حاورها: عدنان حسين احمد

فينوس فايق لعبت المكونات الثقافية والاجتماعية والسياسية دورا مهما في بلورة النص الشعري الذي تكتبه الشاعرة الكردية فينوس فائق. فثمة مرجعيات فكرية وتراثية كردية يمكن تلمس تمظهراتها المهيمنة في العديد من قصائدها المكتوبة باللغة العربية والكردية. غير أن انغماسها في الشأن المحلي الكردي لا يفضي بها إلي التعصب أو الانغلاق، بل علي العكس من ذلك فإنها تضفي علي النص الشعري مسحة عالمية. ومما ساعد علي تأكيد هذا النفس الكوني وترسيخه هو انتقالها بين السليمانية وبغداد ووهران ولاهاي، وسواها من العواصم والمدن التي مرت عليها مروراً خاطفاً وأشعرتها بأن هذا العالم الفسيح يحتاج إلي أفق مفتوح ومخيلة شاسعة تستطيع أن تلم في عدستها كل ما هو غريب ومدهش ومثير للتساؤل. ولابد من الإشارة إلي أن فينوس فائق هي شاعرة جريئة تكتب بصدق عن خلجات أعماقها، وتعبر بشجاعة نادرة عن توتر مشاعرها، وفيوضات هواجسها الأنثوية من دون مواربة أو تستر أو خوف من رقيب زائف، ولهذا فأنا أضعها في الموقع الذي تصطف فيه بعض الشاعرات الكرديات المتميزات أمثال كزال أحمد وكولالة نوري وأحلام منصور بغض النظر عن الفوارق الفنية بين تجاربهن الشعرية. وللغوص في أعماق تجربتها الحياتية والشعرية التقتها (الزمان) فكان معها هذا الحوار:

هل لك أن تصفي لنا رعشة النص الأول التي دهمتكِ علي حين غرة، وهزت أعطافكِ لتعلن عن ولادة الشاعرة الكامنة في أعماقك. كيف تعاملت مع لحظات التكوين الأول للموهبة الشعرية التي تشظت في داخلك؟ وكيف طورتها؟ وما هي أبرز المؤثرات التي خلفت بصماتها علي تجربتك الشعرية؟

ــ بالنسبة لي مسألة رعشة النص الأول لها خصوصية فربما هي مختلفة بحكم المرحلة التأريخية التي عشت فيها فترة شبابي أو بداياتي مع الكتابة، فأنا اسمي نفسي وأبناء جيلي بـ(جيل الحرب) الحرب بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ليس فقط تلك التي تتعلق بجبهات القتال، وساحات الحرب، بل مفردة الحرب ومعناها عندما تدخل كل بيت، وتنام وتصحو وأنت تحارب. الحرب علي مستوي الأسرة والشارع والمدرسة، وأقسى الجبهات تلك التي بداخلنا، حتى لكأن عُشرة قد صارت بيننا وبين الحرب، فقد التهمت أجمل عشر سنوات من عمرنا وما زلنا ندفع ضريبتها لحد الآن. أعود إلي رعشة النص الأول. لقد اعترتني تلك الرعشة وأنا أعيش نكسة بكل تفاصيلها المؤلمة، نكسة بكل معني الكلمة علي الصعيد النفسي والوجداني، كنت أبحث يومها عن شيء أكسره، أحطمه، كنت أبحث عن شيء أحرقه حتى يوازي ما انكسر واحترق في أعماقنا، إلي أن اهتديت إلي السلاح الذي أكسر به كل الأشياء وأحرق به كل ما بداخلي فكان القلم وكانت القصيدة الأولي. في تلك النكسة كانت أيام اتفاقية الجزائر التي ننعتها بـ(المشؤومة) لأنها تمكنت من أن تهز أعماقنا، كان عمري حينذاك أقل من اثنتي عشرة سنة بقليل، مرحلة المفروض بها من أزهي المراحل وبداية النضوج، أغلقت النكسة الكثير من الأبواب في رأسي وأجلت مشروع المراهقة والنضوج الى وقت متأخر بحيث أني نسيت أن أعشها، فكبرت بين ليلة وضحاها. ولد النص الشعري الأول وأنا أتابع منظر الثوار الأكراد.
في تلك الأيام لم أجد وقتاً أفكر فيه بنفسي، كنت أتألم وأنا أري أبي وهو يدخن السيجارة تلو الأخرى وكأنه يحاول أن يحرق شيئاً ما. لم يكن بامكان أحد أن يفكر بصوت عال. كنت أجلس رغم صغر سني أتابع الأخبار، وسط كل تلك الأحداث نسيت تفاصيل مهمة في حياتي، بحيث أني لم أتذكر أنني أنثي إلا في وقت متأخر. في تلك الأيام كنت كلما أنام الليل أتخيل الغد وكأن القيامة ستقوم. كثيراً ما كتبت نصوصاً ومزقتها وكتبت غيرها ومزقتها هي الأخرى. هذه هي أبرز المؤثرات التي خلفت بصماتها علي تجربتي الشعرية.

الذاكرة الشرقية

تكتبين بلغة حسية متأججة، تندغم حيناً بالوجد الصوفي، وتتماهى في أحايين أُخري بالشغف الشهواني اللجوج. ماذا تعني لك الكتابة بلغة الجسد؟ هل تبتغين من خلالها التعبير عن المشاعر الداخلية المستعصية التي لا تفيض بسهولة جراء المصدات التي شيدتها الذاكرة الشرقية أم أنكِ تحاولين اقتفاء خطوات بعض الشاعرات الجريئات أمثال وفاء العمراني، أحلام مستغانمي، غادة السمان، زليخة أبو ريشة وأسماء أخري لا مجال لذكرها الآن؟

ــ الكتابة بلغة الجسد هي كما وصفتها ربما تعبير عن المشاعر الداخلية المستعصية التي لا تفيض بسهولة جراء المصدات التي شيدتها الذاكرة الشرقية، لكن ربما أصفها أنا أيضاً بأنها ترميم للأحاسيس التي شوهتها العادات والضغوطات الاجتماعية والقيم المتخلفة، أو تلك التي أحرقتها الحروب، أو ربما هي إظهار للأعماق الأنثوية الشفافة التي كادت تدمرها أصوات المدافع. في زمن الحرب لا يهم أن تكون رجلا أو امرأة أو أن تكون شجرة أو حتى فأرا، اذ عندما تؤنفل أو تضرب بالقنابل الكيماوية. الحقيقة الواحدة التي تحقق المساواة هي الموت، فالكل يجب أن يموت، وحتى الذين لم يموتوا مارسوا طقوس الموت كل حسب طريقته. فعندما نلجأ إلي الكتابة بطريقة ما أو لغة ما فانه إما أن نتجاوب مع ما حدث أو هو رد فعل عكسي لما حدث. الكتابة بلغة الجسد هي جزء من الطقوس الإنسانية للشاعر في أثناء كتابة القصيدة ودخول مناطق خطيرة وآمنة في ذات الوقت. وهي أحياناً حديث الجسد المثقل بالهموم، أو صحوة الجسد من كابوس الحرب والتمرد علي كل ما يوحي بالموت والاستشهاد وانتعاش ذاكرة القصيدة، الكتابة بلغة الجسد بقلم امرأة هو جزء من طقوسها الأنثوية. ثم لا تنسي أن الشعر الكردي من أكثر النتاجات الأدبية الإنسانية للشعوب التي تتميز بذلك الجانب الايروتيكي الواضح والصادق والشفاف. ويتناول الجسد كرمز لمفاهيم مقدسة ويعتز بها كإشارة لعمق الأحاسيس التي لا تجرؤ علي البوح بها أمام الضغوطات والمعوقات الاجتماعية إلا من خلال قصيدة. وبالتالي أظن أني لا أقتفي أثر تلك الشاعرات اللواتي ذكرتهن، لكل واحدة منهن خصوصية وطابع يميزها وتحمل هموماً خاصة بها وأعتبر نفسي مختلفة نظرا لاختلاف البيئة والعوامل المحيطة وظروف أخري مختلفة اجتماعية وثقافية وسياسية..الخ. وعدم التشابه شيء محبب وإيجابي ولا يعني أن تكون في موقف الضد من الآخر، ومهما يكن هذا الآخر فأنا أستفيد منه في كل الأحوال.

