التاريخ، قال نيتشه، "ضيمٌ غربيٌّ" يحمل الإنسان الغربي "علامات أساه" حيثما أدار وجهه. مع ذلك، كم يدهشنا قِصَر المسافة التاريخية التي تمتد بيننا وبين جيل أفلاطون. مسافة قد تقاس بسلسلة أعمار أربعين شخصاً (أربعين جيلاً). على أن الهوس بالتاريخ تجربة قريبة العهد، أوروبية في الأخص، تعلَّمنا أن نقرنها، بعد منتصف القرن التاسع عشر، بأنبل ما لأوروبا من رؤى، وما عندها أيضا من كوابيس. من هنا احتمال صيرورة الوعي التاريخي نوعاً من العصاب neurosis الفكري المؤدِّي بالثقافة الأوروبية، دون سواها من الثقافات، إلى رفض ذاتها، في سعيها المحموم إلى الصيرورة شيئاً غير ما هي أو أكثر مما هي. هذه القدرة على التجاوز المتعالي، الناجمة عن عبقريتها الهادئة، المنتظمة، العاملة على إحياء القرون الخوالي، في وسعها أيضاً أن تمحق الحاضر بهدم الطمأنينة التي ينعم بها الأفراد والمجتمعات نتيجة اللامبالاة بما لم يعد موجوداً أو بما لم يوجد بعد. ذلك أن التاريخ، بصفته إشكالية وجودية، لا يظهر في شكلٍ مجرد بل في شكل واقع معيش.
ينطلق المنحى الوجودي من التفكير بالحقيقة اللامسيحية: أنا موجود، إذن سأموت. من هذا المنطلق فإن هجوم كيركغور على المذهب الهيغلي لم يقم على أساس موقف فلسفي. ذلك أن هيغل، في نظر كيركغور، "نسي، في ما يشبه الذهول التاريخي العام، ما يعني أن أكون أنا وأنت وهو بشراً، كلٌّ منا لنفسه" [1]. وفي تعبير آخر، إن الحقيقة، مهما يكن نوعها، تجريد باطل ما دامت خارج إطار ما للحقيقة من علاقة بالكائن البشري. فالحقيقة لدى كيركغور قضية امتلاك جَوَّاني، لا مجرد معرفة عقلانية. لذا كانت الحقيقة والذاتية متساويتين.
حوَّل هايدغر وسارتر منطلق كيركغور هذا إلى نقطة ارتكاز أنطولوجية تتصل بمناحي المعرفة جميعاً. في ذلك يقول سارتر: "إن وجهة نظر المعرفة المجرَّدة لفي تناقض... ليس هنالك إلا وجهة نظر المعرفة الملتزمة." [2] وقد أعرب برديايف، على الصعيد الديني، عن هذا الموقف في صيغة أخرى، إذ قال: "ما لم يكن المعنى الكلِّي، في الوقت نفسه، معنى شخصياً أيضاً، فليس هو بمعنى أبداً... إن كان هنالك إله، وكانت هذه الحقيقة غير ذات معنى لي، ولم يكن لها شأن في مصيري الأخير، فليست إلا مساوية لعدم وجود إله." [3]
إذن، الخبرة، من وجهة النظر الوجودية، لا تعني شيئا إلا بجَوَّانيتها؛ والجَوَّانية عملية زمانية، أي تأريخية. هذا ما جعل هايدغر يقول: "إن الإنسان الموجود وحده تاريخي. الطبيعة لا تاريخ لها." وجوهر الزمان، كما أشار هيراقليطس، ليس الديمومة وإنما التغيُّر. فالحياة لا تعاش، لا تكون حياة تامة حتى يتوقف بها الزمان، أو في تعبير آخر، حتى يثبت الموت محتواها. لذلك كان المعاصِر ذا تاريخ لمحض كونه ذا ماض. ولكن ما دام الزمان حاضراً بالنسبة إليَّ، أنتمي أنا إلى المستقبل وأكون إمكاناً possibility، إذن فوق أي تقويم نهائي. بموتي فقط يصبح مستقبلي ماضياً لا رجعة له، ومعنى حياتي مقرراً إلى الأبد. هذا ما عناه كامو بقوله في روايته السقوط: "لن يقتنع الناس بحُجَجِك، بإخلاصك، بفداحة عذابك، بل يقتنعون بموتك." [4] والواضح أنك في موتك لا تستطيع أن تكون غير ما كنت على قيد الحياة: ماركس يصبح الماركسية ما إن يحول الموت بينه وبين تغيير ما قاله، أو كانه، والإضافة إليه. وفي ذلك يقول سارتر: "في الحدِّ الأخير، في لحظة موتي اللامتناهية الصغر، لن أكون اكثر من ماضيَّ." [5]
وإذا كان الماضي هو التاريخي حقاً، والمستقبل هو الماضي المزمِع أن يكون، فما هي حال الحاضر؟
يمكن تعريف الحاضر بأنه النقطة التي تنتقل بين حالتي الزمان الأخريين. إن تعبير "الكون" هنا هو بمثابة تأليف بين ما "كان حتى الآن" وما "سيكون". وعلى هذا، كما أعلن فيلهلم ديلتاي، تستمدُّ اللحظة الحاضرة حقيقتها مما حصل حتى الآن، ومما سيحصل.
تعلِّمنا التجربة الملموسة كم هو عسير أن نعيش من دون ضجر أو رياء، وكم هو مستحيل أن ننجو من تفاهة حياتنا اليومية وإبهامها. إن التجربة، في تعبير آخر، تعرض نفسها لنا مادةً خاماً عديمة الشكل، تبدأ باتِّخاذ معناها وشكلها فيما نبتعد عنها في الزمن، فيما تصير ماضياً ثابتاً لا رجعة له. والغرابة في ما قد مضى هي أن معناه الحقيقي لا يتكشف فقط من طريق إعادة خلق ما "حصل بالفعل"، بل، قبل كل شيء، من طريق الالتفاف الجَوَّاني الخلفي إلى التجربة بقصد عيشها من جديد. بذلك لا يكون الماضي متاعاً، أو مُلكاً، أو شيئاً في يد الإنسان، كالسيارة أو الرصيد في المصرف، بل يكون ما ينطوي عليه الحاضر، ما يذوب فيه باستمرار وبلاوعي. فليس من قرار يُتَّخذ إلا بصيغة الماضي. [6] فكوني، كما يقول سارتر، عاجزاً في هذه اللحظة عن أن أصير مهندساً، سببُه أن ماضيَّ قد هيَّأني لأن أصير مؤرخاً. فإذا قررت أن أكون مهندساً في هذه اللحظة، فإنما أفعل ذلك، أيضاً، في صيغة الماضي، ذلك أن قراري هذا اتُّخذ رغماً عنه. [7] والخلاصة هي أننا لا نستطيع اختيار ماضينا، إذ إنه قد مضى، وهو هنا الآن. إلا أن الماضي، رغم أنه يقرر ما نحن عليه، لا يقرِّر ما سنكون.
ماذا عن المستقبل إذن؟ هنا ندخل فضاء الحرية. إن المستقبل هو "اللمَّايكن" الذي يدعم "الآن" بإعطائه معنى لـ"الكان". إنه وحده، يقول سارتر، "يقرر إذا كان الماضي حياً أو ميتاً" [8]. أما هايدغر، وقد أُخِذ بحتمية الموت بصفته "إمكاناً مُطلقاً"، فقد حرَّر المستقبل من اللامتناهي الذي يثقله به الوعي العام. [9] بذلك يبرز نطاق الحرية الذي يعرضه لنا المستقبل، تماماً بفضل المحدوديَّة التي يجيئه بها هذا الإمكان المطلق. وكلُّنا نعرف، لكننا نميل إلى النسيان، أن لا أحد يستطيع حقاً أن يعرف الموت أو أن يريح سواه من موته. أما خارج الموت، فالمستقبل هو الحرية. وهو بالتعريف الأنطولوجي خطتنا المتغيرة دائماً وتوقعاتنا في مجال العمل والامتلاك والكينونة.
إذن، ليس الماضي في الأصل سوى خطة وتوقُّع نحو المستقبل. وحين يخرج المستقبل إلى حيِّز الوجود يدخل في الماضي ويصبح المادة التي يُصنَع منها التاريخ. إنه أساس النظرة الوجودية إلى التاريخ، وهي نظرة تكشف عن مغزى مفهوم ديلتاي الحقيقي للـ Erlebnis، أي عيش الماضي من جديد، لا كواقع ميت، بل كمستقبل تحقَّق. فليس مؤتمر فيينا ونظام مترنيخ عام 1815، مثلاً، إلا خططاً وتوقعات للمستقبل الذي، ما إن جاء عام 1848 وثوراته في عدد من الدول الأوروبية، حتى صار ماضياً متحققاً لا رجعة له.
وعلى هذا، ليس التاريخ سجل أحداث أو نظام فكر أو نسق حياة، بل هو، في صميمه، تجربة ماضية ثُبِّتت إلى الأبد. هذه التجربة المثبتة التي لا رجعة لها لا تُنقَذ إلا بالالتفاف الخلفي من قبل حاضر يخص مستقبلاً. إذن، للتاريخي مصير واحد فقط، وهو ما تقرره نظرة الأجيال المتلاحقة نحو مستقبلها الخاص بها.
من هذا يتبع، في طبيعة الحال، ما لم آتِ على ذكره إلا تلميحاً، وهو أن معنى سير التاريخ لن يُعرَف إلا في نهاية التاريخ. هذا الموقف، ولا ريب، يتصل بقضية المعنى ولا يلمس الاعتبار الميثودولوجي إلا سطحياً. فسواء كان يواكيم الفلوري في القرن الثاني عشر، أو ابن خلدون في القرن الرابع عشر، أو فيكو في السابع عشر، أو فون رنكه في التاسع عشر، أو توينبي في العشرين، فإن مواجهة "الكان" وإعطاء معنى أو نسق أو خاتمة للأعمال، والأقوال، والأحداث التاريخية، إنما هو أحكام تتصل بالهنيهة التي قيلت أو سُجِّلت فيها. وفي تعبير آخر، ما دام المؤرِّخ هو نفسه تاريخياً؛ أي ما دام يضيء التاريخ بمستقبله هو، وبمجتمعه، وبعالمه، يبقى معنى الماضي موقتاً ومعلقاً دائماً وأبداً. فإن كان، مثلاً، إجراء اجتماعي قريب العهد كصفقة جديدة New Deal في الولايات المتحدة قد بدأ، منذ الآن، يلقى ما يلقاه من إعادة نظر جذرية من مؤرِّخي الجيل الذي مرَّ بتجربته، فأي حكم نهائي نتوقع في صدد أحداث ماضية، كالغزو البربري المؤدي إلى سقوط روما، أو توقف الزحف الإسلامي على أبواب باريس وفيينا؟
كان شغف القرن التاسع عشر بالأحداث وبالوقائع ردَّ فعل مشروعاً لاعتبار التاريخ وسيلة تثقيفية أخلاقية، وللسعي وراء الثابت والأكيد، حتى على حساب تضييق الخناق على البحث والتدقيق التاريخي. غير أن القضية الأساسية التي تمرَّد عليها مؤرخو القرن التاسع عشر لم تكن حقاً تأريخية بل فلسفية. وفي أساس الموقف التجريبي empiricist قام افتراضٌ بوجود هوة أبدية بين طالب المعرفة أو صاحبها وموضوع المعرفة. وتساوي بين "يقين" المعرفة التاريخية وموضوعية العلوم الطبيعية: معرفة "ما حصل" موضوعياً، بالاستقلال عن العارف. هكذا أصبح التاريخ علمياً، بمعنى أن همَّه الأول هو إثبات الوقائع وتركها "تتكلَّم بنفسها".
إن الشكوكيَّة التي أوجدتها الفلسفة الوضعية positivism في الحقل الفلسفي لم تعجز عن بلوغ النتيجة ذاتها في الحقل التاريخي. ففي إثبات صحة الوقائع في نطاقها الضيق، توفق المؤرخون في الحصول على الشعور بالطمأنينة والأمان في حقل التاريخ؛ وهو أمر يفسر، إلى حدٍّ بعيد، نجاح مدرسة المؤرخ فون رانكه. وكما هاجم كيركغور غائية هيغل واتَّهمه بالتجريد اكثر مما اتهمه بالخطأ، كذلك هاجم نيتشه إنتاج المؤرخين "الواقعيين" ووصف هذا الإنتاج بأنه سخيف وقاصر. [10] فما كان موضوع التساؤل، في الحالتين، لم يكن قضية تثبيت الحقائق أو صحتها الموضوعية، بل معنى الفلسفة والتاريخ وعلاقتهما بالحياة والوجود المعيش.
لعل المؤرخ الوحيد في القرن التاسع عشر الذي وقف من التاريخ موقفاً ميثودولوجياً انبثقت منه النظرة الوجودية في وضوح كامل هو فلهلم ديلتاي الذي بدأ أثره، أسوة بالمتمرِّدين الآخرين، كيركغور ونيتشه، يفعل فعله الآن. فهو، من غير أن يرفض الأساس التجريبي للمعرفة التاريخية، وطَّد أولية التجربة الجَوَّانية كأساس لفهم التاريخ. وفي ذلك يقول: "إن قدرة حياتنا واتِّساعها، وحيوية انعكاس تفكيرنا عليها، هما أساس الرؤيا التاريخية. إنها وحدها تمكِّننا من أن نعطي حياة أخرى لظلال الماضي الناضبة." [11]
إن المساهمة الفكرية التي قدَّمها ديلتاي قد تكون في وضعه أسساً جديدة لمقاربتنا لإشكالية فهم التاريخ، أكثر منها في ابتداع منهج منتظم جديد لتفسير التاريخ. موقفه الرئيسي كان في إنكار إمكان فصل معنى الحقيقة التاريخية عن عمل التجربة الجَوَّانية، وهو موقف أساسي يُعتبَر، في عصر بلغت فيه النزعة العلموية أوجها، موقفا ثوروياً. إن الفهم التاريخي، في نظره، عملية إعادة تفكير فهمنا للتاريخ، وإعادة صنع، وإعادة عيش auchleben الماضي من خلال أفكار فاعلي الماضي التاريخي وتجاربهم. فالحقيقة، إذا فُهِمَت جَوَّانياً innwerden في تجربة معيشة erlebnis، تتجاوز إشكالية الذاتية باكتسابها البرهان التجريبي أرضية لممارستها "الإرلبنيس". وهو، بإنكاره ترادف الموقف "المبتعد" والموقف "الموضوعي"، يؤلِّف في آن واحد بين الموقف التجريبي وموقف التجربة المعيشة دعامة للفهم التاريخي.
ومن دون أن يعيِّن ديلتاي نطاقاً محدداً للبحث وللتحقيق، أو يقترح أساليب ميثودولوجية دقيقة، أفسح في المجال للمبدأ الكيركغوري القائل إن البحث عن الحقيقة إنما هو عمل "تقريبي لا ينتهي". من هنا التنبُّه الدائم، لدى قراءة ديلتاي، إلى التلميح إلى القصيِّ واللايقاس في التاريخ. ذلك أن الموضوع الصالح للفهم ليس جبه مسيرة التاريخ بشموليتها، بل جبه تلك اللحظات التي تتصل حقاً بمجمل حال الإنسان الوجودية.
تعود ليونة موقف ديلتاي إلى تمسُّكه الضمني بأن الفهم التاريخي، كالفهم العقلاني، أمرٌ حدسي في الأساس. فكما أن الحُجَج المنطقية أو الاستطرادية إنما هي مجرد وسائل مؤدية إلى حدس عقلاني، كذلك فإن الأدلة والبراهين إنما هي مجرد وسائل مؤدية إلى حدس تاريخي. ففي الفهم العقلاني، لدى الوصول إلى الحدس، تبدو الأسباب والحجج طرائق وأساليب يمكن إبدالها لبلوغ هذا الحدس. وحين لا يتم بلوغه تبقى هذه الأسباب والحجج مجرد معالم تشير إلى حدس يستحيل (على الأقل موقتاً) بلوغه. ويؤدي ذلك بالمؤرخ إلى القول بأن الوقائع، بما في ذلك الوثائق والأدلة جميعاً، ليست في ذاتها إلا وسائل أولية لإدراك الحقيقة التاريخية إدراكاً تقريبياً لا ينتهي.
لعل من الصواب القول إن وراء السعي المحموم، في القرن التاسع عشر، نحو البرهان العلمي، تكمن الحاجة إلى التمسك بعالم قائم على كلِّيات لا طائل منها. ولكن على شفير دوامة الشك واليأس، هنالك دائماً تباشير الأمل والرجاء. فليس في وسعنا التهرب من هذه الحقيقة التي يعجز الكائن الحي عن تجاوزها، وهي أننا لكي نحيا إنما نحيا في الزمن. ولأننا نحيا في الزمن، نُخرِج إلى حيِّز الوجود قضايا فوق قدرتنا حلُّها، ونضع أمامنا أهدافاً فوق طاقتنا بلوغها. ونحن، حين نلتفت إلى الماضي، لا نلقى وحدة تامة فيه أو دليلاً جاهزاً يسدِّد خطى وجودنا في الزمن. وفي تبديل موقفنا بإزاء الماضي، وفي إصدار حكمنا عليه أو تعليق هذا الحكم، إنما تحدونا المنهجية والتحيُّز العاطفي أقل مما تحدونا حقيقة وجودنا الموقت. لذلك حين يولِّي الشباب، يتخذ العالم العابر معنى جديداً لي. فالعالم وأنا، كلانا، قد تغير ولكن لا المعنى ولا الرجاء يُبحَث عنهما فيَّ أو في العالم، بل في العلاقة التي تقوم بيننا في الزمن. وينتهي الفكر الوجودي إلى هذه المفارقة: إننا موجودون لكي نحيا في الزمن، إنما لنرى أيضاً وقائع يومنا بمنظار الأزل.
من العسير أن نكران الإنسان، في العالم الذي خلقه ديلتاي ونيتشه وهايدغر وسارتر وكامو، لا يلقى، حيثما ذهب، إلا نفسه. قد يكون ذلك لكونه عالماً حزيناً. فباستغناء هؤلاء عن "قفزة الإيمان"، وبالتالي، عن دعواهم في رؤيا التاريخ المتعالية التي كانت من نصيب أوغسطينوس وباسكال، وَجَبَ عليهم قبول الإنسان كـ"هوى غير ذي جدوى" futile passion، كموجود وحيد في جموع لا وجه لها. ولكن علينا ألا ننسى أنهم، بالنسبة إلى عصرهم وأمام الخراب الذي أحاط بهم، لم يرفضوا الخضوع للعدمية واليأس وحسب، بل تعلَّقوا برؤية عميقة محرِّرة، هي رؤية الإنسان منتصباً، حراً ووحيداً، وسط عالم تحوَّلت معالمُه، ولكنه ظل عالماً غريب الجمال.
لنهار، الجمعة 21 كانون الأول 2001
ترجمه عن الإنكليزية: محمود شريح
كأننا لم نتوقع
عندما يحدث ما كنا نتوقع، تفاجئنا الصدمة. وكأننا لم نتوقعها. هكذا دائماً مع نهاية الطريق. وطريق ادوارد سعيد كانت طويلة وحافلة بالأحداث والعمل الفكري. التقيته للمرة الأولى في سنة 1967 بعد الانكسار. كان قد عيّن أستاذا في دائرة الأدب المقارن في جامعة كولومبيا. حتى ذلك الحين كان اتجاهه السياسي ليبرالياً كمعظم الأكاديميين الأميركيين في تلك الحقبة. الاحتلال الاسرائيلى لما تبقى من فلسطين وقيام المقاومة الفلسطينية شكلا منعطفاً حاسماً في حياته على مستوى الوعي كما على مستوى الممارسة السياسية. وعاد إلى جذوره الفلسطينية (والعربية) وانخرط في النشاطات الثقافية والسياسية التي برزت في أوساط الجاليات العربية والفلسطينية لدعم المقاومة الفلسطينية والوقوف في وجه الإعلام الصهيوني.
ما حصل له في تلك الحقبة حصل لنا جميعاً، خصوصاً نحن الأكاديميين في الجامعات الكبرى حيث تركزت نشاطاتنا التنظيمية والإعلامية. تعاونّا في هذه النشاطات كلها وبخاصة المتعلقة بفلسطين خلال العقود التالية، في المؤتمرات والتظاهرات والندوات.
من الصعب في هذه العجالة ان أعالج النواحي الأخرى الأدبية والفكرية التي أبدع فيها ادوارد سعيد وكان في طليعة جيله من الأكاديميين العاملين في هذه الحقول. ولا شك في ان كتابيه "الاستشراق" و"المسألة الفلسطينية" وكلاهما ترجما إلى العربية، يشكلان المساهمة الرائدة التي حققها ادوارد سعيد في النقد الأدبي وفي الدراسات الفلسطينية المعاصرة، بنظري ان كتاب "المسألة الفلسطينية" من حيث الدقة والعمق والأثر لا يضاهيه عمل آخر في الحقل الفلسطيني، الا كتاب جورج انطونيوس "يقظة العرب."
برحيله، ترك ادوارد سعيد فراغاً لا يمكن ملئه. لقد كان المناضل العربي الأوّل والأكثر فعالية على صعيد مجابهة الصهيونية في أميركا. وكان كذلك المفكر والناقد الأدبي الذي لم يصل إلى مستواه أي أكاديمي عربي من جيله.
الحياة 2003/09/26
كتاب " أزمة المثقفين العرب "
مقدم الحلقة: خالد الحروب
ضيوف الحلقة: د. برهان غليون: مدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون- باريس
د. هشام شرابي: جامعة جورج تاون
تاريخ الحلقة: 14/10/2002
قناة الجزيرة
- تصنيف المثقفين العرب ومدى تطبيقه على الواقع
- تأثير الحداثة على دور المثقفين العرب
- طبيعة علاقة المثقف بالسلطة
- دور المثقف العربي بين الواقع والمثالية
- أزمة المثقف العربي في دوره كجسر بين الثقافات
خالد الحروب: أعزائي المشاهدين، أهلاً وسهلاً بكم إلى هذه الحلقة من برنامج (الكتاب) "أزمة المثقفين العرب" هذا هو عنوان جليس هذا اليوم، وهو كتاب من تأليف المفكر العربي هشام شرابي.
الكتاب يحتوي على نصوص حول دور المثقفين العرب، وحول الحداثة وصدمتها، وحول المجتمع الأبوي وأزمة الخطاب العربي العلماني وغير ذلك من قضايا.
البروفيسور هشام شرابي معروف للقارئ العربي والغربي بكتاباته حول هذه الموضوعات وهو الذي ظل يهجس بها عقوداً من الزمن، أحد كتبه الأولى عن المثقفين العرب والغرب والذي صدر عام 1970 احتل موقعاً مركزياً في الأدبيات التي تتحدث عن دور المثقفين ورواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كتب أيضاً عن بنية المجتمع العربي وانتقد ما سماه نمط الأبوية أو البطركية السائد في هذا المجتمع والذي يعتبره جذر كثير من التخلف الذي يسم هذا المجتمع، حتى صارت لفظة المجتمع العربي الأبوي ملازمة لهشام شرابي.
لكن من هو المثقف العربي وما هو تعريفه؟ أهو المتعلم المطلع أم هو المثقف الأيديولوجي المبشر بمشروع للتغيير أم هو المدافع عن تطلعات الشعب ضد قمع الأنظمة، أم هو الجسر الواصل بين الثقافات الخارجية والثقافة المحلية؟ وأيضاً من هو مثقف الشعب ومن هو مثقف السلطة؟ وهل بالضرورة أن يتصف الأول بالنضالية والثاني بالتبعية؟
هذا ما سنناقشه اليوم مع ضيفين كريمين هنا في الاستوديو هما الدكتور هشام شرابي (مؤلف الكتاب ورئيس مجلس إدارة صندوق القدس، ورئيس اللجنة التنفيذية بمركز تحليل سياسات فلسطين في واشنطن)، والدكتور برهان غليون (رئيس مركز دراسات الشرق في جامعة السوربون) وهو الذي كتب أيضاً عن دور المثقف العربي إزاء النخب الحاكمة، وأيضاً عن اغتيال العقل في الثقافة العربية، وكذلك هموم الحداثة والتحديث في المجتمعات العربية، دكتور هشام، دكتور برهان، أهلاً وسهلاً بكما.
أول ما يتبادر للذهن –دكتور هشام- بعد قراءة الكتاب إنه فيه بعض النصوص تتصف ببعض القدم، يعني تم اختيارها من كتابات ساهمت فيها سواء في كتب أو مؤتمرات أو غيرها، والآن مثلاً وضعت بين دفتين هذا الكتاب سؤالي الأول: يعني ما الذي يعطي شرعية لنص قديم أن يُعاد إنتاجه في كتاب جديد؟
د.هشام شرابي: لا يوجد شرعية لشيء من ها النوع وإنما يوجد نص يظهر واقع مزدوج، النص الذي يتعلق فيَّ شخصياً من النص الأول وهو 47 إلى النص الأخير وهو 2001، كذلك هذه النصوص تعكس واقع آخر غير الواقع الذاتي، الواقع الاجتماعي تماماً كما وضعتُ هنا باختصار في المقدمة، المقالات تعكس واقعاً مزدوجاً.. مزدوجاً، واقع المراحل والتجارب الفكرية التي مررت فيها شخصياً، وأيضاً واقع الأحداث والتغيرات الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي، في النصف القرن الأخير يعني من الـ 47 للـ2001 أو 2 بالأحرى.
خالد الحروب: في المساهمة الأولى اللي هي يعني مباشرة أيضاً ولها علاقة بالعنوان أزمة المثقفين العرب، يذكر.. الدكتور برهان.. يذكر الدكتور هشام أن هناك تصنيفات للمثقفين، طبعاً هذه من الكتابات أيضاً القديمة اللي هي هناك مثقفون سلفيون يعودون إلى الماضي، ويحاولون إعادة إنتاج التراث بصيغ معاصرة، هناك طبعاً المثقفون العلمانيون وفي الوسط يقف المثقفون القوميون يعني جزءاً من هذا وجزءاً من ذاك، هل هذا التصنيف مازال قائم ينطبق على.. على شرائح المثقفين العرب في الوقت الراهن، أم أن هناك تصنيف آخر؟ وأنت أيضاً كتبت عن هذه الموضوعات وتصنيفات المثقفين العرب.
