أجرى اللقاء: علي‮ ‬الستراوي

أمين صالحذاكرة من نور، ‮ ‬حينما تفتح‮ ‬غفلتها‮ ‬يشتعل في‮ ‬داخلك كثير من الأحلام المؤجلة والنائمة في‮ ‬سكون الغيب‮. ‬أحلام حينما تحاول استفزازها تأخذك بأحضانها طفلاً‮ ‬يمدك بدفء خاص،‮ ‬تدركه الأمهات المشغولات بالهدهدة‮.‬
هو كذا أمين صالح،‮ ‬وأنت تحاوره‮ ‬يدخلك إلى مدائنه،‮ ‬وتظل مدينته الأوحد التي‮ ‬كما قال في‮ ‬صلب الحوار عنها،‮ ‬إنها المدينة التي‮ ‬تستحق المديح‮. ‬مع أمين المبدع تذوب كل فواصل المدن،‮ ‬وتتجلى أبعاد الشهب،‮ ‬فيكون للحوار حميمية لم أدرك فعلها إلا من بعد أن بدأت الحوار معه‮:‬

* كيف لأمين صالح أن‮ ‬يقرأ الزمن،‮ ‬وهل لشخوص روايتك‮ ''‬رهائن الغيب‮'' ‬ما‮ ‬يصلك بحبل سلم الزمن من خلال ما تؤمن به في‮ ‬المفهوم الفلسفي؟

‮- ‬نصوصي‮ ‬الأدبية لا تعتمد على السرد الكرونولوجي،‮ ‬أي‮ ‬القائم على التسلسل الزمني،‮ ‬ووفق المفهوم الأرسطي‮ ‬للتعاقب من بداية ووسط ونهاية،‮ ‬في‮ ‬مجرى طولي‮ ‬يبدأ من نقطة محددة لينتهي‮ ‬عند نقطة أخرى،‮ ‬دون أي‮ ‬تقاطع أو تداخل أو تمازج من قِبل عناصر أخرى تنتسب إلى مصادر،‮ ‬مثل الذاكرة والمخيلة،‮ ‬لها بعدها الزمني‮ ‬الخاص المختلف تماما عن المنظور الواقعي‮. ‬
نصوصي، ‮ ‬في‮ ‬مجملها،‮ ‬نتاج المخيلة والذاكرة‮.. ‬بمعنى أن للسرد خاصية التركيز والتكثيف والتشظي،‮ ‬والذي‮ ‬بدوره‮ ‬يستلزم بالضرورة بعداً‮ ‬زمنيا‮ ‬يقوم على التكثيف والاختزال الذي‮ ‬ينسجم مع حالات التشظي‮ ‬والتفكك‮.‬
روايتي‮ ''‬رهائن الغيب‮'' ‬تتحرك،‮ ‬ظاهريا،‮ ‬من خلال التعاقب الزمني،‮ ‬على مدى فترة زمنية محددة،‮ ‬لكن عميقا،‮ ‬ولأنها نتاج ذاكرة ومخيلة،‮ ‬فهي‮ ‬تكون بمثابة ساحة تتداخل فيها الأزمنة،‮ ‬مخترقة التخوم الفاصلة بين ما هو واقعي‮ ‬وما هو متخيّل،‮ ‬ما هو حقيقي‮ ‬وما هو وهمي‮ ‬أو حلمي‮. ‬

*‮ ‬هل مازلت تحنّ‮ ‬إلى ما كتبته في‮ ‬روايتك الأولى‮ ''‬أ.ص الأولى‮''‬،‮ ‬وما الثيمة التي‮ ‬تجمعك بروايتك الأولى ونتاجك الجديد؟

‮- ‬هناك عناصر مشتركة بين الروايتين،‮ ‬فقد كنت،‮ ‬ومازلت،‮ ‬أستمد المادة من الواقع المعاش ومن الحلم والمخيلة،‮ ‬مستعينًا بما‮ ‬يمليه الوعي‮ ‬واللاوعي‮. ‬أما القضايا الجوهرية التي‮ ‬تتصل بالوضع الإنساني،‮ ‬بكل ما‮ ‬يفرزه الواقع من علاقات وتناقضات وصراعات،‮ ‬فهي‮ ‬ذاتها وإن كانت مطروحة من زوايا ومنظورات مختلفة‮.‬

* كل حدث على الكرة الأرضية‮ ‬يثير الريبة والتوجس عند المبدع،‮ ‬والصورة الإنسانية تنحدر عبر أخلاق ساسة الحرب،‮ ‬فكيف‮ ‬ينظر أمين صالح كمبدع،‮ ‬إلى محاولة جر الأرض نحو حفرة الموت؟

‮- ‬موقفي‮ ‬لا‮ ‬يختلف عن موقف أي‮ ‬كاتب،‮ ‬بالأحرى أي‮ ‬فرد،‮ ‬يبصر سيادة الوحشية والرغبة المفرطة في‮ ‬التدمير أينما‮ ‬يلتفت‮. ‬
ثمة نزوع‮ ‬غير عقلاني‮ ‬إلى الاستبداد في‮ ‬الرأي،‮ ‬في‮ ‬الحكم،‮ ‬في‮ ‬السيطرة،‮ ‬في‮ ‬التوجيه،‮ ‬من أجل إخضاع الكائن البشري‮ ‬وتحويله إلى أداة لا تفكر بل تبطش فيما هي‮ ‬تمجد الموت وتهتف للقتل‮.‬
لكن المبدع بلا حول ولا مكانة‮. ‬في‮ ‬الواقع،‮ ‬لا أحد‮ ‬يحتاجه،‮ ‬ولا أحد‮ ‬يريده‮.. ‬لا المؤسسات الرسمية ولا الشعبية‮. ‬عندهم الثقافة مصطلح بغيض ما لم تمتثل لأهوائهم وأمزجتهم وبرامجهم ومشاريعهم‮. ‬المثقف الناقد عنصر خطر لأنه‮ ‬يرتاب ويفضح ويسعى إلى تغيير ما هو سائد ومستقر‮.. ‬لأنه‮ ‬‭-‬‮ ‬على الأقل‮ - ‬يسأل ويرتاب‮.‬

* أنت متهم بأنك حينما تكتب النص تسقط في‮ ‬جراب الشعر،‮ ‬فهل أنت للشعر أقرب منك للقصة والرواية؟

‮- ‬أن‮ ‬يتسم نصّ‮ ‬بالشعرية،‮ ‬أو أن‮ ‬يتخلل الشعر أنسجة النص،‮ ‬فذلك ليس تهمة‮ ‬يتوجب على الكاتب أن‮ ‬يدحضها أو‮ ‬يتنصل منها أو‮ ‬يدافع عن نفسه تجاهها‮. ‬فالشعر جوهر كل كتابة،‮ ‬كل فن،‮ ‬بمعنى أنه متجذر ومتأصل في‮ ‬كل فعل إبداعي‮.‬
من الخطأ الاعتقاد بأن الشعر‮ ‬يخص القصيدة وحدها‮. ‬هذا فهم قاصر لمعنى وطبيعة الشعر‮. ‬فالسرد‮ ‬يمتلك خاصية شعرية،‮ ‬كذلك الصورة السينمائية واللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية والمنظر الطبيعي‮ (‬من‮ ‬غروب الشمس إلى جريان المياه في‮ ‬نهر تمتد على ضفتيه أشجار الصفصاف‮). ‬الشعر موجود حولنا وفي‮ ‬كل مكان،‮ ‬فلماذا تستكثر أن‮ ‬يوجد في‮ ‬القصة أو الرواية؟
من الضروري‮ ‬أن ندرك أن الشعر‮ ‬يوسّع تخومه،‮ ‬وراء حدود الاتصال اللفظي،‮ ‬لمعانقة أشكال أخرى من التعبير الفني‮.. ‬بمعنى آخر،‮ ‬الشعر أفق مفتوح على مداه،‮ ‬ليشمل كل فعالية إبداعية‮. ‬

* هل تنظر إلى بناء عملك الروائي‮ ‬من خلال‮ ''‬زوم‮'' ‬المخرج السينمائي،‮ ‬أم تترك إرهاصات واقعك تعيش داخلك،‮ ‬فعندها تبني‮ ‬أعمالك من نافذة ضيقة تتسع من خلال نظرتك للصراع بشكله العام،‮ ‬وهل لك القدرة على مغادرة هذا الصراع؟

‮- ‬عندما أكتب روايةً‮ ‬أو نصا أدبيا لا أحاول استعارة عدسة سينمائي‮ ‬أو تشكيلي‮ ‬أو مسرحي،‮ ‬إذ إن شيئا كهذا سيؤذي‮ ‬عملك ويعطّل طاقتك وإمكانياتك‮.. ‬وذلك لسبب بسيط،‮ ‬إن لكل مجال لغته الخاصة،‮ ‬المختلفة والمتباينة،‮ ‬وأنت لا تقدر أن تستعير لغة السينمائي‮ ‬القائمة على الصورة البصرية،‮ ‬لتكتب بها نصا أدبيا‮ ‬يعتمد على الصورة اللفظية‮. ‬
لكن،‮ ‬من جهة أخرى،‮ ‬يمكن أن تستفيد من عناصر معينة في‮ ‬السينما،‮ ‬كالمونتاج‮ ‬‭-‬مثلا‮- ‬أو تنسيق المشهد بصريا‮. ‬وأن تستفيد من التشكيل والمسرح وكل ما تعتقد أنه سيعزّز ويثري‮ ‬كتابتك‮.‬

* نقرأ بين نصك كل جهات الأدب وتوزعاته،‮ ‬نقرأ القصة القصيرة والقصيدة والرواية والمسرح والسينما،‮ ‬فهل تقصد احتضان كل هذه الأوجه الأدبية،‮ ‬أم توظفت عندك من دون قصد؟

‮- ‬أحسبك تعلم أن الأنواع الأدبية والفنية لم تعد منفصلة عن بعضها البعض بشروط وقوانين مصطنعة وكابحة تميّز نوعا عن آخر،‮ ‬وتبعد شكلا عن آخر،‮ ‬بل صارت تتداخل،‮ ‬وتتفاعل في‮ ‬ما بينها،‮ ‬وتمارس تأثيرها المتبادل بحرية ورشاقة‮. ‬الحساسية الجديدة،‮ ‬في‮ ‬الكتابة وفي‮ ‬الأشكال الفنية الأخرى،‮ ‬نجحت في‮ ‬تحطيم الحواجز والتخوم الني‮ ‬نصبتها النظريات والمناهج النقدية القديمة،‮ ‬وأتاحت للنص الجديد أن‮ ‬يتحرك بحرية وعفوية في‮ ‬الحقل الإبداعي‮. ‬فإذا وجدت في‮ ‬نصي‮ ‬عناصر من أشكال فنية أخرى،‮ ‬فإن ذلك أمر طبيعي‮ ‬وصحي،‮ ‬كما أنه عفوي‮ ‬وغير قسري‮ ‬أو متكلف‮.. ‬هكذا أظن،‮ ‬هكذا أحب أن‮ ‬يبدو الأمر‮.‬
‮ ‬؟ لكل امرئ مسؤولية تجاه نفسه والآخرين‮.. ‬ما مسؤولية الكاتب حسب وجهة نظرك؟‮ ‬
‮- ‬مسؤولية الكاتب تجاه نفسه أن‮ ‬يحافظ على الموهبة،‮ ‬أو الهبة،‮ ‬الممنوحة له،‮ ‬أن‮ ‬يعتني‮ ‬بها ويرعاها ويصقلها،‮ ‬لأن أي‮ ‬هدر لها هدر لنعمة لا‮ ‬يحق له التصرف بها‮. ‬بمعنى آخر،‮ ‬الهدر خيانة‮.‬
أما مسؤوليته تجاه الآخرين فتكمن في‮ ‬توظيف موهبته للاتصال بالآخرين‮ (‬وليكن على المستوى الإبداعي‮) ‬ومعهم‮ ‬يخلق حوارا،‮ ‬حرا ومرنا،‮ ‬عن شؤون الحياة‮.‬

* كيف تبني‮ ‬أفكار قصتك ورواياتك،‮ ‬هل‮ ‬يتغلب الخيال على عقلك الواعي‮ ‬لحظة بناء أعمالك؟

‮- ‬يصعب تحديد كيفية بناء الأفكار‮. ‬إنها عملية معقدة جدا‮. ‬ليست هناك خطة معينة،‮ ‬أو منهاج معين،‮ ‬وفقاً‮ ‬له وفي‮ ‬ضوئه تقوم ببناء الفكرة‮. ‬الفكرة تخطر لك،‮ ‬هكذا،‮ ‬دون تصميم مسبق،‮ ‬وقد تنبع من مصادر متنوعة‮: ‬من حلم،‮ ‬من صورة،‮ ‬وأنت تمشي،‮ ‬تتأمل،‮ ‬تصغي‮ ‬إلى مقطوعة موسيقية‮.. ‬منابع ومصادر عدة ومتنوعة‮.. ‬لكنها ليست محكومة بآلية محددة ومفهومة‮. ‬قد‮ ‬يحدث كل شيء بيسر شديد،‮ ‬ودون إعاقات،‮ ‬وقد‮ ‬يستغرق الأمر وقتا طويلا،‮ ‬وربما تصرف النظر عن الفكرة‮.‬

* ‬عناوين نتاجك تثير الاستغراب دائماً‮ ‬وتفتح ذاكرة أخرى للحوار،‮ ‬ما الهدف من البحث عن هذه العناوين؟

‮- ‬للعناوين وظائف متنوعة‮: ‬إيضاحية،‮ ‬إيحائية،‮ ‬رمزية،‮ ‬دلالية،‮ ‬تفسيرية‮..‬إلخ‮. ‬شخصيا أميل إلى العنوان الذي‮ ‬له رنين شعري،‮ ‬جمالي،‮ ‬وفي‮ ‬الوقت ذاته‮ ‬يعبّر عن جوهر النص،‮ ‬ويكون مفتوحا على عدد من القراءات،‮ ‬من التأويلات‮. ‬
قد‮ ‬يتولّد العنوان أثناء الكتابة،‮ ‬أو بعد إنجاز العمل،‮ ‬وأحيانا،‮ ‬لسبب‮ ‬غامض ما،‮ ‬يكون حاضرا وجاهزا قبل التفكير في‮ ‬الكتابة‮. ‬في‮ ‬بعض الأوقات،‮ ‬تستعين بصديق‮ ‬يقترح عليك العنوان الملائم‮ (‬حيث‮ ‬يمكن للعنوان أن‮ ‬يوجد باستقلالية وعلى نحو متواز مع النصوص‮). ‬لكن في‮ ‬كل الأحوال‮ ‬ينبغي‮ ‬للعنوان أن‮ ‬يكون مدهشا،‮ ‬وأن‮ ‬يكون محركا،‮ ‬جماليا ودلاليا،‮ ‬لمخيلة القارئ‮.‬

* كيف تنظر إلى النقد،‮ ‬وما الجميل الذي‮ ‬يرضيك وما السيئ منه؟

‮- ‬لا أميل إلى،‮ ‬بل لا أثق في،‮ ‬النقد الذي‮ ‬يأتي‮ ‬إلى النص،‮ ‬أو أي‮ ‬عمل فني‮ ‬آخر،‮ ‬من خارجه،‮ ‬فارضاً‮ ‬عليه تصوراته ومفاهيمه وقناعاته،‮ ‬محاولا أن‮ ‬يجد في‮ ‬النص ما‮ ‬يتوافق مع أفكاره أو معتقداته أو أيديولوجيته،‮ ‬فإذا لم‮ ‬يجد ما جاء‮ ‬يبحث عنه،‮ ‬سارع إلى إصدار حكم طائش وغير مسؤول بفشل النص أو ضعفه أو عدم جدارته لأن‮ ‬يحتل مكانة مهمة ومتميزة‮. ‬مثل هذا النقد لا‮ ‬يفيد الكاتب ولا القارئ‮.‬
النقد،‮ ‬كما أفهمه،‮ ‬هو فعل حب‮. ‬على الناقد،‮ ‬في‮ ‬المقام الأول،‮ ‬أن‮ ‬يحب العمل الذي‮ ‬يتناوله حتى لو اتسم نقده بالقسوة والصرامة،‮ ‬وإلا ما ضرورة أو جدوى تناول عمل أنت لا تحبه أساسا‮.‬
النقد المرن والمنفتح،‮ ‬الذي‮ ‬يمتلك حساسية جمالية عالية،‮ ‬هو ما نحتاجه‮. ‬

* أنت متهم بأنك موغل في‮ ‬عالم من الفنتازيا أو السوريالية نحو ضبابية الصورة عندما‮ ‬تختار شخوصك،‮ ‬فكيف تدفع عن نفسك هذا الاتهام؟

‮- ‬أنت تتهمني‮ ‬بأشياء‮ ‬يرغب أي‮ ‬كاتب أن‮ ‬يقترفها بتلذذ‮ (‬كالشعرية والسوريالية‮).. ‬لذلك،‮ ‬فبدلا من دحض التهمة،‮ ‬أفضّل أن أبقى متهما،‮ ‬وألتزم الصمت‮. ‬

*‮ ‬البؤس تغلف دائماً‮ ‬بثوب من الغموض في‮ ‬نتاجك الأدبي‮ ‬على رغم الولادة الواقعية لهذه النتاجات،‮ ‬ما‮ ‬يدفع إلى قرائتها بعيدا عن منشئها ومكان ولادتها،‮ ‬لماذا،‮ ‬وهل هذا بقصد‮ ‬يوظفه عقلك الواعي؟

‮- ‬لا أظن أن أي‮ ‬كاتب‮ ‬يتعمد الغموض أو‮ ‬يقصد أن‮ ‬يغلّف رؤيته‮ (‬وبالتالي‮ ‬موضوعاته‮) ‬بما‮ ‬يشبه السديم‮.. ‬مع ذلك،‮ ‬لا بد من الإقرار بأن الغموض‮ (‬وليس الإبهام أو التعمية أو التشوّش‮) ‬متجذر ومتأصل في‮ ‬لبّ‮ ‬كل عمل إبداعي،‮ ‬شئنا أم أبينا‮.. ‬ذلك لأن النص‮ (‬أو أي‮ ‬عمل فني‮) ‬نتاج الوعي‮ ‬واللاوعي‮ ‬في‮ ‬آن،‮ ‬نتاج واقع وحلم معا،‮ ‬نتاج ذاكرة ومخيلة لا‮ ‬يمكن ضمان وضوح مادتها،‮ ‬أو الاطمئنان إلى انتقالها إلى الآخرين بدرجة كبيرة من الوضوح تكفل الفهم والاستيعاب‮. ‬

* الكثير من قصصك تبدأ بالحلم كروايتك‮ ''‬ألف صاد‮'' ‬الأولى،‮ ‬فهل تبدأ الكتابة من الحلم؟

‮- ‬الحلم حقل خصب وثري،‮ ‬أو‮ -‬إن شئت‮- ‬نبع ساحر واستثنائي،‮ ‬منه‮ ‬يستل الكاتب أو الفنان صوره ورموزه وأفكاره وحالات عجائبية لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يصادفها في‮ ‬واقعه اليومي‮. ‬الحلم هو الواقع الأخر،‮ ‬السحري‮ ‬والآسر،‮ ‬الذي‮ ‬يستمد منه الكاتب مادته‮. ‬شخصيا،‮ ‬لا أستثمر ما تهبه لي‮ ‬الأحلام فحسب،‮ ‬بل إن كثيرا من نصوصي‮ ‬تحاول أن تماثل الحلم في‮ ‬بنائها وصورها والعلاقات بين أشيائها‮.‬

* ‬كونك أحد الأدباء المفرغين من قبل الدولة،‮ ‬هل تشعر أن التفرغ‮ ‬أفادك في‮ ‬رسم مشاريعك الإبداعية،‮ ‬وهل تشعر بفراغ‮ ‬أطاله عليك حكم تفرغك؟

‮- ‬منذ أن حصلت على منحة التفرغ‮ ‬وأنا أشعر بحرية لم أختبرها من قبل في‮ ‬تنفيذ مشاريع أدبية وفنية ما كان بالإمكان تحقيقها في‮ ‬ظروف سابقة،‮ ‬إذ تسلب منك الوظيفة وقتا طويلا كان من الممكن استثماره في‮ ‬إنجاز أعمال كثيرة‮. ‬الوظيفة قيد‮ ‬يكبّل كل طاقاتك ويأسر روحك،‮ ‬ويصعب الخلاص منه،‮ ‬وعندما‮ ‬يأتيك الخلاص‮ (‬في‮ ‬شكل تفرّغ‮ ‬أو ثراء مفاجئ أو ما شابه‮) ‬فإن ذلك‮ ‬يكون أشبه بالمعجزة‮.. ‬المعجزة التي‮ ‬تستمتع بمذاقها كما الفاكهة‮.‬

* ‬لو طلب منك أن تقرأ المدن إبداعيا فإلى أي‮ ‬المدن تميل وتشعر بأنك تتنفس بحرية؟‮ ‬

‮- ‬إنها المدينة القاطنة في‮ ‬نصوصي،‮ ‬تلك التي‮ ‬هي‮ ‬من نسج الواقع‮ (‬أو الطبيعة‮) ‬والحلم والخيال،‮ ‬تلك التي‮ ‬أجوب طرقاتها وساحاتها وحقولها بحرية ورشاقة تستعصي‮ ‬على الوصف،‮ ‬تلك التي‮ ‬لا‮ ‬يحكمها منطق أو قانون أو بنى‮ ‬غير التي‮ ‬تستدعيها مادة العمل،‮ ‬تلك التي‮ ‬أعبر تخومها بلا إذن ولا تصريح،‮ ‬حيث أكون الخالق‮ (‬أو اللاعب أو الحاوي‮.. ‬سمّني‮ ‬ما شئت‮) ‬والمخلوق في‮ ‬آن‮. ‬
خارجيا،‮ ‬لكل مدينة جمالها وقبحها،‮ ‬فضائلها ورذائلها،‮ ‬وداعتها وعنفها‮.. ‬ذلك لأن المدن،‮ ‬كما الحال مع الإنسان،‮ ‬نتاج الصدفة والضرورة‮. ‬
لو كان الأمر بيدي‮ ‬لطحنت المدن برحى الخلق،‮ ‬ومن عجين الحجر والسماد صنعت المدن الأجمل،‮ ‬الجديرة بالمديح‮.‬

* كيف تنظر،‮ ‬وأنت في‮ ‬هذا العمر من الإنجاز الأدبي،‮ ‬إلى صورتك الأدبية،‮ ‬وهل أنت مقتنع بما قدمته أم مازال الدرب أمامك طويلا؟‮ ‬

‮ - ‬لا أعتقد بأن الصورة واضحة،‮ ‬بالنسبة لي‮. ‬
أنت تقضي‮ ‬عمرا مديدا تكتب أو تنتج فنا،‮ ‬دون توقف‮.. ‬لماذا؟ هنا‮ ‬يكمن اللغز،‮ ‬كلما أنتجت شيئا شعرت بشيء من الرضا أو الإشباع الموقت،‮ ‬وسرعان ما تبدأ في‮ ‬الارتياب بما أنتجت،‮ ‬وتشعر بأن ما أنجزته لا‮ ‬يرتقي‮ ‬إلى ما كنت تصبو إليه،‮ ‬وأن ما هو كامن في‮ ‬داخلك لم‮ ‬يخرج منه إلا الجزء الضئيل جدا،‮ ‬وأن الكامن أجمل بكثير مما أنجزته حتى الآن،‮ ‬فتحاول من جديد،‮ ‬المرّة تلو الأخرى،‮ ‬بعد فترة قصيرة من الراحة تلتقط فيها أنفاسك وتستجمع قواك المنهكة،‮ ‬حتى‮ ‬ينتهي‮ ‬بك العمر،‮ ‬وأنت تحتاج إلى مزيد من الوقت،‮ ‬وتسمع ما بداخلك‮ ‬يطلق صوتا حادا عاليا لكي‮ ‬يخرج،‮ ‬لكي‮ ‬يتحرر،‮ ‬وأنت لا تستطيع أن تلبي‮ ‬هذا المطلب،‮ ‬لا تستطيع أن تعبّر جيدا،‮ ‬وعلى نحو مرض تماما،‮ ‬عن ذاك الجزء الطالع من أعماقك‮.‬
هكذا هي‮ ‬عملية الإبداع‮: ‬شهوة دائمة،‮ ‬وجوع متواصل لا‮ ‬يبلغ‮ ‬حد الشبع أبدا،‮ ‬وإنهاك لا حدّ‮ ‬له‮.‬

* لم‮ ‬يعرف الشاعر قاسم حداد صديقاً‮ ‬حنوناً‮ ‬عليه كأمين صالح،‮ ‬فما الأشياء الجميلة التي‮ ‬جمعتكما ببعض وما المفاصل السلمية في‮ ‬تجربتكما الأدبية التي‮ ‬مازالت كما‮ ‬يقرؤها النقد وليدة الأمس،‮ ‬فهل أنت متفق معي‮ ‬على ما‮ ‬يراه المحبون في‮ ‬تجربتكما الحياتية والأدبية؟

‮- ‬أنا محظوظ للغاية لأنني‮ ‬رافقت قاسم حداد في‮ ‬تجربتيّ‮ ‬الحياة والكتابة معا‮.. ‬هذه الرفقة الخصبة،‮ ‬الغنية،‮ ‬السخية،‮ ‬التي‮ ‬لا أنانية فيها ولا بخل‮.. ‬والمكتنزة دوما بالحب والفهم والدعابة‮.‬
أن تتقاسم مع قاسم الرغيف والشعر‮ ‬يعني‮ ‬أن تحصّن نفسك من أي‮ ‬انكسار محتمل،‮ ‬أن تصون روحك من التشوّه الذي‮ ‬صار‮ ‬يطال من كان‮ ‬يحلم معك بغدٍ‮ ‬مشرق،‮ ‬أن تقطع الخيوط التي‮ ‬تشدك إلى مرابط الامتثال والخنوع،‮ ‬مراقد الكسل والتكرار‮. ‬يعني‮ ‬أن تنحاز فقط إلى ما‮ ‬يتيح لحريتك التحقق‮: ‬حرية العيش خارج سطوة الرسمي‮ ‬والأيديولوجي‮ ‬معاً،‮ ‬حرية أن تبدع بلا شرط ولا تحفظ‮.‬
والذين‮ ‬يعرفون قاسم جيدا‮ ‬يدركون أنه قادر أن‮ ‬يكون،‮ ‬بلا عناء ولا تردد،‮ ‬جناحاً‮ ‬يوفّر لك الفيء والطمأنينة،‮ ‬يداً‮ ‬حنونة تزيح عن كاهليك‮ ‬غبار التعب واليأس،‮ ‬وعيناً‮ ‬تسهر عليك كلما آويت للنوم لتحرس لك أحلامك العابثة‮.. ‬وهو‮ ‬يفعل كل هذا دون مقابل،‮ ‬ودون أن‮ ‬يرجو مكافأة‮.. ‬يكفيه أن‮ ‬يرى في‮ ‬حدقتيك سريرا‮ ‬يأوي‮ ‬إليه آن‮ ‬يتعب‮.‬

* ماذا‮ ‬يدور في‮ ‬عقل أمين صالح الآن،‮ ‬هل هناك عمل مرتقب سيرى النور قريباً؟

‮- ‬لا أعرف إن كانت مشاريعي‮ ‬المقبلة سترى النور قريبا،‮ ‬ذلك لأنني‮ ‬لا أعلم متى أنتهي‮ ‬من إنجازها‮. ‬حاليا أشتغل على ترجمة وإعداد كتابين‮: ‬أحدهما عن السوريالية‮ (‬تاريخها ومصادرها وعناصرها ولغتها وتقنياتها‮...‬إلخ‮) ‬والآخر عن المخرج السينمائي،‮ ‬اليوناني‮ ‬العظيم،‮ ‬ثيو أنجيلوبولوس‮.. ‬أتمنى أن أنتهي‮ ‬منهما مع نهاية العام الحالي‮.‬

* هل تشغلك السياسة أكثر من انشغالك بالأدب؟

‮- ‬أتابع الأحداث المهمة وأخبارها وما‮ ‬يكتب عنها من تحليلات،‮ ‬لكن ليس إلى حد الانغمار أو الهوس‮. ‬يثير اهتمامي‮ ‬ما‮ ‬يحدث في‮ ‬العالم،‮ ‬حتى وإن كان‮ ‬يسبب الإحباط أو التوتر‮. ‬لسنا معزولين أو في‮ ‬كوكب آخر‮. ‬ما‮ ‬يحدث هناك‮ ‬يؤثر سلبا أو إيجابا في‮ ‬ما‮ ‬يحدث هنا‮. ‬مع ذلك،‮ ‬لست ممن‮ ‬يتابعون نشرات الأنباء على مدار الساعة‮. ‬ذلك أمر مضجر ومثير للكآبة‮.‬

* سؤال‮ ‬غفلتُ‮ ‬عنه ولم أسألك إياه،‮ ‬لك أن تفتح الذاكرة وتكمل الناقص من الحوار؟

‮- ‬أكمل؟ لم لا ننهي‮ ‬اللقاء عند هذا الحد؟

هكذا اختار أمين في‮ ‬غفلة من بصيرتي‮ ‬أن‮ ‬ينهي‮ ‬الحوار،‮ ‬وتظل نوافذه تلاحقني‮ ‬حيث كل الأشياء التي‮ ‬بدأ بها الحوار جاءت من جديد لتسألني‮ ‬لماذا انهيت هذا الحوار الجميل،‮ ‬مع سنديان مازال‮ ‬يعرش بطيبته ويثمر الحلم مع أصدقاء جدد،‮ ‬يطرح على مسامعهم سردا لحكاية لم تكتمل،‮ ‬هكذا هو أمين صالح

الوطن، 8 أكتوبر 2007) البحرين