غيّب الموت ليل أوّل من أمس في بيروت المفكّر الفلسطيني هشام شرابي عن ثمانية وسبعين عاماً وكان عانى من مرض السرطان سنوات طوالاً. والراحل ولد في يافا في الرابع من نيسان (ابريل) 1927 وأمضى مراحل الطفولة واليناع في بيت جدّة في عكا. سنوات الدراسة الأولى كانت في مدرسة "الفرنذز" في رام الله ثم أتمّها في "الانترناشونال كولدج" في بيروت. تخرّج في الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1947، وفي فترة الدراسة الجامعية انتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي وكان من رفاق انطون سعادة. وقد التقى به للمرّة الأخيرة في دمشق قبل يومين من إعدامه في بيروت في الثامن من تموز (يوليو). هاجر بعد هذه الحادثة التي أثّرت فيه كثيراً الى الولايات المتحدة وعمل أستاذا لتاريخ الفكر الأوروبي الحديث في جامعة جورجتاون - واشنطن. وانخرط في صفوف المثقفين الفلسطينيين المناضلين من أجل القضية ورافق الحياة السياسية والاجتماعية التي عرفها العالم العربي في مراحلها المختلفة.
له الكثير من الأبحاث والدراسات في حقول الفلسفة وعلم الاجتماع والأدب والسيرة الذاتية، باللغتين الانكليزية والعربية. ومن كتبه: "المثقفون العرب والغرب"، "النقد الحضاري للمجتمع العربي في القرن العشرين"، "السياسة والحكومات في الشرق الأوسط"، "الديبلوماسية والاستراتيجية في الصراع العربي - الإسرائيلي"، "الرحلة الأخيرة"، "النظام الأبوي"، "صور الماضي"، "الحمر والرماد"، "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"، "أزمة المثقفين العرب"، "النظام الأبوي وإشكالية تخلّف المجتمع العربي".
هنا شهادات في الراحل:
***
لحظة الحقيقة ... انها "البنية البطركية"
محمد جابر الأنصاري
ان يصل هشام شرابي الى لحظة الحقيقة بوفاته ليل أول من أمس الخميس 31 كانون الثاني (يناير) 2005، بلغ لحظة الحقيقة العلمية في رحلته الأكاديمية الطويلة والمضنية، في شأن دراسة المجتمع العربي بتوصله الى حقيقة "البنية البطركية" المتحكمة الى يومنا في نسيج هذا المجتمع من رأسه الى أخمص قدميه.
قبل ذلك، وعلى رغم تكوينه السوسيولوجي المبكر، لعبت خمرة الإيديولوجيا - التي أسكرت الكثيرين من أبناء جيله في مختلف الاتجاهات - لعبت برأسه فتهادى بين الفكر القومي السوري الذي كان واقعاً بتأثير مؤسسه انطون سعادة تحت التأثير الفاشي اليميني الذي كان سائداً في أوروبا ولم يسلم منه في الشرق العربي حينئذ "العروبيون"، كما "الإقليميون" من حزب سعادة... الى "مصر الفتاة".
... من هذه الإيديولوجيا الى أيديولوجيا اليسار الليبرالي شبه الماركسي في الولايات المتحدة عندما تفرغ شرابي للتدريس في جامعاتها. وكان شرابي عندما يتشبّع بفكرة تراه يؤكدها ويكررها في مؤلفاته بإصرار الواعظ المؤمن بقوة بما يعتقد، وإن تجاوز اعتبارات البحث. لكن لم يخلُ هذا "البندول" الإيديولوجي بين اليمين واليسار لدى هشام شرابي من بعض إدراك للواقع السوسيولوجي العربي في القاع المجتمعي، إلا ان هاجس القومية ثم هاجس الطبقية ظلا يلحان عليه بشدة... بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967، وبعد معاندات الإيديولوجيا اليسارية في شأنها جاءت بعدها لحظة الحقيقة المرة: إنها "البنية البطركية"...!!
واستخدم هشام شرابي هذا المصطلح الأجنبي في التعبير عن الحقيقة العربية "الأبوية". إنها - ببساطة - النزعة العشائرية والقبلية تبقى "أبوية" حتى عندما تتفتت العشيرة وكيانها الأكبر (القبيلة) في غيبة المجتمع المدني الديمقراطي الحديث.
يبقى الرجل الأكبر سناً في العائلة العربية مرجعها السلطوي والمتسلط... حتى لو أصبح بحكم الشيخوخة "مخرِّفاً"... مع كامل الاحترام!
لم يفاجئني إطلاقاً توصّل هشام شرابي الى تفسير البنية البطركية، فقد كنت سائراً على الخط البحثي والفكري ذاته في (تكوين العرب السياسي) وغيره من المؤلفات منذ بداية التسعينات.
أعجبتني فيه جرأته على تخطي قيوده الإيديولوجية، وأكبرت فيه الباحث وقد شبّ عن طوق الإيديولوجي الداعية.
كان اول لقاء بيننا في حضور الصديق الأكبر الدكتور غازي القصيبي في مطعم فيصل قبال الجامعة الأميركية في بيروت، بعيد هزيمة حزيران بقليل. كانت المراجعات والأسئلة على أشدها.
أما آخر لقاء فكان في احد مباني الجامعة الأردنية وهو يحضّر مع أساتذتها لندوة فكرية بعمّان. كان هادئاً كعادته، لكن أعباء السنين والمعاناة الطويلة لم تكن خافية، إضافة الى أبحاثه في علم الاجتماع، كتب هشام شرابي سيرته الذاتية الفكرية التي أعيد طبعها مراراً، وأحياناً بعناوين مختلفة.
لن أنسى مشاعره التي عبّر عنها في بداية سيرته عندما اختفى عن عينيه الشاطئ الفلسطيني - حيث بلدته ووطنه - وهو في بداية الهجرة الى أميركا... هل ستبقى الأجيال الجديدة من فلسطين في هجرة دائمة... وإلى أين؟
***
هشام شرابي: كتابة المساءلة... وروح التفاؤل العميق
بقلم جابر عصفور
اعتقادي ان مجتمعنا سيتحول يوماً الى مجتمع حديث فعلاً، وأننا سنتمكن من تجاوز النظام البطركي وبنيته المتخلفة لنبني عالماً عربياً جديداً، عالماً حراً مستقلاً يعيد لنا كرامتنا الانسانية، شعباً وأفراداً"... تلك كانت الكلمات التي اختتم بها المفكر الفلسطيني هشام شرابي الذي غيبه الموت ليل أول من أمس في بيروت عن 78 عاماً، مقدمة الطبعة الانكليزية الأولى لكتابه "البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر". وهي كلمات تشير الى روح التفاؤل العميق الذي ظل راسخاً في وجدان هشام شرابي ووعيه الذي لم تفقده الكوارث التي مرت بالأمة العربية حلم شبابه الباكر، في أن الحركة القومية الاجتماعية ستنتصر وأنّ نظاماً اجتماعياً جديداً سيقوم على أنقاض الواقع البالي. وظل هذا الحلم مصدر الوهج والطاقة اللذين تميز بهما فكره النقدي وهو لم يكف عن وضع كل شيء موضع المساءلة، بما في ذلك الحلم الذي لم تقوضه المساءلة، بل زادته حضوراً بصفته الوعد الذي يمكن ان يتحقق إذا تحققت شروطه، واكتملت الإرادة التي ترفض الحلول الجذرية، لأنها تؤمن بأن المخرج الوحيد للواقع العربي، المأزوم والمهزوم، هو التغيير الجذري لكل ما هو قائم.
هكذا استبدل هشام شرابي الجوهري بالعَرَضيّ، والأساسي الجذري بالثانوي الهامشي، وأعمل فكره في جوانب المجتمع العربي وعلاقاته، نافذاً بالسؤال الى قرارة القرار من الجروح العربية التي لا تزال تنزف. وأدرك ان أصل الداء يكمن في الجرثومة الفتاكة التي لا تزال تنفث سمومها على كل المستويات وفي كل الاتجاهات. وشخص أصل المرض في انه "البنية البطركية" التي لا تزال ثابتة لا يتغير هيكلها الأساسي مهما تغيرت الأزياء التي تستر بها عوراتها، او تعددت عمليات التحديث التي لا تفارق السطح، فتظل ممثلة للمعنى الذي قصد اليه نزار قباني عندما أكد في "هوامش على دفتر النكسة"، أننا لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية. وكانت الروح الجاهلية قرينة البنية البطركية التي لا تزال ثابتة ثبات الأوثان التي ما برحت تتحكم في حياتنا، وتدفعنا الى الخلف بدل ان نمضي الى الأمام، فارضة حضورها القمعي الذي يتجسد في البنى الاجتماعية الكلية (المجتمع، الدولة، الاقتصاد)، والبن الاجتماعية الجزئية (العائلة او الشخصية الفردية).
كان مفهوم المجتمع البطركي الحديث مقولة تحليل وأنموذجاً منهجياً وحيداً تفسيرياً ونظرية متكاملة على السواء. وقد سبقت الاستخدام الكامل لهذا المفهوم ممارسات قادت الى اكتماله منهجياً، عبر محطات الانجازات التي بدأت بأطروحة الدكتوراه في التاريخ الحضاري في العام 1953. وتبعتها كتب من مثل "الديبلوماسية والاستراتيجية في الصراع العربي الإسرائيلي" (1975) و"المثقفون العرب والغرب" (1978) و"مقدمات لدراسة المجتمع العربي" (1981)... وكلها محاولات قادت الى الذروة المنهجية التي تمثلت في "البنية البطركية" (1987) و"النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" (1992). وهي الذروة التي اقترنت بتقديم رؤية جذرية لأسباب تعثر النهضة العربية وانكسارها، ونقد حضاري للمجتمع العربي الى نهاية القرن العشرين، ومحاولة لاكتشاف سبل الخلاص والإشارة الى معالمه، خصوصاً بعد تعرية عوامل التخلف والكشف عن عناصر الهزيمة الكامنة في جوهر البناء.
وكان إخلاص هشام شرابي في سعيه المنهجي الأصيل لاكتشاف الداء والدواء، قرين إيمانه العميق بالدور الفاعل للمثقف في مواجهة شروط الضرورة في مجتمعه، وإلحاحه الحماسي على ان الوعي الاجتماعي لا يمكن ان يتبلور ويصبح خلاقاً إذا لم يكن قائماً على فكر نقدي. وظل يمارس هذا الفكر النقدي بطريقة جذرية وبوعي حدّي لا يكف عن المساءلة، وعقل خلاق تمتزج فيه الصرامة المنهجية بالرهافة الإبداعية، شأن أصحاب الرؤى الكبار. ولذلك سرد تاريخه الفردي في سيرة ذاتية كاشفة (الرماد والجمر)، وسرد ما شهده من تجربة الثورة الفلسطينية في مرحلتها الذهبية (1969-1975)، في قالب روائي (الرحلة الأخيرة)، كان إضافة إبداعية تكتمل بها دائرة الرؤيا التي انطوى عليها، والتي لم تفارق حلمه الاول في إمكان قيام مستقبل عربي واعد، بدايته الرفض الجذري الخلاق لواقعنا المأزوم، وتأسيس كتابة المساءلة التي تؤكد حضور الوعي النقدي للمثقف الذي يسهم في صنع المستقبل.
***
الاستقامة والصراحة والصدق
ناصيف نصار
ما لقيت هشام شرابي يوماً إلا ولاحظت على وجهه مزيجاً من علامات العذاب وعلامات الإرادة، في علاقة مباشرة مع نكبة فلسطين التي رافقته طوال حياته.
سيذكر له التاريخ من دون شك إسهامه في نقد المجتمع العربي البطركي. ولكن ما يبدو لي جديراً بالتنويه في شخصيته الفكرية، بالنسبة الى سلوك المثقف العربي، إنما هو، الاستقامة والصراحة والصدق. يشهد على ذلك من جملة ما يشهد كتابه الرائق والرائع "الجمر والرماد". وقد استحق بفضل هذه الصفات احتراماً واسعاً عند جميع الذين عرفوه مناضلاً أو أستاذاً أو كاتباً.
***
المثقف "المغترب"
مطاع صفدي
كل صوت يحمل مفاجأته، وهو القدر المحتوم على كل مخلوق. لكن موت المفكر يظل غير متوقع. إنه الحادثة التي تلغي الشخص، وتعجز عن إلغاء إنسانه، هشام شرابي لن يلتقيه أصدقاؤه الكثر، بعد اليوم، في الوطن والمهجر. لكن قراءه بالأمس وغداً سيظلون يعايشون أفكاره. فهي التي تولد مرة من دون ان تعرف لها نهاية، حياة الأفكار لحظات لامعة تذكّر بالحقيقة الممنوعة من الوجود، تجعلها حاضرة ومبذولة، لكل من يفتح قلبه أو عقله لها.
هشام شرابي كان واحداً من جيل النكبات، من جيل أولئك المثقفين المغتربين ليس عن الأوطان فحسب لكنه كان موغلاً في تلك الحال الاستثنائية التي يصير فيها المثقف ليس مجرد ضحية لعصر الانتكاب المستدام، وإنما شاهداً على فظاعاته، ومبشراً كذلك بأسباب انقضائه. فهو بقدر ما كان ساعياً الى الشهادة الصادقة على فواجع العالم العربي، بقدر ما كان متحرراً من التعليلات الجاهزة. لم يجد في (العدو الخارجي) المغتصب والمداهم سبباً كافياً لاستدامة النكبة وعقابيلها، بل بحث عن العلة كذلك في عمق التكوين المجتمعي. كانت نظرية (السلطة الأبوية)، كما جاء بها مؤسس التحليل النفسي فرويد وزميله اريك فروم. تجد لها حقلاً خصباً في تفكيك البنية الاتباعية المتوارثة في آلية المجتمع العربي واستقالة أجياله من ثقافة الحرية والمبادهة الذاتية، والاحتماء بالموروث السلطوي، كما دأب على تحليله هشام شرابي من كتاب الى آخر. هذه المساحة الفنية من التطبيق النفسي التحليلي للنظرية الفرويدية العالمية، افتتحها شرابي بأصالة الأستاذ الخبير والمفكر الملتزم بأصول الإصلاح الحقيقي، التي حجبتها دائماً الأدلجات السياسوية طوال النهضة العربية الثانية خلال النصف الآخر من القرن الماضي.