تصنيف المثقفين العرب ومدى تطبيقه على الواقع
د.برهان غليون: يعني هو أول شيء لازم نقول إنه فعلاً كان اختيار موفق فعلاً إنه تجيب الأستاذ هشام شرابي من شان مناقشة أزمة المثقفين العرب أو كتاب يتعلق بأزمة المثقفين العرب، وبالحقيقة إنه هشام هو نموذج لـ.. مساره نموذج لمسار المثقفين العرب على الأقل في نصف القرن الماضي ويمثل.. والكتاب أيضاً في نصوصه المختلفة يمثل إلى حد كبير هذا التحول في مسار المثقفين العرب واللي كان جزء أساسي أيضاً من.. من مسار الأستاذ هشام وهو بالحقيقة يعني تجسيد أيضاً لأزمة المثقفين يعني لأزمة الفكر العربي اللي بلَّش بدأ خلينا نقول من منتصف القرن العشرين لليوم في محاولة لتلمس معالم الأزمة العربية، أزمة المجتمعات العربية ولا يزال يتخبط، جميعاً لا نزال نتخبط من أجل الوصول إلى رؤية أدق ورؤية أعمق تساعد على تحويل هذه.. هذه.. هذه المجتمعات و.. والكتاب مهم.. أيضاً، لأنه بيبين أيش قد إنه بقدر ما الأستاذ هشام مهووس بالتغيير المثقف كان فعلاً مهووس بالتغيير، هون بدي أرجع بالمثقف العربي كان مهووس بالتغيير ولا يزال، لا يزال الفكرة الرئيسية عند المثقف هي التغيير، الآن ضمن إطار ها التغيير، ها الهوس العام والحقيقي والإيجابي، طبعاً يعني مش مجال للنقد السلبي، للمثقف العربي يمكن نقول إنه فيه فئات متعددة فعلاً، فيه تيارات متعددة داخل ها الفكر العربي بين المثقفين العرب، فيه هوس للتغيير في اتجاه ما نسميه بأسلمة المجتمع اليوم، يعني إذا قلنا فيه نخبة إسلامية، مثقفين إسلاميين يريدون أن يوجِّهوا المجتمع أو يعتقدون أن إعادة بناء المجتمعات بما يجعلها أكثر نجاعة وأكثر قوة وأكثر حضارة، هو التوجه نحو اتجاهات إسلامية، لتطبيق الشريعة يعني إعادة تأسيس القيم الإسلامية التي انحرفت المجتمعات عنها –في تصورهم- هناك مثقفين يتحدثون بالفعل عن.. يمكن الأستاذ هشام كمان بيمثل هون عن العلمانية مشروع للتغيير في اتجاه مجتمعات علمانية يعني تتخلى إلى حد كبير عن.. مش عن الدين، عن خلط الدين بالسياسة وخلط الدين بالحياة اليومية، ويطمحون إلى تحديث –خلينا نقول- أو أحياناً يستعمل الأستاذ هشام نفسه الكلمة، قريب من التغريب يعني قريب من إعادة استنباط -خلينا نقول –البنى الحديثة اللي ظهرت بأوروبا لكن في سياق عربي وفي بلدان عربية، فيه تيارات أخرى يعني ممكن نقول إنه كانت أكثر يسارية، ماركسية، اشتراكية وأخرى كانت أكثر ليبرالية، لكن اليوم بالوضع الراهن يمكن التيارين الرئيسيين اللي يتصادمان في العالم العربي، هو تيار المثقفين الإسلاميين وداخل الإسلاميين هناك..
خالد الحروب [مقاطعاً]: كتير أطياف.. أي نعم
د.برهان غليون: توجهات مختلفة طبعاً يعني فيه إسلاميين اليوم ديمقراطيين، فيه إسلاميين ينتمون إلى فئات كتير تقليدية وكتير سلفية وداخل أيضاً هناك تيار آخر من المثقفين اللي كان أصلهم يساري واللي كان أصلهم نصف ليبرالي واللي كان أصلهم ربما راديكالي بالمعنى الأوروبي للكلمة يعني للتغيير، وأنا بأعتقد إنه الأستاذ هشام كان منهم يعني الراديكاليين..
خالد الحروب: الجذريين.. الجذريين.
د.برهان غليون: الجذريين، كل هؤلاء التيارات تتحول اليوم إلى طيف واسع هو الطيف الديمقراطي، يعني الهدف هو أو يعتقد هؤلاء -وأنا أعتقد معهم- أن تغيير المجتمع في اتجاه أكثر ديمقراطية هو خطوة ضرورية هو ليس حلاً..
خالد الحروب: أي أكثر..
د.برهان غليون: وإنما خطوة ضرورية في اتجاه التغيير.
خالد الحروب: تيار يعني ديمقراطية أكثر من كونه مؤدلج يعني بمعطى أيديولوجي مسبق يعني إنه مثلاً مش مُعبأ مثلاً ماركسياً أو إسلامياً أو حتى ليبرالياً، دكتور هشام يعني معناه.. معنى ذلك إنه بشكل أساسي مازال الوصف تقريباً ينطبق إنه يعني فيه تيارين أساسيين، تيار مثلاً علماني وتيار سلفي، هل لو أتيحت لك إعادة النظر في هذا.. في هذا التصنيف، خاصة قد يقول البعض إنه السلفية مثلاً الوصف السلفي قد ينطبق عندك أصول الليبرالية وعندك أصولي قومي مثلاً إنه متمسك.. أو أصولي ليبرالي زي ما نسمع أصولية السوق مثلاً فعندك مثلاً، أصوليين بأطياف مختلفة، وعندك مثلاً ليبراليين بأطياف مختلفة، يعني قد نعكس التصنيف كله، يعني ما رأيك؟
د.هشام شرابي: يعني أنا المقاربة التحليلية لموضوعة المثقفين العرب وأزمتهم مبنية على تصنيف أساسي وهو أن وضع المثقف الاجتماعي والفكري، الاجتماعي والفكري يعني الانتماء لمجتمع معين في فترة معينة وتوجه إيديولوجي، هذا التصنيف، هذه المقاربة تجعلنا نرى أن في القرن.. نصف القرن الماضي –اللي بيتناوله الكتاب- حدث تغيير أساسي في تركيبة المثقف وفي اتجاهه، وبالتالي في دوره الاجتماعي، وهو بنظري أهم شيء اليوم، خليني أعطي مثل دقيق، يعني عندما كتبت أول مقالة على الموضوع بالأربعينات أو الخمسينات المثقفون العرب في نصف القرن كان طه حسين والعقاد، توفيق الحكيم، يعني أشخاص يمثلوا ذروات أساسية قلائل، المثقف كان شيء فذ، كاتب كبير، مؤلف أو شاعر أو.. كانوا منهم أطباء ومحاميين، توجهاتهم كانت مبنية على خلفية الأيديولوجية النهضوية، وكانت واضحة من حيث السلفيين، من حيث العلمانيين، سلامة موسى إلى آخره، وأيضاً من حيث الحداثة أول واحد حكى بالحداثة مضبوط هو طه حسين، هلا بعد خمسين سنة، هذا.. هذا التصنيف أو هذا الـ Categorization.، للمثقف العربي، لم يعد يصلح إطلاقاً ما عادش فيه مثقف مثل طه حسين، نوعيةً وعدداً ووظيفة، نحن هلا فيه عندنا حوالي 200 جامعة في العالم العربي سنة الـ 50 يمكن كان فيه 3 أو 4 جامعات، ما حدث إنتاج المثقف على الصعيد الاجتماعي أصبح المثقفون جمهور قوة فاعلة المجتمع من حيث إنها عددياً ضخمة، هلا مثل ما قال الدكتور برهان حدث من الستينات إلى الوضع.. الوقت الحاضر على صعيد الأيديولوجيا تغيير مماثل يعني الحركات المختلفة التي رافقت الناصرية واليسار والشيوعية والإخوان المسلمين، كل هذه الحركات في آخر القرن أصبحت بالنسبة للمثقفين لم تعد تحددهم to define them فاليوم نحن الآن نتعامل مع.. مع قوى جماهيرية مش بالمعنى العددي المطلق مثل الجماهير الشعبية، إنما أعداد ضخمة من أناس نساء ورجال مؤهلين بشكل خاص لتحليل المجتمع وقضاياه، تكوين رؤية لما يجب أن يتجه فيه هذا المجتمع على الصعيد السياسي والاجتماعي، وبناء خطاب نقدي.. نقدي لمكافحة الوضع الراهن على صعيده السياسي والاجتماعي والفكري.
تأثير الحداثة على دور المثقفين العرب
خالد الحروب: إذن يعني الشيء الذي يجب أن نتوقف عنده في هذه الصيرورة تحول المثقفين من أعلام أو أقطاب كبيرة نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، طه حسين، إلى شريحة إنه صار فيه عندنا يعني تغير كبير تغير جوهري في.. في.. وهذا بينعكس على تغير دور المثقف، يعني دائماً هذا الأطروحة الكبيرة، ما هي دور المثقف؟ طب إذا المثقف نفسه تحول من.. من طليعة فردية إلى شريحة، هل هذا يعني يميع من دور المثقف –برهان- أم إنه يدفع فيه باتجاهات جديدة أو إلى أي مدى؟
د. برهان غليون: مهم.. مهم كثير إنه.. إنه واحد يشوف التغير دا والمثقف فعلاً بالبلدان العربية، هلا العنصر اللي ذكره الدكتور هشام صحيح إنه.. إنه توسعت قاعدة المثقفين يعني كانت أقلية صغيرة وأقلية نافذة لكن صغيرة، ومرتبطة بالقرار، يعني كانوا أصلاً منتمين لعائلات كبيرة، منتمين.. وقادرين إنه يؤثروا بالقرار السياسي وقريبين من العائلات السياسية، لأنه كانوا قريبين أيضاً من أصحاب القرار.. من العائلات أصحاب القرار، الآن صار المثقفين ثلاثة أرباعهم من أصول شعبية وفلاحين وإلى آخره، وإذن عندهم النفسية أيضاً مختلفة وإيش..، لكن أنا باعتقادي اللي أثر على دور المثقفين مش فقط توسع القاعدة، أهم من ذلك بكثير هو إنه ببلدان مثل بلداننا المثقف ارتبط فيها فعلاً بمشروع الحداثة تحديث الدولة والمجتمع، أصلاً ما كان موجود قبل ما يصير فيه فكرة التحديث، وارتبط بمشروع التحديث وكان الديناميكي له يعني الفاعل الرئيسي إله ليش؟ لأنه التحديث فكرة أتت من الخارج ليس من نمو نمط إنتاج رأسمالي وتقني حديثي داخل المجتمعات، الفكرة آتتنا لأنه شفنا مجتمعات أخرى أكثر تقدماً تكنولوجياً وعلمياً منا، فتأثرنا من الخارج، وحامل الفكرة الرئيسية هو المثقف، يعني المثقف لعب دور أساسي أول شيء في إدخال فكرة الحداثة، لعب دور أساسي في نشرها، وتطويرها، ثم لعب دور أساسي منذ أول القرن العشرين في بناء الأحزاب السياسية نفسها محمد عبده وغيره كانوا والحركات الإصلاحية وكل الحركات السياسية كانت مبنية من قِبَل المثقفين بما فيها الحركات القومية، والحركات الماركسية والحركات الاشتراكية، كلها هي عمل مثقفين لأنه الطبقة البرجوازية –خلينا نقول- المعتمدة على وجودها الاقتصادي ضعيفة وهشة وما عندها تفكير وتبحث عن الربح ولا تزال طبقة رجال الأعمال في بلادنا يعني طبقة بدون وعي، طبقة بدون وعي سياسي، بدون وعي، بدون اهتمام بالشأن العام، ولذلك المثقف كان إله دور استثنائي في تحريك المجتمعات، في بناء الأفق السياسي في بناء الحقل السياسي، في تشغيل الحقل السياسي، شو صار من.. من الستينات؟ اللي صار إنه من الستينات إنه المثقفين اللي شاركوا بالأحزاب، مثل البعث والناصريين والماركسيين وكلهم..
خالد الحروب: الحركات القومية المعروفة.
د. برهان غليون: دخلوا.. دخلوا.. أخدوا سلطة، يعني بعض الأحزاب أو أكثر الأحزاب اللي المثقفين كانوا على رأسها ودفعوا وأخذت نجحت إنه فيه تأخذ سلطة بانقلابات عسكرية أو بغيرها، خلال وجودهم بالسلطة صار فيه فرز، البيروقراطية أخذت بالحقيقة السلطة يعني أكثر فأكثر جزء من المثقفين تحولوا إلى البيروقراطية بالإدارة وبأجهزة الأمن وبالاقتصاد، وأصبحوا يدافعوا عن مصالح كثير مرتبطة بوجود النظم الراهنة ويدافعوا عن الديكتاتورية وعن الاستبداد وعن كل شيء، وبنفس الوقت صار عندهم رغبة في تنحية المثقفين جانباً، من الستينات لليوم الأنظمة اللي حصلت اللي نشأت في العالم العربي، في مصر، في سوريا، في اليمن، في العراق، في كل البلدان، كان هدفها الرئيسي هو عملياً إعدام المثقفين، بأي معنى إعدامهم يعني مش إعدامهم شنقاً بالمقاصل وإنما..
خالد الحروب: لكن برهان.
د. برهان غليون: استثناء.. إخراجهم من الساحة وتسكيتهم وإخراسهم حتى يمكن ضبط النظام كما هو..
خالد الحروب: لكن إذا يعني هذا.. هذا..
د. برهان غليون: لم يعد لهم دور سياسي، صاروا عبارة عن أنبياء في الصحراء يصرخون في الصحراء أكثر من أي شيء ثاني.
طبيعة علاقة المثقف بالسلطة
خالد الحروب: لكن هذا طبعاً يعني هذا بيطرح سؤال يعني كبير يعني دكتور هشام إنه المثقف الذي يعني كان يعني مبشراً بأيديولوجية معينة أو بحركة حزبية وهذه الحركة الحزبية وصلت إلى السلطة ثم تحول هذا المثقف من.. من مثقف إلى رجل سلطة، بيطرح لنا هذه الإشكالية، ما هي علاقة المثقف بالسلطة؟ هل المثقف يجب أن يكون دائماً على الصف المعارض للسلطة، ناقد للسلطة أم أن المثقف ممكن أن يكون صاحب مشروع نقد باتجاهين باتجاه السلطة وباتجاه المجتمع؟ وحيثما يتوجه النقد يعني بضمير حر بنوع من..، وهذه الأوصاف يعني إنه مثلاً الشرطة –عفواً- السلطة اشترت هؤلاء المثقفين فأصبحوا مثقفو سلطة وإحنا يعني في التاريخ العربي الإسلامي، علماء سوق يعني حتى علماء الدين يعني علماء سوق وهذا عنده تاريخ في كل ثقافة من الثقافات، أين هو موقع المثقف من السلطة؟
د. هشام شرابي: هذا.. هذا الموضوع أساسي جداً ودائماً موجود، إنما تغيير طبيعة السلطة وطبيعة المجتمع اللي نحن فيه الآن، هو في صميم الأزمة التي يواجهها المثقف، والأزمة هذه ناتجة عن إنه ما حدث في المجتمع العربي من.. بكامله بكل مجتمعاته القُطرية إنه بعد انهيار الأحزاب الأيديولوجية وبعد انتهاء الناصرية بالسبعينات وإلى آخره، وبعد هجمة الأموال النفطية والاتجاهات الاقتصادية والسياسية، صفَّى المجتمع العربي مؤلف من جماهير ما عادش فيها بأي معنى دقيق طبقة وسطى، وطبقة حاكمة تملك كل السلطة وكل الثروة، وها الشريحة التي تقف بينهما.. فوقهما.. فيهما وهي المثقفون اللي واعيين، اللي عندهم نظرة نقدية، اللي عندهم قدرة على تأمين أمورهم الخاصة ودخول ها الطبقة الحاكمة والثرية والعمل معها، أو بالعكس مجابهتها فبعد.. بعد القضاء على الأحزاب اللي كنت عم بتحكي عنها، إعدام المثقف، لم يعد هناك أحزاب تأخذ وتعطي مع.. مع الحاكم يعني –على القليل- الأحزاب حتى الوفد حتى الأشياء المحافظة الليبرالية كانت تخلق نوع من الجسر بين الشعب وبين الحكام، الآن لا يوجد إلا فراغ بين الجماهير الشعبية والحكام، فدور المثقف مثل ما بأشوفه مفروض عليه بسبب هذا.. هذه التركيبة الاجتماعية السياسية، أنا.. أنا بدي أسألك أنت كيف بتشوف دور المثقف ضمن هذا السياق؟
د. برهان غليون: بس.. بس بدي.. بدي أصلح بس هاي الفكرة اللي يمكن فهمها عنى غلط خالد.
خالد الحروب: اسمح لي قبل بس ما أتيح المجال لكن حتى نتابع هذا الخط السلطة، إن بعض المثقفين أيش يعني عندهم هذا الطرح، يقول لك يعني أنا مخلص لقضايا المجتمع، عندي موقف نقدي من السلطة، لكن مساهمتي مع السلطة قد تكون من موقع إصلاحي إنه أستطيع أن أساهم مساهمة يعني تحسن الظروف التي سوف تعود على المجتمع يعني بنوايا حسنة ومن نوايا..
د. هشام شرابي: بدي أقاطعك بس -بين هلالين- نحن الآن في أزمة لا.. لا يمكن أن يكون موقف المثقف بهذه الرفاهية الفكرية إنه يقعد ويعطي نظريات وأفكار، المجتمع العربي الآن أزمته تحدد بمعنى أن مصيره مهدد، مصير المجتمع العربي بكامله مهدد، فإن لم يحدث تغيير جذري في العلاقات الأساسية للأنظمة الاجتماعية والسياسية، نحن نسير إلى الهاوية، هلا الحرب العراق راح تحدث، هشاشة هذه المجتمعات سيكون.. ستكون السبب في انهيارات لا يمكن التنبؤ فيها، لذلك عم.. عم بأسأل الدكتور برهان يعني الشيء المحوري هلا إنه نحنا شو لازم تكون مسؤوليتنا؟ شو لازم يكون عمل المثقف على صعيد الرؤية والفكر، وأيضاً على صعيد الممارسة الاجتماعية والسياسية؟ وطبعاً أعني تلك الفئة بين المثقفين اللي موجودين بالداخل والموجودين بالخارج مثلنا هو الالتزام، نحن.. أنا بأعتبر نفسي، بأعتبر الدكتور برهان مثقف ملتزم، لذلك لرأيه.. لموقفه الآن أهمية كبرى، ما بيهمني اللي قاعد عم بيعمل كتب وعم بيعمل نظريات، الآن في سياق هو سياق مجتمعنا ومستقبلنا في خطر.
خالد الحروب: طيب برهان، يعني مازال السؤال قائم، يعني إذا كان هذا المثقف الملتزم يعني إذا استخدمنا تعبيرات (أنطونيو جرامشي) المثقف العضوي الملتزم بقضايا المجتمع والطالع منها، إذا أراد أن يكون حراً ويتسق مع ضميره، ويقول كلمة النقد كاملة، هناك أيضاً فيه مساهمة عن المثقف وقول الحقيقة، هو عملياً سوف.. سوف لا يصل صوته إلى هذا المجتمع الذي يريد أن يساعده، سوف يحرم من الإعلام، يحرم من الصوت، يحرم من.. من أن يستضاف في مثل هذه الجلسات - مثلاً - إلى غير ذلك، فالمثقف أمام إشكالية كبرى، إما أن يقول نصف الحقيقة وأحياناً ربعها، يعني مثلاً برهان بيروح على سوريا أو على أي بلد آخر، يعني هل يستطيع أن يقول ما يقوله في باريس؟ إذاً هو بيقدم نوع من المساومات يعني بالمعنى الإيجابي، إنه هو يقول نصف الحقيقة، لأنه أفضل من ألا يقول الحقيقة كاملة، إذا قالها كاملة، فلن يستطيع أن يقولها مثلاً في هذا المجتمع أو ذاك، فأين هو موقع المثقف –برهان- يعني بغض النظر عن استشهادي فيك؟
د. برهان غليون: بغض النظر عن المثال الشخصي، لأن أنا بأعتقد الحدود الجغرافية ما عاد لها معنى على الإطلاق، عم نحكي هون نحن بسوريا عمليا أو إذا كنا بسوريا عم نحكي بالخارج، يعني ما.. ما عاد فيه حاجة واحد يعمل مساومات.
خالد الحروب: صحيح.. صحيح.
د. برهان غليون: لا أنا ولا غيري يعني بأعتقد، هذا اعتقادي، لأن الأمور صارت واضحة مثل ما عم بيقول الدكتور هشام تماماً نحن في لحظة حقيقة مصيرية، وكل إنسان عليه مسؤوليات، اللي ما.. والمسؤوليات بتعني بالنسبة إلنا نحن كمثقفين بالدرجة الأولى إنه الواحد يقول رأيه الفعلي، يعني ما يجامل برأيه وقت اللي بيشعر، هاي المسؤولية الحقيقية، لأنه نحن لا عندنا جيوش ولا.. ولا دبابات ولا مدفعية نغير فيها، نحن نغير بكلامنا، فكلامنا لازم يكون على الأقل كلام صادق، يعني هاي.. هاي جزء أساسي، هلا بدي أرجع بس من شان نقول شو دور المثقف، وشو مشكلة المثقف، وشو المشكلة الرئيسية المطروحة اليوم.
أول شيء عنصر أول، المثقف عندما نتحدث عن المثقف لا نتحدث عن مجموعة أفراد ولا عن فرد، نتحدث عن فئة اجتماعية تلعب دور اجتماعي، لعبت دور اجتماعي في فترة ضمن إطار حركة اجتماعية، المثقف مش موجود بالفراغ، ضمن إطار حركة اجتماعية ومع قوى اجتماعية أخرى، اللي حصل قلت أنا من الستينات هو شو؟ هو إنه فئة من أفراد من فئات النخبة.. النخبة الاجتماعية، البيروقراطية في بعض البلدان، البيروقراطية بالتحالف مع شوية رجال أعمال في البلدان الأخرى استأثروا فعلاً بالسلطة وبالقرار، ومن أجل يضمنوا ها الاستئثار حذفوا المثقفين كلياً، وطردوهم من خارج أي لعبه، من أخذ.. حتى حق التعبير ألغوه، وهناك بلدان ممنوع فيها حق التعبير، تعبير مراقب، يعني كل واحد بده.. بده يعطي صورة عن الكلام اللي بده يقوله لأجهزة الأمن، ففيه فئة من النخبة الاجتماعية اللي هي أهم عنصر في بلورة الفكرة، بلورة الرأي، بلورة التصورات للمستقبل، بلورة الحلول أخرجت من بره، من شان هيك دخلنا في أزمة كبيرة داخل السياسة، يعني حذف المثقفين أدخل السياسة نفسها في أزمة لأنه صارت سياسة براجماتيكية يومية ما فيها أي تفكير، ما فيها أي إنضاج، ما فيها أي شيء، الآن إذا قلنا شو وضع المثقفين اليوم وشو المنشود منهم؟ اللي هو السؤال تبع دكتور هشام، شو وضع المثقفين اليوم؟ مش صحيح إنه كلهم انتهازيين وكلهم يلتحقوا السلطة، على الإطلاق أنا من الناس اللي بيعتقد إن المثقفين العرب قاوموا مقاومة كبرى، وكان فيه شيء لازم نسميه محنة المثقفين، اعتقل القسم الأكبر من اللي اعتقلوا كانوا مثقفين، القسم الأكبر ممنوعين من الكلام والمثقفين اللي محرومين من جوازات سفرهم مثقفين..
خالد الحروب: اللاجئين السياسيين..
د. برهان غليون: اللاجئين السياسيين مثقفين، أكثر طبقة.. أكبر فئة اجتماعية أهينت واضطهدت وامتحنت بالمعنى السلبي للكلمة كانت في الـ 20 سنة الأخيرة أو الـ 30 سنة الأخير المثقفين، قسم منهم صغير جداً تافه جداً مشي مع الأنظمة وصار يطبل للأنظمة صحيح، بس قسم كبير بقى بره، وقسم تالت صار يشتغل شبه خبير، يعني عمل حالة تقني، إنه إحنا ما لنا علاقة بالسياسة، السياسة بيقرروها الضباط وأجهزة الأمن والمسؤولين والحزب الحاكم، أما نحنا في مشكلتنا بنعطي أمور تقنية أو خبرة، معلش هذا كان يمكن إنه يحصل في أي بلد أو في أي مجتمع في العالم، إنما اليوم السؤال التاني: اليوم المشكلة هي إنه المثقفين مشتتين مفتتين ما عندهم سلطة، ما عندهم اعتراف، نجحت السلطة البيروقراطية في أنه تجعلهم كبش فداء يعني ضحية، بمعنى إنه هم المسؤولين على ما حصل، كل.. وقت اللي صارت أزمة العراق حرب الخليج، وقت اللي صارت بيقولوا هاي السبب هو المثقفين شوفوا المثقفين شو بيحكوا إلى آخره، مش السبب هو..
خالد الحروب: طب شوف برهان.. برهان.. أي نعم.
د. برهان غليون: عدم.. عدم قيام الدولة، عدم قيام السلطة والأحزاب السياسية بدولهم، -بس خليني أكمل هون- اتهم فيها المثقفين، الهدف تماماً هو إخراج المثقفين من أي لعبة سياسية من أجل تبرير الفشل ووضع الفشل على.. على كاهل المثقفين، دور المثقفين اليوم هو إنه يكسروا هذه الحلقة المفرغة لإخراج المثقفين كنخبة.. كجزء من النخبة من الحياة السياسية، ويدخلوا كقادة هم، وهذا اللي عم يحصل بالواقع، أنا ما عم أجيب شيء كقادة للعمل الديمقراطي وللتحويل الديمقراطي داخل البلدان العربية، وهذا يحصل بالفعل.
دور المثقف العربي بين الواقع والمثالية
خالد الحروب: طيب.. طيب برهان، إذا سمحت لي يعني ما.. يعني.. يعني في دور المثقف هذا الدور يعني المأمول والطليع، دكتور هشام، يعني فيه سجال الآن حديث في –على الأقل يعني- في.. وفي الأوساط الغربية المهتمة بهذا الموضوع، إنه يعني دور المثقف بشكل عام في العالم كله يعني صار ضئيلاً وضعيفاً أخذاً بالاعتبار كل وسائل الإعلام هذه، التليفزيونات، الإعلام الفضائي، الإنترنت، كل هذا الضخ الذي يتوجه إلى الرأي العام واللحظي، ليس فقط اليومي على مدار الـ 24 ساعة هذا هو الذي يشكل العقل الجماعي والآراء العامة، أين هو دور المثقف؟ المثقف مسكين، ليس نبي عنده قدرات خارقة، يعني قد.. ربما كان له دور في السابق، ربما عندما كان مثلاً في القرون السابقة إمام مسجد مثلاً، أو في فرنسا يعني في بدايات القرن العشرين في قضية (إدريافوس) أو إلى آخره كان عنده دور إنه إذا قال الناس سمعوا له، لكن الآن أمام هذا الزخم الإعلامي، أين فعلاً من ناحية عملية بحتة ماذا يستطيع أن يفعل المثقف؟
د. هشام شرابي: إذا كان ركزنا على مقولة الدور أنا بنظري دور المثقف في مجتمع مثل مجتمعنا العربي اليوم أهم بكثير من دور المثقف في أميركا أو في فرنسا مثلاً بالمجتمعات النامية، هلا إذا قام المثقف بهذا الدور أو عجز عن القيام به موضوع آخر، من حيث أهمية دور المثقف أنا بنظري في هذه الفترة الحاسمة هذا المنعطف هو دور بغاية الخطورة لمجتمعنا، لمستقبلنا، لذلك بس والأزمة، طيب عندما يجابه أشخاص أفراد وشرائح نسميها مثقفة بهذا الواقع إذا كان اللي عم بأحكيه مضبوط معناه فيه أزمة هائلة، ما.. ما العمل؟ ما العمل؟ هذا هو السؤال الأساسي، هلا ما عادتش الأولوية إلى التحاليل التاريخية والسياقات الاجتماعية فقط، إنما من حيث المساهمة المباشرة.. المباشرة والممارسة الاجتماعية للمثقف، مثلاً إذا كان أخذنا (بول بودييه) اللي هو بنظري يمثل أهم مثقف عالم اجتماع، ما يقوله له علاقة بواقع مثل واقعنا، وهو يصب على الشيء اللي عم بأقوله، على النقد، على الممارسة، على الدخول في العملية الاجتماعية.
خالد الحروب: طيب برهان، فيه سؤال أيضاً عملي، يعني.. يعني حتى إنه نحاول ننزل الكلام إلى.. إلى التطبيق العملي إنه على ضوء المناقشات بعض الطروحات حول المثقف يعني من عند (جوليان بندانا) أحياناً إدوارد سعيد بيرسم صورة مثالية للمثقف، صورة خارقة فعلاً وصورة إن المثقف الحر المثقف الكوني الذي يعني يتحدث بالنقد من دون أي تحديدات، من دون أي ضوابط، يقول ما يمليه عليه ضميره ورأيه في أي مكان في أي زمان، لأن هذا الكلام جميل، لكن من الناحية العملية فيه.. فيه قيود، فيه ضوابط، فيه.. فيه تحديدات، فيه عناصر تدخل على المعادلة، فيه الرزق المعيشي، هذا المثقف بده يعيش، بده يأكل، فيه عنده أولاد، فهو إذا قال كل ما عنده عملياً يعني خسر خسارات حياتية على المستوى.. على المستوى الحياتي، حتى (روجية دوبريه) يعني فيه أحياناً يعني بيقول يعني كلام مثالي هذا المثقف المنطلق من كل.. من كل حدود، الآن على صعيد المثقف العربي يعني أين هي.. أين هو الحظ الذي ممكن أن نرسمه بين أن يحافظ هذا المثقف على مصداقيته أمام جمهوره وأمام.. أمام المجتمع وفي نفس الوقت يعني أن.. أن يقول يعني نصف أو تلات أرباع الحقيقة أن يقولها..
د. برهان غليون: أنت مُصِر على أن يقول نصف الحقيقة.
خالد الحروب: أنا مش.. مش أنا حابب يقول الحقيقة كلها لكن أنا يعني واقعي يعني أنا بأشوف المثقفين العرب في الساحة اللي موجودة..
د.برهان غليون: لأ.. لأ أنا.. أنا اسمح لي أقول لك إنه بالفعل.. بالفعل المناخ العربي اليوم اختلف كتير، اختلف بأي معنى؟ بمعنى إنه هناك عطش، فيه تربة عطشانة فعلاً بالمجتمع بأقصد، لا ناس بيتحدثوا باسمها، لا ناس يعيدوا يذكروها بالمفاهيم والقيم السياسية والديمقراطية والإنسانية، لأنه فيه بعض.. في بعض الملامح مجتمعاتنا دخلت بما يشبه الهمجية في التعامل مع المواطن، يعني بعض الأنظمة بتتعامل مع المواطن كأنه أي شيء، كأنه شيء.. كأنه شيء يعني مادة، أو غرض.. شيء جامد.
تغير دور المثقف، ومازال إله دور كبير، اتغير بالنسبة للبلدان الأخرى أول شيء، صحيح إنه فيه.. فيه ناس ممكن يكونوا مثل ما تصور إدوارد سعيد، وكأنه.. إنه ناس أنبياء أو.. أو شبه ضمير.. ضمير على الأقل عالمي، مش فقط ضمير محلي، لكن في بلدان مثل بلداننا بالحقيقة ينقصها الكوادر السياسية، ينقصها الكوادر الإدارية، ينقصها الطبقات المتبلورة وذات التقاليد السياسية، المثقف في النهاية هو اللي عم يكون مبلور للوعي الاجتماعي، هو اللي.. ما.. ما إذا.. سواء فعل أو ما فعل، إذا ما فعل بيكون مبلور سلبي، إذا فعل بيكون مبلور إيجابي، يعني هو اللي عم يملِّي.. يملأ الفراغات المختلفة الموجودة. اليوم المجتمع أهم دور بالنسبة إلى.. إلنا مثلاً في العالم العربي شو عم يعمل المثقف اللي عم.. عم يدرك دوره ويعي ذاته إلى حد كبير؟ عم يشتغل مع المجتمع المدني لإحياء التجمعات للمجتمع، عم يدخل.. عم يشتغل لإحياء المجتمع اللي قتلته أنظمة اعتمدت على الدولة وقطعت الدولة عن المجتمع، هو عم بيحاول إنه من خلال المجتمع، وإحياء المجتمع المدني إنه يوصل لشيء. الآن ممكن إنه يساوم بأي معنى، بمعنى إنه.. إنه مش إنه مبادئه تكون نصف مبادئ ديمقراطية، نصف يعني.. نصف مبادئ بالحرية، نصف مبادئ بالعدالة، لأنه قول..
خالد الحروب: لأ المبادئ إحنا متفقين على إنه التعبير عنها.
د.برهان غليون: لأنه نحن مش أنصاف بشر، نحن بشر مثلنا مثل غيرنا، ما بنختلف عن غيرنا على الإطلاق، إنما ممكن يساوم بأي.. ما.. ما بنسميه مساوم بها الحالة، ممكن يكون مرن، بمعنى إنه نحن عندنا برنامج ديمقراطي، المساواة الكاملة بين المواطنين، المساواة الكاملة بين المرأة والرجل، المساواة الكاملة بين بدون ذكر أقلية، بدون.. بين الأديان المختلفة إلى آخره، أو أبناء الأديان، هذا ما أعني مثل هاي المبادئ إنه بنحقق ها الشيء بسنة أو سنتين، أو نتحاور بأحسن الوسائل لتحقيق الديمقراطية، هذا ممكن، أما يعني.. يعني بها المعنى فيه مجال للأخذ والعطا، وليس اليوم فيه.. لا.. لا يمكن أن يكون اليوم فيه نقاش حول نمط المجتمع العربي المنشود، يعني نمط ديمقراطي حقيقة يعترف بالمواطنية، يعترف بحقوق الفرد، يعترف بحقه في التعبير في العدالة، فيه قانون، فيه دولة قانونية، هذا الشيء المحرومين منه.
خالد الحروب: يعني خلينا نحكي التمسك بجذرية المبدأ، لكن مرحلية التطبيق حتى.. طيب..
د.برهان غليون: ضمن ظروف الحوار، لأنه أحياناً ممكن واحد يقول لك لأ أجلها 10 سنين، ليش؟
خالد الحروب: أي نعم. دكتور هشام..
د.برهان غليون: بدي أفهم ليش لازم أجل تطبيق القانون ودولة القانون، و.. لـ5 سنين؟
خالد الحروب: حسب.. حسب السياق.. حسب السياق المطروح.
د.برهان غليون: ليش ما اليوم ليش بأعمل دولة قانونية بمعنى الكلمة؟ يعني مش المساومة للمساومة، أو المرونة، للمرونة لتطبيق المرونة بهدف الوصول إلى الهدف، يعني للوصول أفضل للهدف.
خالد الحروب: طيب خلينا، يعني دكتور.. إذا سمحت لي برهان.. الدكتور هشام، فيه يعني فصل أو حتى أكثر من فصل حقيقة يعني، اللي هي تتحدث فيه عن المجتمع العربي، البنية الأبوية فيه، ودور المثقف في نقد هذه البنية، الآن إذا المثقف انتقد هذه البنية، وانتقدها أيضاً بصرامة وشراسة، يشعر بالغربة والاغتراب عن هذا المجتمع الذي يريد أيضاً أن يدافع عن قضاياه، وهو أيضاً مغترب بالأصل عن السلطة، فلذلك يشعر بوحدة كلانية، أين يقف المثقف من نقد.. من نقده المزدوج للمجتمع والسلطة، وقد يشعر فعلاً بالتهميش والاغتراب الذاتي؟
د.هشام شرابي: يعني مش مهم شو بيشعر المثقف، المهم هو شو بيعمل المثقف، وبالأخير ما فيه قاعدة أو.. أو روشتة شو لازم يعمل المثقف، لأنه كل واحد على.. على.. كل فرد، كل مجموعة عندها ظروف خاصة، وأوضاع خاصة، أنت قلت الأشياء المعيشية، هذا دائماً دائماً قضية جوهرية، كيف بده يعيش المثقف بمجتمع مثل مجتمعنا، مجتمع نفطي من ناحية، مجتمع فقير معزول من ناحية تانية؟ يعني بدنا نقطع من كل من خلال كل هذه الصعوبات ونركز على الأزمة، على المنعطف، لذلك نقول إنه جواباً على سؤالك هو الظروف هي التي تقرر للمثقف الذي حاز على رؤية نقدية، معرفة موضوعية لما يجابه هذا المجتمع، وبنفس الوقت بيشعر بمسؤولية والتزام وقدرة على القيام بأعمال معينة، بدنا نحكي بالأشياء المحسوسة، (الإمبريكال).
خالد الحروب: التطبيقية، ممكن تطبيقها.. نعم.
د. برهان غليون: تجريبية، اختبارية اللي هو..
د. هشام شرابي: ولازم نعمل فصل بين التحليل المجرد التاريخي التحليلي الفكري، والممارسة اللي بتقوم على استراتيجيات صغيرة، بلبنان شيء، بسوريا شيء، بالأردن شيء، بمصر شيء آخر، مع العلم إنه فيه إطار يجمع بيناتهم كلهم، هلا إن إحنا مقبلين على انهيار، ما بأعرف شو كيف شكله.
خالد الحروب: تقصد للحرب ضد العراق أو كذا.
د.هشام شرابي: مش.. إذا وقع.. وقعت الحرب.
د.برهان غليون: وإذا ما وقعت.
د.هشام شرابي: وإذا ما وقعت.
برهان غليون: مقبلين على انهيار لأنه إذا ما.
د. هشام شرابي: لا.. لا.. لا نزال.. لا نزال بنفس الأزمة.
خالد الحروب: إحنا نعيش الانهيار يعني.
د.برهان غليون: لأ.. لأنه نحن في أوضاع هشة جداً.
خالد الحروب: الانهيار داخل انهيار.
د.هشام شرابي: فهذا المنعطف التاريخي، شو ما يحدث فيه من قوى خارجية تتدخل، شو ما يبيت لنا الإسرائيليون اللي قاعدين بقلب العالم العربي، نحن علينا مسؤولية كبرى إزاء شعبنا، إزاء تاريخنا، إنه نفسر الأمور، نفسر الخطر، نحط الدوائر الحمر، نخلق خطاب يظله مستمر و.. وقائم، مش كل مرة بدنا نعطي الحلول من A .. A لـ Z ، وبعدين نشغل بممارسات محدودة، العمل المحلي مش كل شيء على صعيد الوطن العربي.
أزمة المثقف العربي في دوره كجسر بين الثقافات
خالد الحروب: على صعيد العالم العرب..
طيب دكتور هشام، فيه يعني الوقت الحقيقة أدركنا، يعني معنا مجال لتعليقين سريعات، لكن.. اللي هو هذا المثقف إذا تواصل يعني مع الثقافات العالمية وأراد أن ينقلها إلى الثقافة المحلية، ولعب هذا الدور ولو جزئي كجسر للثقافات وكذا، يُتهم بأنه تغريبي، وأنه يعني يعمل على تغريب المجتمع، وأنه مثلاً متغربن أو حتى متأمرك، إلى آخره، كيف نواجه هذه الأزمة دكتور برهان؟ هذا الاتهام العصيب من المجتمع الذي يعني ينتمي إليه هذا المثقف؟
د.برهان غليون: بس.. بس أول النقطة الثانية اللي ما أجبنا عليها، لازم نميز بين المثقفين المفكرين وبين المثقفين كقاعدة اجتماعية كبيرة، بما يتعلق بتأمين الحياة وكذا.
خالد الحروب: استجابة.. المغزى المعنوي.
د.برهان غليون: فهادول القاعدة الكبيرة ما هي اللي.. ضروري إنه تعلن دائماً عن مواقفها وبتتحمل النتائج، يعني تعلن يومياً مثل ما بيعلنوا الكبار.
هلا.. فيما يتعلق.. فيما يتعلق بموضوع الأخذ عن الغرب والاتهامات، كل إنسان بيقوم بقضية، بُيتهم بـ.. يمكن أن يتهم من الطرف الثاني المعادي للقضية، مش مشكلة الاتهام، وأنا بأعتقد إنه اليوم ما عاد.. ما عاد مطروح إنه يُتهم مثقف إذا كان فعلاً ما إنه غربي، يعني اليوم بيتهموا الناس بأنهم ينقلوا أفكار الغرب، وقت اللي بيسلكوا بسلوكهن ما.. ما يؤكد إنهم عم يتعاملوا مع الغرب، أو عم يدعموا مواقع ومواقف و.. مواقف الغرب، يعني بشكل من الأشكال، أما عندما يكون..
خالد الحروب: وتحديداً المواقف السياسية يعني..
د.برهان غليون: سياسية.. سياسية تماماً..
خالد الحروب: يعني صار فيه تفريق، يعني حتى عند الجمهور العام...
د. برهان غليون [مقاطعاً]: أو حتى فكرياً..
خالد الحروب [مستأنفاً]: بين الموقف الحضاري والموقف السياسي.
د.برهان غليون: بينقلوا.. إذا بينقلوا نقل.. نقل حرفي، وبدهم يفرضوا نموذج غربي على المجتمعات العربية، طبعاً ما فيه شك إنه الناس هيشعر الجمهور إنه.. إنه هادولا عايشين بره، وعايشين بره بمعنى إنه فكرهم عايش بره، إنما اليوم إنسان عنده وعي عقلاني ونقدي، ومع التغيير الديمقراطي، وبيقوم بواجبه لا يتهم إطلاقاً، ما فيه أي سبب إنه يتهم أو يكون..
خالد الحروب: طيب.. طيب تعليق أخير من الدكتور هشام على هذه النقطة، قصة يعني دا اتهام المثقفين خاصة اللي في خارج المنطقة العربية بإنهم يعني متغربنين ويريدون أن يغربنوا هذه المجتمعات.
د.هشام شرابي: صراحة أنا ما بيهمني الاتهام، بيهمني الواقع، نحن الآن أمام واقع إزاء علاقتنا بالغرب، واقع يشبه أقصى زمن الاستعمار الأوروبي والاستيطان الأوروبي في بلادنا، وفي العالم الثالث. نحن الآن نجابه أوروبا، أنانية قذرة بالنسبة لعلاقتها في العرب والإسلام. نحن نجابه الدولة الكبرى في العالم، تقوم وتُعد لحملة مستمرة عسكرية، اقتصادية لكسر إرادتنا في العالم العربي والإسلامي، واستعمارنا عن جديد. هلا شو.. شو ها الرفاهية الفكرية إنه غرب وتغريب وما تغريب، عم.. عم ناويين إنه الشر الأكبر.
خالد الحروب: أي نعم.
د.برهان غليون: على كلٍ.. على كلٍ يعني بكلمة فقط.
خالد الحروب: 30 ثانية يا برهان.
د.برهان غليون: الرأي العام اليوم يدرك من هو مدافع عن المشروع الغربي، ومن الذي يدافع فعلاً عن مشروع تقدم عربي وتنمية عربية، ما.. ما فيش أي مشاكل.
خالد الحروب: على كل حال شكراً جزيلاً.