كيف كان الشاعر العربي القديم ينشد شعره؟ هل كانت له طقوس مخصوصة؟ وهل كان مناخ الكتابة وعاداتها هو المفتاح السري الذي رافق الشاعر العربي وهو يعيد تمثل لحظة نشوء النص الشعري واكتماله؟ ثم ما معنى اكتمال النص الشعري، وهل هذا ممكن في سياق دينامية النص وتشكل من لحظة الكتابة إلى لحظات الإنشاد في البلاد الكثيرة والمحافل واللقاءات؟ وكيف ينشد الشاعر المعاصر قصيدته؟ وهل ينشدها بنفس طقوسية الشاعر العربي القديم؟ أسئلة وأخرى كثيرة تدفعنا إلى التفكير في معنى الإنشاد الشعري، بدءا من الإلقاء وصولا إلى القراءة.
-1-
يتسيد شاعر كبير مثل محمود درويش على مسرح الإنشاد الشعري خلال ثلاثين سنة، ولا يكاد يجاريه في ذلك أحد، وأصبح مع مرور الوقت "طابعا خاصا" يقلده الشعراء اللاحقون ويتمنون الارتقاء إلى سلمه، ينشد درويش شعره داخل مناخ طقوسي أشبه بالتراتيل، متيحا لصوته القوي ذي الطبقات الكورالية العالية أن يملأ القاعة، يعرف كيف "يعتقل" الجمهور داخل إيقاعه الخاص، مستندا إلى التردد الموسيقي الذي يشكل جملته الشعرية وإلى الطابع التكراري الصوتي والدلالي وإلى ذلك التناغم البديع بين المرئي واللامرئي في القصيدة.
يكاد يكون شعره نوعا من النصوص المتعالية، الشديدة الكثافة، وحين يعتلي المنصة يحب أن يكون وحيدا في الضوء الخافت للخشبة، مرتجلا دور الشاعر في إلقاء شعري أشبه بالأداء المسرحي، يلقي درويش شعره واقفا، مواجها جمهوره، يتأمل نقطة ما في البعيد أو في أقصى الصالة، يهجم على قصيدته دون تقديمات، إنه يلغي كل الكلام الزائد الذي يمكن أن يشوش على نصه، وعادة ما يخذله مقدموه في تلك الأمسيات الحماسية الحاشدة، وعادة ما يأخذه الهتاف إلى استرضاء هذا الجمهور العربي المكتظ بالحماسة، لكنه لحظة لحظة، يسترجع زمام القاعة ثم يعود بالجمهور الحماسي إلى دائرة الإنصات، ووسط هذا الحشد المكتظ والمنصت يعيد درويش تشكيل النص، ويمنحه الامتداد اللحظي دون أن يخاف من المطابقة المناسباتية مع الأحداث العابرة، إنه يعرف كيف يخلص شعره من اليومي ويمنحه فضيلة الوجود والديمومة، وكأنه يعيد الصياغة البديعة للمتنبي: وما الدهر إلا من رواة قصائدي/ إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا.
يقف درويش في صالة الإلقاء مثل سارية، إن تلك الوقفة المتأنقة دلالة على منح الشعر ما يستحق من الوجود الخالق، ويلقي شعره منتصب القامة كأنه في موعد جميل مع امرأة من الخيال.
تكتسب القصيدة عنده وجودا مضاعفا وسيرة أخرى، وفي لهبوب الإنشاد لا يتورع في استعمال أدوات الشاعر، اليد والإيماءة والإشارة والتعبير الجسدي، والتلويحات البعيدة إلى اللامنظور في قاعة الإنشاد، والتطلع للأعلى وكأنه يتسقط شيئا أو يحاور أشباها في الخفية، أو يتذكر حياة مرت.
في قصيدة "الجدارية" مثلا كان درويش يلقي هذه القصيدة الرنانة والمجرسة بنوع من لذة الانتصار، وكان الطابع السردي والبناء الحواري للقصيدة يمنح تدشين تلك المنولوغات الباذخة مع الغائب، وهو ينشد قصيدته يشعر القارئ ان شيئا ما يتقدم إلى الأمام وينحل ويتبدد ويتخلق ويقوم ويجثو ويعلو وينزل ويلوح ويعود ويتصالح ويتناقض ويكبو وينهض ويتأسس وينهدم ويصخب ويتصامت، ان تلك القصيدة هي الطبعة الجيدة للحياة، الحياة التي تحمل في أحشائها الموت، الحياة التي تتخلق من العدم المحض وتذهب في قطار اللاعودة.
في إنشاد شاعر من مثل أدونيس الكثير من الرقة ومن الارتقاء بالقصيدة إلى الجبال العالية للمعنى، وهو على عكس محمود درويش لا تسعفه المناسبات الشعرية الجماهيرية، إن قاعة الإلقاء الشعري المثالية بالنسبة لأدونيس هي قاعة صغيرة، لنقل قاعة مكتبة أو مدرج في جامعة أو مسرح صغير، وأمسياته تحب أن تكون مطمورة في مناخ من الكتب ووسط انتليجانسيا معدودة على الأصابع وبين أصفياء الشعر وعشاق القصيدة، يحلم أدونيس أو أي شاعر غيره أن يكون جمهوره في مستوى جمهور كرة القدم، وأن يتمكن في يوم من الأيام من إلقاء قصيدته وسط ملعب للكرة، وان يكون له ألف هتاف وهتاف، ولكن أدونيس يكتب القصيدة التي لا تتفجر دواخلها إلا بالصمت، إنها تحتاج إلى طاقة من الصمت كبيرة، ومن الهدوء البعيد على الاهتياج العاطفي، لذلك فإنه يثبت في منصة "القراءة" وينكب على قصيدته يدوزنها بإيقاع صوته الخاص، وبنظام وقفاته الصوتية التي تذهب بعيدا في استجلاء الغامض، إن أدونيس يحب أن يقرأ غيبه الخاص، ويصبح إنشاده الشعري مثل من يرسم لوحة تجريدية، يستعين أدونيس بيديه كي يدفع ثقل المعنى إلى الأمام، إنه يريد أن يقدم بضاعته إلى المستمع على أحسن ما يرام وفي أفضل صيغة.
-2-
يكتسب مفهوم الشعر عند العربي مفهوما مقدسا،إنه كتاب الأنساب الذي كان يؤرخ لحياة العرب، وإنه أيضا كتاب التاريخ الذي يختصر تفاصيل إقامة العربي في الجزيرة العربية وفي حياة الصحراء المليئة بالحروب والفروسية، وإنه أيضا كتاب اللغة والطريق إلى المكانة والرفعة والسلطة الاجتماعية التي لا تقهر، فالشاعر كاهن وفارس ومقاتل وسيد، إنه ملك الكلام ويمكن ان يحوز المجد من أطرافه فيكون كمثل الملك الضليل امرؤ القيس أو يكون شريدا على وجهه في الصحراء مثل السليك بن سلكة او تأبط شرا، أو يكون عالما بأسباب الحياة وبعلوم أخرى من مثل أكثم بن صيفي، أو يكون حكيما من مثل زهير بن أبي سلمى أو هجاء من مثل الحطيئة أو مداحا من مثل المتنبي او أميرا مخلوعا مثل لسان الدين ابن الخطيب أو شاعرا متألما ومهجوسا بالحياة مثل السياب، أو رجلا نافرا ومتأهبا لمصيره مثل خليل حاوي أو ناسكا في مقامه مثل أنسي الحاج.. هؤلاء وغيرهم من ملوك الكلام، سادة الإنشاد، يمكن أن تسمع أصواتهم وهي تتخلل قصيدتهم، وهي تحيى في الزمان وتتأبد.
كيف كان ينشد الشاعر العربي قصيدته؟ تقدم لنا كتب التاريخ بعض الإشارات، تلك الحالات التي كانت تتلبس الشعراء لحظة "قولهم" لقصيدتهم، مزيج من الجنون الممسوس ومن السحر "الأحمر" الذي يمتد من لحظة الكتابة إلى لحظة الإنشاد، أي من الإمكان إلى التحقق، ومن الطيف إلى القصيدة التي تسافر في "جسوم" كثيرة.
الشاعر المخبول، والشاعر المتأنق، والشاعر المنصرف عن قصيدته، والشاعر الذي يتعير "منشده" او راويته، أو قينته، كي يلقي شعره أمام الصحب وبين صخب ثريات القصور، الشاعر الذي يكتب وينسى كي يحفظ الآخرون، ولما لا يردد ما يكتبه الراوية الأكبر أو المنشد العظيم، والذي حدده المتنبي في الدهر المنشد.
وهل إعادة الإنشاد، ولنقل إعادة الإلقاء، هي عودة إلى الكتابة، ورجوع بالنص إلى الدرجة الصفر، العود اللامتناهي للنص الكبير من صمت الكتب إلى ضجيج القاعات؟ وهل مازال الشعراء يسكنون وادي عبقر كما كان يسكن أسلافهم؟ وهل ينشدون قصائدهم في الخلوة المطلقة قبل أن يطلعوا على جمهورهم؟ ومن يصفق لهم الأول، هل جنياتهم الساحرات والمسحورات بالكلام أم شياطينهم؟
لم يعد بإمكان شاعر اليوم أن يذهب إلى أماكن الإلهام الأولى التي كان يتسلل إليها الشعراء، لابسبب الجمارك والإجراءات المعقدة للفيزا، ولكن لأن أماكن من مثل زَرُود، وعبقر، ووادي الأرواح، في تلك الأماكن التقت الشياطين التالية بشعرائها من مثل لافظ بن لاحظ شيطان امرئ القيس، وهَبِيد بن الصَّلادم شيطان عبيد بن الأبرص الأسدي، وعنتر بن العجلان شيطان طرفة، وهادر شيطان النابغة الذبياني، وأبا الخطار شيطان قيس بن الخطيم، ومُدرِك بن واغم شيطان الكميت بن زيد و حسين الدَّنَّان شيطان أبي نواس، وعتَّاب بن حبناء شيطان أبي تمام، وأبو الطبع شيطان البحتري، وحارثة بن المُغَلِّس شيطان المتنبي.
-3-
يقرأ الشاعر قاسم حداد قصيدته وكأنه يهجم عليها هجوما، يبدأ دون مقدمات، ويحب أن يجلس ليقرأ في أمسيته الشعرية، ربما بطوله الفارع لا يحب أن يطاول قصيدته، أو حاجته إلى أن يكون لا مرئيا، خفيفا إلا من صوته المنطلق في القاعة، يقرأ دون أن يرفع بصره عن نصه، لا يحب أن يقرأ من الذاكرة، وفي حرص شديد على ألا ينزلق النص من بين يديه.
جلسته جلسة الشاعر، وقصيدته المليئة بالأسماء والصفات، والحياة الباقية ترفع شعره إلى سماوات جغرافيات أخرى، يمضي في استغراقه طويلا وكأنه وحيد القرن او وحيد القاعة.
شعره ارتحال طويل في المكان وترج لعوالم في الخفاء وإنشاء بالمعرفة التي لا يلمس سرتها إلا الشعراء.
حين ينهي قاسم إنشاده، يجمع أوراقه بسرعة ويقول لمن يسمعه من الجمهور الذي في جسوم والجمهور الذي في غير جسوم، يقول شكرا، ثم يسرع بالخروج من قاب قوسي الإنشاد.
ينشد الشاعر شوقي بزيع قصيدته بإيقاعه الخصوصي، يبدو في الوهلة الأولى مثل منشطر على نفسه، تخجل الكلمات منه أو يخجل منها، هذا هو حال الشاعر العريق في الانتماء للقصيدة.
يقرأ شوقي قصيدته بذات الارتفاع ويسمو بين المعنى والمعنى، غارفا من عبارته الأنيقة، ما يجعل من صوته مشدوداً مثل حبل إلى رنينه الخاص.
يحب شوقي بزيع أن يقرأ قصيدته وهو في كامل أناقته، يصعد إلى المنصة مثل طفل في أول المدرسة، ثم لا يلبث أن يغني.. فللشاعر مجاله الحيوي.
وفي إنشاد الشاعر إبراهيم نصر الله ترتيل، يبدو إنشاده مثل صوت الممثل القادم من وراء ستار، يحب ان يكون واقفا، الشعر يحتاج إلى الجهد العضلي وإلى رئتين سليمتين، وحنجرة نظيفة، وقصيدته مثل هتاف حماسي بعيد يأتي من طبقات كثيرة وينزل على أرض القاعة كي يحدث كل هذا الرنين، الرنين الممتلئ بالعملة الأصيلة لا المزيفة.
يحتاج إبراهيم نصر الله إلى جمل أخرى من خارج النص لذلك يستعير يديه وبعضاً من ملامح وجهه، العلامات أساسية هنا والتلويحات مهمة للغاية، والنص الشعري هو في النهاية قطعة من الحياة.
حينما يصعد الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم إلى منصة الإنشاد يبدو مثل قادم من رحلة شاقة وعنيفة، وفي وجهة يمكن أن تقرأ مرض الشعر وحماه، يكون مفتونا بشيء غير مرئي، ضائعا في طقس قصيدته، قبل الإنشاد يبدو قليل الكلام ومنزويا، وبعدها يختفي عن مجاملات الأصدقاء.
صوته خلال الإنشاد يتحرك مثل السلم الموسيقي، يبدأ بالقصائد القصيرة ثم بالقصائد الأكثر طولا، ثم ينهي أمسيته بالقصيدة التي يحب، قصيدة فيها أنواع من الزهور ومن رائحة الذكريات ومن الآلام الصغيرة، وفي طريق الحنين تلك ينجرح صوته، وينتابه صدع الوقت.
الشاعر حسن نجمي يقرأ قصيدته بيديه، يحب أن يشرح سياق النص وقصة الولادة، يدبج قصيدة النثر التي يكتبها بقليل من النثر، يقدم النص للمستمع ويوجهه، وفي رأيه أن سوء الفهم لا يقع في الحياة فقط، بل أيضا في الشعر، إنه يقرأ قصيدته وهو يرقص معها، يفتتن بالكلمات التي خطها وفي ذروة الافتتان يعيد مقطعا من المقاطع أو يترك الجملة الشعرية المنبورة على طريقته الخاصة أن توجد كإمكان لفظي آخر، وكتحقق لغوي جديد في خصر العربية.
الشاعر سالم بوجمهور يقرأ قصيدته على طريقته الخاصة، من "قوته" أن يحفظ مايلقيه، إنه يتلوى مع قصيدته مثل ملدوغ، لا يهمه أين يوجد مستقيم القاعة، يلقي قصيدته على جمهوره الخاص، الأصوات التي يراها هناك، ويلوح للبعيد حيث ينهمر صوته خارج القاعة.
هل غادر الشعراء من متردم؟ أم أن الأخير يمحو ما كتبه الأول؟
الخليج
2006, 03, 06- Monday