المجتمع العربي الموصوف بكل السلبيات الحضارية والإنسانية، ما زال مجهولاً بالنسبة الى الوعي العلمي. ولقد كان مفكرنا الراحل رائداً حقيقياً في ابتكار احد المفاتيح المهمة المهملة لمغارة علي بابا وأسرارها الغثة والثمينة... وهو في ذلك يعيد التكامل بين الفكر والعلم. فلا تصح التصورات القليلة من دون حواملها الواقعية. وسواء قبلنا بالتراث الفرويدي التحليلي او اعترضنا على بعض مسلماته، فقد اشتق منه شرابي بعض أطروحاته وأخضعها لتعديلات الفكر وجعلها تقارب حدود المشكلات المستعصية في الأداء الاجتماعي العربي.
وقد تكون هذه الريادة الخصبة والذكية لأعمال مفكرنا الراحل، فاتحة تحول حقيقي في عادات الفكر العربي السائدة، والمحتاجة أخيرا الى هذا النوع من صدمات الثقافة المعرفية شبه المجهولة والمهملة غالباً من جامعاتنا وندواتنا وطروحاتنا النظرية المتهافتة.
فوداعاً للإنسان النبيل الذي عرفناه وأحببناه، وعسانا نحب أفكاره ونعايشها أكثر وأعمق في ثقافتنا الجديدة.
***
جسد يتهاوى وقلب يزهر
عيسى مخلوف
حتّى اللحظة الأخيرة من حياته ظلّ هشام شرابي يركّز على مسألتَين أساسيّتَين: الدين والمرأة، ويعتبر أنّ العالم العربي لا يمكنه أن يخرج من عصور الظلامية ويدخل العصر الحديث من دون التعاطي الصحيح مع هاتين المسألتَين. لكنه كان يدرك، في الوقت ذاته، أنّ مثل هذا التعاطي يقتضي رؤية سياسيّة غير موجودة في الوقت الراهن في عالمنا العربي، بل أنّ الرؤية الوحيدة السائدة منذ أن نالت الدول العربيّة استقلالاتها الوطنيّة حتّى اليوم تعمل، بخلاف ذلك، على تغذية التعصّب الديني في ظلّ نظام استبدادي ذكوري متسلّط، كان يحلو لشرابي أن يسمّيه النظام الأبوي أو البطركي.
وراء مشاغله الفكريّة والسياسيّة، كان هشام شرابي مسكوناً بنزعة رومانسيّة حالمة، وكان يتميّز بابتسامته الرحبة وبِطاقته على الكرم بالمعنى الجميل لهذه الكلمة. في لقاءاتي معه، كلّما كان يمرّ في باريس آتياً من الولايات المتّحدة، وكلّما كنتُ أجيء في السنوات الأخيرة إلى بيروت، وكذلك في تلك اللقاءات التي جمعتنا يوماً في غرناطة، كنتُ أكتشف دائماً غلَبة الجوانب الإنسانيّة في شخصه، وهذا أمر نادر لمن يتعاطى الشأن السياسي، بل وحتى الثقافي في زمننا هذا. وكنتُ أكتشف عاماً بعد عام، كيف كان يعيش تناقضاً، يعبّر عنه أحياناً بخفَر، بين الجسد الذي يشيخ ويمرض ويتهاوى، وبين القلب الذي لا يفتأ يُبرعِم ويُزهِر ويُحِبّ.
وطالما لفتني ولعه بالصور، وكان شديد التعلّق بها. يضمّنها كتبه، يصفها بدقّة، ويتعاطى معها بافتتان، كأنّها شباكه يلتقط بها لحظات من الوقت الهارب. والصور، لا سيّما صور الماضي، كانت تفضح حنينه العارم إلى أماكن وأشخاص، وإلى محطّات مهمّة في حياته. صور لأفراد عائلته ومدرسته وجامعته ورفاقه وميناء يافا وعشيقاته الأولى، وخصوصاً الصورة الشهيرة التي تجمعه بأنطون سعادة وهما يسيران معاً على الكورنيش في بيروت عام 1949 . كلّ تلك الصور تبدو الآن كأنّها آتية من زمن آخر كان هو شاهداً عليه، وكان يعرف، في قرار نفسه، أنّه زمن ينتمي إلى الحلم لا إلى الواقع.
***
نزاهة فكرية لا تضاهى
علي أومليل
حين يغيّب الموت مفكراً فلسطينياً من عيار هشام شرابي، فإن هذا لا يعني فقط ان الفكر العربي فقد احد أعلامه المعاصرين، وإنما يعني أيضا ان فلسطينياً آخر قضى وحمل معه حلمه في العودة.
كان حزيناً عميق الحزن والصمت حين تعرفت اليه في ليماسول، بقبرص، ونحن نؤسس المنظمة العربية لحقوق الانسان أثناء ندوة عن الديموقراطية في الوطن العربي دعانا إليها صديقنا خير الدين حسيب. ثم تزاملنا في مجلس أمناء هذه المنظمة.
ان حقوق الانسان تعني شيئاً خاصاً بالنسبة الى هشام الفلسطيني ولأي فلسطيني: ففي العام الذي صدر فيه الإعلان العالمي لحقوق الانسان (1948)، هو نفسه عام النكبة، حين طرد شعب من أرضه وتشتتوا في البقاع والأصقاع وبقي منهم آخرون تحت الاحتلال. معنى ذلك ان ازدواجية المعايير وقانون الأقوى بدأ في شكل واضح منذ ذلك التاريخ. لكن هشام لم ييأس، فكانت حقوق الانسان قضيته ليواجه بمبادئها وقيمها كل الذين يضربون بها عرض الحائط، او يتعاملون معها تعامل نفاق وانتقاء.
أكاديمية هشام شرابي لم يصعد بها الى سماء تنسيه هموم الأرض. لقد حلل بها، وهو عالم الاجتماع، بنيات المجتمع العربي المقاومة للحداثة والانعتاق. فأدرك أبوية السلطة المبثوثة في كل السلطات: سلطة التراث، وسلطان السلطة، وتعثر الديموقراطية، وخصوصاً تغييب المرأة وراء حجاب. والحجاب ليس رداء وبرقعاً لحجب المرأة - العورة -، بل هو حجاب فكر التحريم، وقوانين الوصاية، وكل ما يلقّن قصور النساء وإقصاءهن، في الكتب المدرسية والقيم المتوارثة.
غنية كانت حياة هشام شرابي، ولا أدل على ذلك من قراءة سيرته الذاتية. وكثيرة هي خصال الرجل ومزاياه. وسينكب الباحثون على دراسة فكره الغني، ولكن الذين عرفوه سيذكرون له مزية من مزاياه العالية: نزاهة فكرية لا تضاهى.
***
ذو المأساتين
محمد علي فرحات
سيقرأ العرب لمدة طويلة كتابي هشام شرابي "الجمر والرماد" و"صور الماضي"، فهما يتعديان سيرة المثقف الفلسطيني القومي الى جيل النهضة العربية المتكسرة (بعد إنشاء إسرائيل 1948). ولا يمكن نسيان المقاطع النهائية الآسرة من "الجمر والرماد" حين تقلع الطائرة بهشام شرابي الى الولايات المتحدة تاركاً خلفه مأساتين متلازمتين: ضياع فلسطين وإعدام انطون سعادة الذي صادقه شرابي وانتمى الى حزبه القومي.
صحيح ان كتبه "المثقفون العرب والغرب" و"النظام الأبوي" و"الديبلوماسية والاستراتيجية في الصراع - العربي الإسرائيلي"، علامات في الكتابة النهضوية، لكن شأن النهضة والتحديث في عالمنا العربي متغير متحول متأرجح، كحال مجتمعاتنا التي كانت معبراً للقوى الكبرى ولا تزال لا تقوى على تقديم نفسها لنفسها وللعالم كقوة تحمي، على الأقل، صورة هويتها ومسار تطورها، لذلك أتوقع بقاء طويلاً لكتابي شرابي "الجمر والرماد" و"صور الماضي".
ويبدو ان السيرة الأولى في الوطن طبعت باستمرار مسار هشام شرابي، أكاديمياً وكاتباً، في شيكاغو وواشنطن، وأخيرا في بيروت، فلم يتخل الرجل عن حلم جيله بالحداثة والتحرير والانفتاح على العالم وبناء إنسان متجدد، وإن بدا في إصراره أحيانا شيء من النفرة، خصوصاً في الوسط الأكاديمي الأميركي.
سيفتقده العرب كما افتقدوا ادوارد سعيد، بل أكثر لأن الراحل كان ملتزماً بمسار الثقافة الوطنية في الوطن والمهجر ثم أخيرا في الوطن.
***
الكاتب ... جمراً ورماداً
الطاهر لبيب
قلّما لَفَّ شخص جمره برماده مثلما لَفّه هشام شرابي. هاجر وعاد بهما، في قبضته. قضى، في مهجره، أكثر من أربعين سنة ينفخ في جمرات يطير رمادها في عينيه. كان لا يزال تفاؤل الإرادة يخفف، عنده، من تشاؤم العقل، وكانت البدائل العربية لا تزال تتراءى له وراء الهزائم والنكبات والأنفاق. عاد الى شرقه أو الى تخوم شرقه، في بيروت: بيروت التي سكن إليها وأعطى لاطمئنانه فيها طعم الفرحة: فرحة المرور من الحيّز العام الذي سخر له أغلب عمره الى الحيّز الخاص الذي يحتاج اليه ما تبقى منه. لم يكن يعبّر عن ذلك بكلام كثير وإنما بما ينسجه، بالأصدقاء، من حميمية التركيب بين الفكر والوجدان. المشهد معه مشهد أسئلة قلقة، دائماً. لا يرتاح للأجوبة. تعليقاته (وهي، دائماً، مركزة، مقتضبة وموزونة الحركات) تفتح قبضته على جمرها ورمادها. مع الأيام، ازداد صمته طولاً بيننا، قبل أن ينفرد به، وراء باب كُتب عليه "الزيارة ممنوعة بأمر من الطبيب". أصبحت للصمت رائحة الرماد.
أول ما قرأت لهشام شرابي "جمر ورماد". قلت له، أكثر من مرة، ان كتابه هذا أقرب كتبه الى النفس، وكنت أراه أقرب الى الرضي عنذلك. لا شك في أنه كان يدرك أنه بانطفاء آخر جمرته يصبح الكتاب كتاب البدايات والنهايات.
انطفأ هشام وقد ترك عملاً علمياً رصيناً وأخلاقيات معرفية قوية، كما ترك مرجعية فكرية ومواقف مستنيرة. يبقى الأمل في تمديد جهده والاحتفاظ بذكراه، في مرحلة تنطفئ فيها معالم جيل كامل.
***
ابن حداثة غير منجزة
محمد جمال باروت
في أيلولته الحداثوية المعمقة خلال العقدين الأخيرين والتي أخذت عنوان النقد الحضاري، وجعلت من إعادة النظر بالبنية البطركية العربية، شرطاً لتكوين الوعي النقدي العربي بالذات، كان هشام شرابي ابن التحول من الراديكالية السياسية إلى الراديكالية الفكرية النقدية.
في الراديكالية الأولى التي تمثلت في انخراطه الشاب والديناميكي منذ أن كان طالباً في الجامعة الأميركية ببيروت في النصف الثاني من أربعينات القرن الفائت بالحركة القومية الاجتماعية، والتصاقه الحميم فكرياً وشخصياً ومناقبياً بزعيمها ومؤسسها ثم "رائدها" لاحقاً أنطون سعادة الذي أعدم في 8 تموز (يوليو) 1949 كانت حصيلة تجربة شرابي في النهضة القومية العلمانية، وتجاوز الخصوصيات الأولية الطوائفية، وبناء الجبهة العربية، وتحرير القسم الجنوبي من سورية والمقصود به فلسطين مرةً على غرار حصاد جيله المنكوس والمنتكس الذي عاش وعود ارتفاع الرايات ولوعة انكسارها إلى ما هو ضدها، من دون أن يتحلل قط من التزامه بها.
لقد شكلت هذه الراديكالية العملية الأولى التي قوطعت تطلعاتها الجامحة الأولى دموياً بانقلاب القوميين وإعدام سعادة في العام 1949 النسيج التكويني الأساسي لوعي شرابي الشاب. ولقد استرجع هذه التجربة مراتٍ كثيرة في مقدمات كتبٍ عدة له، وأفرد لها حيزاً كبيراً في سيرته الذاتية "الجمر والرماد" بائحاً بأشياء وساكتاً عن أشياء أخرى كان يمقت حتى آخر مرةٍ التقيته فيها في العام الماضي في بيروت في إطار فاعلية فكرية - سياسية عن العراق المحتل بعد عامٍ على غزوه واحتلاله، وتداعيات ذلك مرد الحديث عنها.
الجوهري أن شرابي قد عوّض عن راديكاليته السياسية التكوينية الأولى بالراديكالية الثقافية الحداثوية النقدية المعمقة، التي كان شرابي أستاذ تاريخ الفكر الأوروبي في جامعة جورج تاون يعرف جيداً فجواتها، فكان واضحاً لديه على الدوام الوعي النقدي بتلك الراديكالية النقدية نفسها، ويمكن القول في إطار الترابط الذي رآه شرابي في الثقافة كفعلٍ تغييريٍ أنه كانت لديه التباسات وفجوات وتناقضات الوعي "التراجيدي" الحساس للمنور العربي الذي يندرج شرابي من دون أي ريبٍ في سلك إشكالياته، وإن كان هذا الاندراج محملاً ببلورة وعي نقديٍ رهيفٍ يتجاوز التبشيرية، وقرب قطاف البشرى.
كان شرابي في التوتر ما بين الراديكاليتين السياسية الخائبة المرة والثقافية النقدية متمسكاً بالجوهري في كليات راديكاليته السياسية الأولى ولكن عبر موقفٍ نقديٍ معمقٍ يتجاوز السياسوية إلى السياسة بمعناها الأعمق، جامعاً في ضوء جملة غرامشي كما كان يحب التأكيد دوماً بين: تشاؤم العقل... وتفاؤل الإرادة.
ورأى شرابي في ذلك أن منطلق ما سماه الحركة النقدية العربية المعاصرة يقوم على اتجاهين مترابطين: العقلاني بعقلنة الحضارة والعلماني بعلمنة المجتمع، وفي صلب أهداف ذلك تغيير البنية البطركية من خلال ما سماه في ضوء مصطلح آلان تورين، الحركات الاجتماعية.
وكان شرابي يعني بذلك تكامل الفكر والسياسة في العمل، بما يعنيه من تجاوز الأكاديمية الصلبة ومن السياسوية اليومية المباشرة. الحداثة مفهومةً نقدياً هي جوهر ذلك الترابط، ومركزها اهتمام شرابي الدؤوب بوضعية المرأة التي تتمفصل فيها كل علاقات البنية البطركية وتحريرها منها، فالحداثة هنا غايتها الحرية.
نعم كانت أيلولة صاحب "المثقفون العرب والغرب" و"النقد الحضاري" و"البنية البطركية" وغيرها حداثوية، ولكنها أيلولة شديدة الرهافة نقدياً، تدعو إلى التحرر الجذري من "إيديولوجية الفكر" الثوري "القديم، ومن غيبيات الفكر الأصولي النامي" من دون أن تتنكر لما سماه شرابي نفسه "الحقائق الكلية" في هذين التيارين وما "يرفع من قيم أزلية". ونضيف إليها ما هو قومي في تكوين شرابي.
نعم كان شرابي في ذلك ينقد الاستشراق الأميركي والغربي عموماً بطريقةٍ لا يجد فيها كثير من الإسلاميين حرجاً في التعلم منها، وربما طرح في سجالاتٍ "مغامرةٍ" تمت في ندواتٍ فكرية تركيب ابيتمسي ما بين الحداثة والإسلام بمعناه الحضاري، وربما كان على مستوى الحنين الشخصي يحب شعرية المساجد أكثر من هدوء المكاتب، وهو ما قد يكون زاد من التباسات حداثويته، والتي نعتقد بأنها من مظاهر تراجيدية الوعي التنويري عموماً. في فاعليته الفكرية النقدية أراد ابن الراديكالية السياسية الأربعينية الشابة والمخفقة من الفكر النقدي أن يكون إطار ما سماه حركة اجتماعية جدية ترمي إلى استئصال البطركية، وبناء مجتمع يقرره الناس وليس المتسلطون أو القلة المنتفعة. الثقافة كفعل معمقٍ كانت رائده، وفي ذلك كان شرابي ابن وعيٍ تراجيديٍ بحداثةٍ غير منجزةٍ.
***
المفكر الذي شكّل جزءاً من تكويننا الثقافي
فخري صالح
شكلت كتابات هشام شرابي جزءاً من تكويني الثقافي، فقد قرأت كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" في طبعته الثانية التي ظهرت عام 1977، وكنت حينها في سنتي الجامعية الثانية أدرس الطب الذي تركته في ما بعد. كان ذلك الكتاب، الذي يضم ست محاضرات ألقاها شرابي على طلبته في جامعة جورجتاون الأميركية وفصلاً أخيراً حول "التثقيف الاجتماعي والتلفزيون"، إضافة إلى الطبعة الثانية، فتح عيني على أسباب التخلف التي تعانيها المجتمعات العربية، والأهم من ذلك أنه عرفني على أسباب الهزيمة والانهيار بعد 1967، وهي نفسها التي غيرت مسار هشام شرابي الفكري والثقافي ووجهته للبحث في البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تقيم في قاع هذه الهزيمة. اللغة المشبوبة المتحمسة، التي تمزج في الوقت نفسه بين العام والخاص، بين التجربة الجماعية والسيرة الذاتية، هي ما جذبني إلى كتابات شرابي وجعلني أتابع ما يكتبه من مقالات في الصحافة العربية، وما يؤلفه من كتب بالعربية والإنكليزية.
كان في ظاهره رجلاً بسيطاً متقشفاً في الكلام، على رغم غنى عالمه، وتوجهه إلى قراءة المفاصل الأساسية التي تحكم التجربة العربية المعاصرة، في السياسة والاجتماع والثقافة. من هنا كان كتابه "المثقفون العرب والغرب"، الذي أصدره بعد ثلاثة أعوام من الهزيمة قارئاً فيه كيف تواصل المثقفون العرب في ما سماه سنوات التكوين (أي ما بين عامي 1875 و1914) مع الغرب بسبب التحدي الذي فرضه الغرب في نهايات القرن التاسع عشر على العقل العربي على مستويات الوجود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والنفسي. وقد مثل هذا الكتاب، مثله مثل كتاب "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"، تفتيحاً لأفق الوعي لديّ على الشروط الاجتماعية والتاريخية التي يتكون فيها الفكر وتنشأ المحرضات الفعلية للتغيير في المجتمعات الراكدة التي تغط في نوم عميق على رغم التحديات الوجودية التي تفرض نفسها عليها. ولعل كتابي شرابي الآتيان: "البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر"، و"النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين"، وغيرهما من الأبحاث والدراسات التي كتبها بعد ذلك، تكون مواصلة لبحث المركبات نفسها التي تحكم المجتمع العربي وتسيره في الزمان المعاصر. إنها توسيع، أو تطوير للأفكار التي بحثها في دراستيه المؤسستين عن علاقة المثقف العربي بالغرب، والمجتمع العربي، وهما الدراستان اللتان وضعتا أسساً راسخة لقراءة معضلة العلاقة بالغرب من وجهة نظر كاتب عربي يقيم في الغرب ويعلّم في واحدة من الجامعات الأميركية الكبيرة المؤثرة في التوجهات السياسية الأميركية.
من بين كتب شرابي التي لفتت انتباهي، ونبهتني إلى أن المفكر الفلسطيني الراحل لم ينأ بنفسه عن العمل الميداني، وعن فن الحوار الصحافي الذي يهدف إلى قراءة تجربة نضالية كبيرة، كتابه "صالح برانسي: النضال الصامت، ثلاثون سنة تحت الاحتلال الصهيوني"، الذي نشرته دار الطليعة عام 1981 . في هذا الكتاب الوثيقة، الذي شجع آخرين على كتابة سير مناضلين فلسطينيين واستخلاص المسارات المتعددة لكفاحهم من أجل فلسطين، يستعيد هشام شرابي سيرة حياة واحد من المناضلين الكبار الذين غطت الهزائم المتوالية نشاطهم الكفاحي على أرض فلسطين، وثباتهم في وطنهم على رغم كل مؤامرات التهجير القسري الذي تعرض له مواطنو فلسطين طوال ما يزيد على نصف قرن.
لكن هشام شرابي معروف أيضاً بكتابته لسيرته الذاتية، وعودته إليها من حين لآخر في محاولة لاستعادة مراحل من حياته وحياة الفلسطينيين لئلا يغيبها النسيان، وحتى يحافظ على الذاكرة الفلسطينية حية فتتمكن الأجيال التالية في العودة إليها والبناء عليها. وقد أقبلت على قراءة كتبه المثيرة للخيال والفكر: "الجمر والرماد"، و"صور الماضي"، و"عكا، بيروت وواشنطن" التي يروي فيها شرابي قصة ثلاث مدن عاش فيها.
***
بلاغة الصمت
نجلاء حمادة
عندما علّمني الدكتور شرابي مادة الفكر العربي الحديث، إذ كان استاذاً زائراً وكنتُ تلميذة ماجستير في الجامعة الأميركية في أوائل السبعينات، كان من جملة ما أفدته منه تعلّم بعض أصول فن قلّة الكلام. اكتشفت بفضله ان قلة الكلام قد تكون صنواً لما دلّ منه. وقد طلب مني ان أقدّم للصف تقريراً عن فكر أنطون سعادة في عشر دقائق، وبعد معاناة وتخبّط إزاء ما اعتبرته مهمة تعجيزية، توصلت الى كتابة تقرير اعتز به، لما فيه من تركيز وايجاز.
كان الدكتور شرابي في تدريسه تلك المادة، قليل الكلام كعادته، لكنه كان فناناً في حسن إدارة الكلام القليل، مما جعل صفه غنياً بكلمات من النوع الذي لا ينسى. أذكر مرة انه كان يردد الفكرة الماركسية حول استحالة انبثاق العمل الثوري من الطبقات الموسرة والمستفيدة من الأوضاع القائمة. لم تكن تلك المرة الأولى التي أسمع فيها هذا القول، وكان يؤلمني في كل مرة لاعتقادي بأنني محسوبة على الطبقات الراضية عن الأوضاع في الوقت الذي أتحرّق الى التغيير ويسهدني الغضب مما هو سائد ومستشر.
طلبت الكلام، ولما أعطيته سألت أستاذي: "ألا تعتقد ان النساء من جميع الطبقات، يشكلن خامة ثورية؟ فأجابني بكل اقتناع وحماسة: طبعاً. هذه ال"طبعاً" من دون مقدمات ولا شرح نزلت عليّ نزول الماء على الظمآن، ماحية ما كان ينتابني من حيرة حول الموضوع.
إنها كلمة لم أنسها، وقد كان الدكتور شرابي دائماً يعبر عما يتوقعه من المرأة العربية من ريادة إصلاحية. كان نصيراً ومشجعاً، سنفتقده كثيراً. ولعلنا نجد الآن في صمته الأخير حافزاً للبحث في أعماله الكثيرة عن البلاغة الموجزة التي تصيب اللب وتطلق الجهد.
الحياة- 2005/01/15
***
رحيل هشام شرابي.. قوة الحبّ والتمرّد والعقل
عباس بيضون
عاد هشام شرابي إلى لبنان منذ سنين قال ببساطة إنه سيعيش هنا، كل هذه الحياة التي كوّنها في أميركا غادرها بلا ندم، سيعيش هنا لا لينهي أيامه بل ليجددها. بالفعل رجع المهاجر واختفت فجأة عقود من الغربة. وكما يحدث في القصص كانت الخاتمة سعيدة وفي هذا البيت المطل على البحر استردّ هشام شرابي كامل دينه. ارتوى من لون البحر وعاش كالملك بين أصدقائه وأحبائه. وجد أصدقاء لم يعرفهم خرجوا له من صفحات كتبه ومن ماضيه، وجد في انتظاره فتياناً وشباناً وكهولاً ملأوا حياته، كان سعيداً ووحده في هذه المدينة الملعونة كان سعيداً، لم يحتج الى الصراخ او الشكوى او الاضطغان او التكالب، كان كل ذلك خلف ظهره لا يلتفت إليه، لقد بقي ليتذوّق الهدوء والصمت في عمق هذه المدينة الصاخبة. وحده وجد حلماً حيث كانت تنتحر الأحلام، وحده وجد سلاما تحت سماء التهديد والحرب المعلّقة، وحده وجد رفقة حيث كانت الحياة تتحطّم كسراً وأجزاء. هشام شرابي المبارك الناجي من السرطان والشيخوخة واللعنة عاد فتعرّف عليه حتى الذين لم يعرفوه. وتبعه حتى الذين لم يدرّبهم، كان العالم بستاناً في انتظاره، كانت المدينة مأدبة واحتفالاً. دخل فوجد أخوة حبلت بهم الأيام وأبناء لم يلدهم، أراده شيخاً من احتاج الى شيخ ورفيقاً من طلب الرفيق وابناً من حُرم الابن. وكان بين الجميع شيخاً وفتى وشاباً وحكيماً وعاشقاً، وأكثر من ذلك صامتاً يتذوّق الهدوء والحياة قطرة قطرة. كل لحظة هدية كل حركة هبة. كان ضيفاً مكرّماً في المدينة التي تئد أبناءها، علما حيث لا يقرّ أحد لأحد، وحده هشام شرابي المبارك الناجي وجد هنا التحفة التي تركها باقية لم تتحطّم عاد الى حياة سابقة، الى شباب لم يستنفد، الى بلد لا زال بلداً، ووطن لا زال وطناً ومرابع صبا لم تتبدّل. انسرب كالطيف وسط العنف والصخب ووجد بلا جهد الرجاء الذي هجرنا والأمل الذي تركناه يجرب والأفق الذي سددناه بصراخنا وغضبنا.
كان هشام شرابي الأب الذي أفنى حياته في تحطيم سلطة الآباء، كان أباً خارج القلعة، يصادق الأخوة الضّالين ويرافق الأبناء الذي يرشقون بحجارتهم القصر، بقي أباً وأخاً وابناً، ومن كان كذلك لا يُعرف له عمر ولا يعرف هو لنفسه عمراً. يبقى في ضيافة كل جيل جديد بل في ضيافة كل جديد أخاً لكل ضال رفيقاً لكل ابن، يبقى له حلم الأبناء وتشرّد الإخوة؛ ولأنه لم يدخل القصر فقد نجا من الحبس كما نجا من الشيخوخة ونجا من العمر. هشام شرابي الذي رحل عنّا، اول أمس، لم يكن له جسد للموت، لذا خدع الموت وعاد إلى مدينة الأطفال السعداء. عاد إلى حياة أخرى وإلى بلد آخر.
خالدة سعيد:
باحثاً رائياً وموضوعاً للرؤية
التقيته مع أدونيس مطلع الخمسينيات، ولم يكن قد بلغ الثلاثين. جاء الى لبنان وسوريا من جامعة جورجتاون في واشنطن على رأس بعثة طلابية، ثم أقام أكثر من سنة لإتمام بحثه الشهير والعميق (المثقفون العرب والغرب).
ولم ينقطع هشام بعد ذلك عن العودة الى لبنان. بل أخذت عودته صيغة طقسية. كأنما العام عنده هو انتظار العودة. وكنا بدورنا ننتظره في الصيف حين يعود ليلتئم عقد الأصدقاء:
يوسف الخال، أدونيس، رجا بارودي، منوال يونس، رامز نصار، يوسف سلامة، حليم بركات. ثم انضم آخرون، أنسي الحاج، نضال الأشقر، منير بشور، وفؤاد رفقة والحلقة تتسع... ولما جاء محمود درويش في مطلع السبعينيات فتن به هشام وظل يمطره بالأسئلة كأنما يستوفي ما فات من زمن الصداقة.
وكانت للأصدقاء طقوسهم التي تتكرر: الصعود الى بسكنتا وصنين والى ضهور الشوير والذهاب الى مسبح سبورتنغ كلوب، والحديث لا يتغير مداره. حتى في أقسى سنوات الحرب لم ينقطع هشام عن المجيء الى لبنان. وكان المجيء مجيئا الى البدايات والى الأصدقاء والى أمّ هشام التي عاشت على إيقاع الزيارات. وحكايات الصداقة والأصدقاء، من رحل ومن بقي، جزء من تاريخ هشام شرابي وطبيعته.
كان لدى هشام شرابي ما يمكن وصفه بالخفر الفكري أو الورع في التعبير من فرط ما يتوخى الأمانة والدقة. يقارب الأشياء والقضايا بقدر كبير من الجدية والتأمل مع الدهشة، ويواجه المشكلات والمعضلات وهو يرى كيف ينقلب الممكن الى ما لا يمكن.
ودائما كان نظره على ذلك الممكن العربي وهو يتهاوى في اتجاه المستحيل. ومن هنا اختزن صمته وعي الفجيعة.
هذا الممكن العربي كان شاغله، باحثا كاتبا ومحازبا وصديقا. وهو ما استغرق جهده وتأمله منذ (المثقفون العرب والغرب) حتى (أزمة المثقفين العرب) و(النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي). ان مفاصل التغير وآلياته هي ما كان مدار بحثه، وكذلك بنى التخلف والطغيان في مستوييه الاجتماعي والسياسي.
كان هشام شرابي باحثا من طبيعة خاصة. وهو في أمانته العلمية ومستواه المعرفي لم يكن ينفصل عن موضوع بحثه. فكأنما هو يزدوج كي ينظر في مرآة. موضوع بحثه هو موضوع معاناته وبؤرة رؤياه ومحل هواه. ولا أعني فلسطين وحدها على خصوصية المنزلة وخصوصية اللوعة وخصوصية الوعي. ومن هنا أن بحوث هشام شرابي لم تكن لتكتمل بدون ذلك الشطر الآخر من أعماله، أعني السيرة الذاتية في كتابيه (الجمر والرماد) و(صور الماضي).
السيرة الذاتية هنا سيرة وعي ومعاناة، وسيرة علاقة جسدية يومية بموضوع الهوى والرؤية والبحث.
السيرة الذاتية هنا تقدمة، أو طقس تقرّب، وارتماء للذات في غمر المعاناة، وانتقال من موقع الباحث الى مشرحة البحث، السيرة الذاتية هنا تقديم للتجربة الشخصية كموضوع وقربان؛ أكاد أقول تعرية للجرح، وإن يكن هشام في حياته اليومية شديد الخفر والأبعد عن التعرية. لقد كتب السيرة كمحل فريد تتعانق فيه رؤية الباحث وشخص المرئي من حيث هو محل للرؤية وجسد للكارثة.
عبدالله قبرصي:
ابن الفلسفة
أعتقد أنه لتعرف هشام شرابي على حقيقته عليك أن تقرأ كتابه (الجمر والرماد). كان في لبه ابن الفلسفة يكتب فلسفيا ويفكر فلسفيا إلا أن هذا لا ينفي أن يكون لما كتبه مسحة أدبية طريفة وعميقة الفكر، أي لم يكن مسطح أبدا.
في حزبنا، كان هشام شرابي من الأمناء وقد عينه سعادة ناموسا له وكلمة ناموس تعني سكريتيره الخاص أي كان سعادة يثق به ثقة عمياء، وقد اطلع على جميع ما كان يقوم به. كان المؤتمن على جميع تفاصيل حياته اليومية وعلى جميع أفكاره واتجاهاته. وأعتقد أن سعادة عين مع شرابي أستاذا هو اليوم في أميركا يعمل في مكتبة الكونغرس واسمه جورج عطية.
صحيح أن هشام شرابي ترك الحزب، أي لم يعد ملتزما لا بنظامه ولا بسياسته، ولكن رأيي أن هذا الرجل ترك الحزب شكلا لأنه في ما كتب وعلم بقي ينطلق من عقيدة الحزب وفلسفته.
إن عددا قليلا من الأدباء والمفكرين يشبه هشام شرابي في عقليته وطريقة حياته وتفكيره. صحيح أنه درس في جامعات أميركا إلا ان ما كان يغلب عليه في ما يتحدث ويكتب كما في سلوكه اليومي أن مستعل ومستكبر، أي لم أحس يوما انه يمزح او يعيش حياة مألوفة. في سلوكه اليومي دائما هناك طابع الجدية. هذه الجدية المستمرة وأستطيع أن أقول الدائمة، جعلتني اعتقد أنا على الأقل لأني لست من عشرائه، أن في تصرفاته شيئا من الاستعلاء.
عسير عليَّ ان احدد كيف ينظر الحزب اليه، والسبب في ذلك الزمن الطويل الذي فصلني عن قراءاتي لهشام شرابي، إلا ان الذي لا يزال عالقا في ذهني هو الصفحات الأخيرة من كتابه (الجمر والرماد) التي يشير فيها الى لقاء شاهده بنفسه بين عساف كرم وبين انطون سعادة. إذا استطعت أن تقرأ هذه الصفحات تتأكد من أن هشام شرابي كان ينظر الى انطون سعادة وكأنه مزمع على تغيير مسار التاريخ في هذه البلاد.
في أول آذار من العام 1949 ألقى انطون سعادة خطابا حضره هشام شرابي وتكلمت فيه أنا أيضا، وقد سماه هشام خطاب الوداع، وكان خطابا تأسيسيا، إذ رسم فيه سعادة خطته لتسلم زمام الأمور في البلاد وأطلق في عباراته، جازما، انه سينتصر بعقيدته. أذكر ذلك اليوم الذي كان وداعا في الواقع، وتصورت فيه ان الحزب بقيادة سعادة استطاع أن يحقق عقيدته في وحدة الهلال الخصيب، وأن سعادة على ظهر حصانه في بغداد كان يخطب وكأنه حقق مبادئه.
العالق في ذهني أن هشام شرابي علامة وبصورة خاصة في الشأن الفلسفي. كم أتمنى لو أنني أملك مقالتي عن كتاب هشام شرابي (الجمر والرماد)، تلك المقالة التي شرحت فيها أين أجاد وتفوق وأين ارتكب بعض الأخطاء، لم تكن مقالتي تقريظا للكتاب بقدر ما كانت مقالة نقدية.
لا أعرف كيف أرد على مقولة أن هشام ترك الحزب بعد مقتل سعادة. لم يكن هناك في الحزب أي شخص يسد الفراغ، لذلك بقي سعادة هو القائد الفعلي للحزب رغم غيابه. أسلوبه وأفكاره بقيت هي التي تشع وتقود هشام شرابي لأنه عاش قريبا جدا من سعادة بصفته أمين سره، لذلك كان أقدرنا على فهم سعادة والتحدث عنه وخصوصا كتابةً.
رشيد الضعيف:
شيء من الألوهة
لا أذكر إلاّ أنني أعرف اسمَه، فليس لسماعي باسمه بداية، لكنني لم ألتقِ به إلاّ منذ خمس أو ستّ سنوات، بعدما قرأ إحدى رواياتي وطلب من أحد الأصدقاء المشتركين التعرّف إليّ. وصرنا أصدقاء بسرعة مُدهشة. صرنا نلتقي دوريّاً حين يكون في بيروت. نلتقي وحدنا على انفراد، ونلتقي مع أصدقائه الكثيرين الذين يحبّهم ويحبّونه.
في هذا الرجل من الألوهة أنّه يمدّك بالقوّة من محبّته لك. وتطمئنّ حين يشير إليك.
واللقاء المقبل به وعد جميل.
وفتح لي قلبَه كثيراً في هذه الخلوات التي كنّا نعقدها حول كأس نبيذ أبيض، وهو مشروبه المفضّل، في مقاهي بيروت. وأخبرني ما طلب منّي أن أبقيه طيّ الكتمان. كنت سعيداً بهذه الثقة. لم أدوّن شيئاً ممّا قاله لي لأنّ التدوين في تلك اللحظات كان سيفسد البوح. وقد نسيتُ ممّا قاله الكثيرَ ولستُ نادماً، لأنّ المهمّ بالنسبة إليّ كان هو، لا خلود الحقيقة.
كان دائماً يردّد أمامي أنه رجل محظوظ. كان يصرّح بأن الحياة أعطته ولم تبخل عليه.
لم أكن قد قرأت كتابه (الجمر والرماد) حين تعرّفت إليه، فأهداه إليّ، وكانت قراءتي له متعة خالصة، لم أعرف مثلها إلاّ نادراً، وكنت مدركاً لسبب انشدادي إلى هذا الكتاب، فهو عن ماضٍ يعنيني كثيراً، وقد كتبه بحياديّة ومحبّة، وهذه خاصيّته التي امتاز بها والتي جعلت منه لا شكّ ما هو.
قبل وفاته بأسبوعين قال لي وهو ينظر إلى شاشة التلفزيون:
لم أعد أستطيع متابعة ما يجري في فلسطين!
لم يكن يَشْكُ علناً من مرضه. لم يكن يتكلّم عليه! أشار إليه صراحة، أمامي، مرّة واحدة فقط، حين قلت له في سياق الحديث:
الأيام طويلة!
فأجابني بما لم أكن أتوقّعه:
سنتان أو ثلاث على الأكثر!
وحين استزدته غيّر الموضوع.
بقي حتّى اللحظة الأخيرة على احترامه لنفسه وعلى كرامته. وبقي على ثقته بنفسه وبالعقل والعلم.
أراد أن يغلب المرض حتّى اللحظة الأخيرة بمعالجته!
هذا الوديع كعشبة ربيعيّة، وقف مرّة عن كرسيّه، ورفع صوته في وجهي قائلاً لي بغضب:
لماذا تريد أن تقنعَني؟ إشرحْ لي رأيك فقط!
كنتُ آنذاك مسترسِلاً في برهانِ رأيٍ لي أحاول أن أقنعه به، بإصرارٍ وحماس وعناد. فاجأني بكلّ معاني الكلمة.
نَفقُدُ كلَّ يوم أناساً نعرفهم ونحبّهم فنحزن، ونفقد أحياناً أناساً تزداد الحياة صعوبة بدونهم.
فهمية شرف الدين:
(عناقيد النور) تتساقط
(كانت هجرتي قسرية وما زالت).
هذا ما قاله لي هشام شرابي عندما عاد ليستقرّ في بيروت. فبيروت تعني له الكثير، فهي في قربها من الوطن الحقيقي تتيح له أن يستعيد بعضاً من نفسه التي أتعبتها المنافي.
وهذا السبب بالضبط هو الذي جعله يجمع في بيته أصدقاءه القدامى وتلاميذه الجدد وكل من صادفهم وأحبهم وعمل معهم على امتداد الوطن العربي.
عرفته باكراً في كتبه وكتاباته، لكنني عندما التقيت به لأول مرة، فاجأني بهذا الهدوء الذي يناقض كتاباته الملتهبة بالثورة على الأوضاع السائدة في العالم العربي.
وفاجأتني قدرته على التحكم بمشاعره التي كانت تنضح بالألم كلما سقط شهيد في فلسطين او ظهرت أعراض الانهيار على مجتمعاتنا وأنظمتنا العربية.
لقد شاء لي الحظ أن أكون قريبة منه وأن أتمتع بصداقته، والأهم من ذلك ان أتعلّم على يديه كيف يكون الفرح مرادفاً للاجتهاد والجدّ، وكيف تكون الغبطة متلازمة مع الدقة وحسن التعبير، وكيف تكون العقلانية أسلوباً للتحكّم بالانفعالات وردود الفعل الاعتباطية.
مات هشام شرابي.
نفتقدك أيها الصديق، وسيفتقدك هواء البحر ونسيم الجبل الذي أحببت.
مات هشام شرابي،
فهل بدأت عناقيد النور بالتساقط؟
جبران عريجي:
لم ينطفئ
نادرة النصوص التي تشبه أصحابها،
هشام المُحكم والبسيط،
وحده جميل كفصه،
ووحده حين تعرّض بالنقد لسعاده وحزبه، شكّل عبر نقاشه جاذبية نحو سعاده وعقيدته لم توفرها كتابات الكثيرين من الحواريين المنتظمين، ما أبقاه دائما رفيقا ولو من خارج تقاليد العضوية.
ما هذا السحر!!
ف(جمره ورماده) يصبح عند قراءته صفحة تُفتح ولا تُطوى: الجمر يصير اشتعالات في الذاكرة والرماد حرائق الماضي التي تضيء المستقبل.
وعظمته هذا التجاوز الدائم لليقينيات والاطلاقيات، دائم السؤال مهجوساً بالحقيقة، والوصول إليها لم يكن هدفا، بل العمل من أجلها هو الهدف. أليست هذه صورة المثقف الملتزم؟؟
عميقا كان من دون ادعاء في زمن الادعاءات الطاغية، والمتفائل رغم الخيبات.. هذه الخيبات التي أبعدته عن المكان، بالمسافة لا بالوجدان، فحوّلته شهيد (الإثم الكنعاني).
ورغم ان كتبه صارت له وطنا، كان إصراره الدائم ان تبقى حقائبه محزومة للسفر الى رأس بيروت أقرب نقطة الى يافاه التي غابت تحت أقدام البرابرة. حكايته كذاك المسافر.. يأبى ان يعود ليُسلم الروح على شاطئ شهقاته الأولى.
بعد سماعي لمحاضرته الأخيرة والأثيرة عن سعاده أيقنت ان السنوات لم ترم رمادا. وأيقنت أيضا، عندما التقيته آخر مرة مع أدونيس يستعيدان تلك الأيام الخوالي، ان سعاده صنع رجالا لكل الأزمنة المليئة بالصعاب.. وأيقنت أكثر ان التغلب على هذه الأزمنة يحتاج الى الكثيرين من هشام، يأتون ويقيمون، فهو من أزرار الذهب في قميص النهضة.
يوسف معوض:
واجه الموت بقناعاته
(لا أريد ان يدري أحد بمرضي، لا أريد عطف الآخرين وشفقتهم)(?).
وقفة هشام شرابي أمام الموت المنتظر وكل مراحل حياته كانت تحضيرا لساعاته الأخيرة. فهو يتذكر كيركجارد وكيف تحكم الموت بأفكاره وكيف كان (يبغي الخلاص بواسطة إيمان رفضه عقله). ولكم جاهد ابن هذه الأرض ليتحرر من الخوف (ومن الجذب السلفي ومن التعاويذ الدينية للسير في طريق العقل الموضوعي)(??).
واجه هشام شرابي الردى وحيدا كما أراد، هزيل الجسم، منيعا بقناعته ان لا قدر سوى هذا القدر وان لا منتصر سوى الموت. إنما شرف الانسان ان يقول لا وان يقاوم.
مات على الطريقة التقليدية محاطا بالأهل والرفاق، الا انه أبى ان يكون غيابه شأنا عاما بل أراده من ضمن تلك الحميمية التي نستشعرها في سيرته الذاتية.
قال أحدهم: لا، تسعة أشهر لا تكفي لخلق إنسان، بل ستون سنة على الأقل شرط لتكوينه. وعندما يصير هذا الانسان حقيقة إنسانا، متحررا من كل البراثن، بعد كل الجهود والمشقات، عندئذ لا محال يدق الموت على الأبواب!
(?) صور الماضي.
(??) الجمر والرماد.
هيفاء بيطار:
فضاء حرية
التقيت هشام شرابي لأول مرة في القاهرة عام 1999 أثناء حضور مؤتمر بمناسبة مرور مئة عام على وفاة قاسم أمين. لم أكن وقتها قد قرأت له شيئا. أتذكره تماما، رجلا صامتا، مُحصّنا باللطف، متشحا بالحزن، وكنت أنا امرأة تضج بالرفض، ولا أعرف كيف حرض صمته الرغبة لدي بشرح ما بنفسي. أدهشتني طريقة إصغائه إلي، إصغاء فيه تفهم وحنان وعطف، ولم أتوقع ان أتدفق أمامه بكل تلك الجرأة... أذكر تعليقه على سيل الكلام الذي بحت به: كم هو صعب ان يكون الانسان امرأة في هذا العالم العربي المتخلف.
عبارة آلمتني كثيرا، وانحفرت عميقا في قلبي، ولا تزال هذه العبارة تفعل بي في كل مرة أجلس الى أوراقي.
كان كرما كبيرا من القدر ان ألتقي هشام شرابي الذي علمني الشجاعة الحقيقية وعلمني من دون ان يعظ او يغمرني بالنصائح، كيف أكون ذاتي، وكيف أحول رفضي وضجري وإحساسي بالظلم الى كتابة مختلفة. في الواقع لم اشعر بأنني أمام رجل أثر في حياتي، بل كنت أمام فضاء حرية، أمام فكر جديد، وفهم جديد لنفسي وللعالم. لا أعرف كيف أثر فيّ هذا الرجل العظيم الطاقات، كيف جعلني أستكشف طاقاتي، وأحلل بعمق الظروف التي نعيشها. عظمة هذا المفكر انه يضع خميرة التغيير في نفوس من حوله. أذكر تأثيره التحريضي فيّ، فقد كتبت له عشرات الرسائل حين كان في واشنطن. في الحقيقة لم تكن رسائل بالمعنى التقليدي، بل كانت نصوصا لاستنهاض طاقاتي المكبوتة.
وللأمانة أحب ان اعترف بأن هناك كتابات، ما كان بإمكاني كتابتها لولا شرابي. إنه لم يعلمني كيف أنتصر على خوفي من الرقيب، فهو يعلم ان هذا الخوف سيظل معششا في نفوسنا، لكنه علمني كيف أتحايل على هذا الخوف، وكيف أطوعه لخدمة الكتابة:
الكتابة الصادقة التي تبغي التغيير الحقيقي في المجتمع.
انه من المثقفين النادرين، الذين ناضلوا بحماسة بثقافتهم وكتاباتهم. كان مسكونا بوجع كل فلسطيني، وكل عربي. لم تكن لديه حياة خاصة، فهو لا يطلب شيئا لنفسه، كان يصغي لنشرة الأخبار وهي تعرض المآسي على ارض فلسطين، وهو واقف ويداه في جيبي بنطاله، وفمه مطبق من مرارة ما يحدث. لقد أهدى حياته وثقافته لقضية وطنه. وحين رافقتُه ذات يوم مع شلة من الأصدقاء الى جنوب لبنان لزيارة القرى المحررة، وأطل من هناك على الأراضي الفلسطينية، لم يستطع احد منا ان يخدش صمته وهو يقف سارحا بنظره الى البعيد، وقد عصر الألم قلبه. كان يعيش ذلك الماضي الذي لم يمت يوما في قلبه. وفي طريق العودة طلب من السائق ان يتوقف في مدينة صور. ومن دون ان يتفوه بكلمة، وجدناه يركض باتجاه البحر، وينحني ليداعب الزبد، ثم يمسك حفنة من التراب الرطب يعصرها بيده، ثم عاد الى السيارة محاذرا النظر في عيوننا وقال بصوت اجتهد ان يكون محايدا: هيا لنتابع المسير.
صعب ان اعبر بمجرد كلمات عن مثقف ومناضل وثوري كهشام شرابي. لكن أكثر ما يؤثر فيّ انه من النادرين الذين يؤمنون حقا بتحرر المرأة، وبأنه كان يدعم المثقفات بكل إمكانياته وإيمانه بدور المرأة في بناء مجتمع صحيح العقل.
***
بطاقة
* أحد أبرز المفكرين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، وواحد من ألمع الأسماء الفلسطينية في الغرب الأميركي. ويعتبر، الى جانب إدوارد سعيد ووليد الخالدي وإبراهيم أبو لغد ونصير عاروري، أشهر من دافع عن القضية الفلسطينية في الولايات المتحدة.
* وُلد في يافا سنة 1927، وأمضى طفولته في عكا، ودرس في مدرسة (الفرندز) في رام الله. ثم انتقل الى المدرسة الاستعدادية في بيروت )ة( سنة 1938، وتخرّج فيها سنة 1943. وتابع دراسته في الجامعة الأميركية التي نال منها البكالوريوس في الآداب سنة 1947.
* درس على شارل عيساوي وشارل مالك، لكن أستاذه الحقيقي كان أنطون سعادة. ولهذا الانتماء قصة تروى: في البداية كان هشام شرابي قومياً عربياً، وانضم الى (الحركة العربية السرية) التي كان قائدها قسطنطين زريق. ومعه كل من شفيق جحا وكاظم الصلح وواصف كمال وممدوح السخن ودرويش المقدادي وغيرهم. وقد كلفه أستاذه شارل عيساوي بوضع دراسة عن الحزب السوري القومي الاجتماعي. وكانت هذه الدراسة الباب الذي ولجه شرابي لينتقل من الفكرة العربية الى الفكرة السورية بتأثير مباشر من أنطون سعادة. ومنذ ذلك الوقت صار من المجموعة اللصيقة بسعادة.
* أحب فتاة بولدنية تدعى هيلدا في الجامعة الأميركية، لكنه تزوج سنة 1955 امرأة أميركية من أصل فرنسي وله منها فتاة اسمها ناديا. ثم تزوج ثانية امرأة أميركية وله منها ليلى.
* غادر الى الولايات المتحدة سنة 1947 والتحق بجامعة شيكاغو التي تخرّج فيها حاملا الماجستير سنة 1948. لكنه لم يلبث أن قطع دراسته وعاد الى لبنان ليكون الى جانب أنطون سعادة ويتسلم مسؤولية عمدة الثقافة والفنون الجميلة في الحزب.
* سقطت فلسطين بأيدي الصهيونيين بينما كان مقيماً في بيروت. وكان قد غادر مدينة يافا في سنة 1947، ولم يتمكن من رؤيتها ثانية إلا سنة 1993، ثم زارها في أيار 2001 لتوديع صديقه إبراهيم أبو لغد.
* كان الى جانب أنطون سعادة عندما غادر لبنان سراً الى دمشق أواخر حزيران 1949. وكان آخر لقاء له معه قبل يومين من اعتقال سعادة في دمشق وتسليمه الى السلطات اللبنانية التي سارعت الى إعدامه غيلة في 8/7/1949. وقد فجع لهذه الجريمة، واضطر الى مغادرة دمشق الى عمان حزيناً وغاضباً.
* سافر الى الولايات المتحدة الأميركية والتحق بجامعة جورجتاون، وحاز الدكتوراه سنة 1953. وفي هذه الأثناء استمر ناشطاً في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكان يراسل مجلة (الجيل الجديد) و(البناء) من نيويورك وواشنطن الى دمشق.
* استقال من الحزب السوري القومي الاجتماعي في 22/4/1955 أي بعد اغتيال عدنان المالكي مباشرة.
* عمل أستاذاً للتاريخ الأوروبي الحديث في جامعة جورجتاون، وترأس تحرير (مجلة الدراسات الفلسطينية) (بالإنكليزية) في واشنطن من أوائل الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات.
* تحول من الليبرالية الى الماركسية بعد سنة 1967. وجراء الهزيمة المدوية أعاد قراءة كارل ماركس، واكتشف كيف أن الثقافة المسيطرة في الولايات المتحدة قادرة على إخضاع عقيلة الفرد لقيمها، وأدرك ان الخطوة الأولى في التحرر هي التحرر الذاتي والتخلص من عبودية الفكر المسيطر، وصارت كلمة (الثورة) هي المفتاح السحري للتغيير. وهكذا بدأ عالم جديد يتكشف أمامه، عالم فكري فسيح يمتد من ماركس الى ماركوز. وفي هذه السنوات الخصبة أبدع نحو خمسة عشر كتاباً أبرزها: (المثقفون العرب والغرب) (1971)؛ (مقدمات لدراسة المجتمع العربي) (1975)؛ (الجمر والرماد) (1978)؛ (البنية البطريركية) (1986)؛ (النظام الأبوي)؛ (النقد الحضاري للمجتمع العربي) (1991)؛ (صور الماضي) (1933).
نعاه كل من: محمود عباس (أبو مازن) رئيس السلطة الفلسطينية، وزارة الثقافة الفلسطينية والوزير يحيى يخلف، الحزب السوري القومي الاجتماعي، نايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، جمعية الجذور الفلسطينية.
يشيّع الكاتب الراحل، غدا، في موكب ينطلق من أمام مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، عند الساعة الحادية عشرة ظهرا، ويصلى على جثمانه في مسجد البسطة التحتا، ثم يوارى الثرى في مدافن الباشورة.
تقبل التعازي، بعد الدفن وطيلة يوم الأحد في 16 الحالي، في نادي خريجي الجامعة الأميركية رأس بيروت.
السفير- 14 - يناير 2005
*****
هشام شرابي يغادر منافيه الكثيرة الى مثواه الأخير:
مصير المجتمع العربي يتوقف على مقدرته في التغلب
على نظامه الأبوي واستبدال مجتمع عربي حديث مكانه
مكاتب "المستقبل" في بيروت ، دمشق ، عمان والناصرة :
هشام شرابي الذي توفي ليل الخميس الماضي عن 78 عاماً في بيروت، اثر صراع طويل مع أزمات صحية لازمته منذ عدة سنوات، كأنه من العناقيد الأخيرة لكوكبة الحداثة السياسية والأدبية والفكرية والاجتماعية. من يافا الى بيروت، فإلى الولايات المتحدة، فإلى بيروت، وبينها أسفار وجولات في أنحاء العالم، كان شرابي يحمل منفاه الفلسطيني في منافيه الكثيرة، ويحمل هويته الفلسطينية في هويات عدة مفتوحة باطراد وحيوية، لكي لا يأسره ضياع أرض ووطن وتاريخ وراء قضبان الانغلاق، والتقوقع. وعلى هذا الأساس، كان يبحث عن انتماء "يوصله" الى وطنه. يكسر غرباته الجغرافية والنفسية والجسدية، يتفتح على كل ما صنع تلك المرحلة الخمسينية من القرن الماضي، فكراً وأدباً وسياسة وعقيدة، من الحزب السوري القومي الاجتماعي، الى الاقتراب من الجدلية، الى أفق ليبرالية نقدية، الى رصد سوسيولوجي للمجتمع، الى ملامسة فرويدية تبحث في العلاقات الأبوية، الى نقد ذاتي وللثقافة العربية، وللمثقفين، الى عدم مهادنة العدو المغتصب، ولكن الى عدم مهادنة السلطة أي سلطة، إذا لم تسلك الطريق الديمقراطي. وفي كل هذا، كان هشام شرابي يتجاوز ذاته باستمرار، لمعانقة ولادة ذات اخرى، وأفكار متجددة اخرى، أبعد من الايدولوجيا الجامدة، وأبعد من الأفكار الجاهزة، وأبعد من معطيات النهضة العربية، التي يرى انها انتهت في منتصف القرن الماضي.
مفكر ما بعد النهضة؟ مفكر ما بعد الأفكار الجاهزة؟ مفكر ما بعد البنى الأبدية، مفكر ما بعد التابوهات الفكرية، هذا هو الراحل الكبير، عقل نقدي، وكاتب مرهف، ومحلل صارم، وملتزم بلا تعصب، ووفيّ بلا حدود لأرضه وأمكنته الأخرى وأصدقائه.
رضوان السيد:
شرابي قبل الايدولوجيا وبعدها
سمعت مرة من شارل عيساوي الذي كان يدرّس العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في بيروت في الأربعينات، انه كان يُعطي كورساً في العلوم السياسية عن الأحزاب، فكلّف تلميذه هشام شرابي بكتابة ورقة الى الحزب القومي السوري، وذهب شرابي فقابل انطوان سعادة الذي كان عائداً حديثاً الى لبنان، وعاد وقد أخذ الحزب بلبّه، وظل الأمر كذلك طوال حياته، لكن ليس للحزب بل لأنطوان سعادة شخصياً!
عرفنا جميعاً فلسطينيي الولايات المتحدة عندما بدأوا يظهرون اهتماماً بالقضية الفلسطينية، ويأتون للبنان أواخر الستينات ليروا كيف يستطيعون المساعدة في سياق قوى منظمة التحرير الفلسطينية.
وسمعت وقتها للأستاذ شرابي بعض المحاضرات، لكنني لم أعرفه حقاً إلا بعد ظهور كتابه "الحجر والرماد" الذي يُعنى في الحقيقة بعلاقته الشخصية بالزعيم انطون سعادة، القائد الكارزماتي، الذي كانت هناك أسباب كثيرة لفتنته به، ليس أقلّها مذهب سعادة القاطع في الموقف من اليهود، ومن قضية فلسطين.
وفي الثمانينات من القرن الماضي لفتت انتباهي من جديد كُتُبهُ ومحاضراته عن البطركية والمجتمع البطركي العربي. المقارنة ما كانت سوسيولوجية ولا تاريخية؛ بل نظرية وأيديولوجية. ولذلك ما أمكن تطويرها باتجاه نِسْوي كما طمحت جمعيات عربية للمرأة، ولا أمكن اختراقها من جانب القائلين بالرؤى التنموية فضلاً عن التوجهات العروبية والإسلامية طبعاً.
ما تناقشت مع هشام شرابي إلا في تسعينات القرن الماضي. وهو رجل طيب، سليم الطوية، وشديد الاستقامة بحسب مفهومه لما يجوز وما لا يجوز في الحياة الحديثة. وفي الأحاديث الخاصة سمعت منه عن هيغل وماركس واقتصاديات العولمة وفلسفتها، وهذا تخصصه في الأساس، لكنه ما كتب كثيراً فيه؛ بل انصرف لاجتماعيات الفلسفة بحسب اعتقاده. وقد سيطرت عليه في السنوات الأخيرة إحساسات بالفجيعة وسوء المصير، ما غيّرت من تشخيصه للواقع الاجتماعي والسياسي؛ باستثناء ملاحظات سلبية عن كل الإيديولوجيات المطروحة.
ما كنت متفقاً مع بطركية شرابي، لاعتقادي انها لا تشكل تشخيصاً صحيحاً حتى لمشكلة المرأة والأسرة في اجتماعنا البشري. لكنني ظللت مفتوناً بمذكراته وسيرته الذاتية، وبتلك الألفة التي يبعث عليها شخصه. وقد قال لي مرة: فلسطين قبل الإيديولوجيات وبعدها! فلتبقَ فلسطين، ولتبقَ ذكرى هشام شرابي، رجل الطيبة والصلاح العلماني!
عمر كوش:
هل نفكر في أزماتنا؟
بوفاة هشام شرابي، فقد الفكر والثقافة بشكل عام أحد الرموز المعاصرين الذين انشغلوا بقضايا وهموم هذا العصر العسير، عصرنا المليء بالحروب والمجازر، والذي يعج بالمتناقضات والإشكاليات. وربما لم ينشغل مفكر عربي في تحليل أزمة المجتمعات العربية مثل هشام شرابي، فدرسها في تداعياتها المختلفة، باحثاً عن تموضع وتمظهر الأزمة، وعن إمكانيات الحلول. وقد قدم طوال حياته في الولايات المتحدة الأميركية المثال لمثقف المهجر، الذي لم ينقطع عن مشاغل مجتمعه وناسه، بل كان في سعي دائم إلى الاشتراك من خارج الحدود في إفادة وطنه والمساهمة في خلاصه من التبعية والاستبداد.
ومثله مثل إدوارد سعيد، كان هشام شرابي فلسطيني الانتماء ويعيش في أميركا، لكن هذا الازدواج في الهوية، لم يثنه عن الإنتاج الفكري والعمل الأكاديمي المتواصل، فعمل أستاذا لتاريخ الفكر الحديث في جامعة جورج تاون في واشنطن، وأصدر العديد من المؤلفات التي تركت بصماتها في الفكر والثقافة العربية، منها: "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"، و"الوعي والتغيير" و"الإنسان العربي والتحدي الحضاري"، و"التربية والتثقيف الاجتماعي"، و"النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي"، و"المثقفون العرب والغرب" و"أزمة المثقفين العرب".
وينهض فكر هشام شرابي على تصديه الشجاع لأكبر العوائق التاريخية الموروثة، المتمثلة في النمط الأبوي البطريركي، القادم إلى حياتنا من الموروث القديم، حاملاً هيمنته وقسوته واستبداده. ذلك النموذج الأبوي الذي يطبع البنية الاجتماعية بكاملها بطابعه، مقدماً قيم استعلاء وأفضلية الذكر على الأنثى، والغني على الفقير، والجماعة على الفرد، والكتاب على القارئ، والذي أفضى إلى إنتاج أجيال تقبل هذه التراتبية وتعمل وفقها، بل وتعيش بالسلبية وتوافق على التهميش، فينتفي الإبداع ليسود الإتباع والاستتباع، وتموت روح المغامرة لتركن إلى المألوف والسائد، والنتيجة الحاصلة هي التخلف عن مواكبة العصر، واستمرار التخلف عن روح العصر في شتى الصور والمجالات:
الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، ومآل التخلف هو مآل الوقوع تحت سيطرة القوى الخارجية الطامعة، وهي ليست قليلة العدد والعدة، ولا تنقصها الشراسة والأطماع.
لكن كيف يمكن كسر هذا الطوق المحكم؟ يردّ هشام شرابي على هذا السؤال بالقول: بتغير اللغة، وقد يقول أحدنا: هل تنفع اللغة وحدها؟ لكن اللغة ليست مجرد وسيلة اتصال سوسيولوجي وحسب، إنما هي جهاز لخلق الأفكار كذلك، وتجديد الحياة، وتتحقق إمكانية ذلك عبر إصرار المثقفين على غرس المصطلح العلمي في التربة المحلية، والارتكاز على أرض الواقع المعاش، والابتعاد عن التحليق في فضاء الفكر المجرد، والسباحة في بحر الكلمات الطانة الفارغة، فحين يتخلص المثقف من تبعات الماضوية وأحلامها، ويتوقف عن ترديد مقولات المذاهب والنظريات من خارج بيئته، من غير دراستها بعمق، وأقلمتها وفق مقتضيات التربة الوطنية، يمكن حينئذ إبداع وخلق نظريته الملائمة.
وفي كتابه "المثقفون العرب والغرب" حلل هشام شرابي العلاقة الإشكالية بين النخبة العربية والمنجز الغربي خلال الفترة من 1875 إلى 1914، وخلص إلى أن العلاقة بين المثقفين العرب والغرب لا تزال ملتبسة، قائمة على الشدّ والجذب، لكن حين نتفهم الغرب، ونتعرف عليه بالتجربة والمعاناة المباشرتين، كما تفهمه وتعرف عليه الكثير من المثقفين العرب في الفترة المدروسة، يصبح بمقدورنا فك الارتباط به، والاستقلال عنه، من غير الانعزال أو إلغائه. ومهما حاولنا التخندق والابتعاد، فإنه لا مهرب لنا من الغرب إلا بمواجهته والتصدي له، خصوصاً ونحن ما نزال الطرف الضعيف، المهمش في نظامه الجديد، لكن ذلك لا يلغي قدرتنا على العمل والنضال ضده، والثبات في وجهه حتى نتحرر من تبعيتنا له، ونقيم النظام العربي المستقل المنشود.
ومكمن الأزمة يراه هشام شرابي في احتدامها في وعي الطبقة المثقفة والمسيسة، التي تعبر عن نفسها على مستويين: على مستوى خطاب تحليلي نقدي وعلى مستوى حركات اجتماعية جديدة، لا يمكن تجاوز هذه الأزمة وتحقيق التغيير الحقيقي الذي يتيحه التاريخ داخل المجتمع إلا بالتقاء المستويين. فمجرد النقد النظري وما ندعوه بالحركات الاجتماعية: الاتحاد والجمعيات والنقابات والأحزاب وقوى المجتمع المدني كافة، عاجز كل بمفرده عن تفعيل عملية التغيير في بنية الواقع. فقط عندما يتجسد خطاب النقد الحضاري بنشاطات الحركات الاجتماعية وفي أهدافها وممارساتها يصبح تجاوز الأزمة وإعادة بناء الصرح الاجتماعي مشروعا سياسياً فعلياً. وحتى زمن قريب شكلت الأزمات الحادة مفجر التغيير الثوري، أما اليوم فهي مفجر لا ثوري لإمكانية تحقيق ترتيبات اجتماعية جديدة يتبلور مضمونها في الخطاب النقدي العلماني داخل العالم العربي وفي المهاجر العربية ويتركز حول ثلاثة محاور رئيسية: الحداثة والديمقراطية والمرأة التي تلخص عملية التغيير الحضاري اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. أريد هنا التوقف لحظة عند دور المرأة الاستراتيجي في علمية التغيير. إن المرأة العربية في المجتمع الأبوي تمثل بغض النظر عن طبقتها الاجتماعية حالة القمع والاستغلال والحرمان التي يعانيها المجتمع ككل.
ويضع هشام شرابي في كتابه "أزمة المثقفين العرب" شروطاً للخلاص من الأزمة، حيث يركز على أولوية تحرر المرأة العربية، وعلى تغيير البنية البطريركية في مجتمعاتنا، وعلى خطة اقتصادية، تجعل العالم العربي، الغني بالثروات والطاقات البشرية، وحدةً متكاملة؛ وأخيراً غياب الحرية، بوصفها الأساس لتطور أيِّ مجتمع، وبالتالي يجب أن يتمتع المثقفون العرب بالحرية. لكن يبدو أن المثقفين العرب نتيجة الوضع الراهن لم يبقَ أمامهم، منذ تشكل الدولة الوطنية بانتهاء مرحلة الاستعمار، سوى انتهاج أحد السبيلين، إما القبول بالواقع الجديد الذي بدأ ينحرف منذ أن جلس القائد "المخلص" على كرسي الزعامة، حيث لم يترك للمثقف سوى مهمة الانخراط في الآلة الإعلامية والمنظومة الفكرية (الثوروية) للسلطة الجديدة، متحولاً بذلك إلى بوقاً من أبواق هذه السلطة وأجهزتها القمعية، أو أن يختار الطريق الثاني وهو المنفى إن وجد إليه سبيلاً، مع أن قلة من المثقفين اختارت البقاء والسكوت على الوضع الراهن، أو الركون إلى الكهوف المظلمة.
ويحدد هشام شرابي سمات الوضع الراهن في البلدان العربية في غربة السلطة عن شعبها وإبعاده عن المشاركة في اتخاذ القرارات التي تحكم مصيره وإخضاعه لمبدأ القوة، وكذلك حرمان المرأة حقوقها، إضافة إلى حرمان الرجل، وغياب المجتمع المدني، وضياع الحقوق الإنسانية للأفراد والجماعات الأهلية، وغير ذلك الكثير.
ولم تكتفِ السلطة الحاكمة في المجتمع الأبوي بتقويض القيم الاجتماعية في المجتمع التقليدي، بل عملت كذلك على تقنين العلاقات الاجتماعية ودفعها إلى الاغتراب. ومن الطبيعي أن ينتج ترسيخ مبادئ السلطة الحاكمة قهراً، يؤدي بدوره إلى رضوخ عمل التربية الاجتماعية كراهية أم طواعية إلى القيم الفوقية المستبدة. وبالتالي نتج عنها الخروج، أحياناً، عن طاعة الوالدين إلى طاعة الملزم السياسي الحاكم.
وبعد رحيل هشام شرابي، يبقى علينا التفكير بوضوح في أزمة الواقع الراهن، وأن نعتبرها، كما اعتبرها هشام شرابي نفسه، "فرصة تاريخية" جديدة أمامنا، للبحث في أسباب الأزمة التي تواجه بلداننا العربية في عالم اليوم، وهي تتعلق مباشرة في أوضاعنا الداخلية، في السلطة وفي المجتمع، ويتوجب الكف عن الرمي بأسباب الأزمة على "الآخر" والاعتراف بالمسؤولية، ومن ثم البحث في جذورها وتبعاتها القريبة والبعيدة، والبحث في علاجها والخلاص منها.
رضوان جودت زيادة:
أزمة النظام الأبوي العربي
من المعروف أن الدراسات الأنتربولوجية حاولت دراسة المجتمع العربي وفقاً لثقافته وعاداته وتقاليده وبناه التربوية عن طريق تحليل أمثاله الشعبية أو نمط قراباته العائلية إلى غير ذلك من الدراسات الانثربولوجية التي أخذت في وقت من الأوقات أهمية كبرى من خلال تحالفها مع الاستعمار في سنواته الأولى، وربما تمكنت الدراسات الانتربولوجية بعد ذلك من إعادة النظر في مناهجها العلمية وسياقاتها النظرية مما مكنها من التحرر نوعاً ما من الانحياز الغربي.
لقد عملت هذه الدراسات على قراءة المجتمع العربي قراءة أشبه بدراسات البنية الثابتة القارّة غير المتغيرة، فالمجتمعات العربية وفقاً لذلك هي مجتمعات ساكنة وقدرتها على التحول والتغير بطيئة بحكم كون ثقافتها التي تنطلق منها رؤية هذه المجتمعات للعالم هي ثقافة سكونية، وهكذا سقطت هذه الدراسات في فخ النظرة التأبيدية ولم تتمكن من استيعاب العوامل الاجتماعية والسياسية والخارجية التي كان لها دور مؤثر في ثقافة هذه الشعوب وحياتها، ولا يخرج الكلام الكثير حول الاستبداد الشرقي عن هذا الإطار، لكن تطور مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية كان الكفيل برفض هذه الدراسات الانتربولوجية التي تنتهي إلى نوع من أنواع العنصرية الثقافية، وبدأ ترسيخ نوع جديد من الانتربولوجيا يقوم على الانتربولوجيا الثقافية، التي يعتبر كلود ليفي شتراوس أبرز دعاتها، مهما يكن فإن هذا النوع من الدراسات المجتمعية حرض العديد من الدراسات لقراءة المجتمع العربي وفق هذا المنظور الانتربولوجي، معتبرين أن هذا النوع من الدراسات يدخل إلى عمق المجتمعات العربية وخصوصياتها إضافة إلى أنه يهتم بالبنى العميقة وليست السطحية التي غالباً ما تكون نتاج التحولات الطويلة الأمد وليست خاضعة للمتغيرات الآنية والسياسية، هذا المدخل المنهجي هو الذي حرض هشام شرابي على دراساته لإشكالية تخلف المجتمع العربي على أنها أزمة تكمن في بنيته الأبوية (البطريركية) الكامنة في المجتمع العربي، وقد كان شرابي الأكثر بروزاً في هذا النوع من الدراسات.
يهدف شرابي من دراساته هذه إلى الكشف عن أسباب التخلف العربي وكيفية تجاوز هذا التخلف والتغلب عليه، والتخلف هنا ليس تخلفاً اقتصادياً أو إدارياً أو إنمائياً، بل إنه كامن في أعماق المجتمع العربي لا يغيب لحظة واحدة، بل إنه يقبله ويتعايش معه كما يتقبل الموت مصيراً، ويتخذ هذا التخلف صفتين مترابطتين هما: اللاعقلانية والعجز، الأولى تتجلى في عدم القدرة على التدبير أو الممارسة، والثانية في عجزه عن التوصل إلى الأهداف التي يرنو إليها.
وبالتالي فمصير المجتمع العربي إنما يتوقف على مقدرته في التغلب على نظامه الأبوي واستبداله بمجتمع حديث، فما الذي كان يعنيه شرابي بالنظام الأبوي في المجتمع العربي، يظهر هذا النظام في البنى السياسية والاجتماعية والنفسية، ويقوم حجر الأساس فيه على استعباد المرأة ونفي وجودها الاجتماعي، ذلك أنه مجتمع ذكوري تسكن فيه الذهنية الأبوية ذات النزعة السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوباً لفرض سيطرتها، ولذلك فإذا أراد المجتمع العربي أن يبقى ويستمر فلا بد من تغييره تغييراً جذرياً شاملاً، عن طريق رؤيةٍ بعيدة المدى ونوعٍ من الممارسة الجماعية التي يجب أن تؤدي إلى إزاحة الأب رمزاً وسلطة وتنتهي بتحرير المرأة قولاً وفعلاً.
غير أن شرابي لم يكن يبني مفهومه عن النظام الأبوي في المجتمع العربي كما ساد في المجتمعات الغربية ويعمد الى تطبيقه في العالم العربي، إذ إنه يلحظ أن هناك بعداً آخر ضمن هذا النظام قد حدث في المجتمعات العربية هو التحديث الذي نتج عن الاحتكاك بالحداثة الأوروبية، مما جعل المجتمعات العربية مجتمعات هجينة لا تنتمي إلى النظام الأبوي التقليدي ولم تدخل بعد عصر الحداثة، لذلك لا يمكن قراءة المجتمع الأبوي العربي إلا وفق رؤية التبعية والأبوية، فالتبعية هي العلاقة التي نجمت عن سيطرة أوروبا الحديثة على العالم العربي، حيث أن الرأسمالية الأوربية التي تغلغلت في البلدان العربية أدت إلى نشوء رأسمالية تبعية ومزيفة، وحالت دون ظهور طبقة برجوازية ناضجة، وطبقة عاملة أصيلة، وعليه فإن "النظام الأبوي المستحدث" كان في نظره، حصيلة اقتران الإمبريالية بالأبوية.
ولذلك كان شرابي على خلاف في نظريته عن الأبوية في المجتمع العربي عن نظرية نمط الإنتاج الآسيوي في الدراسات الماركسية أو فكرة الاستبداد الشرقي في الدراسات الاستشراقية، فقد كان يعالج الأبوية العربية انطلاقاً من تصور محدد لكلية نفسانية؟اجتماعية نقع عليها في بنى اجتماعية ونفسية، وتنطوي هذه الكلية على سلم قيم وممارسات اجتماعية تنتمي إلى اقتصاد وثقافة واضحة المعالم وهذه البنى موجودة في جميع المجتمعات الأبوية العربية بغض النظر عن اختلافها في المظهر إلا أنها تتقاسم البنى العميقة نفسها، وقد تسلسلت حقبات الأبوية العربية الإسلامية بدءاً من العصر الجاهلي فعصر الخلفاء الراشدين وانتهاءً إلى عصر السلطة العثمانية. ثم تمظهرت الأبوية المستحدثة في العصر الحديث حيث نلحظ بنى بدوية وتقليدية وسابقة على الحديثة وحديثة، وهكذا فالأبوية المستحدثة قد ترسخت في المجتمع العربي عبر حقبٍ طويلة الأمد وأعادت إنتاج خطابها التحديثي في العصر الحديث عن طريق اللغة والأدب، إلا أن مضمون هذا الخطاب بقي فكراً مجرداً وطوباوياً، يعمل على تثبيت أسس النظام القائم أكثر مما يهدف إلى نقد بنيته السياسية والعقائدية، وعليه فقد بقي هذا الخطاب مقموعاً في وجه الخطاب الديني التقليدي ولم يحدث أثراً في المجتمعات العربية التقليدية.
إلا أن الحقبة المعاصرة عملت على إنتاج نقدٍ جديدٍ تمكن من النفاذ عميقاً إلى جوهر الخطاب الأبوي المستحدث من أجل تغييره جذرياً والكشف عن التقاليد والعادات والطقوس التي يفرضها المجتمع على أنها قيم وفرضيات كمسألة الجنس ودور المرأة والسلطة السياسية والكبت الجنسي. لقد راهن شرابي على أن النقد الجديد سيتمكن من تغيير الوعي السياسي تمهيداً لحدوث الثورة السياسية، وهو بذلك تفاءل بحتمية النصر للقوى الديمقراطية العلمانية والاشتراكية والإنسانية العادلة، مما جعله يسقط في إجابته عن السؤال الملح (ما العمل؟) إلى نوعٍ من الخطابية ورفع الشعارات "التقدمية" وإلى تبني حلول لا تنتمي إلى نفس البدايات المنهجية التي انطلق منها. لقد أحسن شرابي بكل تأكيد في تشخيص الأزمة في البنية الأبوية العربية القائمة على التسلط والتراتبية الفوقية، التي تبدأ من الأسرة وتنتهي في رأس الهرم للسلطة السياسية، إذ هي تقوم على الهيمنة الأبوية (البطريركية).
ورغم أن شرابي يبدو في بعض تحليلاته ماركسياً إلا أنه لا يبدو ماركسياً أرثوذكسياً، لا سيما حين يحاول الخروج عن الترسيمات والوصفات الماركسية الجاهزة، فهو يصر على قراءة التراتب الاجتماعي في الوطن العربي على أساسٍ طبقي، إذ يرى أن الطبقة البرجوازية الصغيرة التي تشكلت في البلاد العربية على إثر التحرر من الاستعمار عمدت إلى الاستيلاء على السلطة ولم تتمكن على الإطلاق من تنفيذ المهام الملقاة على كاهل كلٍ من البرجوازية (أي التنمية الاقتصادية الرأسمالية) والبروليتاريا (التحول الاجتماعي الثوري). ثم عرّى حكم الطبقة البرجوازية الصغيرة هاتين الطبقتين اللتين أعاقت التبعية والإمبريالية نضجهما ثم حجمتهما، وساهم هذا الحكم أيضاً في انتشار نوع من الخلخلة أحدث انشقاقاً طبقياً حاداً بين النخبة البرجوازية الصغيرة الجديدة في مواقع السلطة في الأنظمة "التقدمية" والجماهير البرجوازية الصغيرة البروليتارية الآخذة في الحرمان والاغتراب بوتيرة متسارعة، ونتج عن هذا الانشقاق تحول عقائدي تجسد في انتشار أصولية إسلامية مقاتلة.
تبدو دراسات شرابي بعد وفاته بحاجة إلى مزيد من النقد والتمحيص، سيما وأنها أخذت منحىً جديداً ومبدعاً في قراءة أزمة "التخلف" التي عاشها ويعيشها المجتمع العربي.
جهاد الترك:
تجرأ على ارتياد المحرّم
كان هشام شرابي، أحد المفكرين العرب القلائل الذين وجدوا ضالتهم في السوسيولوجيا السياسية، بحثاً وتقصيّاً وتأليفاً. كان يضيء، في ذلك، الى تراث غني من المشاهدات العينية والتجربة المعيشة بدءاً من نكبة فلسطين التي حملته على مغادرة مدينته يافا الى الأبد، مروراً بالنكسة وحرب لبنان ومن ثم الانتفاضة، وما بين هذه وتلك من مستجدات مغرقة في مأسويتها.
لماذا جنح شرابي في كتاباته ودراساته الى البحث عن موقع للانسان العربي على خلفية الاجتماع السياسي الذي لم يطرأ عليه تغيير يذكر منذ النكبة؟ ولماذا تعمق لديه هذا الإحساس الدفين منذ انتقاله للعيش في الولايات المتحدة الأميركية استاذاً جامعياً في الحقل الذي برع فيه، مطوراً نظرياته واستنتاجاته حول تأرجح الانسان العربي بين اليقين والشك والتقدم والتأخر أو المراوحة بين حلاوة الماضي ومرارة الحاضر.
الأرجح انه فعل ذلك توخياً للإجابة عن أسئلة مصيرية حملها في جعبته منذ أن أجبرته الظروف الطارئة على مغادرة فلسطين في العام 1947. ولا يشذ عن هذا السياق، انتسابه، وهو لا يزال طالباً في الجامعة الأميركية في بيروت، الى الحزب السوري القومي الاجتماعي. والأغلب انه وجد في هذا الانتماء الحزبي تعويضاً مبكراً لقناعته بأن النكبة قد غيرت في مفاهيم وشروط الصراع السياسي. ولا بد نتيجة لذلك من استبدال أدوات الصراع بأخرى أكثر ملاءمة لحماية المصير العربي من الوقوف دائماً على شفير الهاوية.
نستدل على هذا في مؤلفاته جميعاً التي كتبها في مغتربه الأميركي الذي ساهم، بدوره، بسبب من التباعد الجغرافي، في جعل صورة ما يجري في الوطن العربي أكثر وضوحاً.
نفي كتابه "المثقفون العرب والغرب"، يطرح هشام شرابي إشكالية سوء استيعاب المفاهيم الثقافية بين المفكرين العرب ونظرائهم في الغرب على قاعدة فشل هؤلاء وأولئك في تنقية الشعارات العالقة بينهما من الصدأ التاريخي الذي يغلف معظمها. وعزا من موقعه كباحث في الميكانيزمات السوسيولوجية، مسؤولية هذا الفشل الى كلتا الجهتين لعدم إقدامهما على بذل جهود حقيقية لإزالة الحواجز بينهما.
وبالمنهجية عينها، يسعى شرابي في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" الى محاولة تقصي أسباب ما يعتبره تخلفاً قسرياً في شخصية الانسان العربي، ناتجاً في رأيه عن انسداد أفق التفاعل بين الفرد وذاته، وبينه وبين محيطه القريب ومن ثم البعيد، وصولاً الى ما يشبه القطيعة بينه وبين المؤسسة السياسية التي يدور في فلكها أو على تخومها أو بعيداً عنها.
ويعتبر، في هذا السياق، أن هذا التمزق إنما يعزى، في جزء كبير منه، الى ذلك التبعثر بين دوامة الماضي ومثيلتها في الحاضر، من دون أن يتمكن من استجماع الخيوط التي تربط بين الاثنتين على نحو من التفاعل المبدع.
وفي كتابه "النظام الأبوي" يتناول شرابي ما يعتبره عقداً نفسية متوارثة جيلاً بعد آخر، غالباً ما تلقي بالفرد العربي في بؤر الخوف من الآخر ومن الذات وكذلك من المجتمع، في نطاق أوسع. ويستنتج شرابي أن الشك والتوجس سرعان ما يصبحان جزءاً من البنية السيكولوجية والذهنية للفرد العربي، فيحملهما معه في حياته العملية والسياسية والعائلية. ويرى أن هذا الاغتراب بين الذات ونفسها، وبينها وبين الآخر، هو مكمن المرض وأصل العلة، ومجلبة لأمراض نفسية أكثر تعقيداً وخطورة. والأغلب ان أهم ما يتوصل اليه شرابي في هذا الكتاب، هو تحليله المبدع لكيفية تكوين النزعة الانتهازية في شخصية الفرد العربي بدءاً من نعومة أظفاره، وتأثيراتها السلبية على مجرى حياته كاملاً، بما في ذلك نظرته الى الحياة وتوجهاته السياسية وقراراته المهنية. ويعتبر شرابي أن هذا "الأعوجاج" في الشخصية يتحول انحرافاً مرضياً في السلوك العام للفرد العربي. وبذلك تتحول الشعارات الكبرى مثل المطالبة بالحرية والمشاركة السياسية والتحرر من التبعية للأجنبي، صرخات جوفاء لا جدوى حقيقياً لها لأنها لا تصدر عن نفس سوية تمسك بزمام أمورها.
هل حقق هشام، في كتاباته، ما كان يصبو إليه؟ نعم الى درجة كبيرة. فقد أثار، على الأقل، تساؤلات كبيرة وخطيرة، كانت وقتئذ من الأماكن التي يصعب ارتيادها بسهولة، خصوصاً ما يتعلق بكيفية نشوء السلطة في العائلة المصغرة، وكيفية تلقي الطفل لمضاعفاتها، أو على وجه أصح تلقينها إياها. كما نجح، مبكراً، في قراءة النظام السياسي العربي على قاعدة من المفاهيم السوسيولوجية المنفتحة على آفاقها الواسعة، معتبراً أن الدائرة المغلقة التي أحاط نفسه بها، ليست سوى تأكل تدريجي لرصيد الحريات الليبرالية التي تصعب مراكمتها بسهولة.
ويبقى أن أهم انجازاته، على الإطلاق، أنه لم يغب بروحه عن الوطن الذي أحب وإن تغرب عنه بالجسد. والدليل أنه لم يكتب عن سواه ولم يشغل ذهنه بغيره، ولم يتخل عن قضاياه حتى اللحظة الأخيرة في حياته المديدة. وقد تكون وفاته في بيروت التي أراد أن يستقر فيها في العام 1974، دلالة على هذا الرباط بين الذاكرة والواقع، بين الطموح الوقّاد والآني الممل.
عاد هشام شرابي من حيث هاجر الى الولايات المتحدة. وبين هذه وتلك هنيهات طويلة مفعمة بالندى المتساقط على أوراق خضراء جميلة لن تذبل.
يقظان التقي:
شخصية جدلية
التقيته لمرتين في العام 1999 وأوائل الألفية الجديدة خلال زياراته المتقطعة لبيروت، وذلك في مقر إقامته في منزل شقيقته في عمارة تطل على الجسر، كما لو أنها كانتون زمني فلسطيني آخر حاضر دائماً في صور المكان هنا وهناك.
بدا لي الأمر على علاقة ما مع الأشياء والأشياء والأشخاص والأمكنة وما حولها والعبرة التي تبدو على الوجه نوعاً من الحنين والتذكر تماهياً ما بين صور الأمكنة ربما، وبالتأكيد صور الأمس ما بين بيروت وحيفا أو عكا أو يافا.
صور البحر والميناء والسمك البوري والطقس الخريفي الأجمل من خريف ورق الشجر الأصغر البني الجميل في واشنطن مقر إقامته الأخرى.
في كلتا المرتين كان الحوار مع هشام شرابي يلامس عنوان المثقفين العرب وإشكالية التغيير الاجتماعي ويأخذ طابعاً مركزاً في أمور سياسية وفكرية مع صاحب "الجمر والرماد" و"صور الماضي" وفي إطار يضعه شرابي لنقسه، إطارا من الرؤية التي تطل من الماضي على الحاضر.
لا أدري إذا كانت سنواته الأخيرة هي سنوات حزينة، لكن بالتأكيد كان فيها شيء من خريف العمر ومن "الورق الأسود" مما يشي بنوع من الارتباك والعصبية والحدة خاصة إذا أخذ الحوار إطار الخواص السياسية لفكر نهضوي ويجمع بين وجوه مختلفة من السياسة الى الفكر والسيرة. ليس صعباً فهم عالم هشام شرابي ووضوح منطقه المضاد لأشكال السلطة كافة ولا سيما منها النظام الأبوي والذكوري في العالم العربي.
شخصية هشام شرابي شخصية جدلية لكن بأطر محددة وثمة التحام عضوي بين كتاباته وحياته، باعتبار الأخيرة تعبيراً من تعبيرات الحياة والمنفى، لكن أكثر التصاقاً وحميمية وعضوية مع الماضي، الذي كان يشكل عصباً من أعصابه وشيئاً يتحرك بطيئاً من لحمه ودمه، وهو الذي اكتشف باكراً معنى الهجرة والهويات الملتبسة.
ليس في حديثه إشارات كثيرة على أنه خرج من الماضي وتحديداً حقبة الستينات وكل كتاباته التي غادرت من محطاتها ليست أبعد من ذلك. لذا لم يكن مع نفسه ولا مع الآخر أقل شأناً بل كان أكثر جذرية في آرائه.
بالنسبة لهذا الوصف يمكن الاعتراف بقيمة فكرية سياسية لشرابي أكثر منها قيمة أدبية. وإن كتب لاحقاً سيرته على نحو ما فيه من الأدباء والشعر وأدب الصورة. هذا مظهر من مظاهر السلطة التي تسعى الى تحقيق أشياء في نطاق السيطرة الفكرية والسياسية والصيغ المحددة لاستخدام اللغة كنوع من ممارسة تلك السلطة. لكن مجرد صور لماضي هو الحقيقة حتى في كتابات الحاضر العربي، وعلى أساس أن الماضي قد يصير أكثر حياة. لكنها حياة مؤلمة لفلسطيني يحمل أيضاً الهوية الأميركية وعليه أن يتقبل النظريات بمعطياتها وعلى الرغم من تعرضها لمتغيرات حادة هي سبب لتمزق آخر.
هشام شرابي في سنواته الأخيرة كان مأخوذاً بفكرة أن النهضة العربية انتهت في أواسط القرن الماضي وبعدها نصف قرن من صحراء وخراب أفكار وتفسخ وفشل وتداعيات وهجمة امبريالية تمثلها إسرائيل وأميركا وحملات تضيق على التطور الاجتماعي والسياسي في العالمين العربي والإسلامي.
لكن شرابي لم يوفر نقداً للمثقفين العرب رابطاً ما بين الحاجة الى العودة للتراث النهضوي الذي لم يبلغ أهدافه والحاجة الى شخصية عربية ناجزة في فهواها واتجاهاتها وتكوينها الشخصي متأثراً (ليس كثيراً) بالمساحة الجغرافية التي كان يمكن أن تمنحه حضوراً واسعاً أكثر من تواجده في محيط اجتماعي وأكاديمي غربي.
لا أنسى كلامه من ندوة حاضر فيها في "مركز صيدا الثقافي، الهلالية" العام 1999 من "أن المثقفين العرب غرباء عن الفكر النسائي ومن أن قضية المرأة قضية سياسية ترتبط بالمجتمع ولم تحسم قضيتها بحثياً ومدنياً على الرغم من أنها طرقت منذ أوائل القرن الماضي". هذه نقطة حساسة تفتح باباً عريضاً للحوار مع مثقفين عرب لم يتوهم يوماً شرابي أنهم ليسوا طلائع الإنقاذ، لكنهم طلائع التغيير الاجتماعي.
أعتقد أن الثنائية نفسها التي تحدث فيها شرابي عن مثقف تقني وآخر محترف، هي نفسها حكمت كتاباته في سياق الخطاب السياسي ولناحية الاهتمام تحديداً بالمسألة الفلسطينية والهوية والالتزام مع إيمانه الراسخ بتحرير الشعب الفلسطيني أكثر من إيمانه بمشروع الدولة الفلسطينية وربما الدولة العربية!
المستقبل - السبت 15 كانون الثاني 2005 -
***
عاش منافحا عن حرية العقل * هشام شرابي:
ان سؤال المستقبل لا يمكن طرحه الا باستحضار عالم اليوم
مدني قصري
كان المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي قد عودنا على الإنتاج الفكري الموضوعي الرزين الذي ينطلق من البعد العقلاني البعيد عن النزعة العاطفية أو العصبية.
بدأت المرحلة الفكرية الأولى من حياته بالدراسة التي تابعها في الجامعة الأميركية في بيروت وبداية عمله الحزبي ما بين عامي 1940 و1947. في هذه المرحلة الأساسية يوضّح المفكر الفلسطيني نظرته الى الآخر ويقصد بها الأجنبي تحديدا والتي كانت نظرة حقد وضغينة.
أما المرحلة الثانية من حياته الفكرية فقد بدأت بعد تخرجه من الجامعة الأميركية والتحاقه بجامعة شيكاغو في العام 1948. وقد أحبّ هشام شرابي في تلك الفترة أن يتمثل الحياة الأميركية وكل ما يمثله الغرب من قيم.
أما المرحلة الثالثة من حياة شرابي الفكرية فقد امتدت من عام 1950 الى عام ،1967 وهي المرحلة التي مثلت في حياته الغربة الكاملة والصمت والمنفى والتي صار فيها أستاذا في جامعة جورج تاون.
أما المرحلة الرابعة فقد تميز فكر شرابي فيها بالعودة الى الوعي القومي ليس على صعيد قضية فلسطين وحدها بل وعلى الصعيد العالمي قاطبة. فضلا عن ان شرابي قد اتخذ في هذه المرحلة أيضا توجها جديدا وهو القائم على تحليله للواقع الاجتماعي في العالم العربي وأسباب فساده وهو يتساءل في حيرة عن أسباب خسارة العرب جميعا في أي معركة يخوضونها وعن أسباب عجزهم الدائم عن تحقيق أهدافهم.
ويتساءل هشام شرابي عن دور المثقفين العرب في المجتمع العربي حيث يقول ان هؤلاء يسعون الى إيصال الحقيقة الى مسامع السلطة لكن السلطة لا تريد منهم سوى الولاء، موضحا ان هذا السلوك ناتج حتما عن العقلية الأبوية المتسلطة في المجتمعات العربية والموروثة عن عهود طويلة.
وقد كان لشرابي ميول فلسفية أيضا حيث ظلت على مدار حياته الفكرية حبّه الأول والأخير. ففي حدود العام 1945 كانت لشرابي محاولته الفلسفية الأولى التي جاءت تحت عنوان "نظرتي الى الوجود" وقد كتبها بالانجليزية، وقد عالج فيها مسألة وجود الله وقضية سعادة الانسان على هذه البسيطة. وفي هذه الدراسة القيمة يخلص شرابي الى القول ب "ان أشياء قلة تجعل عيشنا محتملا، وأحيانا تسبغ عليه جمالا ومعنى، وأهمها الصداقة والحب والفنّ والمطالعة والعمل".
وحول علاقة شرابي بالوجودية فقد كان هذا المفكر الفلسطيني يشير كثيرا الى الفرق بين "كيركغور" الذي أحبّه أكثر من سواه وما فتىء يعلمه في كلّ فصل في الجامعة وبين ماركس حيث يرى ان الأول ركّز على أولوية التجربة الحياتية ورفض التجريدات الفكرية التي أقامها هيجل أساسا لفكره الفلسفي، في حين تناول كيركغور الفرد والحياة الفردية إطارا نهائيا لفلسفته فقد عالج ماركس الفرد والوجود الفردي ضمن حياة المجتمع ككلّ. وفي هذا السياق يتساءل شرابي بإلحاح حول كيفية نقل المجتمع العربي التقليدي القائم على النظام ما قبل الرأسمالي الى نظام حديث قائم عل العلم والعقلانية.
هذا وقد كان للمفكر الرجل باع طويل في الفكر السياسي أيضا فقد وصف أزمة العرب ابان حرب تحرير الكويت بأنها نهاية "فرصة ضائعة" تمثلت في إهدار ثروة اقتصادية عظمى كان يمكن لها أن تأخذ بيد المجتمعات العربية الى آفاق أرحب في الاقتصاد والثقافة والسياسة وكان لها ان تعزز مكانة العالم العربي في زمن باتت القوة الاقتصادية تشكل أساسا في قياس مكانة الأمم وقوتها، أما فيما يتصل بالأزمة الراهنة التي نعيشها بعد إحداث الحادي عشر من أيلول 2001 وما أعقبها من تفاعلات سياسية وعسكرية ومن غزو للعراق واحتلاله ربما سيدفع العرب ثمنا سياسيا واقتصاديا باهضا لها فيما يتصل بهذه الأزمة فان هشام شرابي يصفها ب "الفرصة السانحة" للتعامل بصدق وشفافية مع مسببات الإرهاب وخلفياته.
ففي احد الحوارات مع الصحافة يقول المفكر شرابي بأنه "من المؤلم جدا ان نعترف أننا ما زلنا دولا وإدارات ومجتمعات وجامعات ومفكرين ومثقفين ومحللين في وضع مأساوي بسبب التشرذم وعدم امتلاك الرؤية التي تؤسس لخطابات تهبنا إمكانية ممارسة ما هو مطلوب .. لاغتنام الفرصة التاريخية".
ان هشام شرابي أستاذ التاريخ المعروف بجامعة جورج تاون مفكر نشيط يقرأ الراهن العربي بمعرفة عميقة للتاريخ ويركز على ضرورة ان نوضح الأزمة اولا لأنفسنا بعيدا عن خطاب التعالي والعجرفة على الحقائق المرة حول مشكلاتنا نحن التي ترتبط بإشكالات عديدة في التربية وفي التعليم وفي غياب دور المؤسسات العلمية من جامعات ومراكز بحوث والمؤسسات الأهلية.
وفي رأيه ان سؤال المستقبل لا يمكن طرحه الا باستحضار عالم اليوم الذي صار يتعولم، أي ان العالم العربي منخرط لا محالة في خيار العولمة ، بمعنى ان من لا يدخل في البنية الجديدة التي تقام الآن على الصعيد العالمي سيبقى خارج العالم لا محالة وخارج التاريخ في النهاية.
فالأزمة الراهنة في رأي شرابي أزمة ينبغي ان نفكر فيها بمصداقية وعقلانية ويعتبرها "فرصة تاريخية" جديدة أمام الأمة للبحث في أسباب الأزمة والتي تتعلق مباشرة بأسباب ومسببات الإرهاب الذي يرى مفكرنا أننا ضحاياه، وانه لا يكفي بأن نلقي أسباب هذه الأزمة على الآخر ونعفي أنفسنا منها لان عدم الاعتراف بالمسؤولية ومن ثم البحث عن جذورها لن يؤدي الا الى أزمات اخرى.
ونخلص الى القول بعد هذه العجالة الى أن الراحل هشام شرابي قد أثرى بمؤلفاته الفلسفية فضلا عن أعماله الاجتماعية الفكر العربي ومكتباته حيث ساهم من خلال فكره العقلاني الموضوعي الرصين البعيد عن التزمت والتطرف في توعية العقلية المثقفة حيث أضاف إليها كثيرا ودافع عنها كثيرا.
الدستور- 16 كانون الثاني 2005م
******
إقرأ أيضاً: