*في تأمل أولي لقصيدة "طباق" للشاعر الكبير محمود درويش .نكاد نتساءل عن شعرية القصيدة، رغم إيماننا العميق بشاعرية الشاعر .لكن بعد التخلص من دهشة القراءة الأولى . ينكشف إيقاع سردي يغلف النص ليرقى به الى شعرية بعيدة عن متناول قارىء عابر. يأخذنا هذا الإيقاع السردي عبر أحداث مضت، وواقع آني، وأحداث ستأتي.في تواشج محكم بين السردي والشعري.لتصبح القصيدة حاضرا يكثف ماضيه ومستقبله ب، نوفمبرعرية مدهشة، في تداخل واضح بين الأمكنة( نيويورك/بابل /سدوم...) يستدعي بدوره تداخلا في الأزمنة (نيويور، نوفمبرر، الشارع الخامس).(...التقيت بادوارد قبل ثلاثين سنة ).( عندما زرته في سدوم الجديدة، في عام ألفين واثنين..). وفي تداع ملفت يتداخل الراثي بالمرثي.محمود درويش في هذه القصيدة، يكتب شبه سيرة ذاتية من خلال مرثيته لصديقه ادوارد سعيد و يكمل مابدأه في "الجدارية" - مرثيته / وصيته (الأخيرة)-من تصفية حساب مع ثنائية الموت والحياة. كموضوع وجودي بات يؤرقه. يكتب احباطاته،خيباته و انكساراته .تشابه المصائر وكذا تشابه المنطلقات والنهايات، قد يكون جسر عبور نحو جرح مماثل ،حدسا إضافيا لسبر غور الآخر. فالحوار المعلن بين الشاعر وصديقه حوار مع الذات، مرجعيته لقاءات وحوارات متفرقة مع ادوارد سعيد، مرجعية لها من القوة ما يعطي للحوار مصداقيته، ويعيد النص الى سياقه السردي من غير أن تكون لها نفس القوة للفصل بين الشخصين الراثي والمرثي.لو عدنا الى ماكتبه محمود درويش وبالضبط الى آخر إصداراته "لاتعتذر عما فعلت" المجموعة الأكثر حميمية و التصاقا بشخصيته وربما التي تشبهه أكثر. لاكتشفنا ملامح قوية مشتركة بين الصاحبين. في قصيدة "بغيابها كونت صورتها" مثلا، يكشف محمود وجع المكان:(لاهناك، في المدينة/لا هنا سوى هناك/ولا هناك سوى هنا ).في قصيدة طباق وعلى لسان ادوارد:(أنا من هناك/ وأنا من هنا/ولست هناك، ولست هنا) في قصيدة زيتونتان: (انتقيت بداية/وولدت كيف أردت..). يقول ادوارد في قصيدة طباق:(...إن الهوية بنت الولادة لكنها في النهاية إبداع صاحبها...)
*القصيدة تتأرجح بين ماض موعد وحاضر محبط ومستقبل ضبابي:(قبل ثلاثين عاما/ كان الزمان أقل جموحا من الآن..) كانت الطريق واضحة و الإيمان بالقضية خيمة تظلل الجميع.. فكان العهد والوعد( الذهاب الى الغد واتقان/ ولو بصدق الخيال ومعجزة العشب..). بالرغم من تحذير تاريخي في بداية الطريق:(سمعت هنودا / قدامى ينادونني: لاتثق بالحصان ولا بالحداثة...)
ليست مرارة الفقد وحدها تلحم هذا النص.هناك مرارة أخرى، بوجوه وعناوين متعددة:طول الطريق و كبوات الحصان / رحيل بعدد المنافي/ جرح الهوية/ جرح الغياب/قرابين الدم/ دم في الظلام / دم في النهار/ ودم في الكلام...../ وسراب يسدل الستار..
على بعد مسافة من النص نستطيع أن نشتم رائحة الانكسار والخيبة. هل أصبحت القضية تثقل كاهل النص شعرا وفكرا..؟.أليس الشعر أفقا مفتوحا وأملا في المابعد؟وحين يصطدم الفكر بالباب المسدود ويدخل غرفة الإنعاش، فهل تقوى القصيدة على حمل القضية؟ و الى متى ستتحمل شعرية القصيدة تآكل الحلم؟
* بين نيويورك وبابل وسدوم. بين ماكان ومايحدث وماسيكون يتنقل الجرح، بلا حقائب بلا جوازات سفر...في كل محطة يترك قطرة دم ويرحل...في كل مطار يترك وخزة ألم ويرحل...في كل بلاد يترك عيونا من نبيذ وعسل ويرحل....فارس لايترجل. ربما( في السفر الحر بين الثقافات/..مقاعد كافية للجميع)
بين أول لقاء (التقيت بادوارد ،منذ ثلاثين سنة..) وآخر لقاء (عندما زرته في سدوم الجديدة / في عام ألفين واثنين..) يرسم الشاعر تجاعيد الزمن المغبر، أخاديد الألم، لوعة الغياب.يعدد جروحا بعدد سنوات المنفى: جرح الهوية (أنا المتعدد، في داخلي خارجي المتجدد ) (أنا اثنان في واحد..) جرح اللغة:( لي لغة انجليزية للكتابة...ولي لغة من حوار السماء ).مفارقات الاسم لي اسمان يلتقيان ويفترقان). خدوش الأمكنة على جسد المنفى: ( يحب بلادا ويرحل عنها..)... يخفي خيبته/ جرحه في تابوت الفقد..لو كشف الشعر خيبته لضاع الأمل /الوطن. (لاغد في الأمس....فلنتقدم إذا).
*...( والهوية ؟ قلت..) .من أنت بين منفين باطني وخارجي ؟ أسئلة تستثير أيضا المفكر،وتأجج جدلا فكريا..؟ لكن حين يعجز الفكر عن جواب السؤال، أو حين يكون عارفا به ويخجل، يهربه نحو الشعر: ( لو كنت أكتب شعرا لقلت: أنا اثنان في واحد / كجناحي سنونوة / إن تأخر فصل الربيع / اكتفيت بنقل البشارة ). حتى حين تختزل الأرض في حنين للأمس، كبلسم مرحلي لجرح الغياب، حنين لرائحة التراب، لتخت الأم ودرب الحليب، لسطح البيت وياسمين الحديقة... يصير الجواب من اختصاص الشعر، كتلطيف مناسب لمرارة الحقيقة. حنين الفكر للغد، والحنين الأمس أناقة للشعراء وحدهم.عصب القصيدة في العمق، تحاور بين الفكر والإبداع حول قضية تخص الاثنان، تجمعهما واقعيا وتفرقهما حلما...للشاعر حق الامتداد نحو الأفق:(القصيدة قد تستضيف الخسارة / خيطا من ا لضوء يلمع في قلب جيتارة ) حيث يعجز الفكر عن التحليق أبعد من حقيقة يلمسها بيديه( لامكان لحلمين في مخدع واحد..). حتى العودة للخلف، كترياق ضد الموت والنسيان تصبح مسيجة بواقع مأساوي يتجاوزه الشعر بمجازاته، ويلمسه الفكر بأدوات تشريحية جارحة:( هيأت نفسي لأتمدد في تخت أمي../.لكن ضبع الحقيقة أبعدني عن حنين تلفت كاللص خلفي.) هل أصبح الفكر (ادوارد) أكثر إيمانا بالشعر، في عالم اختلت توازناته، وزمن فقد ذاكرته، عالم ترسم خرائطه بالدم، وترفع سمواته بالحديد، لا مأمن لأطفاله، لعصافيره، لأشجاره، موتاه أحياء يتسللون كالنجوم ليلا ليضيئوا فجر الحياة و لم يقطفوا من مباهج الأرض غير وعد من السماء.....يصير البيت أبعد، الطريق أطول، و الحلم أضيق.في مثل هذا الزمن، تتحرر القصيدة من تاريخها لتسكن الرمز و لتصبح درعا واقيا لشجر ترتديه الطيور، صفة للرياح، صرخة لإثبات الحياة أو –على الأقل- إمكانية وجودية. أملا للكلام، أو حتى سرابا يطيل الرجاء. حرية لمن لاحرية له، أبدية لمن يختصره الموت، ملكية تسود الكلام، مجازات تبني المنازل بالغيوم....أكاد أتخيل ابتسامة الخيبة على وجه المغني:( لكن أعمار الغيوم قصيرة في الريح / كالأبد المؤقت في القصائد / لايزول ولايدوم.... )*.
(غن فان الجمالي حرية...)
فهل كان ادوارد يملك ضفة أخرى للكلام:مجازات خامدة فالوجود،ججت اقتناعه بالقصيدة كسلاح يدافع به عن أحقيته في الوجود، كبراح آني مقابل أفق شبه مغلق...(.كان المجاز ينام على ضفة النهر/ لولا التلوث /لاحتضن الضفة الثانية.)
*هل كتبت الرواية؟
جملة استفهامية بسيطة. لكن مشارفها تطل على سوسن الحديقة، مرآة تعكس جانب الظل في حياة ادواردسعيد. لم تستسلم نساء الحلم لغواية الراوي. فما من رجل سبر غور امرأة من قبل وفك اللغز. وما من امرأة حققت رجلها /الحلم، لاحب يشبه حبا. في هذه اللحظة بالذات، تتفكك القواعد، تنهار الثوابت و يستسلم الفكر...(ضحكت على عبثي/ورميت الرواية / في سلة المهملات). هل هو عجز الروائي ؟ أم حذر المفكر ؟ أم عبثية الفعل ؟ أوتحصن السوسن في بهيم الليل..؟
*إذا مت قبلك،
أوصيك بالمستحيل.
جملة شعرية جارحة ولذيذة ...تشظيك بيأس قاتل، وتلملمك بإيمان قوي بالغذ في نفس اللآن.، الوصية استمرار أمل، وا لمستحيل عجز التحقق...بين أوصيك ومستحيل مسافة لايمكن أن يجمع بين حمولتيهما غير محمود درويش. ليس المستحيل نقطة في آخر السطر، ولا آخر صفحة في ملحمة الوطن، بل تحقق "على بعد جيل" تحرسه هشاشة الشعر وجبال الجليل..
تلكأ الفجر...كان السرطان أسرع خطى من الزمن...مات ادوارد قبل الولادة بجيل....سئم النسر قمته وطار عاليا...في وداعه كتب الشعر ألمه، وكتب الألم شعريته... شعرية لها عذوبة قبلة الوداع لكنها بطعم الرحيل.
*في وصف الغيوم من ديوان " لاتعتذر عما فعلت"
(قراءة في قصيدة" طباق" للشاعر الكبير محمود درويش )
عائشة البصري