مؤثرات الطفولة

كيف تتعامل الشاعرة فينوس فائق مع المكان بوصفه حيزا جماليا ومصدرا إلهاميا؟ وهل نستطيع أن نشم رائحة السليمانية وبغداد والجزائر ولاهاي وغيرها من المدن التي مررت بها أو عشتِ فيها ردحاً من السنوات؟

ــ حضور المكان ضمن بناء القصيدة يأتي بشكل نسبي، غالباً ما يرتبط مفهوم المكان بحدث معين، وأحياناً تجد صورة المكان باهتة في بعض النصوص بحيث تشعر أن هذه القصيدة قيلت في كل الأماكن لأن هناك بعض الأحداث في حياة الإنسان قد تحدث في كل الأماكن لكن هناك بعض الأحداث ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمكان فلولا ذلك المكان لكأنه لم يكن ليحدث، فأنا عندما أتحدث عن طفولتي تبرز (وهران) بقوة لأني لو عدت أبحث عنها لوجدتها هناك من دون غيرها من الأماكن. ترتبط (بغداد) ارتباطاً وثيقاً بمرحلة الشباب والدراسة الجامعية ، وفي(لاهاي) كانت رحلتي مع الغربة. هنا تعلمت أن أتعامل مع مفردة الغربة حين تكون خارجنا لأنك قد تشعر بالغربة وأنت داخل الوطن، فـ(لاهاي) هي مرحلة الغربة خارج الوطن. أما (السليمانية) فكثيرا ما أتجنب الحديث عنها لارتباطي الوثيق بها لأن الحديث عنها يؤلمني، أحس بشيء ما يشدني ربما هي جذوري، فأجد نفسي أحياناً كمن فقد حبيباً ويخاف أن يتكلم عنه حتى لا يتألم لفراقه، بامكانك أن تشم رائحة هذه المدن دائما.

القصيدة الكردية

يتألق المشهد الشعري الكردي المعاصر بأسماء شعرية مهمة مثل ئه رخوان، مهاباد قره داغي، سوزان مامه، نزند بيكخاني، كزال أحمد، كوسار كمال، كولالة نوري، جومان هردي، دلسوز حمه وأخريات كثيرات. إلي أي من هذه الأسماء تقترب تجربتك الشعرية بحيث تشعرين أنكِ تدورين معها في فلك شعري واحد علي الرغم من اختلاف التفاصيل الصغيرة؟

ــ برزت في الآونة الأخيرة أسماء كثيرة في سماء القصيدة الكردية بشكل خاص النساء منهم، وقد ظهرن تقريباً في فترة واحدة بالرغم من الاختلاف في العمر والتجربة لعدة أسباب مما ساعد علي ظهور إمكانات أدبية كثيرة وكبيرة من الجنسين، لكن اللافت للنظر كان ذلك العدد من الشاعرات اللواتي ظهرن، وتلك ظاهرة، إن صح التعبير، مفرحة وإيجابية لكن في اعتقادي إن الصورة الشعرية أو لنقل اللغة الشعرية تختلف من واحدة إلي أخري حسب اعتقادي. نعم هنالك هموم مشتركة وأجواء مشتركة، ومحيط مشترك، لكن أحياناً ظروف النشأة والتكوين الاجتماعي والثقافي وحتى الأسري التي تختلف من شاعر إلي آخر وهي بمثابة العامل لاختلاف اللغة الشعرية والطابع الأدبي لدي كل واحدة. عموماً الجيل الحالي من المثقفين لا يعترف بفضل الثقافات العربية أو الفارسية أو التركية علي الثقافة الكردية ذلك لعدة عوامل أهمها الفترة التي ظهروا فيها بحيث أن كل الأبواب كانت مفتوحة أمامهم وقد تعاملوا مع المفردات الثقافية في فترة ما بعد الانتفاضة التي صاحبها هدوء الأجواء السياسية.
بالرغم من كل شيء استفدنا من الثقافة العربية في إغناء واشباع حاجتنا الثقافية . عموماً هنالك تقارب في الهموم والأجواء المحيطة لكن بنسب مختلفة، غير أن اللغة الشعرية تختلف باختلاف النفس والرؤى والتوجه. مثلا من الممكن أن نتناول أنا وأنت واثنان آخران شجرة في بيت واحد، لكن كل فرد يتناولها بمنظاره الخاص ومن خلال تجربته الخاصة. الشجرة كرمز أو كدلالة أو كصورة أو كإشارة لأي شيء آخر توحي إلي الاخضرار أو الأشياء التي توحي إلي الاصفرار والموت في يوم من الأيام. لا توجد الآن مدارس شعرية كما كان في السابق بإمكانك دراسة كل تجربة شعرية أو أدبية كحالة بحد ذاتها لكن هناك شكلاً عاماً للحركة الثقافية في منطقة ما وتعريفها. الاتجاهات الأدبية الآن في كردستان يمكن تصنيفها حسب المناطق فتجد في منطقة السليمانية حركة أو ثورة ثقافية، إن صح التعبير، علي كل المستويات والمجالات، والقلم النسوي هو جزء من كل هذا بالرغم من أنني لا أحبذ استعمال اصطلاح (القلم أو الأدب النسوي) فتجد له اليوم مكاناً خاصاً وحضوراً متميزاً....

الإلهام كمصدر

تتسم بعض قصائدك بطابع إيديولوجي بحيث تضطرين فيها إلي الوقوع في مطب المباشرة التي لا تنسجم مع حاجة القصيدة للتحليق في مدارات الشطح والتخيل أو الانفلات من أسر الواقع اليومي في الأقل؟

ــ كثيراً ما تتصادم همومنا السياسية والوطنية مع همومنا العاطفية والوجدانية، فتجد الهم السياسي أو القومي يطغي في غالب الأحيان. أتفق معك أن الطابع الآيديولوجي السياسي هو من وظائف المقالة لكن ماذا تقول يا سيدي لشاعرة ولدت من أبوين سياسيين. من هنا تجد السبب في غلبة الطابع الآيديولوجي غير المحبب لدي البعض مما يجعلهم يصفونه بالمباشرة غير المحببة في حين أري أن المباشرة في بعض الأحيان لا مفر منها عندما يسيطر عليك الإلهام بدافع من هم يسيطر علي المخيلة ويتعبها.

النص واللغة

ما هي الفروقات التي يمكن أن نلمسها في كتابة نصك الشعري باللغتين العربية والكردية؟ أعني هل أن شعرية النص الذي تكتبينه باللغة الكردية مساوٍ له تماماً باللغة العربية؟

ــ لا أدري بالضبط أو لم أقس تحديدا القوام الشعري للنص الذي أكتبه باللغة الكردية مع النص الذي أكتبه باللغة العربية، لكن ما أعرفه أنه أحيانا تدهمني فكرة ما أو يدهمني الإلهام الشعري ومن دون سابق تصميم أجد نفسي أكتب، وبعد أن أكمل أجدني قد كتبت بالعربية أو بالكردية، ربما هي حاجة إلي لغة للتعبير. في بداياتي مع الكتابة كنت كلما أمسك بالقلم أكتب في الحال بالعربية لأني مسبقاً كنت أفكر بالعربية، وهذا ما كان يضعني أمام مساءلة نفسي لماذا لا أكتب بالكردية؟ في البدء كان ذلك يبعث في نفسي الفخر والاعتزاز كوني أستطيع أن أكتب بلغة أخري وأعبر بها بحرية، تلك الملكة التي لا يمتلكها الكثيرون، لكن ذلك الإحساس ومع مرور الوقت وتغيير الظروف قد تحول إلي نوع من الشعور بالتقصير أمام نفسي، لكن في النهاية اللغة هي وسيلة للتعبير قدر تعلق الأمر بالكتابة وإيصال ما يدور برؤوسنا من أفكار ويختلج في صدورنا من أحاسيس، لكن أحياناً أنظر إلي اللغة بمنظار قومي فأجد أنها عنوان هوية الشعوب لأنه يتم التعرف علي الإرث الثقافي والحضاري للشعوب من خلال اللغة التي كتبت بها. أن تقرأ الأدب العربي باللغة العربية شيء وأن تقرأه باللغة الإنكليزية شيء آخر. وظيفة الترجمة هي التعريف بآداب الشعوب، وبالتالي فجزء من هوية الأدب الكردي موجود في اللغة التي كتبت بها. أما القارئ غير الكردي فيمكنه التعرف عليها من خلال الترجمة. عموما الكتابة شيء يريحني أيا كانت اللغة، ليتني أتقن أكبر عدد من اللغات لكي أتمكن من إيصال أفكاري الى كل الأجناس والشعوب. أود هنا أن أذكر الشاعر العراقي الكبير الأستاذ كاظم السماوي فهو أول من شجعني من غير الكرد وقد نبهني إلي أهمية الاستمرار بالكتابة باللغة العربية إلي جانب لغتي الكردية وأن أعمل علي تطوير الاثنتين.

المصدر : جريدة الزمان ، 24/04/2002


إقرأ أيضاً: