مَنْ هؤلاء ؟
انتزعوا الألوانَ مِن ثمارِ حَقلهِ
وجَرَّحوا الألحانَ
في ليالي الحانْ
نَهبوا ما أبدَعَ الزمانُ.. من كُنوزْ.
****
القادمون من أَرومةِ الخَلِّ
ومن مُسْتَعمراتِ النملِ
من بقايا مدنٍ منسيةٍ
من حُقَبٍ وحشيَّةٍ
من عَفَنٍ في الروحِ
من عَجينٍ فاسدٍ
ومن سُلالات الخَراب والخرائبِ
مَنْ هو انكيدو ؟
تَقولُ المرأةُ البَغِيُّ
لم يكن لي صاحباً
ولَمْ يَذُقْ من ثَمراتِ جَسدي
حُلواً ولا مُرّاً
ولم يَكُنْ خِلاًّ لكلكامش
ما رافقَهُ يوماً إلى الماءِ
الذي خَبَّأَ فيه الجدُّ
سرَّ الموتِ والحياة.
****
تَرتَجفُ النصوصُ في أصابعِ اللصوصْ
تَسّاقَطُ القَصائدُ الأوُلى
كما الأسنانُ في الشيخوخةِ
اقتربتُ من كاهنةِ المعبَدِ
كانتْ تَتَخفّى في أزقَّةِ الكرخِ
وكانَ دمُها
يَمتَدُّ من جراحها
إلى فضاء الموت
في المتحفِ
كانَ ناصر بعل يبكي
بَعدَ أنْ جَرَّدهُ الغُزاةُ من خُوذَتهِ
حيثُ رأى الليلةَ
في مواسمِ الأَسلافْ
النارَ والرمادْ
النارَ والرمادْ
النارَ والرمادْ
ليس سوى مرثيةٍ سوداءَ
صارَتْ البلادْ.
****
سمعتُ في غيابةِ المتحفِ
صوتاً يصيحْ:
يا أُمَّنا شبعادْ
مَنْ ذا الذي يَطردُنا من لغةِ الملحمةِ الأُولى
ومَنْ ذا الذي يُحيلُنا إلى تُخومِ الظلامْ ؟!
يا أُمَّنا شبعادْ
ليسَ سوى مرثيةٍ سوداءَ
هذه البلادْ.
****
المجموعة:
سبعةُ كُهّان من أورْ
سبعةُ حكماءٍ من بابلَ
سَبعُ أميراتٍ من آشورْ
ضاعوا في ظلموتِ الماءِ المسجورْ
وافترقوا في اللحظات المجذومةِ
مسمولينَ بأيدي الأوغادْ
لا أحدٌ
يسأل عن بغداد
لا أحدٌ
يسألُ عن بابل
عن أور
وعن آشورْ.
****
شاهدتُ عبد اللهِ في الجوارْ
يُمسِّحُ الجدرانَ
يَستظلُّ بالخرائبِ التي كانت بلاداً
ويُقيمُ مأتماً في سرِّهِ
يفتحُ في الدمارْ باباً
إلى حدائقٍ غَفَتْ على أَديمها عشتارْ
وغَيَّبَتْ آلاؤها
ما خلَّفَ التتارْ
أَعادَ للأشجارِ أسماءها
وأعادَ العِطْرَ للأزهار
والأَلوانَ للثمارْ
والخريرَ للسواقي
والهديرَ للأنهارْ
حتى أذا أفاقْ
كان الرمادُ سيِّداً
وكانْ
وحشٌ خرافيٌّ يلمٌّ دورة الزمانْ
في لحظةٍ غُيِّب عنها الله
والأنسانْ
وكانَ عبدُ الله
والنخيلُ
والقبابُ الخُضْرُ
والنَهران
في مضارب الأَقنانْ
أهذهِ الغيبوبةُ السوداء بغداد
وهذا الموتُ بغداد ؟
لماذا وقَفَتْ في حرمِ التارِيخِ حتى جاءَها القاتِلُ من مأمنها
ماذا سيبقى لك إِن لم تَصْعَدي من عثراتِ العالم السُّفليِّ
من نار الأساطيرِ إلى نورِ المقاصيرِ
وماذا يُلهمُ العشاقَ
إنْ لم تَغسلي بالضحكِ الأمطارَ
ماذا يُلْهِمُ العُشاق ؟.
****
تتساقط الأحلامُ
مثل تساقطِ الأوراق
تزدحِمُ الشوارعُ بالعناكبِ
بالحرابِ
وبالترابِ
حتى كأنَّ الموت.. يَخْتِلُ وردَها والشوكَ
من ماتَ العَشِيَّةَ دون أن يدري لماذا مات في هذي العَشيَّةِ ؟
لا يُثاب
ولا يُعابُ
وكأَنَّ كُلَّ يدٍ تُمَدُّ إلى بهائِكِ
أو تَوَدُّّ
يدَ العذابْ
المجموعة:
في هذا الديجورْ
لا قَمرٌ يفتحُ بواباتكِ بغداد
ولا الأَرضُ تَدورْ
هَجَرَ الشعرُ الأرضَ
وغادَرَ موطنَهُ الماءْ
الأوتارُ بقيثارِكِ عُميٌ
والصمتُ عُواءٌ مقرورْ
في هذا الدَيجورْ .
****
لا شاهِدٌ فَطِنٌ
ولا راوٍ يَقولُ لنا الحقيقَةَ
كُلَّ شاهِدَةٍ تَخطَّفَها السُعارْ
وكُلَّ ما خطَّ الجدودُ الصيدُ من أَحلامِنا الأولى
على طِينِ البلادْ
أَضحى سَبيّاً
كل ما رسموا
وما نَحتوا
وما كَتبوا
يُقيمُ مع الرمادْ
أهذهِ بغداد ؟!
أسأَلُ عابرينَ فما أجابوا
أينَ الصِحابُ ؟
لا سامرٌ في الحيِّ
لا ضَحِكٌ
ولا صوتُ المؤذِّنِ يذكرُ اسمَ اللهِ
لا ماءٌ قُراحُ
لا سرابُ
هذا الخرابُ
بُستانُ عزرائيل
يُثمر في مواسمِهِ خرابْ
لم يَبْقَ في أرجائهِ شَجَرٌ
ولا حَجَرٌ
لقد عَمَّ الخرابْ
عَمَّ الخرابْ
عم الخرا...
لا شاهِدٌ فَطِنٌ
ولا راوٍ يَقولُ لنا الحقيقَةَ
كُلَّ شاهدةٍ تَخطَّفها السُعارْ.
***
خزعل الماجدي
- من مواليد كركوك، عام 1951.
- حاصل على بكالوريوس في الطب البيطري، وعلى درجة الماجستير في علم الأحياء.
صدر له أكثر من 15 كتاب أهمها:
- يقظة دلمون، شعر 1980.
- أناشيد إسرافيل، شعر 1984.
- فيزياء مضادة، شعر.
- قصائد الصورة، شعر.
- أسمعي رمادي.. اسمعي موسيقى الذهب، شعر.
في المسرح:
- هاملت بلا هاملت، وسيدرا، عن دار الشروق.
في الدراسات:
- تاريخ القدس القديم، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
- المعتقدات الرومانية، عن دار الشروق.
- العقل الشعري، دراسة.
حين دخلت إلى الغابة
تعامل الفيل معي كفيل وهز لي خرطومه
والأسد تعامل معي كأسد وصافحني
والأفعى تعاملت معي كثعبان وهزت ذيلها
أما الإنسان فقد حاول اصطيادي.
ـــ
هذه السراديب تعبد فيها الكلمة
انكي قريب من السراديب يقذفه بطاسته
أكل الكهنة الثمار
وظهروا يضحكون على مياه الأبار
العقارب
تمطت وحركت سنابلها
أنت تتكحلين بسين وهو متحد بكمالك.
ـــ
أصطدم أصبعي بالبرق فأزداد جسدي ظلمة
منديله الأحمر غسل به رأس نعامة غاضبة
ثم أمسك يد السماء وتشبث بها وصعد
كان طفلا طامحا
ترك كتبه
وتصاويره
ورسائل عشيقاته على الضفاف
وسبح في لجة البحر يفتح الأصداف
والسفن الغارقة بصبر
لم يخرج إلى الضفة الثانية
مازال هناك يتوغل في الكنوز.
ــــ
آراك وأنت تكرعين بكأس الذهب
الفخم اللذات
وأنت تنحدرين مثل سيول
وتزمجرين مثل لبوة.
ــــ
حين ألمسك
يتحول كل جسدك إلى قلب
أيتها المدينة
أعطني الأمان
وإذا لم تتمكني فأعطني امرأة
الورد
الذهب
الخمر
الشمس
عناصر جسدها الأربعة
في قصائد مجموعته [أناهيت] ة
هبني أدخل عليك
فسأبل فمك بكلام غريب
وسأطعمك الحروف وأشرق في لسانك
ماعليك سوى فتح بابي
ونهب عقلي
وخطف سحابي.
ــــ
شمعدان يلّف قامة شمعدان يخلط الفراشات
في ذلك المطب إقليم مدجج بالأسماك
والكلام يتحمى
غبار عليك غبار على جزمتك غبار على الكمنجة
وماسة
تريث فالثلج يعمل
هناك ما يؤخذ
أشمّ موسيقى الذهب تحوم في جسدك
أناهيت الليل.
***
دنيا ميخائيل
- من مواليد بغداد، عام 1965.
- حصلت على بكالوريوس أدب انكليزي من جامعة بغداد، كلية الآداب، وماجستير آداب شرقية من جامعة (وين ستيت) الأمريكية.
- تعيش حاليا في ولاية ميشغان، حيث تدرّس لغة عربية في مدرسة ابتدائية.
- نالت جائزة حقوق الإنسان عن حرية الكتابة من الأمم المتحدة، 2001.
صدر لها:
- مزامير الغياب، عن دار الأديب البغدادية، بغداد، 1993.
- يوميات موجة خارج البحر، عن دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1995، صدر في طبعة ثانية عن دار عشتار بالقاهرة، 2000.
- على وشك الموسيقى، عن دار نقوش عربية، تونس، 1997.
- الحرب تعمل بجد، عن دار المدى، دمشق، 2001.
أكياس عظام
يا للحظ !
عثرت أخيرا على عظامه
جمجمته أيضاً في الكيس
الكيس بيدها
يشبه باقي الأكياس
في الأيادي المرتجفة الأخرى
عظامه تشبه آلاف العظام
في المقبرة الجماعية
جمجمته لا تشبه
أي جمجمة أخرى.
عينان أو ثقبان
رأى بهما أكثر مما ينبغي.
أذنان
مرت بهما موسيقي
لها
قصة
خاصة
به
وحده.
أنف
لم يعرف هواء نقيا.
فم مفتوح
مثل هاوية
لم يكن كذلك
عندما قبلها
هناك
بهدوء.
خارج هذا المكان الصاخب
بالجماجم
والعظام
والتراب
المكان المنبوش بالأسئلة:
ما معني أن تموت كل هذا الموت
في مكان يعزف فيه الظلام ؟.
كل هذا الصمت
أن تلتقي الآن
مع أحبائك
بكل هذه التجاويف
أن تعيد إلي أمك
بمناسبة الموت
حفنة عظام
كانت أهدتها لك
بمناسبة الولادة
أن تغادر
بلا شهادة موت
ولا ولادة.
فالدكتاتور لا يعطي فاتورة
عندما يأخذ حياتك
الدكتاتور له قلب أيضا
أو ربما بالونة لا تنفجر
وله جمجمة أيضا
جمجمة هائلة
لا تشبه باقي الجماجم
تتوصل لوحدها
إلى حل مسألة حسابية
تضرب الموت الواحد بالملايين
ليساوي الوطن.
الدكتاتور
مخرج مأساة عظيمة
له جمهور أيضا
جمهور يصفق
تصفيقاً
ترتج له العظام
في الكيس
الكيس المليء.
بيدها
أخيراً
ليس كجارتها التي ـ يا للخيبة ـ
لم تعثر على كيسها بعد.
الحرب تعمل بجد
كم هي مجدّةٌ الحرب
ونشطة
وبارعة!
منذ الصباح الباكر
تبعثُ سيارات إسعاف
إلى مختلف الأمكنة
تؤرجح جثثاً في الهواء
تزحلق نقالات إلى الجرحى
تستدعي مطراً من عيون الأمهات
تحفُر في التراب
تُخرج أشياء كثيرة
من تحت الأنقاض
أشياء جامدة براقة
وأخرى باهتة ما زالت تنبض
تأتي بالمزيد من الأسئلة
إلى أذهان الأطفال
تسلّي الآلهة بإطلاق صواريخ
وألعاب نارية في السماء
تزرعُ الألغامَ في الحقول
تحصدُ ثقوباً وفقاعات
تدفعُ عوائلَ إلى الهجرة
تقفُ مع رجال الدين
وهم يشتمون الشيطان
[المسكين يدهُ ما زالت في النار تؤلمهُ]
الحربُ تواصلُ عملها صباح مساء
تُلهمُ طغاةً لإلقاء خطب طويلة
تمنحُ الجنرالات أوسمةً
والشعراءَ موضوعاً للكتابة
تساهمُ في صناعة الأطراف الإصطناعية
توّفُر طعاماً للذباب
تضيفُ صفحات إلى كتاب التاريخ
تحققُ المساواة بين القاتل والقتيل
تعلّمُ العشاقَ كتابة الرسائل
تدرّبُ الفتيات على الإنتظار
تملاٌ الجرائد بالمواضيع والصور
تشيّدُ دوراً جديدة لليتامى
تنشّطُ صانعي التوابيت
تربتُ على أكتاف حفاري القبور
ترسمُ ابتسامةً على وجه القائد
إنها تعملُ بجد لا مثيل له
ومع هذا لا أحد يمتدحها بكلمة.
عالم آخر
عندي بطاقة خاصة
للذهاب إلى عالم آخر
خلف هذي الأرض
عالم مريح جميل
لا حر هناك
ولا برد
لا مطر بالمقلوب
ولا دخان كثير
الكائنات هناك
دمثة فوق العادة
والحكومات
لا تعمل في الخفاء
الشرطة
عاطلة عن العمل
فلا مشاكل
ولا شجارات
المدارس
لا ترهق طلابها
بواجبات كثيرة
فلا تاريخ بعد
ولا جغرافيا
ولا لغات أخرى
وأحسن من كل ذلك
أن الحرب
هناك
تركت وراءَها
تتمايل
وراءها
فنامت الأسلحة
تحت الغبار
ومضت الطائرات
بلا قصف
إلى المدن
والقوارب
بدت
بعض ابتسامات
في المياه
كل شيء
هادئ
ولطيف
في العالم الآخر
خلف هذي الأرض
وأنا مترددة في الذهاب
لأن البطاقة
لشخص واحد
فقط.
***
رشدي العامل
- من مواليد مدينة حديثة، عام 1934.
- توفي عام 1990.
- يعد من شعراء الجيل الثاني في الشعر العراقي الحديث، بعد جيل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي.
- عرف عنه الإلتزام السياسي اليساري، واعتقل عدة مرات في العهد الملكي وفي عهد صدام حسين، حيث تعرض للتعذيب في قصر النهاية الشهير بداية السبعينات، مما تركه يعاني جسدياً من ذلك طوال حياته.
صدر له:
- همسات عشتروت، 1951.
- أغان بلا دموع، 1956.
- عيون بغداد والمطر،1961.
- للكلمات أبواب وأشرعة،1971.
- هجرة الألوان، 1983.
- حديقة علي، 1986.
وقد مات المغني
هل نستعيد حكاية السنوات عارية
بلا وترٍ يرافقها
ولا صوتٍ يغني ؟
هل تعبر الأيام أرصفة الشوارع
أوجه الأطفال
أثقال الرجال
وكوةً في باب سجني
منها أرى أمي وأصحابي
ومنها يدفع السجان لي خبزي
وكفاف اليوم
منها ترحل السنوات عني
وتعود مثقلة السلال
أعود طفلاً
أسرق التفاح من بستان جارتنا
وأمنحه الصبايا
طفلاً بريئاً الثغ الراءات
تفتنه الحكايا
والنهر والناعور
والبلم الفراتي الجميل
تلهو به الأمواج عابثة
وجبهته تميل
جذلى إلى ضفةٍ تلألأ كالمرايا
والأرض أغنية
وعاشقة وبيت
والسفح مرتكن على الربوات
تحضنه الورود
والأرض جذلى
والسماء قريبة منا
وضحكتها وعود
والأرض جارية ولود.
***
أنأى
وترحل عني الخطوات مسرعة
وترتعش المرايا
وجهي
ووجهك
ضائعان
فأنت في إحدى الزوايا
متيبس العينين مهجور
ووجهي في الدروب بلا عيون
أتوكأ الخمسين
والأيام دائرة
وباب السجن دوني
يا بؤس ما اجترحت يداي
يا زيف ما سترته أضلاعي
وما خلقت ظنوني
هلا هربت إليّ مني
وتركت باب البيت مفتوحا
شباكاً يطل على الحديقة
يرنو وتعشى مقلتاي
أعاشق ينسى طريقه ؟
أتهجس العتبات كالأعمى
وأعثر بالحجارة
أواه
لو مدت أناملها
ولو خفقت ستارة
لصرخت ملء صديد جرحي
أنا ذا وليدك
قد رجع
فلم عيونك انكرتني
ولم اصطبرت
ألوب من ظمأي
وأقتات الحجارة
ورفعت أسمالي إلى عينيك شارة.
***
نحن ارتجفنا
مثلما أخذت أغانينا أصابع عازف القيثار
شدت
ثم أرخت جرحها الأوتار
وانهدل النزيف
نهير صبح ملء حنجرة المغني
يا ويل ما صنع المغني
آهاته
والبحة الخرساء سكين تقطعني
فأصرخ كاللديغ:
إليك عني
يا موطناً
أنا قد نسيت
فخل جرحي يلئم الأهداب
خل الحلم يهجرني
وينأى
ودع المرافئ تحبس الأمواج عن شفتي
وعيني
هزمتني الأحلام
تقصي ما أرادوه وتدني
تعبت مزاميري
فبعت أصابعي
وكسرت دني
ورجعت ملتحفاً ضباب الليل
في وطني
كأني
في الفجر
ما ناغيت غبشته
ولا أبصرت مرأى.
الطريق الحجري
هل اسميك ؟
لا يقدر الإسمُ أنْ
يمحضَ الحبّ
لا يعرف الحبُّ سوراً
ولا يملك العاشقون الثمنْ
غير أن الضلوع تراقصُ
بين
الولادة
والموت
بين
القماطِ
وبين
الكَفّنْ
أيهذا الوطن.
***
كيف تُرخي عيونك
والنهر يغلي دماً ؟
والعناق
بين نهريك
دجلة
تأتي إليك
ويأتي
الفرات
وتأتي عيون الرفاق.
***
أنت
لا تغمض الجفن
لا تطبق العينَ
لا تُمّحي
يا عراق. ْ
رمال المرفأ
من أين ؟
من باريس
أهي صبية أخرى تقاسمني الهوى والحزن ؟
من باريس قلنا
أه
صحراء وراء خيامنا السمراء
مملكةُ الرمال
والنفطِ
والأشواكِ
والخيمِ الرهيبةِ
والهوادجِ
والجمالْ.
- يا سيدي
جاءتك من باريس
جاءتك الرسالة بالبريد وأنت ذاهل.
- أحمامةُ النسيانِ جاءت بالرسائل
لم تلق أصحابي فعادت
أم أتانا طارش في الليل من طرف العيال ؟
ماذا جننت تراك ؟
من باريس
أم
النور؟.
هات لنا الخرائط
عل ضوءاً ما يزال
في الكوكب الأرضي يومض
عل أجنحة الخيال
تمضي بنا
ولعل شباكا على الدنيا يطل
وراء أسوار الخيال.
***
الشمس غائبة وراء الأفق
تحجبها الجبال
الشمس زائفة بلا دفء
وخبزُ الأرض يبرد في السلال
الشمسُ نائمةٌ
ويغزو النمل أرصف الشوارع
والعناكب
تتسلق الجدران تنسج في زواياها الحبال
والضوء يحبو في المشارب
يتثاءب السمار
والمصباح ناضب
والنادل النعسان يغفو
مطبق الأهداب شاحب
ظمئت كؤوس الخمر
وانطفأ الذبال
والليل ممتد الجناح
على الموائد
والكواكب للزوال.
***
من أين جئت تزور أطلالي ؟
أتبحث في الرمال
عن كنزنا المخبوء ؟
- ضاع الكنز
لا تحزن
وغطى الثلج أهراء الغلال
والبحر يرحل
يترك الأصداف فارغة
وأشرعة المراكب
تنأى
وتترك في سكون الليل
أصوات الجنادب
وأظل وحدي أحرس الأعشاب
تذبل.
والحصى حول الملاعب
مدني مسورة
تماثيلي مهشمة
عيوني لا ترى
غير الظلال تطوف.
لم يبق للبحار مرفأ
لم يبق إلا كوخ راهب
خبز
وشيء من نبيذ
ألامس يرفده
وقبعة وشاره
وربابة في الركن صامته
وفانوس على الشرفات مطفأ.
رحلـــة
تجفو مغاضبة
وأهفو
وتلج في عنت
فأعفو
أفتات صبري
طعمه مر
وظلمته تخف
وأشد جرحي للجراح
فلا ينم
ولا يشف.
عجيبا يرود البحر طرف
ويعود للصحراء طرف
تتناهب الأنواء أشرعتي
ممزقة
وأرفو.
وأعود وحدي والرمال
على خيامي البيض
تسفو
هذا أنا
أنا تكدرني
الحياة
أن تصفو.
قلبي
على
شفتي.
نقي البوح
طفل يستشق
عذب نميران صفوت
وإن شكا
فدم ونزف.
لا تظلميني
في إهابي
يلتقي خزف
وسيف.
أنا
هكذا أمضي
وملء جوانحي
أمن
وخوف.
إن سدت العثرات دربي
لا أميل
ولا أسف
أو طالت الأوطار
كفي.
لا أقول
أنا
الأعف.
قدحي مع الأبكار مغتلم
وكأس الليل
صرف.
حتى إذا هجع الخلي
وجر صدر الليل
زحف
جاذبته بوح الجراح
ونزف فلب
لا يكف.
إني
وليلي
توأمان
أجر معصمه
فيقفو.
وأنا
وكأسي
مبحران
مع الدجى
خدن
وإلف.
وأنا
وعمري
لاعبان
على رهان
لا نكف.
أن طاب
أو
ما طاب.
أحلب منه ضرعا
لا يجف.
ما شئت بي
نسر علا
أو جنح عصفور
يرف.
في كأس عنقود أغيب
وفوق
موج البحر
أطفو.
وأذر ملحاً في جراحي
أن خطب مسف
لكن
أهدابي تنام
على
جدائلها
وتغفو.
***
أنا لين الأعراك
فجر
ناعم الخطوات
ترف.
للناس
كل الناس
قلب صادق النبضات
عف.
فإذا هجست الغل من أو شابهم
يوماً فصلت
وقذى بعين الحاقدين
وفي عيون الحب
طيف.
ما شئت بي
قولي
جفاف في ملاحمه
وصيف.
فعلى الجبين تغضن جهم
وفي العينين
سدف.
ما كنت أول من تخوف
إذ نضت برديه
كف.
غادرت لا كرهاً ينابيع
الشباب وهن
رعف.
وكأن لا قدحاً يسوغ
ولا يرن لدي
دف.
ما ضرني
تدنو الخطوب وتسيطر
وتستخف.
أنا أكره النبع الشهي
إذا تمرغ فيه
قحف.
وأبارك الدم في العروق
إذا تمرد فيه
ضعف. ***
ما شئت
عصف جهنم
أو نفح فروس
ولطف.
فأنا هما
جنحان
مرخيان
في الدنيا
أرف.
أنا ودهري
مثلما تدرينه
نحو
وصرف.
اليوم لي
( وغداً علي )
وبعده فليدن
حتف.
عنوان
لمحته
لربما سفينة الأحزان
ترسو به
في هذه الليلة
من نيسان
منكفئاً أمامه الكأس عل النصف
وحيداً
متعباً
أسيان
يكتب شيئاً
ربما
قصيدة جديده
وربما
رسالة لامرأة بعيده
وربما
في عتمات ألحان.
يخطو إلى حدائق النسيان
وعندما تدنو إليه خطواتي الوئيده
يستل من معطفه
رسالة جديده
لامرأة بعيده
تلوح مثل الوهم
بين الأفق والشطان
يمنحني ابتسامة
وترحل العينان.
يهمس لي مرتجفاً:
(لكنما العنوان).
رغـــبة
دعيني ليلة أبكي
دعيني
مرة
في عري هذا العالم المخمور
في هذيانه أضحك.
دعي جسدي
بلا مأوى
على أرجوحة الشك.
أشم الأرض في النسرين
والأمطار في ألليلك.
أغني أيها الربان
هل أنساك همس الريح
في ملعبها
حقلك ؟.
تغطي صوتي المدن
فأصرخ:
أيها الزمن
ألا درب إلى الغابة ؟.
مرفـأ
عذبتك المركب
تنأى
عذبتك المرافىء
في الظل ساكنة.
والمراكب
تنأى.
أتعبتك الدروب الأخيرة
طاردتك الملاجيء
والليالي الضريره.
ألهمتك الشبابيك جسراً
يمد لك الوهم مرآى
فخلت الموائد في عتمة ألحان
أشرعة
أو جزيرة.
ستبقى تعد الحصى
والنجوم
وتزحف بين الضلوع الكسيره
لأن المسافة بين المرافئ
والبحر
ليست قصيره.
قطارات
المحطات تنتظر
القطار يعبرها
والحقائب
والريح
والبشر
والمصابيح في آخر الليل
تمضي
والحمائم فوق الغصون ترف
وتمضي.
والغيوم تنث
رويداً
رويداً
وتنهمر.
والمحطات
تنتظر
المحطات منتصف الليل
مظلمة في العراء
والمحطات
في آخر الليل باردة.
الشتاء
يسورها
والشجيرات عارية في الفناء
والعيون
التي في المحطات
تنتظر.
صور
لا أعرف حتى رقمي
بين الأرقام
تحلم بالبحار
تحلم
لو يأخذك القيثار
للجزر القصيه
والمدن المنسيه.
تحلم بالقصائد
والبحر يدنو منك
والأرصفة المخفيه
لكن عينيك تشدان خيوط أهدابك
للوسائد النائمه.
الصمـــــت
يدك الأخرى
ما أتعبت أن تنحت في الصخر حياتك
ترصف أحجار طريقك
تزرع في بستان الصمت غراسك
تهمس للورق الأبيض نبض جراحك
ترسم لو غاوت عينيك الأضواء
وغاويت الدنيا
يدك اليسرى.
***
من يعرف إنسانا يضحك في غاب الأحزان
يترك في السفح
إذا غادر حبه
يزرع في الحقل جبيناً
في البستان يواري قلبه
من يعرف إنسانا يعرف دربه ؟.
***
صدقني
أو كذب ضوء عيوني
يا يحيى
فأنا الميت بين الأحياء
أنا الحي أسير
ويسأل دربي الخطوات
ألا تعيا
سفني تبحر
لا صارية
لا أشرعة
لا ربان
وحدي مثلك
مائي الصبر
وزادي ملح النسيان.
بوح
إلى شاعر
عام ألفين
نسيت الحلم
كان الورد ينعس
كان جرح يتنفس
بين قلبينا
على الغصن حمامات
وفوق الماء نورس
وعلى مائدة الليل قصيده
ما كتبناها
وظل الجرح ينعس.
ـــــ
عام ألفين
تذكرتك نصف الليل
كان الجرح في صدري تيبس
كانت الراية
والأحرف تأتيني
تغاوي الصمت
تدنو
تتنفس
ثم تنأى
أيها الربان
الأشرعة البيضاء تبكي
صوتك المخضل بالدمع
على باب الجريده
عافنا الحلم
ولم يبق لنا
إلا قصيده.
ـــــ
عام ألفين
بعيد عام ألفين
ألا نختصر الدرب قليلا
أنت لا تعرف
في مرفئك النائي
ويدي مغروسة في الطين
والريح على أشرعة المركب
في البحر تدوي.
ـــــ
عام ألفين
أما أسرفت بالوعد
أما خادعت عيني طويلا
وشراعي
أه
يا مرتجف العينين
فوق الرمل يهوي.
إعتذار
يا نخلة في الكرخ
هل خنا جذورك
أم ترى شبت
على أعتابنا نار
وما انطفأت
وأسلمنا الطريق ؟.
الجرح
أين
الجرح ؟
غار الجرح
مات الجرح
في
وهج الحريق.
ـــــ
حضنتك في القلب نهراً
وفي العين ضوءاً
وفي الحلم قافية في القصيده.
ـــــ
بعد غياب الحلم الراحل
فتحت عيوني
شاهدتك تدنو
أطبقت
على الحلم جفوني
ظللتنا سحابة
ونخيل
نشرب الصمت في العيون سرابا
ونرى الضوء أن يدنو الأصيل
صبحنا مر
والليالي طوال
غافيات
وفجرنا مقتول
ها هو الخنجر المخصب عندي
ووشاح الجاني
فأين القتيل ؟.
***
رعد مطشر
- من مواليد بغداد، عام 1963.
- أغتيل في حادث مؤسف بتاريخ 10/5/2007 على أيدي جماعة مسلحة مجهولة الهوية إثر العنف الذي اجتاح العراق بعد الاحتلال.
- بكالوريوس آداب، ترجمة انكليزي، جامعة بغداد، 1984-1985.
- حاصل على [26] جائزة في الشعر والقصة والمسرح والصحافة.
- رئيس مؤسسة الرعد الإعلامية.
- رئيس تحرير جريدة العراق غداً.
- رئيس اتحاد الأدباء في كركوك.
- عضو رابطة كتاب بلا حدود - ألمانيا.
من إصدارته:
- الغرقى يجمعون المرجان، شعر، العراق، 1998.
- أتقاطر من معصمي، شعر، تونس، 2003، العراق، 2002.
- حلم سمكة، قصص، بغداد، 1999.
- كرخيني لألئ النور، قصص.
- مقتل وزيرة العائلة، رواية.
- هديل، مسرحية.
- خيول، مسرحية.
- أفول، مسرحية.
- مزرعة التماثيل.
- ترميم مزرعة التماثيل.
- صورة طبق الأصل.
- هنا طفلة تكتب العالم، دراسات نقدية، تونس 2003.
- كنت أروي نزيفي، نقد، تونس 2003.
وأنا أتقاطر من معصمي
عندئذٍ
استدرجتُ يدي بعيداً عَنْ حاجتي
ولاطفتُ جوعاً راحَ يشتمُني
على مقربةٍ مِنْ فمي
ويغزلُ مِنْ زُرقتي سماءً تتوشّحُ بسقفٍ وشيك
وقَدْ
يسألُ عمّنْ كان أكثرَ انغماسا ـ في العازةِ ـ مني لُيدْلي:
أنَّهُ نسجَ من الكفنِ وطناً ريشاً
وأثـَّثـَهُ بأشباحٍ وناي
فداهمتِ الأقفاصُ نحرَ البلابل
وطوّقتْ لحنَ عرائِها
لذا:
رأيتُني كفّاً
أقصى ما في فمِها الكفافُ
أقسى ما في دمعِها سنبلةٌ تقترفُ: البلادَ البلاد
فتنتكسُ أناملُها ـ يوم ذاك ـ وتتهدّجُ بي:
امضِ...
أيُّها الأعزلُ مُنْهدماً مثلومَ الفضاءِ مفكّكاً
وتكاثرْ ـ متى شئتَ ـ مُتّسقاً مع شظفٍ أبهى
أوْ...
منهوشاً – بما يُقال – أنَّها كلابُ الغريم
ترتجلُ طيفَك وتراقصُ أخلاّءَكَ الحزانى
لتـَهذي
وتَهْذي
إنَّ كلَّ شيءٍ لزجٌ في ذخيرةِ الخيال:
سماؤُكَ مُذْ أتلفتْ أثداءَها بأرضٍ مُفعمة النسور
نسوُركَ إذْ روّضتْ جوعَها بتحليقٍ طاعنِ الخطوط
دعاؤُك لمَّا تُغْرقُهُ المنائرُ في فتنةِ التوكّلِ
على مُدُنٍ ترتاب بأنهارها وتتّهم الأسماكَ بالجنوح
وماؤُها لَمْ يزلْ يدعكُ رذاذَ الغرقى بالساحل
تاركاً المراكبَ تتلو عُزلةَ نحّاتٍ ممعنٍ في الشبيه
وشبيهاتٌ يَرْثينَ تمثالاً يعملُ في سلك الشُهداء
بينما
انشطار أيتامه
يتقاطرُ
مِنْ
مِعصمي
ويتهامسُ مثل أصدقاءٍ معصوبينَ بناجٍ وحيد
مشدودينَ بجنودٍ مَرُّوا ثقالاً في مرايا زوجاتهم
تسرّبوا خفافاً في ساعاتٍ تصحو لتشكو:
أبه
يا أبه
الليلةَ ـ كما في الليالي القادمات ـ
سويّتُ من هلالِ حلمِك منجلاً وقطفتُ كابوسي
ومن أنوارِهِ..
هيّأتُ وسادةً وخبّأتُ فيها سِدرةَ العصافير
فتوسّدتُ هالةَ رأسك
وطرتُ بين أقمارِ يديك
ثُمَّ
انزلقتُ مع الريش واعترضت نفسي:
يا.. تسقطين
يا.. تسقط .. ين
يا.. فوضى الـ (متى؟ هات!)
يا.. هامةَ الأمسِ النازلِ من أُبطِ الموتِ طريّاً
يا.. أسئلةَ المعلمِ الأبكمِ المُنْفلت في مسدس
- يا ولد
أوجدْ جدولَ الضرب
أوْ
جدْ
دولاً…
فشيّعتُني نحو رمسي
وأعادني:
- أوجدْ دولاً لا تدلُّ عليك
فرسمتُني في سُحْنةِ جنّازٍ أناخَ قبري
لوّحتُ له:
أنا مَنْ قادَ صراطَهَ نحو شعيرٍ يسعلُ بالجراد
فتشابكتُ مع قنّاصٍ ينبشُ في الطين عنّي
وتماثلتُ لغبارٍ لدودٍ يتآكلُ في المحن
إتّسعتُ
لأبناءٍ يأتزرون أُمّاً شديدةَ التُهم
وبشجرٍ خُلّبٍ
وأوراقٍ ملبّدةٍ بالمحنّطينَ إستنْجدتُ
وتعلّقتُ
بقيامةِ جرحاي المعلّقينَ بالدبابيسِ
الدبابيسِ
التّي
تنزلقُ في معصمِ الفراغِ
فيتقاطرونَ
يتقاطرُ.. ونَ
يتقا
طرُ
وْ
نَ..
وقد.. يلتفتونَ نحو وحشتي
فأتعثّرُ
بجُثّتي
وأمضي !!
وهو يرمم العطل
هكذا..
ونحنُ نضحكُ فـي العُتْمة
نُذْبَحُ
كعودِ ثقابٍ ضرير
ما الّذي تبقّى في العُلبةِ.. إذن ؟!
ثَمَّةَ..
نداءٌ مُوحشٌ يسمِّمُهُ الموتى
وأَسىً يعضُّ رخاوةَ الدُّخان
ثـَمَّة..
سيِّدٌ غضُّ يتأبَّطُ عبداً
ويشقُّ الغابةَ مستعجلاً
نعرفُهُ..
ولا ننكرُ عبداً يـحمل شمعتَهُ ليلاً
ويـحلمُ بـمصباحِ الأسود
ثـمَّة..
أرملةٌ صمّاءُ
تقاسمُ الريحَ سَّلتَها
تطلقُ سراحَ نصالها
وترمّمُ عطلاً مكرّراً..
يُدعى:
حيـاة
قبرُها أضيقُ منْ حربٍ تخترعُ الأسف
جنّتُها أوسعُ من لبوة غاب
يداها ذبابٌ في نسغِ القتيل
وإتكاؤُها مسلّحٌ بكَ.. بي.
فَمنْ يرثي كلينا ؟!.
الأيدي أبردُ من شجرٍ تغضَّنَ بموقدِ النسيان
الورقُ ساحةُ أيتامٍ يتمغنطونَ بالبياضِ ويهبطون
أمّا القلمُ فيملأُ عينيه حبراً ويبصقُ:
كُنَّا كُنَّا كُنَّا كُنَّا.. كُنَّا كُنَّا
هلْ سبقَ وإنْ مُتْنا بعد مهرجٍ متسكّعٍ فينا ؟!
فلماذا تتقافزُ المراوحُ في الرأس
وتسهو الوسادةُ عن بترِ رؤاه ؟!
وعلى ماذا نبرّر موتَنا العالي
بأنَّ الناسَ سطوحٌ مؤجّرةٌ للحبال
وتباغتُنا المزاريبُ
من ثوبٍ مبلّل ؟!
وحتّى
متى
ننحرُ أرثَ (المتى) للغياب..
ونبكي ؟!.
أصغر من خوذة محتل
قبل الدخول إلى الأمل:
كَمْ مِنْ إناءٍ نتعرّى على أُبّوةِ دمِهِ
لنلمَّ سنونواتِ المقتولينَ في مراثي مؤذّنِ المجزرة
وكَمْ مِنْ فائضِ المسبيّن، انكسار الأُسارى، سَنَنْسجُ
قصبةً للمقابر، يمامةً للأهوار، وأمْنيةً للمفقودين مراراً
فلَمْ يَعُدْ في عتباتِ الجبالِ شهقةً لشقائقنا
وفي حنـّاءِ نسائِنا؛ سَرْجاً للريبةِ وعراقاً للانشقاق
أمّا خرائطُ مهرّجينا، سرّةُ أحذيةِ العسكرِ المخدوعين
لَمْ تلبّي صيحةَ حُرّةٍ في حرّ الدمع
وفي سَجْنٍ مؤبَّدٍ لطين الفراتِ في صرختِهِ:
- فكَمْ مِنْ صلاةٍ سنصلّيها لكلَّ أُولئكَ.. أو.. هؤلاءِ ؟!!
ألم الدخول إلى خوذةِ القصيدة
حينَ اشتعلتْ بغدادُ بنرجسِ دمعتِها
وانشغلتْ بنسج الحبرِ تحت الحريقِ
مؤطّرةً بالخُوذِ الـ.. تعّبد الطريق
حينها.. تعثرنا بنا
فانهمرت جنائزُ الطُغاةِ تحت ظلِّنا
هكذا
تسلّلنا مِنْ الطائرات خلف جُثّتنا
وصرخْنا:
تمزّقَ قميصُ البلادِ، بواسقُ العبادِ
ورفرفتْ تحت جنحِ الصواريخ رؤانا
دخلتْ أسرابُهم إذاً
وسقطَتِ الذبائحُ في سجلات الحدودِ
تناثرتِ المدُنُ كحمامٍ باغتَهُ قِطافُ
نوح ٍيزدهر غريماً في الهديل:
- توقّفوا..
يا أبناءَ النخلِ الذي في خدِّهِ خالُ العقوق
تلك مدائنكم، تستيقظُ من أجراسِ سوادِها
في آخرِ العُشْبِ توقِدُ شحوبَ الثُريّا بزهرةٍ
وتلمُّ انقراض التربّصِ في كآبةِ تأريخِها
بملثمينَ بمنائرَ شتّى
براكبي دبّابات ترتدي الأديرة
ترسمُ شوارعَها طوفاناً للأسلاكِ
وبُرْعماً للعوارضِ الشائكة...
تستعرضُ مفاتنَ الغُزاةِ في المقصلةِ
مِقصلةٌ ترتطمُ بصوتِها:
- يا زهرةَ الرُمّان والأمكنة
حُنّي على بغدادَ المُحزنَةْ
بيقطةِ نسيانِ الأزمنةْ
يا حسرةَ عاشوراءِ الغيمةِ والمنائرِ
مُنّى على القطعانِ
بسكيّنِ تذكارٍ لنسيانٍ أخير ...
........ لقطة.........
يا زهرةَ القفصِ المفصولِ الرأسِ
يا تعاويذَ النسيانِ في نسيانِ تاسوعِها
غرباءَ كُنّا تحت شمعِ سرَّها
وحشتُنا وشيكةٌ في وَجْنةِ المقبرةِ
عُزّلٌ ـ كُنّا ـ كحيرةِ آسٍ وأسىً مقيمٍ نرتديه
أجسادُنا
سجادةٌ لأقدامِ الثغورِ نخلعُها
ونشعلُ في نحلها عسلاً حرّقتْهُ إبرُ العابرين
نشتعلُ:
- يا أنيسَ وحدتِنا
أزلْ وحشتَنا
إنّا مريدوك
أوصالُنا مخطوطاتٌ تنطفيءُ
وثاقُنا رمادٌ يستنجدُ بك
بنا:
- انفتحي يا مرايا الخوفِ
وانكسري يا مظلاّتٍ في الوجوه.
حياتُنا مواجهاتُ بين ربيعٍ قانٍ وخريفٍ لقيط
قيامتُنا انبطاح لحروبٍ تندّي الفُراتَ بطوفانِ النياشين
انفتحي يا شظايا حفلتِنا
ويا متاحفَ النَخْلِ احتفلي بحريقنا
وغنّي يا خرائب بأصابعِ نعيبِنا
لمّا إزرورقت بمثلثاتٍ ومربعاتٍ
ودوائرَ تدور بالمنتخِبين !!
وانتشي يا غيبوبةَ أقفاصِنا
ببُرهةَ السُلْطةِ في إختطافِنا
وبحُفْرَ الحفاةِ في طُغاتِنا
آهٍ..
لقدْ.. تسلّلت ثعالبُ الغزاةِ إلى البلادِ
وعادتْ بناتُ آوى من تخثّرها..
تخطُّ خطوطَ موائدها:
- آهٍ..
فالوليمةُ الآن.. جاهزةٌ للاحتلال !!
وهي تعد العماء
أتسلّلُ
مِنْ ينابيعِ دمعتِك اليُمنى
فيباغتُني خريرُ الشمال
ألوذُ قَطاةً بين أوديةِ خدّيك
وأتمادى في الرفيف
أينَ الجبال؟!
أينَ الجبال؟!
ها
أنا
أسقطْتُ منْ جيمها ريشةً
وتأرجحْتُ بحبالِ بسمتِك الضريرة
وتدحْرجتُ كآخرِ خرزةٍ يرقّطُها الدعاءُ بغيْبتـي
بينما
كُنْتِ تَعدّينَ العماءَ لرحلتـي
وتُجلسينَ الأبناء على ناصية الدمعة
سوطاً.. إثرَ سوط
وتوعدينَهُمْ:
كُلوا من تينة اليدين
عسلاً وبلاداً
كونوا في غابة التسبيح
جوزاً ومهابة
وعنباً يُضيءُ داليةَ التيهِ في دمي
لكنّنا.. يا أمّي تُهنا
فانهمرت منْ مخلب الصبر
مصقولةً بالفقدِ
تتبعُكِ:
خطىً تمشِّط شيب الغُزاة
أعينٌ تنسكبُ مِثلَ السنابك والجيوش
وأيادٍ
بلا.. وادٍ
تشهقُ
وتغرقُ
بتلكَ البلاد.
***
ريم قيس كبة
- من مواليد بغداد 1967.
- بدأت النشر منذ عام 1984 في الصحف والمجلات العراقية والعربية.
- حصلت على بكالوريوس ترجمة من كلية الآداب بالجامعة المستنصرية عام 1989.
- تعمل مترجمة في دار المأمون للترجمة والنشر.
صدر لها:
- نوارس تقترف التحليق.
- احتفاء بالوقت الضائع.
- أغمض أجنحتي وأسترق الكتابة.
قصيدة
أتحداكم
الصباحات
تركض كالخيل
لكننى
قد أفوز بكبوة
وليل امرىء القيس
شدد أمراسه
بيد أنى
قد أبتليه
بنزوة
وسدت دروب
وعم خراب
وحرم خمر المشاعر
لكننى سوف أسكر
حتى بقهوة.
عذابـــات نورســـة
تَنْشَلُّ الأقدامُ عن البوْح
وذكرى تتربص بمسامات النسيان
ونوارس في القلب تُراوغ صدق المرآة
ومرآة التصديق تراوغ صمتي
وأنا
أتوسل صمتي ألا يرفع صوت الغربه
فالموت يعلِّق أنفاسي بين الشدقين
إذا مس فتيل النار نسيم عذابات أخرى
لا تقرَبْ ناري
فحقول الزيت أطاحت بمساحات وريدي
لا تقرب أنفاسي
فالخوف عليك من العدوى من.. آه
النورس
إذ تتثاقل في المشي كحوتٍ
يلهث فوق الأسفلت
ويشهق من أول تنهيد
كان ينقِّر في قفصي الصدري
فقلت:
أخرج يا نورس
دونك أشجار العالم
ابن عشك حيث تشاء
ولا تقرب قلبي
فأبت حوائي أن يرحل
واختار جحيمي.
النهــــــر
وبتلقائية روحي في البوح
سألبس أمزجةً
قد لا تهب الأشياء براءتها
أرسم دائرة
من دائرةٍ
من أخرى
قد تولد آلافُ الحلقات
فإني النهر
إذا حالفني الحظ
بقيت كذلك
ماء
ودوائره من ماء
بهدوء
أرقب ترتيب العالم
كل الأرصفة الكسلى
ليست كسلى
ما زالت تشخص أحداقًا
تلهث بفضول
تبحث
عمن يبعث في جثتها النبض
يشكل نبضًا مبتكرًا
من طرقة كعبيه
كل الحانات
تخبئ أشياء أخرى
للآتين قريبًا
أو من ينوون مجيئًا
فلماذا الأسماك تراودني عن نفسي
لا تتركني أمضي
كي أقترف الأشياء جميعًا ؟
ولماذا الليلُ بمعطفه الأبويِّ
يُربِّت فوق جبيني
ويحاول عند الفجر
ـ إذا سنحت زقزقة ـ
أن يوصي الصبح بقلبي رفقًا ؟
ولماذا يخشى أن أمضي صوب البحر
بجسم
عارٍ من ملح
أو سمك يحيا في الماء المالح ؟.
...
سأظل
أسير
أسير
أسير
حتى عتبة باب البحر هناك
سيمكنني أن أشتم كل لغات العالم
كل الناس
وألعن زمنًا قالوا عني فيه بأني ماء عذب !! .
***
<li>سامي مهدي عباس
- من مواليد بغداد عام 1940.
- درس في كلية الآداب بجامعة بغداد، وتخصص في الاقتصاد.
- شغل منصب المدير العام لدائرة الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والإعلام، وكذلك منصب المدير العام للإذاعة والتلفزيون.
- تولى رئاسة تحرير العديد من الصحف والمجلات منها: شعر69، المثقف العربي، الأقلام ألف باء، الجمهورية.
صدر له :
- رماد الفجيعة، 1966.
- أسفار الملك العاشق،1971.
- أسفار جديدة، 1976.
- الأسئلة، 1979.
- الزوال،1981.
- أوراق الزوال، 1985
- سعادة عوليس،1987.
- الأعمال الشعرية، 1987.
- بريد القارات، 1989.
- صعوداً إلى سيحان، رواية،1987.
وله أيضا:
- مختارات من الشعر الإسباني المعاصر، ترجمة، 1982.
- ومختارات شعرية مترجمة لجاك بريفر وهنري ميشو.
دمٌ ودخان
تنهَدُّ الأسوارُ
ويفرُّ الجندُ يميناً وشمالاً
وتطيشُ الأفكارْ
فتشبُّ النارْ
في كلِّ الأبراجِ
ويقتحمُ الثوّارْ
أبوابَ القصرِ الملكيِّ
وينتحرُ الملكُ الجبّارْ .
أوَ كانَ جميلاً هذا المشهدُ في الفيلمِ
أم أنَّ المخرجَ قد بالغَ في رسمِ الأدوارْ ؟
أم أنَّ التاريخَ هو التاريخُ
أكاذيبُ
وكلُّ رواةِ الأخبارْ
تجّارٌ فجّارٌ
في سوقِ الآثارْ ؟.
حجر
كانَ هذا الحجرْ
ملكاً
يتمايلُ في عرشهِ نشوةً
كلَّما راقَهُ منظرٌ أو خبَرْ
كانَ هذا الشجرْ
جندَهُ والقدرْ
كانَ سيّافَهُ والقمرْ
تاجَهُ والمطرْ
ماءَ حمّامهِ
والزَهَرْ
ختمَهُ الملكيَّ الذي لم يزوّرْ
ولم ينكسرْ.
كان هذا الحجرْ
ملكاً
وغفا ذاتَ ليلٍ
ولمّا صحا
كانَ هذا الحجرْ.
الشاهد
كانَ لمّا يزلْ يتحدّثُ عن كَدْمَةٍ
في جبينِ القتيل
وعنْ أثرٍ للدموعِ علي وجنتيهِ
وعنْ بركةٍ من دمٍ تحتَه
وثلاثةِ أرغفةٍ سقطتْ منه
فوق الوحولْ.
كانَ يُقسِمُ باللهِ
والآخرونَ يُصيخونَ
والشمسُ تغسلُ أجسادَهمْ
والهواءُ يُجففُّها
وهو يُمعنُ في وصفهِ ويُطيلْ.
كانَ لمّا يزلْ يتحدَّثُ عمّا رأى
حينَ أودتْ بهِ وبهمْ رَشَقاتُ رصاصٍ
وماتوا بلا شاهدٍ أو دليل
سوى بضعةٍ من طيورٍ مُفَزَّعَةٍ
ورذاذِ دمٍ
وغبارٍ ثقيلْ.
دخان
في الدخانْ
لهبٌ يتلوّي
وأبخرةٌ
في الدخانْ
أدمعٌ
ورذاذُ دمٍ
في الدخانْ
أعينٌ
وأصابعُ منزوعةٌ
في الدخانْ
صرخةٌ
صرختانْ
شبحٌ
شبحانْ
والدخانْ
مثقلٌ بغرائبِ أحمالهِ
خائفٌ
حائرٌ
لا يري
للنزولِ بها
من مكانْ.
قطرات دم
قطراتُ دمٍ كالعصافيرِ تقفز من صدرِ هذا القتيل
بعضُها تُسرعُ الشمسُ في لَقْفِهِ بأصابعِها
والبقيّةُ تُفلتُ منها فتهمي على وجههِ البابليّ الجميل
عدا قطرةٍ سقطتْ فوقَ وجهِ الترابِ
فلم تتوقّفْ عن القفزِ
أو
تمتنعْ عن صهيلْ.
الأفاعي الحمر
لا يُقلقُ النارَ مذاقُ الوقودْ
ولا افتتانُ الريحِ بالوهْجِ
ورقصِ اللهيبْ
فهيَ إذا شبَّتْ تفكُّ القيودْ
وترتقي الأشجارَ
والجدرانَ في غفلةٍ منّا
فلا ندري
براكينُ تفجَّرنَ هنا
أم جحيمْ
قد فتحتْ أبوابَها وانسربتْ في الدروبْ
أفاعياً حمراً تُريعُ القلوبْ
تزحفُ جوعي
وهي في زحفِها
تجتاحُ كلَّ الحدودْ
تأكلُ ما تلقفُ
حتى الحديدْ
تأكله
وكلّ شيءٍ كائنٍ في الوجودْ.
النارُ أصلُ الأرضِ منذُ استوتْ
واتخذتْ شكلاً لها في المدارْ
وهي إليها
بعدُ
نَزّاعَةٌ
فما استقرَّتْ ساعةً في قرارْ
ولم تزلْ
منذُ استوينا على أديمِها
تنذرنا بالدمارْ:
غاباتُها إذ تلتظي فجأةً
حروبُها
نفثُ براكينها
وكلُّ ما ينفخُ في بوقِها
أو يختفي عن أهلِها في وِجارْ
ولم تزلْ
في كلِّ أرجائها
مرعى الشياطينِ:
كباراً صغار.
النارُ
أهلَ النارِ
هذا الجحيمْ
لعابُها السيّالُ
هذي السمومْ
أنفاسُها
فافزعوا
فهيَ
إذا ما انفلتتْ
تَلهَمُكم لهماً
ولا تنفثكم إلاّ رماداً
وبقايا صديد.
وهيَ سواءٌ إنْ تكنْ شعلةً في معبدٍ
أو جمرةً في موقدٍ
أو نقمةً مدفونةً في الصدورْ
أو نفثَ بركانٍ غفا حقبةً
أو شرراً يقدحُ بينَ الصخورْ
والنارُ فيكم خِلْقَةٌ
قبلَ أن يسرقَها مغامرٌ
أو يدّعيها كاهنٌ
أو أميرْ
فأنتمُ من نسلِها
منذ التظى اثنانِ معاً في مضجعٍ
واتَّخذا ما اتَّخذا من سريرْ
ولم تزلْ
بذرتُها في دمِكمْ
تنتظرُ اللحظةَ حتى تستوي في سعير
يجتاحُ كلَّ الحدود
ويأكلُ القريبَ من بيوتِكم
والبعيدْ .
بداية أخرى
أَينبغي الغفرانْ ؟
أَينبغي أنْ نطمرَ الماضيَ في لحدٍ من النسيانْ ؟
وَمنْ سيغسلُ الدمَ الذي عرَّشَ في الجدرانْ
وصارَ تأريخاً من الجراحِ والأحزانْ ؟.
ألا ترى الخرابْ ؟
ألا ترى ما تفعلُ الذئابُ
بالذئابْ ؟
هنا فمٌ يُملأ بالترابْ
وعُنُقٌ تُقطَعُ في ليلٍ
وصدرٌ تحفرُ الحرابْ
أخدودَها فيهِ
ويبني عُشَّهُ الغرابْ.
وها هما القاتلُ والقتيلْ
كلاهما ينعبُ في مدينةِ الرمادِ والموتِ
ويستسقي الدمَ الطليلْ
فلا تكادُ تعرفُ البريءَ منهما
وليسَ من سبيلْ
في المشهدِ الدامي
ولا ضوءَ
ولا دليلْ.
لابدَّ من بدايةٍ أخرى
فمنْ يبدأُ من جديد ؟
منْ يجعلُ الغفرانَ في مفتتحِ النشيدْ
ويغسلُ الجدرانَ بالدمعِ
ولا يخشى من الوعيدْ ؟
فليسَ من شهيدْ
في وطنٍ يُذبحُ إلاّ الوطنُ الذبيحْ
وليسَ من ثأرٍ لذي ثأرٍ
سوى أنْ تُرتَقَ الجروحْ
ويُدفَنَ المَيْتُ معَ المَيْتِ
بلا ضريحْ
يُزارُ في مواسمِ الندبِ
ولا ثاكلةٌ تنوحْ.
***
سركون بولس
- من مواليد الحبانية، عام 1944.
- أمضى السنوات الأخيرة في التنقل بين أوربا وأمريكا، خصوصاً في ألمانيا حيث حصل على عدّة مُنَح للتفرّغ الأدبي.
صدر له:
- الوصول إلى مدينة أين، شعر.
- الحياة قرب الأكروبول، شعر.
- الأوّل والتالي، شعر.
- حامل الفانوس في ليل الذئاب، شعر.
- إذا كنتَ نائماً في مركب نوح، شعر.
- العقرب في البُستان، شعر.
- وثلاثة كتب بالألمانية:
- غرفة مهجورة، قصص، 1996.
- شهود على الضفاف، قصائد مختارة، 1997.
- أساطير وتراب، سيرة، 2002.
- كما أصدر ترجمة كتاب إيتيل عدنان: هناك في ضياء، وظلمة النفس والآخر
- وسيصدر له هذا العام ترجمة جديدة لكتاب جبران خليل جبران: النبي، و رقائم لروح الكون، ترجمات مختارة.
بورتريه للشخص العراقي
في آخر الزمن
أراه هنا
أو هناك:
عينهُ الزائغة
في نهر النكبات
منخراه المتجذّران
في تُربة المجازر
بطنه التي طحنتْ قمحَ
الجنون في طواحين بابل
لعشرة آلاف عام
أرى صورتَهُ
التي فقدت إطارها
في انفجارات التاريخ
المستعادة
تستعيد ملامحها كمرآةٍ
لتدهشنا في كل مرة
بمقدرتها الباذخة على التبذير
وفي جبينه الناصع
يمكنك أن ترى
كأنما على صفحات كتابٍ
طابورَ الغزاة يمرُّ
كما في فيلم بالأبيض والأسود
أعطه أيَّ سجن ومقبرة
أعطه أي منفى
أي هنا
أو هناك
ورغم ذلك يمكنك أن ترى
المنجنيقات تدكُّ الأسوار
لتعلو مرّة أخرى
وتصعد أوروك من جديد.
أنا الذي
أنا الذي
لا نأمةٌ
هل مات من كانوا هنا ؟
لا كلمةٌ
تَرِدُ اللسان
الانتظارُ
أم
الهجوم ؟
أم
التملّصُ من...
كهذا الصمت
حين أُهيل جمرَ تحفُّزي
حتى يبلّدني التحامُ غرائزي
أرعى كثورٍ في الحقول
- أنا نبوخذُ نُصَّر
تُلقي الفصولُ إليَّ
أعشاباً ملوَّثةً
وأُلقي النردَ
في بئر الفصول
لأجتلي سرّاً
يعذّبني ؟
يعذبني طوال الليل
حتى صيحة
الديك الذبيح
لأجتلي سرّاً
وأسمعَ ضجّةَ الأكوانِِ ؟
(إنهُ مأتمُ
قالوا لنا:
عُرْسٌ)
جيوشُ الهمّ تسحبني
بسلسلةٍ
ويستلمُ الزمانُ أعنّةَ الحوذيّ
تسبقنا الظلالُ
وراءنا:
كلُّ الذينَ
وكلُّ مّنْ
"طال الزمن"
قال الرجل.
شمسٌ على هذا
المشمّع فوق مائدتي:
نهارٌ لا يضاهيه نهار
كوجه الله.
تبقى تحت عينيّ انعكاستها
وتخرقني
إلى قاعي كرمْحٍ
إنها شمسي
وملأى غرفتي
بيتي
كقارب رَعْ
تسافرُ في المتاهة
بالهدايا
شمسٌ على صحني
وصحني
في الحقيقة
فارغٌ:
حبّات زيتونٍ
بقايا قنّبيطٍ
عظمةٌ
ما زاد عن مطلوبنا
تلك البقايا
نُتفةٌ في كل يومٍ
قشرةٌ
نلقي بها في لُجة التيار
يبقى الصحنُ
والسّكين
تبقى شوكةُ
أبقى
وجوعي
تُخمتي.
ـــــ
الشمسُ
أو
ليمونةٌ
تطفو على وجه الغدير المكتسي
بطحالبٍ
ألقي إلى أكداسها حجراً
فتخفقُ
مرةً
وتُبقْبِقُ الأغوارُ
فقّاعاتُ أوهامٍ مبّددةٍ
رغابٌ لم تجسدها الوقائعُ
جَمجَماتٌ لا محلّ لها من الإعراب
أطماعٌ
دهاليزٌ
وعود بالعدالة
(بالسعادة!)
رغوةُ الكلمات في بالوعة المعنى
تواريخٌ
وثمّةُ من يُفبركها
ويشطبنا بممحاةٍ
لنبقى.
قال الرجل:
"فاتَ الأمل
زادَ الألم"
شدّوا الضحيّة بين أربعةٍ
من الأفراسِ
جامحةٍ
جنودٌ يسكرون
جنازةٌ عبرت وراء
التل.
هل جاء البرابرةُ القدامى
من وراء البحر؟
هل جاؤوا ؟
وحتى لو بنينا سورنا الصيني
سوف يقال:
جاؤوا.
إنهم منّا
وفينا
جاء آخَرُنا
ليُضحكنا
و
يُبكينا
ويبني حولنا سوراً من الأرزاء
لكن
سوف نبقى.
هناك
في بلاد باتاغونيا
ريحٌ
يسمّونها "مكنسة الله"
ريحٌ
أريدُ لها الهبوبَ
على مدار الشرق
في أسماله الزهراء
والغرب المدجّج بالرفاه:
أريد أن أختارها
لتكون لي
أن أستضيف جنونها
إذ تكنس الأيام
والأسماء
تكنس وجه عالمنا كمزبلةٍ
لتنكشف التجاعيدُ العميقة
تحت
أكداسٍ من الأصباغ
والدم
والجرائمِ
والليالي.
أقْبلي
يا ريحُ
مكنسةَ الإلهِ
تَقدّمي.
قال الرجل:
لا ترمِ في مستنقعٍ حجراً
ولا تطرق على بابٍ
فلا أحدٌ وراءه غيرُ هذا
الميّت الحيّ الموزع بينَ بينٍ في أناهُ
بلا أنا
يأتي الصدى:
هل مات
من كانوا
هنا ؟.
ـــــ
جاء الواحدُ الذي يقولُ
والآخر الذي يصمتُ
الذي يمضي
والآتي من هناك
بينهما
كلمةٌ
أو
نأمةٌ
بينهما أنهارٌ من الدم جرتْ
فيالقٌ تسبقها الطبولُ
ولم يستيقظ أحد
بينهما صيحةٌُ الجنين على سنّ الرمح
في يد أول جنديٍّ أعماهُ السُّكْر
يخسفُ بابَ البيت
بينهما مستفعلنٌ
أو
ربّما متفاعلنٌ ؟
لا
ليس بينهما سوايَ :
أنا الذي.
لم يبقَ من بياض
طردتِ الأرضُ النادلَ الكبيرَ
لتدخل شيخوختها بأمان
فلتكن هناك
أقصد جالساً بين الجبال
فآخر نهرِ
سيمرُ بكَ محمولاً على عربة ٍ
تعمل بطاقة الأنين
كن هناك
أقصد ُ ظلاً يتفشى على سبورةٍ
يقيمُ عليها خطُ الاستواء
أو تعال
ترى المناجمَ فارغةً
الطيورَ بوالينَ بغاز العزلة
الكتبَ مُجمدّات لهوائيات الدماغ
فيما ستكون الأمشاط ألسنةً
للذكريات.
القطار الأخير
بعد ساعة ودون سكة هذه المرة.
النبعُ.. زجاجةٌ فارغةٌ دون إقامة بعد اليوم.
يا للهوّل
أن يصبح الوداعُ متقاعداً
أن تدخل التفاحة المشرحة َ
أن يصبح الليل فروّة محترقة.
سعد جاسم
- من مواليد الديوانية، عام 1959 .
- حاصل على دبلوم الإخراج والتمثيل المسرحي من معهد الفنون الجميلة ببغداد 1982 وعلى بكلوريوس الإخراج والتمثيل من نفس المعهد سنة 1986 .
- بدأَ النشر في مرحلة مبكرة من حياته وكانَ ذلكَ في منتصف السبعينيات .
- ساهمَ بتأسيس التجربة الإبداعية الجمالية (عربة الغجر)، والتي قدّمتْ تجارب حظيتْ باهتمام الأوساط الثقافية داخل العراق وخارجه .
- قامَ بتأسيس ملحق ثقافي للأطفال هو ملحق (قوس قزح) صدرَ عن صحيفة (الأسواق) الأردنية.
- يقيمُ الآنَ في العاصمة الكندية أوتاوا.
صدر له:
- فضاءات طفل الكلام، طبع على نفقته الخاصة بدار الخريف، بغداد، 1990.
- موسيقى الكائن، منشورات اتحاد الأدباء، بغداد، 1995.
- أجراس الصباح، شعر للأطفال عن دار ثقافة الأطفال، بغداد، 1995 .
- طواويس الخراب، عن دار الخليج للنشر،عمان ـ الأردن، 2003.
كرنفال الخلاص
وأَسئلتهُ المفخخة
كَمَنْ يحتفلُ في كرنفالهِ البابليِّ
معَ ملائكةِ الحلمِ
وعذراواتِ الأَبديةِ
كنتُ أَحتفلُ
بأَصدقائي المُهمَّشينَ
حماقاتي اللذيذةِ
قصائدي المشاكسةِ
إناثي المُرتبكاتِ والمُربِكات
وأَملي بالخلاصِ
من قسوتهِ العاليةِ
وظلامهِ الفادح.
لكنْ
هُنالكَ ثمَّةَ
ما يدعو للتساؤلِ والشكِّ:
- لماذا لم يستطعْ أَصدقائي وأَعدائي
أَهلي
وبلادي المؤجلةُ
دائماً
عن الحياة
لماذا لم يمسكوا
ويتمسكوا
بخيطِ الأَملِ
وقراطيسِ الخلاصِ ؟
لماذا ؟.
أَنا أَعرفُ
وهُم يعرفونَ
ولا يعرفون
لأَنهم دائماً يحتفون
بالغنائمِ
والطلاسمِ
والوعودِ المفخخةِ
ولم يحتفلوا
أَو يتطهروا
بنورِ الخلاص.
ـــــ
أَنا
وثمَّةَ حالمونَ مثلي
ما زلنا حافلينَ
وما زلنا محتفلينَ
بفيضِ الخلاصِ
الذي يُشبهُ نور اليقينِ
في الأَبدية.
نصوص الخارجِ عن متنه
اللهُ صديقي
أَنا الوحيدُ
الذي ربَّما:
لا يموتُ
هكذا
أَتوَّهمُ
أَو
أُوهِمُ
لأَنَّ
اللهَ صديقي.
ـــــ
يا أَيها المطلقْ
افتحْ ليَ المغلقْ
لأَعرفَ المجهولْ
والقاتلَ المقتولْ
في زمني الأَحمقْ.
ـــــ
يا المطلقُ
لا تخذلْ
طفلكَ الأَرضيَ
لا تخذلْني
- جلجامشُ أَوهمَ نفسَهُ
أَوهَمَنا
وضاعَ الجوهرُ
في قلبِ الأَفعى -.
ـــــ
يا المطلقُ
هَلْ فكَّرتَ
بشعبي وطريقي
حتى.
تبقى صديقي ؟.
حياتي وأَنا حرٌّ فيها
الآنَ..............
أَو.................
ربَّما غداً.........
أَو................
ربَّما..............
في ذلكَ (الغدِ القديمِ)
أَكونُ قد فكَّرتُ
أَو قررتُ
أَنْ تكونَ
حياتيَ هذي
فردوسيَ الشخصي
وربَّما..............
ج
ح
ي
م
ي.
أَعطني كتابي
هذا أَنا
طفلٌ لعينٌ
نافرٌ
يستافُ من روحِ الشرابِ
هذا أَنا
الشاعرُ الكونيُّ
في هذا الوجودِ
المُرِّ
في هذا الخرابِ
هذا أَنا
أَمضي عميقاً في الترابِ
حتى أَفضَّ بكارةَ الأَشياءِ
والحيواتِ
وأُعيدُ للخلقِ الحزينِ
بهاءَهُ
وأُعيدُ للأَعلى
كتابَ اللهِ
عَلَّ اللهَ
يُعطيني كتابي.
كينونة
ضَيِّقٌ أَيَّها الوزنُ
ضَيِّقةٌ أَيتُها القافية
لكنَّها الروحُ
موزونةٌ
هذا الصباحْ
ولها كينونةُ:
اللهِ
والضوءِ
والنهرِ
وصعلكةِ الرياحْ.
عيناكِ تُضيئان عتمةَ العالم
كُلَّما أُحَدّقُ في مرايا عينيكِ
أَراها تتلألأُ
مثلَ سراجٍ كوكبيٍّ
وتتسامى نوراً
وعشقاً
لتضيئَ عتمةَ العالمِ
الطاعنِ في خرابهِ الفاجعِ
وظلامهِ المُريبْ .
ـــــ
يالعينيكِ المُتفرستينِ
والفرائسيتينِ
والفارستينِ
في إكتشافِ الجوهرِ- السريِّ
واستقراءِ لغزِ
ومستقبلِ العالم
- أأنتِ مستقبلُ العالم ؟.
ـــــ
يالمراياكِ الشاسعةِ
الساطعة
الناصعةِ
والكاشفةِ
لما يكتنزُ بهِ
ولما يخفيهِ كونُنا المجهولُ
- هلْ مراياكِ
رؤاكِ ؟.
ـــــ
يا لي
يا لبهجتي الباذخة
ويا لبهائي
بوجودكِ البهيِّ
أيتها الأبهى
والأدهى
بين هذي النساءِ.
ـــــ
أمجنونٌ أنا فيكْ
أمْ أنتِ بي مجنونهْ
حبُّكِ مشكاتي وجنوني
والعاشقُ لايُخفي جنونَهْ
أَنا أموت عليكْ
وأَنتِ بي تحيينْ
وأنا أحبكْ
أنا أحبكْ
(من كنتْ يا اسمر جنينْ )*.
ـــــ
سلاماً لعينيكِ
تُضيئانِ عتمةَ العالمِ
وتُضيئانِ ليَ
الغامضَ - المستحيلْ
سلاماً لروحكِ
تشعُّ عليَّ
بهذا الحبِّ
في كرنفالِ الوجودِ الجميلْ.
* استثمار لشطر شعري للشاعر مظفر النواب.
بأصابع مبتورة نشير إليها
حكمة الموسيقي
لأنه قيثار الأسطورة التي لا تصدأ
ولأنه نشيد العقل الذي له معنى الينابيع
والعطور والأسرار
لذلك أنا لا أشك بأورفيوس
الذي لسهوه الذهبي حكمة الموسيقي
ولكنني أشك بهاديس
وعالمه السفلي ـ السافل
الذي لم يفرق بين معنى أوريديس
ومعنى الثعبان
ولم يفرق بين معنى الوردة
ومعنى المقبرة
ولم يفرق أيضاً
بين معنى المغني
ومعنى الجلاد.
ثمة أمل لي.. لجلجامش
غداً وغداً وغداً
وكل غد
سأطاردك أيتها الأفعى
لأفض جلدك
وأخطف عشبة الأبدية.
يقين
لا يقين للأعمى
إلاّ:
بحواسه الخفية
وعكازه الرائي
وبقدميه اللتين تدلان الطرقات العمياء
على أمكنة حياته السرية.
مرايا
لا ثقة للمهرج بالمساحيق
والأزياء
ولا بتصفيق
وتكشيرات السادة
ولا بقبلات الصبايا الهوائيات
لا ثقة للمهرج
إلاّ:
بمرايا الروح ا.. لـ.. مـ.. حـ.. طـ.. مـ.. ة..
الأنثى
هل الأنثى سنبلة الذكر
أم بقرة أيامه ؟.
تطهر
بدلاً من أحجار الألم
بدلاً من جمرات الذكرى
ألقى في نهر طفولته
قلباً أسود.
مزرعة الحيوانات أيضاً
الخنزير الأحمق
الذي يضحكني غباؤه الأسود طويلاً
لم يكتف بتصنيم أصدقاء توحشه
وانتصاراته الخاسرة
بل راح يوسمهم
بنياشين الأكذوبة
فاستحالوا قطيعاً
ترن في رقابهم أجراس الخديعة
وتتكسر تحت أظلافهم البدائية
بوصلات الهداية
وقناديل العقل.
نزهة الأرامل
كلما يشعرون بالضجر
تأخذهم أمهاتهم
ليقوموا بنزهة
في المقبرة البعيدة
مرة
وفي طريق العودة من المقبرة
قلت لأحدى الأمهات:
ـ كيف تصفين المقبرة ؟
قالت:
ـ الحياة في تراكم الخسارات
أو.. أوووف
الحياة
في تناسل الحروب.
مستنقعات
ثمة سلالات
ما إن تتنفس هواء المستقبل
حتى يجيء الذين يرمونها
في مستنقعات الحروب.
إشارات
بأصابع سود نشير إليها
بأصابع مبتورة نشير إلى الحرب.
سعدي يوسف
- من مواليد أبي الخصيب، بالبصرة، عام 1934.
- أكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية.
- عمل في التدريس والصحافة الثقافية.
- تنقّل بين بلدان شتّى، عربية وغربية، وشهد حروباً، وحروباً أهلية، وعرف واقع الخطر والسجن، والمنفى.
- عضو الهيئة الإستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine
- عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال Banipalللأدب العربي الحديث .
- مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.
صدرت له أعمال شعرية عدة أهمها:
- القرصان، 1952، مطبعة البصري – بغداد.
- النجم والرماد، 1960، منشورات إتحاد الأدباء العراقيين.
- نهايات الشمال الإفريقي، 1972، دار العودة – بيروت.
- الأخضر بن يوسف ومشاغله، 1972، مطبعة الأديب – بغداد.
- ايروتيكا، 1994، دار المدى – دمشق.
- صلاة الوثـني، دار نينوى – دمشق.
- كم صدرت له العديد من الترجمات، من أهمها:
- أوراق العشب، والت ويتمان، 1979، دار ابن رشد – بيروت.
- وداعاً للإسكندرية التي تفقدها، كافافي، 1979، دار الفارابي – بيروت.
- إيماءات، يانيس ريستوس، 1979، دار ابن رشد – بيروت.
- الأغاني وما بعدها، لوركا،1981، دار ابن رشد..
بالإضافة إلى ذلك أصدر:
- أفكار بصوت هادئ، مقالات، 1987، مؤسسة الأبحاث العربية – بيروت.
- عندما في الأعالي، مسرحية، 1989)، دار الآداب – بيروت.
- مثلث الدائرة، رواية، 1994، دار المدى.
- خطوات الكنغر، يوميات ومقالات،1997، دار المدى.
- يوميات الأذى، 2005، دار نينوى.
الطّــوافُ بالمقاهي الثلاثة
(1)
يا أنتَ، العابرَ كلَّ دوائرِ هذي العتْـمةِ، دائرةً دائرةً
لتُـطوِّقَ عنقي كالأُنشـوطةِ، من مسَـدٍ وحريرٍ حيناً
من فخّارٍ وتهاويلِ جداريّاتٍ حيناً، من أهدابٍ خِيطتْ أحياناً
يا أرضاً كانت ماءً، ياماءً كان الأرضَ. هنا ترتفعُ الصلواتُ
نشيداً باسمكَ، أو تنفرعُ الفلَـواتُ... أُحَيِّـيك، وأحْـييكَ
وأسألكَ الغفرانَ اليومَ، وأسألُـكَ النسيانَ غداً. سـتمُـرُّ
الدبّاباتُ على ساقَيكَ مُجلجِلةً في كتمانٍ من سُـرُفاتٍ طينٍ
وسيمتدُّ رقيمٌ (تشويهِ شموسٌ ثابتةٌ) من رمل الفاو وأوراقِ
الحنّـاءِ إلى الصخرِ المقدودِ ربايا وطرائدَ من آشورَ. أنا أسألُكَ
المغفرةَ، الهدأةَ، شـكّـلتَ جبيني بالوشمِ، وعلّـقتَ ذراعي
اليسرى بالكُـلاّبِ، وقُـلتَ: أُحَـمِّـلُكَ الآنَ دمي.
ما كنتَ صغيراً لتكونَ كبيراً. أنت الإسمُ الأولُ والمَـوئلُ
أنتَ عدُوِّي مُـذ كنتَ، صديقي مذ كنتُ... ستأتي أسرابُ
الطيرانِ الحربيّ مجلجلةً تحتَ سـماءٍ من صَـهَـدٍ...
سيكونُ هواؤكَ محتقناً بالبارودِ ومختنقاً، لكنكَ تبحثُ عني
أنا، إسـمِكَ، كي تقتلني. الدبّاباتُ تُبددُ جِلدَكَ، والطيرانُ
الحربيُّ يمزِّقُ أهدابَكَ، لكنكَ ملدوغاً تتبعُني كي تسلخَ أجفاني
وتُـمزِّقُ أضلاعي كي تأكلَ قلبي. لستَ الآنَ الطيرَ المرموقَ
عصائبَ... لستَ النسرَ القادمَ من حِـمْـيَـرَ، لسـتَ
الهُدهدَ، لستَ حمامةَ نوحٍ، لستَ الرخَّ... فمن أينَ أتاكَ
اللونُ الميِّتُ هذا ؟، من أين أتتكَ القَـصْـباءُ لتبريها صعدةَ
رمحٍ ؟، أنتَ هنا اللحظةُ. تَـغفَـلُ عمّـا ترسُمُـه سُرُفاتُ
الدباباتِ، وتَـغفلُ عمّـا يمحوهُ الطيرانُ الحربيُّ، ولا تَغفَلُ
عني... فَـلْـتَهدأْ، أرجوكَ ! اهدأْ، واتركني أتمرّغْ في غُصصِ
الأحلامِ، اتركْـني أتمرّقْ قصصَ الأعوامِ... أنا ابنُكَ، صِنوُكَ
حاملُ أختامِكَ في جيبِ الصدرِ، وعنوانُكَ حين تغيبُ طويلاً.
لا! لا، تبتلعِ الدباباتِ كما تبتلعُ الملحَ، ولا تمسحْ بالسَّــعفِ
الطيرانَ الحربيَّ... وأنصِتْ لي في ضجّـةِ هذا الوادي الهامدِ:
هل تسمعُ شيئاً ؟، هل تهجسُ ما يفعلُهُ النملُ هنا تحتَ جذورِ
النخلِ ؟، هل الماءُ يسيلُ من الصخرةِ ؟، يقطرُ... يقطرُ...
يقطرُ... قلتُ لـكَ: اسمـعْـني! ذاك دمي يتقطَّـــرُ
في الهدأةِ. نبضي هو ما يفعلُـهُ النملُ حثيثاً تحتَ جــذورِ
النخلِ...
اسمــعْـني!
(2)
مقهىً على " بابِ الزُّبيـر"...
تُقابلُ المقهى من الجهةِ اليمينِ، الشُّـرفةُ الخشبُ التي جاءت
من الهند البعيدةِ. واليسارُ يضمُّ مكتبةً ودكّـاناً لبيع الخردواتِ.
وأنتَ حين تكونُ في المقهى ستشربُ شايَكَ المألوفَ، ثم تقـومُ
مبتهجاً، لتدخلَ غرفةَ البلياردِ:
طاولةٌ
وعشبٌ أخضرٌ
وكُـراتُ ألوانٍ...
سـتُـلقي نظرةً عجلى، وتمضي نحو زاويةٍ
تراقبُ...
أنت لا تستعجلُ الأشـياءَ
والتاسُ الذين رأيتَـهم في غرفة البلياردِ لا يستعجلون
وسوف يدخلُ آخرون الغرفةَ...
الساعاتُ تمضي
والهواءُ الرطْـبُ يدخلُ في القميص، ويستقرُّ حرارةً منقوعةً في الصدرِ.
أنت تراقبُ:
المتفرجون تكاثروا في غرفةِ البلياردِ
لكنّ الذين تَقاسَـموا كلَّ العِـصِـيِّ تبادلوا الأدوارَ
ظلوا، وحدَهم، في لعبةِ البلياردِ، يقتاتونَـها
كرةٌ هنا حمراءُ
أخرى بَـعدها سـوداءُ
واحدةٌ تُـلاحقُـها العصيُّ، وحيدةٌ بيضاءُ...
كان اللاعبون يُـداوِلونَ عِـصيَّـهُـم و كُـراتِـهم
لاهينَ عمّـا تفعلُ الأشياءُ
لاهينَ عن متفرجينَ رأوا في لعبةِ البلياردِ لعبتَـهم،
وإنْ شـئتَ الحقيقةَ قال أربعةٌ من الشـبّـانِ همسـاً:
غرفةُ البلياردِ ليستْ ثُـكنةً...
...............
ما أغربَ المقهى على " باب الزُّبير" !.
(3)
قِـعْـبٌ من سامرّاءَ. البئرُ، المطويُّ كقنبلةٍ في النسيانِ، يفوحُ قليلاً.
هذي جَـفَناتي و نذوري. سنبيتُ الليلةَ في الصحنِ. وفي منتصَف الليلِ
نُـراوغُ ذاكَ القـيِّـمَ كي نهبطَ في البئرِ. الليلُ نحاسٌ. سترِنُّ خُطانا بينَ
النجمِ وقلبِ الأرضِ. سنهتفُ: تحيا الحريّةُ !، ثمّ نُدَلِّـي حبلاً ونلوذ بهِ حتى
نلمسَ قاعَ البئرِ...، النسوةُ جئنَ هنا من كلِّ ضـواحي بغــدادَ
النسوةُ بالأسودِ والوشمِ الفيروزِ وأغنيةِ الموتى، والنسوةُ يدعونكَ يا غائبُ
يا ساكنَ رضوى، يا مُـطْـعِمَـنا عسلاً وفراتاً. سنبيتُ الليلةَ في الصحنِ
فلا تطردْنا من مَـلَـكوتِـكَ، لا تتركْـنا لذئابِ البرِّ. يتامى نحــنُ
ضعافٌ، وذوو أطفالٍ، فارحمْـنا يا ساكنَ رضوى، أغمِـضْ عينيـكَ
الجوهرتينِ، ودعْـنا نهبط في البئرِ. ستعرفُ من رائحةِ الحبلِ الجُـوتِ
منازلَ حَـيرتِـنا. لسنا سـفهاءَ، وأعيُـنُـنا سُـمِـلَتْ منذُ قرونٍ
في حربٍ ظالمةٍ، عبرَ قُـرىً ظالمةٍ. لن نحلمَ حتى بندى كـفَّـيكَ.
فنحن خرجنا من أجداثٍ كي ندخلَ أجداثاً. لا أكفانَ لنا، لا صـلواتٍ.
لا آسَ ولا سـدرَ ولا كافورَ. مباركةٌ طـلْـعتُـكَ، اسمعْـنا يا سبطُ
هنا ... في قاع البئرِ ستسمعُـنا. هل تعلمُ، يا سبطُ، بأنّ قنـــابلَ B52
وقذائفَ مدفعنا الهاوتزر، ذرَّتنا في الريح غباراً من لحـمٍ وعظامٍ ؟
هل تعلمُ، يا سبطُ، بأنّـا كنّـا جوعى وعُـراةً حينَ قُـتِـلْـنا ؟، هل تعلمُ
يا سبطُ، بأنّـا حينَ ظمِـئنا أُورِدْنا بنزيناً ثم رُمِـينا برصاصٍ يشـعلنا ؟
تحيا الحريةُ!، في " الفاوِ" شربنا الغازاتِ السامّـةَ حتى ذابت أعيُـنُـنا
كالشحمةِ في القيظِ، وفي كردستانَ أكلْـنا لحمَ الأكرادِ على السيــخِ
إذاً، نحن وحوشُ الكونِ، بقايا اللهبِ المتدافعِ من جوفِ التنِّـينِ، ضِـباعُ
الغاباتِ المنسيّةِ في كتبٍ بائدةٍ... هل تسمعُنا يا سِـبطُ ؟، وهل تأذَنُ للذئبِ
بأنْ يغدو حمَـلاً في لحظةِ إيمانٍ ؟، هل تأخذُ منّـا أنفُسَـنا ؟، إنّـا، يا سبطُ،
التوّابونَ، وإنّـا يا سبطُ، الكذابون. فهل تأخذُ يا ساكنَ رضوى، اليومَ
بأيدينا ؟، هل تمنحُـنا نفحةَ روضٍ ورضاً ؟.
كم كان عراقُ الوهمِ جميلاً !
تحيا الحريةُ !
حبلُ الجُـوتِ تدلّـى.
والأنشــوطةُ مُـحـكَـمةٌ.
والبئرُ يساوي نصفَ المترِ...
ســلاماً !.
(4)
مقهىً على " شطّ العرب "
قد كنتُ ذوّبتُ المرارةَ في فمي مُـتَمـطِّـقاً بالشاي
كان النهرُ أبيضَ
ثَـمَّ أشـرعةٌ، ولمحٌ من نوارسَ لا تُـطيقُ البحرَ
(رامبو قال ...)
كان النهرُ أبيضَ
والنخيلُ هو الذي نلقاهُ في اللوحاتِ حسبُ،
أتحسَـبُ الدنيا مُـضيَّـعةً ؟
أريدُ الآنَ أن أُحصي الدقائقَ:
تحتَ كالبتوسـةٍ جلستْ فتاةٌ فجأةً. في البُـعدِ يمْـرُقُ زورقً، والقطةُ
السوداءُ تخمشُ جذعَ صفصافٍ تهدَّلَ شَـعرُهُ في الماءِ. كان البـــارُ
عبرَ الشارعِ الكورنيشِ أعلنَ نورَه. بحّـارةٌ (جاؤوا من النرويجِ ؟)
يفتتحون ليلتَـهم. تهلُّ الهندُ بالسمبوسكِ. السفنُ الثلاثُ لشرقِ إفريقيّةَ
ارتعشتْ قليلاً. كانت الأمواجُ تعلو. أين نذهبُ في المساء الماثلِ ؟، الشايُ
الذي أهملتُـهُ ما زال منتظِـراً. وعبرَ الضفةِ الأخرى أرى سيارةً. شفتي
تُدغدغني. تكون الشمسُ لِـصقي. ألمُـسُ الكرسيَّ. نورٌ في الهواء يَشيعُ.
بعد غدٍ سيحملُـني القطارُ إلى محطاتٍ وراء النهرِ. موسكو ربّـما
...............
مقهىً على" شط العرب "...
كانت تماثيلُ الجنودِ (وأقرأُ: الضبّـاط) تصطفُّ. الوجوهُ قبيحةٌ. وإشارةُ
الأيدي إلى إيرانَ أقبحُ. وحدَه، بَـدرٌ، تُسَـوِّرُهُ مزابلُ يومِه العاديّ...
لن تأتي الحمائمُ كي تحطَّ، ولو لتذرقَ، فوقَ لِـمّـتِـه الخفيفــــةِ
سوف تأتي الطائراتُ. وسوف تنقضُّ الصواريخُ البعيدةُ بغتةً في هدأةِ الجنديّ.
تلك الساعةُ الدقّـاقةُ السوداءُ (جاء بها إلينا أرمنيًّ) سوف تعلو في الهواءِ
(كأنها من صُنعِ سـلفادور دالي)... لم تَـعُـدْ في بصرةِ البِــصريِّ
أروقةٌ، ولم تعدِ القناطرُ (وهي من جذع النخيلِ) صراطَنا نحوَ السمـاءِ.
الليلُ مُـنقَـضٌّ... سنسكنُ في مقابرنا. أليس البومُ أجملَ ؟
غَـنِّـنا يا قاطعَ الأوتارِ، غنِّ...
الليلُ مشتعلٌ بنيرانِ القيامةِ، والضفافُ مليئةٌ بمسابحِ الألغامِ، والأسـماكُ
صارت تأكلُ اللحمَ المدوِّدَ مثلَـنا.
غنِّ، " المقاهي أغلقتْ أبوابَـها "...
غنِّ !.
(5)
الليلُ ببغدادَ يجيء سريعاً. الليلُ ببغدادَ يُقيمُ طويلاً. منذ قــرونٍ
والليلُ ببغدادَ يجيء سريعاً ويقيمُ طويلاً. ســيقولُ الحدّادون سئِمْنا
العيشَ، صناعتُنا السيفُ، وصنعتُنا الضّعفُ. يقــولُ النجّـارون
سـئمنا العيشَ، صناعتُنا التابوتُ. يقولُ الحَـذّاؤون سئمنا العيش
صناعتُنا جزماتُ الجيشِ. يقول الشعراء سئمنا العيشَ، صنـاعتُنا
أصباغُ الوجهِ. يقول أطبّـاءُ المستشفى نحن سئمنا العيشَ، صناعتُنا
أن نصلمَ آذاناً أو نجدعَ (مثل زمان الحَـجّـاجِ) أنوفاً. ويقول الحلاّجُ:
تُـرى، هل صار الحلاّجُ الناسَ جميعاً ؟
قمرٌ يتطاولُ. والنجمُ تضاءلَ. أين منائرُ وادي الذهبِ ؟، الخيلُ مُـطهَّـمةٌ
والناسُ سـواسيةٌ، والحجرُ الأسـودُ في البحرينِ. كأنّ سماءً من قصديرٍ
تُطْبِـقُ. يا أخبارَ الصحفِ الأولى، يا أشجارَ السبيِ، ويا أرصفةَ النفيِ...
الليلُ ببغدادَ يجيء سريعاً. أسـرعَ من صاروخِ قيامتنا، أسرعَ حتى من
صاعقةِ الرؤيا. أحياناً نتذكرُ أنّـا بشـرٌ، أنّ لنا، كالحيوانِ، عيوناً ...
أنّ لنا أطرافاً تتحركُ أيضاً. نحن بلا أسماءَ...لماذا تُرخين ضفائرَكِ الأبنوسَ
على زندي ؟، ولماذا يتمشّـى زندُكِ هذا العاجُ على شفتيَّ ؟، لماذا ترتعشين ؟
ألِـلَـذّةِ ترتعشينَ ؟، أنا أغمضتُ العينينِ وأعطيتُكِ أجنحتي. سنســافرُ
قولي: سنسافرُ...قولي إن الناسَ يعيشون على القاراتِ القمَـريةِ كالناسِ.
وقولي إن لديهم أروقةً وحدائقَ...سوف تهدهدني كلماتُـكِ حتى الموت.
الموجةُ تتلو الموجةَ..
كان بدجلةَ بيتُ الساحرةِ. الضفةُ العاليةُ اصطفقتْ بالماءِ الأحمرِ. سوف
نشـيِّـدُ عاصمةً، ونمـدُّ جســوراً.
لكنّ اللوحةَ تهتــزُّ...
اللوحةُ وهي على الحائطِ تهتزُّ
ونسقطُ منها. أنتِ. أنا. نسقطُ منها. ها نحن غريبانِ هنا، ها نحن فقيرانِ
هنا، يُـرعدُنا البردُ، وينهشنا الجوعُ، ويهتكنا الجرَبُ الضـــــاري
مثلَ كلابِ البدوِ،
ســلاماً يا أرضَ الثمرِ الأولِ
يا أرضَ الطينِ المعجونِ بآلهةٍ...
يا نبعَ الريحانِ
ســلاماً...
(6)
مقهى لـ "سـيدوري" على البحرِ:
السفائنُ ألقتِ المرساةَ فجراً، وهي تنتظرُ المسـاءَ ليلتقــي
البحّـارةُ الحكماءُ تحتَ سقيفةِ المقهى. وسيدوري تهيّءُ منذُ
أزمانٍ، موائدَها، وتمشُـطُ شـَعرَها، وتُحـاورُ المرآةَ...
في الأفقِ البعيدِ سلآلمٌ تَـرقى وأبخرةٌ.
ستَـنبتُ، بغتةً، صفصافةٌ.
قصبُ السقيفةِ كان مضفوراً ومؤتلقاً.
زلابيةٌ سقيفةُ ذلك المقهى...
وخمـرٌ في الجِـرارِ
وفي الجفَـناتِ ترغو، حرّةً، جُـعةُ الشعيرِ
وفجأةً، نادى المـُنادي:
أين سيدوري ؟،
وعادَ الصوتُ يطفو كالنوارسِ:
أين ســيدوري ؟
وسـيدوري تهيّءُ منذُ أزمانٍ، موائدَها، وتمشطُ شَـعرَها
وتُـحاوِرُ المرآةَ...
ســيدوري، سـتُـجلِـسُ، في المساءِ، الكونَ
سوف تكونُ ربّـتَـهُ
وسـاقيةً تُجالِـسُ أهلَـهُ، البحّـارةَ الحُـكماءَ
سـوف تقولُ ســيدوري نُـبُـوءتَـها
وتُـعلنُ صوتَـها
أعلى من الصفصافةِ الأولى
وأعلى من سلالمِ ذلكَ الأفقِ البعيدِ...
وسوف يجلسُ حولَـها البحّــارةُ الحُـكماءُ
في أســمالِـهم
وعلى جدائلِـهم بُـروقُ البحرِ، والملحُ...
................
السفائنُ سوف تُـقلِـعُ مرةً اخرى...
ذبـذبـات
للخريف الذي ظلَّ يمضي، لآخِــرِ أوراقهِ، تهمسُ الريحُ في مــطرٍ ناعمٍ.
أنا أســمعُ ما تَـنطقُ الريحُ. ألْـمُـسُ ما تَـحمــلُ الريحُ. أغْـمسُ
هُــدبي بأمواجها. القـريةُ ارتحلتْ منذُ قَـرنٍ، وها أنت ذا لا ترى غيـرَ
مقعدها الخشبيّ الوحيدِ، وســاحتِـها الخاويةْ .
قد كنتُ هيّـأتُ الشعاراتِ العشيّــةَ. سوف يأتي أحمدُ النجديُّ حتماً بالعِـصِـيّ.
وسوف تنطلقُ المظاهرةُ الظهيرةَ حينَ تزدحمُ الأزقّــــةُ في محيط السُّـوقِ. أيُّ منازلٍ ستقول: أهلاً، حينَ ينطلقُ الرصـــاصُ ؟
كأنّ ضَــوعاً من حدائقَ في الغيومِ يسيلُ من كفِّــي. كأني في الغمامْ .
ترحلُ الريحُ أيضاً، ويرحلُ عن شجرِ الســاحةِ المطــرُ الناعمُ. الليـلُ
لن ينتهي. هو لم يبدأ. الليلُ لن يبدأ. الليلُ حقٌّ كما الموتُ حقٌّ. كما اللهُ.
أنت هو المترحلُ. أنت الذي لم يجدْ عبرَ كلِّ المفازاتِ إلاّ مصاطبَ في قريـةٍ.
وهي حجّـتكَ اليومَ. قُــلْ لي، إذاً، ما أوانُ الرحيــلِ إلى الهاويـةْ ؟
أتظلُّ تسألُ : هل أظلُّ ضجيعَــها منذ انتــصـاف نهارِ هذا الســبتِ
حتى مَــوْهِـنِ الأحدِ ؟، المدينةُ في ضواحيـــها… كأنكَ صرتَ تجهلُ
أنّ ماريتـا تحبّ السوقَ مكشــــوفاً ومؤتلقاً، وتجهلُ أنّ ماريتا ستشوي
الـجَـدْيَ. ماريتا ستُـحضرُ خُــبزَها البيتيّ. فَلْـتقرأْ على الأحدِ السلامْ
الستــائرُ شــفّتْ، وغامَ الزجاجُ. أنا الآنَ أُبصِــرُ في الداخلِ، المَشهدَ.
الغرفةُ ابتعدتْ عن تفاصيلها، والأريكةُ صارتْ مَـمَــرّاً، وهذا البساطُ الذي
كنتُ أحسِــبُ وِحداتِـهِ صارَ نهراً، ولم تَـعُـدِ اللوحةُ امرأةً عاريــةْ.
……….............
….……………
……………….
بغتة.. أسـمعُ الخطـوَ !
هل جاءني من سيصحبني في طريقِ الظلامْ ؟.
القطُّ تحت المـطـــر
كأنـيَ الليلةَ في الهنـــدِ
أهذا الموســميُّ، المطـــرُ ؟
امتدّتْ يدي
أفتحُ سنتيمترينِ زجاجَ شُــبّـاكي
أُزيحُ شــيئاً من ســتارةِ الشُّـبّـاكِ
فكّــرتُ:
تُـرى، أين يبيتُ الليلةَ، الســنجابُ
والطيرُ
وتلك النحلةُ ؟
المصطبةُ الوحيدةُ اسـترجعتِ الليلةَ عِــرْقَ الغابةِ
العالَــمُ يبدو لي غســيلاً هائلاً
لن ينشفَ، البتّـةَ، في الشمس التي ليستْ ســوى
ذكرى من الهنــدِ
وممّـا دوّنَ النخلُ عن الهنــدِ ...
وفي اللحظةِ هذي انطفأتْ ســجارتي
………………
………………
……………..
الأســماكُ في بحيرةِ الغابةِ قد غُـصْنَ إلى الأعماقِ حتماً
وحدَه، القطُّ، سيلقى الصبحَ طيراً صادحاً
في ساعة الحائطِ
في رطوبة السُّـلّـمِ
………………
………………
………………
ما أبـهى المطرْ !.
محــاولةٌ أولــى في الضّــباب
أنـْـهَــرَ* الصبحُ…
جاوزتِ الساعةُ العاشـــرةْ
غيرَ أن الضبابَ الذي رَقَّ، ينسجُ أثوابَــه الآنَ
يجعلُ حتى أعـالي الشجــرْ
بِــضعةً منهُ
يجعلُ حتى الستائرَ لوناً خفيّــاً ويمضي بها نحوَ أمواجهِ الثابتةْ.
……………….
……………….
أيَّ لونٍ أرى ؟
أيُّ مســطرةٍ للتدرُّجِ أرقى بها أو أُتابعُــها ؟
أيَّ ثلجٍ ألامِــسُــهُ ؟
أيَّ مِـلْـحٍ أذوقْ ؟
………………
………………
سوف أغمضُ عيني وأفتحُــها :
أيها العشبُ
يا أيها العشبُ
يا أيها العشبُ
كُــنْ ثابتاً، يا حليفي، ثباتَ السّــرابْ !.
____________
* أنـهَـرَ، فعلٌ منحوتٌ قياساً، معناه : صار الصبحُ نهاراً.
سرُّ الليل
هل تسقطُ الأوراقُ في الليلِ ؟
الرياحُ تناوحَتْ
لكننا لا نسمعُ.. الآذانُ مُوْقَرةٌ بهمسٍ من حديثِ مخدّةٍ
والغصنُ مرتعشٌ كطيرٍ.. نحن ملتحفونَ
والمطرُ العنيف يئِزُّ.. سقفُ المنزلِ القرميدُ
نحن مُحَصَّنونَ بغيرِنا
لا نهجسُ الأوراقَ إذْ تَسّاقَطُ..
[البُلَداءُ نحن إذاً]
ولكنّا سنعرفُ
حين تدفعُ واحداً منّا ضجيعةُ ليلِهِ
وتقولُ : دَعْني!.
سعيد الوائلي
من مواليد مدينة النجف الأشرف، عام 1953.
ترعرع ودرس في مدارسها حتى أنهى دراسته المتوسطة في "متوسطة الكوفه".
أكمل دراسته في العاصمة بغداد في "معهد الفنون الجميلة".
لاجيء سياسي منذ عام 1993 بالولايات المتحدة الأمريكية.
ساهم في الكثير من النشاطات الثقافية والأدبية في ديترويت وقدم عددا من الأمسيات الشعرية والأعمال المسرحية.
أسس "المركز العراقي الأمريكي للثقافة والفنون".
له ديوان جمع فيها كل أعماله الشعرية بعنوان: لا .. لن يحترق القمر.
نشرت له العديد من النصوص باللغة الإنكليزية ضمن دواوين أمريكية.
منحته مكتبة الشعر الدولية لقب سفير الشعر العربي لعام 2006.
طبعت بعض قصائده مع عدد من الشعراء، كما أن نصوصه الشعرية مطبوعة على شكل قرص مضغوط مع أفضل ثلاثة وثلاثين شاعرا أمريكيا لعام 2006.
tahayati@tahayati.com
ظلال الشفق الناعم الطويل
أزل
مثل سلالة موغلة في القدم
على ألواح من ورق الطين
مخبئة في كهف التاريخ
يغرد رسم طائر منقرض
لا زالت موجات صوته
تصدح في المجهول
مثل نجم دوار
يجترح بصداع الضوء
في كون يتسع
كل يوم.
الزمن
قبل انفجار الوقت
تسلل سحابه الأبيض
ضربات طبول خرساء
وحين أشرقت الحقيقة
تدحرج الزمن
كرة من ثلج.
أزمة
رنين الشمس القزحيّ
يزحف في أزقة الكون
ينزلق من حاجز صغير
ليمشط الطريق العام.
قريبا
حالما يلبس القمر وشاحا من لبن
خواصره الرقيقة
تتدثر بالظلام
لتتحاشى طعنة غادره.
قشعريرة
في حقول بلهاء
تمكث بحيرة مالحه
سيل بياضها العاري
عيون عمياء
تنطق بلغة مبصره
تقشعّر منها أبدان الضجر.
تربص
حلمَ المكانُ
الليلة البارحه
شاخصاً لوجهه الغضّ
وعلى كتفيه تحدق النوارس.
مقبرة السلام
حدّقت الحرب إلى وجهها
حين مرّ من مقبرة السلام *
نهرٌ متمتما ً
يهطل من ضّفتيه شفق ناعم طويل.
مبتلى
عينا الميناء الناعستين
تسرحان
والنجوم تختبئ في وجهه الناتئ
يطوف بحلمه الموجع
وحين يفيق
يلوذ بقهقة الشراع المغادر.
فــرح
لأنك فرح ساكن في أعماق السرور
ذكرى تفيض لذلك الوجه
دمع مملـّح.
مراس
أشعة العقل الساطعة
كثيراً ما تحني استقامة القلق
في فردوسه الدنيوي
ووجه المرارة الذائب
في لهب قارس
يتذوق قوة احتماله.
صبــر
في استراحة الاستياء
تتلاشى المقاييس
إلا ذلك المرض
نصف الشفاف
حملك الصافي الوديع.
حنق
في كل شوط ملاذ لرفاهيته
وحده المنادي من بعيد
ربما يتعثر ببريق كفنه.
هنا
أو هناك
لا تكترث لإساءة معاملته
قد ينحرف
ويحفر لك الألم المميت.
* مقبرة السلام: أكبر وأقدم مقبرة في العالم تقع في محافظة النجف الاشرف في العراق ممتدة على مساحة شاسعة من الأرض.
ترنو إلى ذبح عظيم
1
شاحبا
ينسّـل الخريف
بخفة قط برّي
وشال الثلج
ينط ّ
من النافذة الخلفية
أبيض
كبط الجنان.
2
سرّ نتناسله
من آدم واحد
أو
ألف آدم.
3
دماؤهم موسيقى الخليقة .
4
يا رب
سبع سماوات أو ألف
يمكنك أن تخلق في رمشة عين
عالم ممتد كالأزل
لا موت فيه.
5
هدأة السراج التي تنضح
على عشبة ضباب
تعلقت روحي
فراشة بيضاء
شفافة كنار
ساحرة كسراب.
6
أنا المتوحد بين الفصول
أشرب ذاكرتي
أغتسل في واحة السراب
أنزع جلد عظمي
وأرتمي في سرير الفضاء الفسيح
أمشط سهادي بأحلام اليقظه.
7
سرادق تترى
موانئ عائمة كحبة كمثرى
العالم السفلي
والأحلام
قوارب بطعم اللوز
تغرق في زنازين آثمه.
8
لم ترى كوكبا ينزّ الحياة
كما الأرض تنزّ الطغاة
وكما النجوم تغازل بعضها
ولم تحفظ سرّ الخلود.
9
هائمة
على زغب ناعم
تدور في دوامة الأزل
والأجرام الغارقة في الصمت
لم يخطف عليها جان.
10
عدم فسيح
على بعد طول الطريق
معطر بالفراغ.
11
سنين ضوئية
تحمل اللغـّط َ
إلى أزل
لم يولد بعد.
12
أزمنة
من قبل
ومن بعد
خدعة قفزت قبل الطوفان
كان ركن العدم الفسيح
يلوذ في بيضة سكون سلس
تحت أجفان الكون.
13
يا لأسرار الفيض
قبل التكوين
ماذا كان يفعل غير الربوبية ؟.
14
هكذا القلب الميكانيكي يضخ الأحلام.
15
ياه
و
آه
كم هي الحرب خراب
عند صلاة الفجر
ركعت البيوت
وأسدل الستار.
16
هلامية الأحلام
حكمة تولد
من بطون الظلام
ومن يصّدق دعوة إله
تشرق البراءة من منخرييه.
17
"سبع بقرات عجاف"
أم سبعين ؟.
18
نافرة
كرة صغيرة بحجم الأرض
ترنو إلى ذبح عظيم.
ألغام وسيارات مفخخة وموت
الحياة
هبة على صحن مرمر
طقوسٌ
واستقبال
ثم صرخةٌ
ونبضات قلبْ
فأصدق وعد الله.
.........
....................
مساحةٌ
للبحث
والتأملِْ
واللهو
والطيشْ
والحب
والكرهْ
تنمو المشاعر
تلطخ بياض القلب
وخطوة
خطوه
نشمُّ
رائحةُ
الموتْ.
ـــــ
أفواه الفجر الللامتناهية
تتساقط فيها ظلامات الليل
قطرة
قطره
وما من سبيل إليها
تتوالد في حدائقها الخاصة
من جمال الرصاصة التي تولد الموت
وخشخشات الشظايا
غبار كوني
يكّفن الفتنة
على جنبات الذاكرة المظلمة
من نعش مفتوح.
ـــــ
الخلاص أهزوجة
تسكب بئرا ًعلى قرص الشمس
آراك تعانق ثروة من الشوق المعتق
في وطن يهترئ من دون ذنب
وجهك الوديع الممتع
نافورة لغم مزروع.
على ضوء الشمس
سنسمع في قلوب أخرى
نشيد الزيزفون
من أفواه كورس الملائكة
كالنفس المتشبع في الجمال المحتظِر
حب يتكرر للأبد
ونحن فيه الضحية
وفي ذاكرة الذين ينتظرون
سنبقى نمشي ونرقص
كتيارات منتفخة
لا يبقى أثر منها
إلاّ المساوات بين الرحيل المبكـَـر
والإنتظار.
ـــــ
كأني
بقايا لغم لن ينفجر بعد
حينما تغيب الشمس
حجب يطوقنّها بخجل
تتجنن النجوم في السماء
تتبختر
مزهوة بلمعانها
الذهول يرفرف على عتبة الخلاص
ستنتهي الإبتهاجات
وراء السنين المدثرة بالحروب
والسيارات المفخّخه.
ـــــ
تمهل حين تمشي
وتضلل بالسنين الخاسرات
بعد إذ ذاك
تذكر
لست َإلاّ دمعة
أو
ومضة من ماء
لا لون لها
لا طعمْ
روائحها سماءْ.
................
.............
تبسم
متى عشبك الأخضر يبيّضّ
ودفء الشمس
يلوح ظهرك الممشوق
متى رقص الفراشات على الأزهار يهدأ
ويغدو الجلد ثوبا ًدنيويا.ً
ـــــ
السماء كأنها مرج دنيوي
تقعقع أبوابها
زوج الأجنحة
ثلجيٌّ أبيضْ
طريٌ كالحرير
طازج كحلوى
هكذا طُرقنا
تتعانق بشكل محكم
يومض ضوء الحقيقة قبل الرحيل
وكل ألم يجلس على ركبتيه.
ـــــ
من طيات الأفق
وانفلاق الحافــّه
يتهيأ
السواد للوثوب
وعلى حافة الأعشاب
وشاح الحريق.
ـــــ
لا تنتهي أعياد الموت
لا تنتهي
ولذلك نحتفل كل يوم
بموت جديد
مصائرنا تفصّل
كأثواب الصبايا الفاتنات
قصيرة كحياتنا
طرية كأحضان الملائكة المرسلات
في حفلة الرمق الأخير
لقاء التنفس
ونعش الحياة.
***
سهام جبار
- من مواليد بغداد، عام 1963.
- حاصلة على الماجستير في الأدب المعاصر عام 1990، ثم الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث عام 1997.
- تدرس النقد الأدبي في كلية الآداب، جامعة بغداد.
- إلى جانب ذلك أشتغلت بالصحافة.
صدر لها:
- من نسل الماء.
- أدوار العالم.
- عربتي الساحرة.
- الشاعرة.
- فازت بجائزة حسب الشيخ جعفر عن مجموعته: سرب المرآة، عام 1995.
suarem63@yahoo.com
شـــراع نــــذور
لتتسع الدوائر
ليفكّ الموت لسانه فقد تحدث
طين هذا المأزق لوّث الوجوه
الحزن طيف مرح
إنما اصفرار هذه السماء فحمّى
يا نارها لا تكتمي القرابين
وتجددي
فجذعي الملوّن بالجمر
شراع تبقعه النذور
طوفان غرقى من يمين
ومن شمال
ومن خلف عيني
ومن صدى الصمت
ومن رحيلي المتلبس بالتوقف
شهقات هذه الساعة انفجار
يسمعني اعترافي
أحشاء هذا العقاب تلوك
الجسد الأخير من كل حياة
واحملي العقل في زجاجة
ضعيه في مأمن من هذه الرؤية
وتأرجحي في ذهابك
والإياب بالمجمرة
هل أنت دخان لسعته الأرواح بنارها
إلى أين أيها القتلى
أعدّكم كل يوم ويضطرم عدّي
نتواصل في الكلمات المحدّقة
بصورنا المتغيرة
مفارقين دون هوادة كل مكان
منتزعين بانتظاراتنا من كل وقت
حيوات في قصائد
ـ هل من يشتري ؟
هلمّوا نتباهى بميتاتنا
ليست ألوان الثوب المكوي للشعر
لكن هي حرب وتهافت في خوف
ـ هل تريد قصيدة حرب وتهافت في خوف
أيها المتلصص خارج جدار عراقنا ؟
في كل شقّ
ومن كل صوب
اقرأ فاتحة وامض
ومنسيين ننادي من جديد
هل من يريد ؟
موتى بلا أجساد
بلا رؤوس
بلا أحشاء
فقط صخرة لتدقها في نهر
النهر نحن أوتاده
غطت رؤوسنا عشبه
والماء هذا الخائن يمتصّنا
نحن نفط
نحن تراب
نحن خارطة
تصنع العراق بمهده
أيها الطفل العليل
قد فكّ الموت لسانه في فيك
ولوّث بالسم لبنك
تعال في الدوائر
صب في النار أو في صداها
أنا الرحيل وقد سدت طريقه
أنا إعتراف قد توقد به الهجاء
أنا الجنون ذكر الوحشة
وقد تقهقرت بفراديسه الحرب
آكل هذا الخبر
وأطحن طيف مرحي
سأحوّم به معزية
لتتسع بك الدوائر
لتشهق تلكم الساعة
قد قبلت موتي.
أبدٌ مُصْغٍ *
في بلاد العالم السفلي
هبطت
كنت خطىً آيبة
وكانت الأيام غائصةً ببيتي
والأسفار تحاول الهرب
أن تموت
أو لا تموت
تلك هي المسألة !
أما الحزمةُ المشتعلة
فتمثال ملحٍ قد تفتت
وموكب الرغبات نعش
يعدّ انقراضاته في الضباب
ربما ألهج بصنع بقائي حيةً
أركض بدوران الأرض المتبقي
ربما شراع ممزق أنا
لكن لماذا الوقت ضال
والريح حائرة بالسفن الملاحقة ؟
منزلقة إلى العالم السفلي
تلك النجوم قد تعالت علي
ودلاء السماء قد تناست دجلتي
وفراتي
اليانعين بالعفن
وما الرباط المقدس للعفن
الحب يترنح بين أبدٍ وانكسار
وقلبي مصغ
لرؤوس التنين النافرة بمساميرها
تدق هذه القدم وذلك الجبين
أهش فزاعات ظلامها
لأكتب تلك الابتسامة
أمحو انهمال جسدي
بالتيمم بالكتابة
أرد عن دجلة صيفه المضيع اللبن
يا لبن الأبد تمسح بشفاهي
وارتع بقلبي
ربما ألهج بصنعك حياً
أركض بالحزمة المشتعلة
وأعيش
أعيش
أعيش
وتلك هي المسألة !.
* رداً على الطلقة الطائشة التي أصابتني!
في الوقت الذي ينتهي
حول بهاءٍ يقاربُ اندفاعي
البحرُ يمكثُ يرحل
كأنه تتمةُ الهالةِ
التي ستخرق القمر
اليابسةُ المزدراة
أسطوانةُ أسماءٍ تتكرر
وأنا الفاترةُ في استماعي
أمضغُ ما سأبصق
وأطعنُ بإصبع سافرة الكلمات
لديَّ رغبةٌ ترتجف
في الوقت الذي لا ينتهي
لديَّ إشارةٌ لا تقترب
من معنى مكتمل
لديَّ الأيام الكثيرة
ونشوةُ اللحظة الباسلة
أفارق ميلاداً نامياً
في خلاياي
وألمُّ زبدَ غدٍ مائتٍ على كاحلي
مقابرُ لكل تلك الأحلام
للقسماتِ المعبّرة
للمشّاءةِ إلى كل قلمٍ تمسكه وتتفحم
أيها الرماد.. هفْ
طرْ أنفخكَ فصرْ ذبابة
تبحث عن إيقاع
أطردُك يا هوائي المتقلّص من رئةٍ تنفثني على شارعٍ
أخرج به من كل ذلك المشي
تتبلدُ في شفتي
التي لا أنزعها
إذ لا كأسَ إلا متفتتة في صحوةٍ
أيها العالم الملتصق بجلدي
تحككَ الفرشاةُ من دمي
وأنتَ عالق
تخضّكَ القواريرُ التي ما تفتأ ذاكِرة
أما من نسيان خالص
أيتها الفجوة التي يسقط من حبالها
قمرٌ مثلي
أنزع عنه الترابَ كل ليلة
لكن يصحو رباً تائهاً
أو عقلاً كسيراً مثل وحدتي القديمة
أنزع عني القسماتِ كلَ ليلة
وتعيدني العوالمُ بلا خطى
إلى جسدي
محض متذكِرة أثراً ما
هابطةً على ثوبي المتدلي
من السماء
بجثتي كلها
إشارتي إليك مخضلةٌ بدمي الذي أسحلُه
وما تفتأ تتفرج عليّ من العلياء
التي جعلتها حاشيةً لرسمكَ البعيد المتخفي
ألدُك وأعود بك
وحدك أنت الذي صنعتني
كما شئتَ وكما يحلو لسمائكَ
ولأرضكَ
لعراقكَ
للأبوين الصغيرين مثل لعابتين
كأني سأشتم
أود لو أطير
أود لو أنام
لأني سأسير كما أشاء
إلى البهاء المستتر
وأفرغ من كل هذه الأيام
بعد هجاءٍ طويل
بعد سفر مع جسدٍ خاسرٍ شأن كل مقامر
أود لو أغيب.
***
صلاح نيازي
- من مواليد مدينة الناصرية بالعراق، عام 1935.
- حصل على ليسانس آداب من جامعة بغداد، والدكتوراة من جامعة لندن حيث يقيم الآن.
- يرأس تحرير مجلة الاغتراب الأدبي.
من دواوينه :
- كابوس في فضة الشمس، عام 1962.
- الهجرة إلى الداخل، عام 1977.
- نحن، عام 1979.
- الصهيل المعطب، عام 1988.
- وهم الأسماء، عام 1996.
- أربع قصائد، عام 2003.
- إبن زريق وما شابه، عام 2004.
الجندي وبنات نعش
هكذا، من بلدٍ الى بلد
أفتّش بين النجوم عن بنات نعش
وأقول إذن من هنا العراق
درجت معهنّ منذ الطفولة
أعرّفهن واحدة واحدة، ويعرفنني من بين كل الصبيان
في بعض الأحيان يغمزن لي حين أكون وحيداً
يومها دخلت رهبوت السر، وانتشيت كطائر، كطائر
هنّ كالقناديل في صواني العرس يطفن في السماء
وفي الليالي الغائمة احزن وتختلّ الدنيا
أتفقدهنّ لأنّهن كلّ ما أملك من أمان
مجرد وجودهن دليل الثبات والديمومة، يا للاطمئنان
تعوّدت أن أراهنَّ فوق رأسي
إلى اليمين قليلاً، أمامي قليلاً.
هذا هو مكانهنّ الثابت، جذوري التي في السماء.
أحببت صغراهنّ التي تلهث وراءهن في رحيل دائم
تلهث وتعرج وتلهث في رحيل دائم
ما انتظرنها يوما، ولا هي قادرة على اللحاق
قيل عرجاء، تلهث وتعرج، ومن حبي لها سمّيتها مليحة
هكذا من بلدٍ إلى بلد إلى بلد
أفتش بين النجوم عن مليحة العرجاء
واليوم اسمع لهاثها ولا أراها في هذه السماء الغريبة
نظرت كالمعتاد إلى المكان الثابت في السماء
إلى اليمين قليلاً، إلى الأمام قليلاً، وما من أثر
- حينما تتغير خريطة الأشياء تستنفر الحواس
هذه هدية الغربة –
كنّ هذه المرة بعيدات أعلى مما تعوّدته عيني
إلى اليسار قليلاً، ورائي قليلاً
جامدات بلا قناديل وبياضهنّ متكدر خابط
كوجوه عفسها الخوف
غربتي هذه المرة حقيقية، قلتها بضعفٍ عاجز
في مسقط الرأس يتعيّن
شورقك وغروبك وشمالك وجنوبك
كل شروق عداه غروب
كل غروب عداه مربك
وبنات نعش هذه المرة
إلى اليسار قليلاً، ورائي قليلاً
تطيّرت حقا وملأت قلبي الهواجس
كأن العراق انتقل فجأة إلى مكان مجهول
أو ابتلعه بحر، ورحل.
حينما ترتبك جهاتك، يرتبك وجودك
ما جدوى أن تسير إلى الأمام ورأسك إلى الخلف؟
'وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا'
كيف حال الوطن
وكيف حال مليحة العرجاء الآن ؟
كانت رونق الحي، يناغيها الكبار بأرق الأصوات
تعرج وراء لذاتها وتلهث
باقة من الأصوات كل صباح في الطريق إلى المدرسة
وصوت مليحة بالذات، صافٍ، كأنه يخرج من ناي
كنت أجملهنّ يا مليحة
حتى عرجك جميل، جميل، جميل إلى أن ينقطع النفس.
حين طلعت في جسدك أولى الثمار المحرّمة
أسدلوا عليك العباءة، وطالت قامتك
إلا رجلك اليمنى تعوّقت أكثر
يومها بات العرج عاهةٌ لا تستر
استدرجك يا مليحة إلى البلد الغريب
ساعة تشتد بي الغربة وحيدا
وألمك قطعة قطعة، وأغيب فيك بلا انتهاء
مجرد وجودك دليل الثبات والديمومة.
لم نتكلم قط، وما من مرة تصافحنا حتى ولا في عيد
نتلاقى كغرباء وقلبانا معصوران
كنت تعرفينني من بين كل الصبيان
مرة واحدة طالت نظرتك وغمزت لي.
كنت وحيداً
تماماً مثل مليحة العرجاء في السماء
يومها دخلت رهبوت السر وانتشيت كطائر
كطائر
أسبح في حلم عزّ النهار.
لم أرك بعد تلك النكبة، هل بلعنا البحر ورحل؟
كان بكاؤك بعرض الشارع، يرتطم بالجدران، وأعلى من أعلى البيوت
اختلّ توازنك عدة مرات، خذلتك القدم العرجاء
صالح يمشي بصعوبة ووجع، منفرج الساقين
شقيقك صالح منفرج الساقين
وفي دشداشته بقعة دم
بالضبط بين ردفيه
كان وجهه مشعثاً مثل كرة خرق ممزقة
اغتصبه جندي في بستان أمام الثكنة العسكرية
انفرد به انفراد وحش، يزيده الصراخ توحشاً وتطمّعاً
وصالح يرتجف إلى ما لا نهاية في باب المستشفى
بعواء لم يسمع مثله من حنجرة بشرية من قبل
يهتز بلا انقطاع من الرأس إلى القدم، من الرأس إلى القدم بلا انقطاع
وعلى دشداشته بقعة دم، تنزّ وتنتشر، ولا يكف عن الصراخ.
في البلد الغريب أسير إلى الأمام، ورأسي إلى الخلف
أفكر بمليحة التي انقطعت عن المدرسة منذ الفضيحة
وصالح الذي ابيضّت عيناه من العمى
والجندي الذي يفرّ منه الأطفال فرار العصافير
وحين يطبق الليل
ويأتي ضيق النفس كالمعتاد
أفتش بين النجوم عن بنات نعش
وأقول إذن من هنا العراق.
قلعة دزه
كنتُ عاديّاً قبل أن أقرأَ جريدةَ الصباح
بَدَتِ الشوارعُ ممرّات جامدةً في خريطة
حتى المعجزةُ الآنَ متأخرةٌ، تأخّرتْ منذ سنين
لا يأبهُ بها أحد.
البارحة أغلقتُ نفسي، قلتُ ما جدوى المعجزةِ الآن
ونِمتُ كأنّي مرميّ في هوّةٍ سحيقة
كنتُ عاديّاً قبل أن أجلسَ في المقهى وأقرأَ الجريدة
لم يكنْ للشاي طعمُ الأهلِ البعيدين هذا الصباح
ولا للخبزِ ليونةُ الحقلِ ودفءُ الأيادي المتحابّة
لِمَ بدتْ حتّى الأشجار متعبةً من الوقوف ؟
ووجوهُ الأطفال متعسّرة
كأنّها تستذكر درساً يُفلِتُ من الذاكرة ؟
حوارُ المارّةِ مقتضبٌ كالتعزية.
حتّى الإشاعةُ فقدتْ جذوتَها وما في طرافتِها لسعة
رحمتَنا الوحيدةَ كانت. بشرى من نوعٍ ما
الإشاعة بشرى لأنّها الشئ الجديد في حياتنا
تشابهت الإشاعةُ والإشاعة، وأيّامنا تتشابه
في المجتمع المدحور تتشابهُ الأشياء
أقتلُ ما يقتلُ التشابه، يجعل حتى الحركةَ ركوداً
مثل أمواج ماءٍ آسن
الإشاعات تتشابهُ وكذلك الأيام
أغلقتُ نفسي قلتُ ما جدوى المعجزةِ الآن؟.
نصفُ طفلِكَ بيدك
ونصفهُ الآخرُ بين فكّيْ وحش
ما الذي تفعلُه ؟
تأخّرتِ المعجزةُ الآن.
رشّ بابي الصباحُ، كماءٍ في نباتٍ يابسٍ
كنتُ عاديّاً قبلَ أن أقرأَ جريدةَ الصباح.
لا أعرفُ أينَ تقعُ قلعةُ دِزَهْ
لمْ أرَ شخصاً واحداً من قلعة دِزَهْ من قبل
لِمَ سُمّيتْ قلعة ؟
لا بدّ أنّ تأريخَها منغّص بالحروب
تقول الجريدة آلافُ الآدميين بثياب النوم
يُجَرّون من الأبواب من شعر الرؤوس
يُلطمون على الأسنان بأعقاب البنادق.
قال لي شاهد عيان هاربٌ توّاً:
كنتُ مثلَ أعمىً مهدّدٍ بالإغتيال
يركضُ في كلّ آتجاه وأُذُناه في دردور
كيفَ تُواسي أعمىً مهدّداً بالإغتيال ؟
آتخذ الجنودُ مواضعَ الرمي بالذخيرةِ الحيّة
عينٌ مغلقةٌ، وعينٌ محشوّةٌ بالرصاص
سدّوا الطرقات، كالأسلاك الشائكة
آلاف الآدميين بثياب النوم
داخلَ اللوريّات الخاكية
مائةٌ وثلاثون ألفَ صراخ محصور
ممنوع عليها الأكلُ والشربُ والمراحيض
كمْ طفلٍ بال على نفسه من الخوف الآن
كمْ عجوز تهدّلتْ رقبتها إلى الأبد ؟
اشتعلتْ الصافرات، وراديوات اللاسلكي
مؤخرات اللوريات تهدرُ وتهتزُّ كمياهٍ بركانية
الخوذ الفولاذية مشدودة في الأحناك.
عينٌ مغلقةٌ، وعينٌ محشوّةٌ بالرصاص
ثمََّ لمْ تنجُ سبّورةُ أو دميةُ في قلعة دِزَهْ.
ما الذي قالته البيوتُ للعبْواتِ الناسفة ؟
ما الذي قالتهُ المدرسةُ للمدفع ؟
ما الذي قالته المئذنة لصاروخ أرض – أرض ؟
ما الذي قالته الأرجوحةُ لقائد العمليّات العسكريّة ؟
لماذا لا تنْزعُ الجبالُ صخورَها وتحارب ؟
تسدُّ الطرقاتِ في الأقلّ
ما الذي تنتظرهُ القيامةُ إذنْ ؟.
الدرّاجاتُ الناريّةُ في مقدّمةِ اللوريات الجرّارة
تقودُ قلعةَ دِزَهْ برمّتها.
هل وصلت الطائرة بعد
أسمع بوضوح ارتطام الموج
ونخيل الرافدين والزنابيل الخوص
أشتم رائحة الديرم والعباءات السود
سيهبط عما قليل: السياب ولميعة عباس عمارة
ويجري بيننا بويب والمطر
سيهبط عبد الكريم قاسم، وابن زريق البغدادي
المسافة بين بغداد ومطار هيثرو عشر سنوات كاملة.
وهم الأسماء
هذا هو العراقي
يمشي على رؤوس أصابعه كذلك إن تبطر
إذا نظر إلى امرأة يتصقر حاجبه
والمرأة تنظر إليه بعين واحدة.
كيف تقيس المسافة بين نقطة [ أ ] ودكان الحلبي
بالأميال، أم باللهاث والفضول ؟
كيف تقيس المسافة بين فمك والحلمة
بالحرمان، أم بالأمومة ؟
كيف تقيس المسافة بين سمير وسمير
باللقاء أم بالوداع ؟.
استحالات ابن تومرت
لكل مدينة أبواب سرية أيضا
لا تعثر عليها في أية خريطة
المرأة وحدها تدلك عليها بالغريزة.
5
أغمض عينيك وتعلم السباحة في جسده أولا
تعرف في صدرها على كل أنهار التاريخ التي جفت
وكل الأنهار التي حولت مجراها
المرأة متحف الأزمنة
في عروقها فقط معنى كل جريان
وفي نبضها معنى كل موسيقى.
***
طالب عبد العزيز
- من مواليد البصرة، عام 1953.
- ترجمت بعض نصوصه إلى لغات أخرى: – إنكليزية – فرنسية – إسبانية، ضمن انطولوجيات شعرية عراقية.
- من مؤسسي جريدة المنارة في البصرة، وعمل مديرا لتحريرها مدة ثلاث سنوات.
- يعمل كمندوب لجريدة الحياة اللندنية من البصرة.
صدر له:
- تاريخ الأسى، شعر، دار الشؤون الثقافية 1994، بغداد.
- ما لا يفضحه السراج، شعر، دار مجلة ألواح 1999، مدريد – إسبانيا، وأعيد طبعه ببيت الشعر الفلسطيني 2001، رام الله – فلسطين.
- تاسوعاء، شعر، بالتعاون مع اتحاد الأدباء اليمنيين 2003، صنعاء – اليمن، وأعيد طبعه بدار الشؤون الثقافية 2004، بغداد.
talebazez53@yahoo.com
الخصيبي
ليسَ وهناً أبداً
وليسَ شحوباً
ليسَ ُدواراً أنْ تتلفت َ
فلا ترى الجسرَ والنخلة
مائلةَ الظّلِ
أو الجدارَ
الذي كنتَ تنغرسُ
تحته باكراً كلّ صباحِ.
ـــــ
ليسَ ضعفاً أنْ تبرَحك الجداولُ
عند ِسباخِها النائي
وأنْ يقرضَ المدُّ طرَفَ ثوبِِك
فلا تهشَّهُ أو تنهَره
ليسَ فجراُ
هذا الذي يصّاعدُ في الِمئذنةِ
فلا يوقِظُك
وليس نهاراً
هذهِ الشمسُ تكذبُ
دونَ جبهتِك وساعِديك.
ـــــ
ليسَ مروءة ً
أنْ تترُكَ الصَفصَافَ
لتتحدثَ عن إصفرارِ الوقت
وشحوبِ القناطر
أنْ تترُكَ اليقطينَ محزوزَ الرقبةِ
نائحا عليك
وجرارَ الماءِ يابسة ًتتقاذفُها الخِراف
لتُمسِكَ دوائرَ الريحِ التي تذبُلُ
على أريكة الجريد
أنْ تمنحَ قفاكَ غابة َالجّلنار
ماكنة َالسقيِّ القديمة َ
فلا يُغويك َحبلٌ بين كرْمتين
يا آخرَ الخصيبيينَ على الشواطئ
يا أنت َ
إلى أين .. ؟
قل ْلي إلى أين ؟
تطوي بعصاكَ العوســج
خرائط َهذا الليل ؟.
ـــــ
المؤذِنُ الضَّريرُ ماتَ
وقتلوا بائعَ المرايا
ولم يعُدْ منذ أمسِ حطّابُ الكلمات
هم أوقفوا العَجلاتِ على الإسفِلت
وعلى الدِّكةِ المُعشبةِ انتظروك
شجرةُ آس ٍعتيقةُ
على النهر
أوْهمتْهُم بأنَّكَ لستَ خلفها.
ـــــ
بحرٌ من التوتِ الأحمرِ أنت
ورهطُ إوزاتٍ بيض
كوخُ قصب ٍ
وخيزران
وحقل ُبرسيم ٍيافع
في خراسان َأجدادُك وفي مرو
وأحفادُك فتيان ٌكبروا
على أخصاص ِ(نهر خوز وكوت ِ الزين) .*
مع الحلفاءِ
والسمكِ
والبنادق
حملتك مراكبُ الصَّيادين
وأضاءت صرّةَ متاعِك
نارُ عبادان
فانوس ٌواحدٌ هو كلُ ما لديك
من ذخائرِ هذهِ الأرض.
أكنتَ سنياً لا يعرفك أهلُ بخارى
أم شيعياً تجاهلك الناسُ
حين أجتمعَ تجّارُ مكة َليبيعوك
يا قبضة َبقدونس
ويا سلّة َقثّاءٍ رطب
هل أسبلتَ يديك لتذبحَ بسكين
هل رفعتهمَا لتُقتل بالرصاص ؟.
ـــــ
أكنت َتبكي أحدَهم
حين فرّ المُصحفُ من بينِ يديك
عاريا.. على المرج ؟
أكنتَ تغمسُ كفّيك في لجَّة ِهذا الفجر
لترتوي الأجاصات ُالتي على يمينك
أكنت َرأياً في َخزانة ِ
كتب ِالأشاعرة ِ
لم نقرأه ُنحن في كتابِ النخلِ والقرى
حين اكتفى الجندُ برأسكَ الأشيبِ الصغير؟
وواريتَ نفسكَ الثرى
من أنتَ تُرى ؟.
ـــــ
ِسروالٌ معلقٌ في كوخٍ أخير
جرة ُماء
مسّحاة ٌ
ومنجلٌ لا َيطالُ الريح
فسيلٌ على ِترعة أقصى النخل
وتل ُّ ِسباخ
َمنْ ترى سيرثُ عنكَ
كلَّ هذا الحشدِ من الحكايات
َمنْ ُترى ؟؟؟
* من قرى البصرة الجنوبية.
باب الندم
من باب المُراد جئتُ
وجئتُ
ليتني من بابِ
الندم
المؤّدب قادني
وإلى خوخةٍ في برّية
المسجد أوثقَ فرسي
وأغدقَ الكثيَر من الأمل
علي
قال:
سيوثُقه، وعادَ
صبّ الماء على مرفقي
وقال:
صلّي
قلت:
ترفّق, يا هذا
فأنا امرأة كسر الجّندُ
مَحَمل زينتي
واصطفق البابُ ورائي.
كانت الشمس تومئُ
والفجرُ في جبّة الشيخ
ظامر
والفاخت الحمامُ في
الصحن يئنُّ
وندياً كان صوت المؤّذن
في القمر المائل البعيد
نشرتُ قبالةَ الشّرق
كفيّ
انهارت أساوري
باردٌ ذهبُ الأساور في مرفقي
ومثل نخلةٍ مفجوعة
سقطتُ
وقمتُ
سقطتُ
وقمتُ
فرأيت خفّيَ مقلوباً
وأصابعي توجعني
صحّتُ بالمؤدّب
مالك وامرأة تركت
مشبكَ شعرها
في َسَبتِ البيت
ولا أعلمُ أين نسيتُ
قلادتي
وقناةَ كُحلي
وهذا الأزرق الشذري
يُبكيني.
يا سيّدَ
الكاظمين
يا سيدي
يا ابن جعفر
ضيقّةٌ الدنيا
وضّيقٌ كمُّ العباءة
وأنت سورٌ من الفضّة
ذهبٌ باذخٌ
وشبّاكٌ قصي
فاقتربْ
كيما ُأصلح
لغتي
هذا اللفظ المرتبكُ
تائهةٌ أنا في لجّك
الشذري
لكم يبعدُ الجسرُ
هذا الضريحُ الفنار
وهذه الفسيفساء
كم تبعد ؟
والإمامُ تعجّلَ بركعة
الفجر بنا،
وخازنُ الكتب نائمٌ
وأنا لم انقض وضوئي بعدُ
ومن َوِلهٍ يبيع
المصاحفَ
أمسِ أستأجرت عباءةً
وأعطاني (ضياء الصالحين)
قال:
لا تدخلي من باب الندم
كان الهلال جامداً في
المنارة
والكاظمّية كرخٌ
وزقاقٌ طويل
جسرٌ على دجلة
وقيصّريةٌ يستأجُر
الباعةُ مَغربها
والشّريفُ رضي
وأنا امرأة خانني
فرحي
وكسَر الجّندُ مَحَمَل
زينتها
واصطفقَ البابُ ورائي
باردٌ تحت القميص
شعري
وعاطلةٌ يدي
وأنت ضلوعُ التائهين
يا سيدي
على أيّ كرخٍ ترك
السعاةُ
ضريَحك البالي الفقير
وبأيّة بادية نزلت ؟
لا أريدك مسموماً ميتاً
على رمح
أريد عمامتك
علنّي أبلغُ بك بعض
هذي السماء
التي تبعدُ
فأنا امرأة لا أُحسنُ
الدعاء
مغلولةٌ لغتي
وهذا بابك الذهب
وهذه الفضّة شباكٌ
وأحرفٌ عطشي
وأنا متاخمة لهن
فادعُ ربك أن يشرح
صدري لك.. لتر
ضيقٌ كمُّ العباءة
وأنت الفضاء كلّه
وهذا الفرات الأزرق
يُغرقني..
لم اقرأ سطراً
والكتابُ تمزّق في يدي
أربكني الإمامُ العَجولُ
وهذه ضيقةٌ
لا الباحة
وأدعُ ربَّك
فأنا امرأة كسر الجند...
واصطفقَ البابُ ورائي.
في أعالي الأنهار
في الطريق البعيدة جدا
هناك
حيث تحتفظ الشمس بأبناء لها
ليسوا من نخلنا
ولم يركبوا مائنا إلى الأعالي
بائعو صحارى
وأنصاف فلاحين
جاءوا بعرباتهم
من خرائب السكك الحديد
قبل نفاد زيت مصابيح الأدلاء
أصابع هنود على مقابضها
دهن وزفر الحرب الأولى
في الفرامل العتيقة
ندوب لا تحصى في خواصر الجياد.
أعمدة قصب وحيطان بلا سقوف
يؤّمها غرباء بدو
أسماؤهم مثل حوافر خيل مبعثرة
أقاموا ساعة
ورحلوا
قبل امتلاء السلال
وحيثما كان الحصى باردا
كانت السماء.
ـــــ
أنا اسميكَ
واحتفظ برعشة يدك في يدي
بينما تنزلق عربة أبيك في المدى
ويعبر الهواء بيننا
يعبر
حتى لم تعد تراني
أنت بلا اسم الآن
كيف سيتسنى لك إلقاءُ التحية علي
كيف يمكنك إحصاءُ النجوم
التي ماتت بيننا ؟.
ـــــ
في مفازة النخل
حيث تزدحم الريح في مفارق الأنهر
قوارب من أسل وصفصاف
خرّقها الموج
ستظل مدفونة من الشطآن
هناك
حيث لا أحد يستبدل الحكاية
أقمار كثيرة غمرها المدُّ هذا اليوم
كانت القدور تعبر
ومن مسنّاة إلى أخرى
كنا نلتقط الجرار الطافية
ضفادع خضراء
وسلاحف صغيرة
مثل أقداح الشاي
كانت تؤثث رحلتنا
وسْطَ الباقلاء والقصب
نحن ِصْبيَةٌ نكتهل في أعالي الأنهار
وهذه الأيام تأخذ بياقات آبائنا المسنين.
ـــــ
إن قمتَ من مكانك هذا
بقرات كثيرة ستتبعك حتى َمقيل الرعاة
وحيث لا يتشابه ثغاء الحملان
على الجرف المنخور
بيوت الصيادين
تنهش أخصاصَها الخنازير
ويبيض الإوز تحت الدلاء المقلوبة
نسّاجو الحكايات الذين لبّوا
دعوة أبيك البارحة
تفرّقوا في الأشرعة
وانكسرتْ في جباههم الشمس
سماء بلون السمك المالح
كانت تعبر بهم.
ـــــ
أنت التوتُ الذي لا يكبر
وأن اللوبياء التفُّ على جذعك
وأغفو
وحين يحلُّ الصيفُ
سأفتح أزرار قميصي
وأريك الزغب الذي يأبى
أن ينمو إلا تحت يديك
أنا أقسم بالريح الخضراء التي بيننا
وأنت مع الشِباكِ والمجاذيف
نائم
ويداك تخطّان في الماء
أسماء الفسائل الميتة
أجاصة كانت ترخي أغصانها
وأجنحة كثيرة رفـت عليك.
ـــــ
كنت ألتقطُ التمرَ معك
ومعك حملتُ العذوق
والحشف
والسعف اليابس
حيث لا أحد يؤول انحناء العراجين
لا أحد يؤول موت الفراشات وسط الشماريخ
كنتُ العرجونَ المنسي
والفراشاتِ التي تذبل في الظهيرة
وحين كنتُ أغيبُ في الجداول النائية
هناك .. مع طواشاتِ* تمرِ أبيك
كنت وحدك هنا
ولمّا كان النهار ينتصف على جذعك التوت
كنت تمرر أصابعك على خصورهن جميعا.
ـــــ
جرادلُ صدئةٌ
وأرشيةٌ من قـنب رطب
مناجل ومجاذيف ُ ُتركت على الرمل
حين ينحسر عنها الموج
ستسمع اصطفاق الزمن بالأشياء
ستشم رائحة ماء بعيد.
* طواشاتِ: عاملات يجمعن التمر المنفرط تحت النخل.
***
عبد الزهرة زكي
من مواليد مدينة البصرة، عام........
مدير تحرير صحيفة " المدى " اليومية.
صدر له:
- كتاب اليوم.. كتاب الساحر، صادر عن دار الزاهرة ببيت الشعر رام الله 2001.
- اليد تكتشف.
- الفردوس.
هذا خبز
خُذي يا سيدةُ شفاعتكِ
وارمي بدرهمِكِ الذي تحسُدِك عليه الأميرةُ
الذي تخطفُكِ من أجله الأميرةُ
الذي تقتلك من أجلهِ الأميرةُ.
خذي
وهاتي
خذي
وهاتي.
يا صبيةُ
يا عانسُ
يا سيدةُ
يا أرملةُ
يا مسكينةُ
عندي الجبنةُ والخبز
ماذا عندي ؟
عندي الجبنةُ والخبزُ
عندي كثيرٌ منه
كثيرٌ جداً
جداً
جداً.
عندي خبز.
ألا تصديقنني ؟
يا موهومةُ
يا نساءةُ
يا جوعانةُ
هذا ليس بسحرٍ
هذا خبز
لستِ تذكرينه ؟
فلتتهجيه إذاً
خاء باء زاي
أو
حَسَنٌ
هذا أكسيرُكِ [ أو هكذا افترضيه ]
شمّيه !
تَرَي روائحَهُ بين يديكِ
تري عينيك بمرآه
واملأي سريرتَكِ بنعماه
زيّني عنقك بصدفه
وزنّري بلؤلؤه معصميك
ثمّ دثّريه
وخبئيه عن عين تلك الحسودة
وقولي لهنَّ
لصاحباتكِ الجائعات:
يا أُخيةُ
يا جارة
يا بنيّةُ
يا عدوّةُ
هذا مسكي
ونفاض وردي
وشفاعةُ قلبي
هذا خبز
هذا خبز
هذا خبز
جيءَ إليَّ به من سَنَةِ الخاتم المخفي
وقد حملتْهُ الطير التي
من ذهب ريشها
والتي من ضوءٍ أجنحتها
والتي من ناياتٍ مسحورات أغاريدها
خذي يا سيدةُ شفاعتكِ
خضّبي بها يديك
وقدميك
وقلبك
ونهار بيتكِ
وارمي بدرهمكِ
يا ساهيةُ
يا لاهيةُ
يا تعبانةُ
درهمكِ الذي كنتِ أضعتهِ
بين بريق سكينها وتراب تبنها
تلك الحسودة التي لا تسهو
ولا تلهو
ولا تتعبُ منك
وقولي لي:
هذا خبزُكَ
هذي الجبنةُ
هذا إبريق الشاي بلا سكر
هذا صباحُكَ أزرق
تهبني الشمسَ فيه
وما أنا بجائعةٍ
وما أنت بحزنان
خذي يا سيدة شفاعتكِ
وانفضي دراهمك عن صرّتكِ
واملأي بها حوش الأميرة
بنت الأمير
بنت الأميرة
أخت الأمير
أخت الأميرة
أوهميها بدرهمك [ الذي لم يعدْ من فضةٍ ]
حتى تنام
ودسّي تحت مخدعها ورقة الماء هذه
فليمتلئ
حوش الأميرة بنت الأميرة
بدراهمنا
يا سيداتُ
يا حزيناتُ
يا حسيراتُ
ولتكن الدراهم لهباً
وليكن الحوشُ نهباً
للهبِ الدراهم
ولتعطي الأشجار
أشجار الحوش
حوش الأميرة
ثمارها من لهبٍ
ولتكن حشائشهُ مسامير دراهم
من لهبٍ
ولتدرّي
يا بقرة الأميرة بنت الأميرةِ
حليباً من لهب
ولتكن يا صنبور
صنبور الحوش
حوش الأميرة
إبريق لهبٍ
ولتكن يا نوم
نوم الأميرة
بحراً محيطا من لهب
بدراهمنا
دراهم السيدات والسادة:
الحزينات
الكسيرات.
وتعاليْ
هذا الكلام من فضةٍ
وهذه الحنطة من ذهبٍ
فأستبدل لك الذهب بالفضة
خذي الكلام
واكسبي الحنطة.
خذي
وهاتي
خذي
وهاتي
يا منْ أضعتِ خاتمك في السوق
يا منْ نسيت مساءكِ في كيس الطحين
يا منْ أهرقت أنوثتك في التنور
كوني
أنتِ
أنا
سأكون حينها
أنا
أنت
يا غريبة
يا حبيبة
يا ملهمة
يا نائمة
يا منسيةُ في أمنية مرميةٍ
في قنينةٍ مرميةٍ
في بحر مرميٍّ
في حبة قمح.
والآن هذا لك
ما بين يديك
وطوعُ بنانك
هذا الملحُ
وهذا التراب
فامنحيني تعويذتك المكتوبة
على ريشة الهدهد هذه
خُذْنَ
يا نساءُ
يا جاراتي
ويا أخواتي
ويا خالاتي
ويا بناتي
سلالكنَّ
واستجرن بالتراب
هذه سَنَةُ التراب المخلّص الرؤوم
استنجدن بحكمة آبائنا
واستقوين بالماء
وبالتمر
وباللبن
وبالهواء
علامَ تناديّن إليَّ
أنا المنصرفُ عنكنّ
يا سيدات
يا طعينات
يا متألمات
لقد أنحللتُ في الرمل
وتسرّبتُ ما بين حباته
فلا أنا مصغٍ إليكنَّ
ولا أنتنَّ بالقادرات على أن تلملمنني.
بين أيديكنَّ الهواء اليابس
الذي يتكسر
خذي يا جميلة كسرةً
ولك يا رجاءُ كسرة
ولك يا زينب كسرة
ولك يا سجى كسرة
استقوين بها على سَنَة التراب
واضربن
بكبريائكنَّ الرمل
لأستقوي عليه
يا نساءُ
يا رحيماتُ
يا مظلوماتُ
لآخذ شفاعتي وأرمي بدرهمي
الذي أحسدُ عليه الأميرة
الذي أخطف من أجله الأميرة
من أجله
من أجلك
يا موهومة
يا نساءة
يا جوعانةُ من أجل الخبز.
رثاء شارع المتنبي
ليس هنا أثر
ليس هنا قبر
ليس هنا شاهدة
ليس هنا نائمة
نسمع صوتاً
وجعاً يتلظى بالآه
ليس هنا آه
ليس هنا صوت غراب ينعق
ليس هنا قلب أب مسمور يتمزق
ونحيب صبي تنفجر لوعته إذ يُقهر
كلمات
كلمات
كلمات
ليس سوى كلمات
كلمات نائحة منذ عصور
منذ قديم الأزمان
بين رفوف الورّاقين
وأطفال النسّافين
ليوقظها بعد قرون في الألف الثالث
صوتُ دخان
منذ قديم الأزمان
ليس هنا سوى كلمات
كلمات تغرق
كلمات تمرق
كلمات يخرج منها نور
يعبر موج النهر بحثاً عن أثر منسي في الكرخ
ويؤوب ليبحث عن آخر في واسط
لا قبر لصوف
لا قبر لشاعر
والنهر هو ذات النهر حزينا
يمضي بينهما
متئداً بالليل
وبالموج
ونور الكلمات
كلمات
كلمات
كلمات
تائهة
هائمة منذ قرون
منذ قديم الأزمان
تبحث في الوحش الكامن فينا عن معنى الإنسان.
يتبع