تساءل ان كنا سنشهد عصراً جديداً بدون شعر؟

حاوره في القاهرة: محمود قرني

علاء خالدأول ما يمكن أن يصادفك في علاء خالد هو أن ثمة نسبية مطلقة تكلل مفاهيمه حول الوجود في كليته وخصوصيته في آن معاً. الملاحظة ليست عابرة بل هي تعبر عن بناء فكري وثقافي لرجل مؤثر بين أبناء جيله بشعريته اللافتة ومفاهيمه النوعية المدققة. فبرغم أنه يكبرني سناً بقليل وكان يحسب شعرياً ضمن شعراء جيل التسعينيات في مصر، إلا أنه لم نضبطه مرة واحدة يلغط لغطهم، ولا يثني علي مقولاتهم التي اتسمت بالكثير من الإسفاف والمجانية. كان علاء خالد نبتاً داخل أصيص مميز، فدواوينه الثلاثة شاهدة علي تماهيه الواعي مع ماضيه وحاضره، وفي هذا الحوار يكشف حدوداً دقيقة وواعية لهذا التماهي، فهو مرة مع لغة قشيبة وخاصة، ومرة أخرى مع مفاهيم أكثر تركيباً، ومرة ثالثة مع غنائية تخص الذات الشاعرة، لكنه رغم ذلك يدحض ويهدر الكثير من الموضوعات الشعرية والفكرية الني نقضت العهد الوجودي احتفاء بالتكريس للشعار السياسي.

وأعتقد أن علاء خالد كان الأصدق عندما توقف عن كتابة الشعر بعد أن أصدر ديوانه الثالث حياة مبيتة عام 1995 عن دار الجديد في بيروت، وهو يفسر هنا مرجعية هذا التوقف داخل الحوار، وقد انتقل علاء إلى الكتابة النثرية وأدب الرحلات فأصدر كتابين في هذا السياق، وقبل أيام أصدر العدد السادس من مجلته أمكنة وهي المجلة التي رسخت حضورها عبر سني صدورها الست الفائتة، حيث عكست تنوعاً في إثراء المشهد المكاني في تجليه الإنساني المتعدد والمتنوع.

وقد عاد علاء خالد الى الشعر قبل ما يقرب من العامين وهو الآن بصدد جمع ديوانه الرابع وتقديمه للقراء.
وفي هذا الحوار الكثير من الأسئلة التي تمليها اللحظة بإلحاح بالغ حول شعرية علاء خالد وتكويناته ومسيرته الشعرية والمؤثرات التي واجهته، ودور مجلة أمكنة في واقعنا الثقافي.. ومن جانبه فان الشاعر والكاتب علاء خالد يقدم نفسه عبر وعي شديد الخصوصية، دون ادني ادعاءات أو افتعالات.. وأستطيع الجزم بأن الحوار هو من بين أهم الحوارات التي أجريتها بين أبناء جيلي من الشعراء.
وهنا نص الحوار:

* في البداية أحب بأن نتحدث عن بداياتك الشعرية.. كيف اكتشفت نفسك، ومخيالك الخاص.. وأي القراءات وجهت مصيرك ومصير شعريتك؟

أصدرت أول دواويني الجسد عالق بمشيئة حبر عام 1990. قبل ذلك كانت لدي اهتمامات شعرية ولكنها كانت تدور في مناخات غير مواتية، خصوصاً لو كنت تريد أن تبحث عن أشيائك الخاصة، تبحث عنها في مكانين: الحياة واللغة. في فترة البحث تعرفت على صديقي أسامة الدناصوري زميل الدراسة في كلية العلوم، كان يحمل ذائقة وتصوراً شعرية خاصاً، مما ساعدني كثيراً في رحلاتي. في تلك الفترة بالتحديد في منتصف الثمانينات تعرفت علي مجلة الكرمل والتي عكست أيضاً ذائقة خاصة في نصوصها الشعرية والنثرية والمترجمة، كنت أفتقدها في الوسط الثقافي في مصر.
هذا بالإضافة إلى التراكم المعرفي والخبرات الثقافية والحياتية المتعددة، وأذكر كتاباً هاماً في لغته وفي المناطق الحساسة التي يدور حولها وهو كتاب الثابت والمتحول لأدونيس، كان هذا الكتاب مفاجأة لشاب محافظ في بداية العشرينيات. كتاب آخر كان مبهراً في الدفق اللغوي والشعوري مع انه في النقد، كتاب أسئلة الشعر لمنير العكش كنا نقضي سهرات وأسامة يقرأ منه فقرات طويلة، قراءة حارة تريد ان تصل إلى جوهر صوت الكاتب.

شيء آخر وهو أن أخي الكبير هشام كان مدمناً على كتابات توفيق الحكيم، وكان يحتفظ بكل أعماله بلا مبالغة، أحببته عن طريقه، سجن العمر وزهرة العمر، وتحت شمس الفكر. في أعماله التي ترتبط بشكل ما بالسيرة الذاتية كان هناك وجود لشخص خرج عن التقاليد ليصبح فناناً. هل هو النموذج القديم الذي ترسب في ذاكرتي في أن الفن والأدب يحتاجان لتحريك الوضع الاجتماعي للكاتب. كان شعوري الدائم هو أن ثمة أشياء تحتاج إلى تغيير في محيطي الحياتي والأسري والمعرفي والنفسي، فقد نشأت مثل الكثيرين داخل أسرة متوسطة ومحافظة بشكل ما، والطبقة المتوسطة في بداية الثمانينيات كانت قد وصلت إلى منحدر صعب، أصبحت منهكة وقابلة للتلاشي وهو ما سيحدث فيما بعد.
هذا الشعور دفعني بشكل ما إلى التمرد، أو بمعني أدق، إلى الخروج عن التقاليد العائلية والاجتماعية، لأن كلمة التمرد أعتبرها كبيرة علي، كان سؤالي المتكرر لنفسي، هل من الممكن أن تستمر الحياة دون دعم من سياق اجتماعي ومستقر وآمن؟ حتى ولو كان هذا السؤال خاطئاً وبه الكثير من الثغرات، لكنه منحني مسؤولية وجودية تجاه نفسي. استقلت من وظيفتي وسرت في رحلة نقدية تجاه نفسي ومن حولي. خلال الرحلة تخلقت أفكار ومواقف وعادات كثيرة.
كانت الكتابة هي المنقذ والمطبب لهذه الهزة النفسية التي سببها هذا التحول، ملأت فجوات كثيرة وأعادت التوازن، وأصبح هناك شيء أريد أن أحقق فيه تفوقاً ما. مرة أخري يطاردني التفوق وهو احدي خصائص الطبقة المتوسطة.

في تلك الظروف كتبت ديواني الأول الجسد عالق بمشيئة الحبر وكان يمثل نقلة بالنسبة لي، كتبته وأنا في الظل تماماً، وبعيداً عن أي صرعات شعرية قائمة، كان استجابة لموقفي الشخصي فقط. والديوان عبارة عن قصيدة واحدة طويلة تستفيد جدا من تقنية السرد لأن هناك تاريخاً لابد وان يقال من خلف هذا الشكل الدرامي. وصلت بهذا الشكل السردي إلى التعبير عن أشياء ومواقف وتنبؤات ومشاهد تخصني وتخص حياتي العائلية، كنت فرحاً بأن هناك من يشاركك أزمتك لغوياً وهي فائدة الشعر، أن يصنع آخر، شبحاً لغوياً بداخلك، بمعني آخر يعدّد الوجود الداخلي بطريقته.
الديوان الثاني كان و تهب طقس الجسد إلى الرمز وكان هذا الديوان تمريناً شعرياً علي تمثل قمة الصراع مع مراجع قديمة زمنياً ولكنها مؤثرة في ثقافتنا، مثل نموذج الأضحية ذات المرجعية الإسلامية، وهو صراع غير متكافئ، جعل الذات تتحرك عن مواضعها الاجتماعية إلى حالة من حالات التمثل اللازمني، وقد سبب لي هذا مشكلة في صعود بلاغة مفرطة بالإضافة إلى الغنائية التي تفرضها العلاقة الضدية مع هذه الأفكار الكبرى والأصيلة، كأن الدور معد سلفاً لتعيش أنت نفسك كأضحية. كنت متأثراً بشكل ما في ذلك الديوان بشعرية سليم بركات في محاولاته القبض علي شكل شعري/ روائي.
كان الديوان تمريناً في اللغة واستثني من هذا الديوان بعض الصفحات التي تستعيد مراحل في الطفولة مثل المدرسة.

* وكيف تري علاقتك بالماضي إجمالا وبالماضي الشعري علي نحو أدق. كيف كانت طبيعة هذه العلاقة؟ هل ذهبت إلى الترويج لفكرة القطيعة الكاملة؟

بالنسبة لعلاقتي بالماضي الشعري كان الأمر يتعدىي إعادة النظر في التراث المكتوب والمعيش، وهو ما فرض نوعاً من تحديد الانحيازات، ومع ذلك ظلت هناك نماذج تنسب تاريخياً إلى الماضي، بالنسبة لزمني الخاص ولكنها ظلت فاعلة ومتجاوزة مثل نموذج صلاح عبد الصبور، كنت أثق في رومانسيته وفي سؤاله الوجودي، وفي القنوط الذي يصبغ قصائده.
أما الحديث عن الموقف من الماضي بشكل عام فلا استطيع تحميله كلية علي الموقف الشعري لكنه يرتبط بموقفي الإنساني والمعرفي، فقد كان هناك موقف في أن ثمة قهراًَ ضاغطاً يجعلك تصل إلى نتيجة محددة وهي لابد وان تتكون أخلاق جديدة ضمن النسيج الاجتماعي الذي نعيش فيه.

وهنا ستظهر المشكلة، وهي أن الشعر له أسئلة بدئية، أو بمعني آخر له أسئلة جذرية تتعارض بالتأكيد مع النمو البطئ لحركة المجتمع، كيف تملأ هذه الفجوة بين الزمنين، إلا إذا تصورنا أن الشاعر نفسه هو الذي سيقوم بهذا الدور، بمعني آخر موت الشاعر. شيء آخر وهي أنك دائماً ما ستواجه تراكما ثقافيا وحضاريا له ميراث قوي وفاعل في بعض مناطقه، وهذا عيب للنظرة السياسية ذات البُعد الواحد، والتي تقصر النظر إلى الماضي في حتمية تجاوزه داخل سياق محدد من الاختيارات. وسط هذا ستظهر فكرة المسؤولية الشخصية، وأهمية أن تكون لك عدالة شخصية وليست عدالة مُحازة من نظرية ما مهما كانت قوتها. وكذلك أهمية توسيع دائرة حركة الموقف الشخصي. لم تطرح ثقافتنا الحديثة هذا النموذج الذي يجمع بين الوعي السياسي والوعي الأدبي، نموذج لا يتواطأ مع التخلف وفي نفس الوقت له وعيه الجمالي المفرط.

الآن أستطيع أن أقول ان فكرة التمرد لا يمكن ان تنتج نموذجاً متجانساً وإلا نكون قد ربطنا بين الفكرة الأخلاقية وفكرتنا عن التطور. ربما تخلق نموذجاً عشوائياً متناقضاً إلى حد ما، لأن مصادر المعرفة والتمرد اتسعت وكانت متسعة في الماضي ولكننا لم نعد نراها، وربما هذا ما يسم أدب الستينيات أن نموذجه الإنساني له وعي وأخلاق سياسية أكثر منها مفاهيم وجودية تحاول تعرية مدي تشابك الوجود الإنساني.

* بدأت الشعر بقصيدة النثر مباشرة. هل كان الاختيار واعياً.. بمعنى آخر هل كان ذلك رفضاً مبكراً للراسخ والقار؟

بدأت بقصيدة النثر لأنني لم أعرف غيرها، ولم اكتب أي نوع آخر من الشعر .. استجبت أكثر لاحتياجي، أنا أعول أكثر علي التاريخ الشخصي في الكتابة وتحولاته، وهو ما يحتاج إلى جملة شعرية تحتمل امتدادت متصلة، يمكنها معالجة الحالة السردية التي تعنيني.

هناك نماذج أحببتها لشعريات تتجاوز التصنيف محمد الماغوط وصورته الشعرية اللافتة وإنسانه السياسي شديد الثراء، انه صوت خاص جداً في الشعرية العربية، وكذلك انسي الحاج الذي كان يصارع باللغة أصلاً دينياً تماساً وتعارضاً واستشفافاً له. ومحمود درويش خصوصاً ديوانيه أعراس و محاولة رقم 7 وهناك بعض القصائد قرأتها في بداية العشرينيات من عمري وأحببتها لمحمد صالح وعبد المقصود عبد الكريم. ويحضرني كذلك بدر شاكر السياب الذي يرد اللحظة الشعرية إلى لحظة متجذرة في اللغة وفي الزمن، يمنحها أبدية، كل هذا كان يعكس سياقات جديدة لتلمس الوعي الشخصي عبر طرق مختلفة.

* كيف تري المشهد الشعري في راهنه لا سيما في صورته التسعينية؟ هل استطاعت هذه الشعرية القبض علي ملامح خاصة ومتجاوزة حسبما سجلت أدبياتها؟

أظن ان هناك نقلة ما حدثت في الشعرية المصرية والعربية في عقد التسعينيات، وان كانت بداياتها تسبق هذا الزمن، منذ السبعينيات واتجاه القصيدة يتغير. لا يمكن رؤية المنجز الحالي إلا في ضوء الظروف التي نشأ فيها واستمر. ظروف تبدو فيها الثقافة كمشروع لبناء الوعي والتعبير عنه، مهددة. فكيف سنراهن داخل هذا السياق علي بناء رمزي دلالي، كيف سنراهن علي تأثيره؟ وهل سيكون ممتلئاًُ ومعبراً في هذه اللحظة؟ الكتابة الشعرية منذ السبعينيات وحتى الآن في حالة تجريب، لم تخلق دلالات مستقرة. كل ثقافة حسب تكونها تفتح طرقاً للتعبير عنها، والنظرة العامة للشعرية الحالية هي أنها تتجه نحو التوثيق، شعرية خبرية إلى حد ما، لا تصل إلي مكان التأويل والاغناء الدلالي، وربما هي طريقة مقاومة وتثبيت للحظة الإنسانية، مقاومة ضد نسيان قادم تستشعره الذات. هناك تشوه للمكان الدلالي للثقافة، ولا أستطيع الجزم بأن فعل المقاومة قادر علي إنتاج نماذج مؤثرة، الأهم الآن هو إثراء المشهد الشعري أكثر من التأسيس، وإذا تحدثنا عن المنجز الشعري في عمومه، فان كانت الشعرية الجديدة حققت انتقالة ما، ولكن كيف أنسي أننا تجاه أزمة في التعبير منذ السبعينيات، لماذا لا ننظر إلى فنون أخري كالتشكيل والسينما؟ إذن المنجز سيتحقق عبر انفرادات خاصة ومتفرقة لمجموعة من الشعراء.

داخل هذه الانتقالة الجمالية هناك مشكلة ما، إزاء اللغة الشعرية التي تقلصت حمولتها في التعبير، ربما سبب هذا أن هناك تشبثاً من هذه الشعرية بأفكار محددة، مثل التشبث بفكرة المشهد الحياتي. هناك رحلة بدأت منذ زمن لهذا النوع الدلالي المسمي بالشعر، رحلة باتجاه تقليص هذا النوع من التعبير، وخوفي من المستقبل أن يختفي لأنه صنع صورة لرؤية الحياة هامة جداً، هل نشهد عصراً جديداً بدون شعر مكتوب. لقد وصل النص الشعري الآن إلى منطقة لم يعد فيها معني مؤجل، بالنسبة للغة أو الشاعر. لذلك هناك نوع من التقارب بين بعض الشعريات. وهناك ملاحظة تتعلق بفكرة السرد النثري التي اقتربت من الأجزاء الروائية، لقد نشطت النوع الروائي أكثر مما نشطت النوع النثري، لأن السرد دخل علي أرض جديدة كالرواية مازال بها بعض الشواهد والشخوص وتعدد الأزمنة واللحظة الاجتماعية والمستقبل، كلها نشطت السرد النثري واستوعبته أكثر من الشعر.

* هل تري أن السرد الشعري بشكله الراهن كان ناجزاً في خصوصيته؟ أم هي ما زالت ملامح افتراضية؟

بالتأكيد، المستقبل للسرد بشكل ما، فالنص القديم لن يعود، فهناك تغير ليس في الشكل الأدبي فحسب، ولكن في مفهوم الثقافة بصفة عامة، وهذا لا يعني مثلاً غياب الغنائية كلية، ولكن ستظهر لها تجليات جديدة تستفيد من حاضر الثقافة والمعرفة، وكذلك من نوع القارئ المفترض. وأتصور أن أية شعرية يمكنها أن تستفيد من المرجع الغنائي وهذه اللحظة العابرة سوف تتمكن من الاستمرار والوجود، وليس المرجع الغنائي هو فقط الشكل الشعري، وإنما شيء في صُلب تفكيرنا. أعني بالتحديد أن أي شعرية يجب أن يكون لها أكثر من مرجع تتكون خلالها.

* ثمة أطروحات مختلفة لقصيدة النثر لا سيما علي مستوى التكوينات والمضامين، لكن هناك حالة من حالات الإقصاء لبعض النماذج.. لا سيما هذه التي لا تسلم بالمفاهيم المشاعية.. كيف تري ذلك؟

المشكلة الأولية الآن أن هناك تصعيداً للنموذج النظري، يمكن أن يحول النموذج إلى أيديولوجيا جامدة. فكل لحظة يجب أن تكون لها مجساتها الخاصة، وفي هذه اللحظة أعتقد أنه يجب ان تتسع هذه المجسات، لأن فكرة الحذف والإقصاء تتم لصالح من؟ الإقصاء ربما يعكس نوعاً من الثقة بالمستقبل، وربما تكون غير مبررة.
فإذا كنا ارتضينا هذا الشكل الشعري الأكثر حرية فعلينا ان نقبل بالكثير من التنوع داخله، فليس ثمة يقين يدفع شاعر ما إلى رفض النماذج المقابلة نظير الثقة الكاملة في نصه. وأي ناقد أيضاً مهم أن يغمض عيناً وهو يتابع النص، لشيء ربما يحدث في المستقبل أو لا يحدث، لأن فكرته النقدية محل شك أيضاً، نحن في لحظة بناء أكثر مما نحن في لحظة تأسيس، خلال العشرين سنة الأخيرة هناك مرجعية جديدة تتكون.

* لكنك تركت الشعر بعد أن أصدرت ديوانك (حياة مبيتة) عام 1995..لماذا؟

كان آخر ديوان أصدرته بالفعل هو (حياة مبيتة) عام 1995، بعده انتقلت نسبياً إلى الكتابة النثرية، وكان ذلك يعني بالنسبة لي البحث عن طرائق مختلفة وجديدة في التعبير، فقد شعرت بأزمة ما في علاقتي بنفسي وبالشعر. المجتمع في منتصف التسعينيات كشف عن وجه جديد له شعرت بمسافة فارغة بيني وبين كل ما حولي، كان من الصعب علي تخليق جملة شعرية في هذا الوضع، ربما تكون جملة صراخ أو يأس. عندها غيرت وظيفتي من شاعر إلى وظيفة كائن يريد أن يعيش داخل المجتمع ويجد طريقه وسط بدائله وحلوله، وهذه رحلة من نوع خاص.

* هل كانت مغادرة الشعر إلى البديل الذي طرحته مجلتك أمكنة ؟ وكيف تري المكان عبر أسفارك ومدوناتك النثرية حوله؟

السفر خلق لي مرجعية جديدة داخل نفسي، خلق ذاكرة جديدة من الاحتكاكات والحياة وكلام الناس وتغيير المشهد ودخول عناصر جديدة علي المشهد الثابت، كل هذا يختزن ولا يضيع، واستطيع أن أقول أنني بدأت أقبض علي مرجع جديد للذات لا يتنصل من المرجع الجذري القديم ولكنه يعطيه وجهه الإنساني. بعد تراكم العديد من تجارب السفر وفي نفس الوقت فراغ أو ركود الساحة الثقافية، والوعي لبلورة هذه الفكرة الأدبية الجديدة، كان هناك إجماع من مؤسسي المجلة علي أن اللحظة الأدبية في عمومها غير قادرة علي التعبير، وليست في أوج ازدهارها، وهو ما منحنا الجرأة علي توجيه التعبير إلى هذا الشكل الجديد. وهو شكل وان لم يكن موجوداً في مصر إلا أنه اتجاه مزدهر في العالم، وتظل هناك نصوص حول المكان وأدب الرحلة في غاية الأهمية، وهو أدب في عمومه غير مزدهر عربياً.

* كيف تنظر مجلتك للمكان؟ هل هو المكان الفلكلوري الاستشراقي الذي تحدث عنه ادوارد سعيد باعتباره قد تحول إلى مسرح لاستعراض القوة الغربية؟

ثمة أخلاقية اختفت من العالم، فليس ثمة مشتركات أو آراء مسبقة بينك وبين المكان الذي تراه، والنموذج الذي تشير إليه كنموذج استشراقي لا يتطابق دائماً مع فكرة الغرب عن نفسه، فليس كل اتصال يصنع استلاباً. في نفس الوقت فان المجلة لا تتعامل مع المكان باعتباره مكاناً فلكلورياً، فهو أحياناً مكان للذاكرة بكل ما تحتويه من بشر. انها تفتح المشهد أكثر ، لأن هناك تهديداً لهذا المكان بالنسيان تحت ضغط ثقافة عالمية. حارة نجيب محفوظ يمكن ان نراها في الواقع حتى الآن، لكنها في الكتابة تتحول إلى حالة رمزية. رغم رمزية المكان إلا أنه بداخله جوانب أخري كانت مهملة، مثلاً الكاتب الياباني جونشيرو تانيزاكي كتب كتاباً جميلاً اسمه مديح الظل عن خصوصية الضوء في البيت الياباني والفرق بين الضوء الياباني والضوء الغربي، وهذا نوع جديد من اكتشاف المصادر التي تؤثر علي الإنسان وتدل عليه في آن. أي أن هناك في المجلة رحلة عكسية لفك شفرة المكان الرمزية من أجل إثراء المشهد الأدبي بالكثير من التفاصيل. والتي تعيد الاحترام لكل الموجودات المحيطة بالإنسان وهنا يمكننا رصد وتحليل المجتمع عبر عناصر عديدة.

* إذن أنت ترسخ المكان المفتوح والمتعدد بعيداً عن أية إدانة لفكرة الاتصال مع الآخر؟

أعتقد أن المكان في كل حالاته حامل لقيمة أخلاقية، أي أنه يضع حدوداً شفافة لفكرة الهوية، وكل ما يصيب الهوية سيصيب المكان، لذا أري أن المكان الراهن يعبر عن أزمة شخصية لأن هناك أزمة تجاه فكرة الهوية. وإذا تأملت المجلة ستجد أن نوعية المادة المنشورة تعبر بشكل كبير عن فكرة الحرية للشكل الأدبي عبر تنوع وتعدد أشكال التعبير كالمقال مثلاً، وهو ما يكسر أي صنمية لفكرة ثبات المكان، لأن الموقف الجمالي متحرك عبر أشكال التعبير. وأعتقد أن هناك تبلوراً لفكرة المكان المفتوح والمتنوع والمتعدد، وهي فكرة أعتقد أنها منقذة مرحلياً للكتابة.

* وهل ثمة دعم يتم تقديمه للمجلة؟

ليس هناك أي دعم من الدولة أو أي مؤسسات أخرى، باستثناء شراء مئة نسخة من الأعداد الأربعة الأولى عن طريق صندوق التنمية الثقافية، أما العدد الخامس الذي صدر منذ أكثر من عام لم يتم شراؤه حتى الآن، لأن هناك لجاناً تجتمع لمدة عام كامل لتتخذ هذا القرار! أنا لم أسع لأي دعم وأعتقد أن المجلة يمكنها ان تحقق مصداقيتها عبر حضورها، فعدم وجود دعم منحنا الحرية الكاملة وأكسبنا خبرات في التوزيع واكتشاف طرائق مختلفة للتواصل مع القراء من أجل استمرارها.

*بعد ذلك هل تنتظر شيئاً من المؤسسة الثقافية ؟ وكيف تري دورها في حياتنا الثقافية؟

لا أنتظر شيئاً من المؤسسة الثقافية فهي تبحث عن أفكار كمية وليست نوعية بمعنى أدق أنها تدير مشروعاً سياسياً وليس ثقافياً، يعتمد على التجييش. المؤسسة الثقافية أصبحت سلطة أقوى من المثقف وهو شيء يدعو للأسى. من ناحية أخرى المثقف الآن في أضعف حالاته، هو يتحمل جزءاً من هذه المسؤولية، مسؤولية نسيان المرجع الإنساني وراء الفن أو الأدب. هل هناك علاقة في ان الثقافة المصرية عبر النصف قرن الأخير صُبغت بأداء وزيرين، ثروت عكاشة وفاروق حسني؟!!

القدس العربي
2005/03/18


أقرأ أيضاً: