حاوره: ناظم السيد
(لبنان)

تبدو علاقة محمد علي شمس الدين بالشعر أكثر من وطيدة. لنقل إنها أنانية في شكل من الأشكال. فهو لم يرَ نفسه خارج الشعر إلا ليزيد الى الشعر. يقرأ الفلسفة ليجعل لقصيدته خلفية. يدرس التاريخ ليبني شعره على مساحة واسعة. لكن قصيدة شمس الدين ليست هذه فحسب. إنها الإيقاعات العالية والملحمية والإنشاد والغنائية والتعصّب للتفعيلة والتمسك بالصوت، وسط أنين الذات وعويل الجماعة. استعار الشاعر من التراث الشيعي، بيئته الأولى، مثلما أخذ عن الصوفية والمسيحية وقراءات الشعر الغربي. شعره مزيج من هذا وذاك، من أقنعة لأسماء شعراء وشخصيات تاريخية وأساطير. هو واحد من شعراء الجنوب الذين احتلوا المشهد الشعري من السبعينات حتى منتصف الثمانينات. صعدوا مع الجنوب ثم تفرقوا شعراء كثيرين. غنى له فنانون ملتزمون وإن كان يعتبر الغناء "إساءة" للشعر.
نشر شمس الدين ديوانه الأول "قصائد مهرّبة الى حبيبتي آسيا" عام 1975. تبع ذلك أربعة عشر كتاباً آخرها "الغيوم التي في الضواحي" الصادر أخيراً عن "دار النهضة العربية" في بيروت. هنا حوار عن الكتاب وعن الشاعر وقضاياه.

كتبت عن الحرب الأخيرة في لبنان، حرب تموز/ يوليو، إضافة الى الحرب في العراق في كتابك "الغيوم التي في الضواحي" الصادر أخيراً عن "دار النهضة العربية" ضمن سلسلة إصدارات لعدد من الشعراء العرب، ولا سيما شعراء دول المغرب العربي. ألا تظنُّ أن الوقت لا يزال مبكراً على كتابة هاتين الحربين إبداعياً؟

الحرب ليست مسألة عاجلة. إنها تاريخنا وسيرة حياتنا اليومية. الحرب موضوع شخصي كتبته باستمرار.

يلاحظ حضور التراث الشيعي في قصائد هذا الديوان، تحديداً في قصائد الحرب. هناك الحسين وكربلاء وفاطمة والقاسم، وهو تراث شكل أحد روافد الكتابة لديك. كيف وصل هذا التراث الى قصيدتك؟

الأصل يعود الى كربلائيات الجد الشيخ عبد الحسين في قرية بيت ياحون الجنوبية. كان انفعالي أكبر من فهمي وقتذاك. دخل الصوت الكربلائي في تكويني. الكربلائية في شعري عصب للفجيعة.
ثمة قصيدتان في الديوان مستمدتان من الحرب مباشرة: "الغيوم التي في الضواحي" و"زيارة الى موقع الغراب". بحسب فهمي لهما أجد أن هناك نقداً للحرب.
نعم هناك موقف من الحرب، سواء كانت عادلة أم غير عادلة، وسواء انتصرنا أم هُزمنا.

في "زيارة الى موقع الغراب" العبارة الآتية :"غراب هنالك/ ينعق فوق السياج/ يقول: انتصرنا/ كلما دفنت أمة أختها/ يصيح الغراب انتصرنا". هل هناك إشارة سياسية ما ؟

لا، لا يوجد. إذا أردت موقفي من الحرب الأخيرة فهو موجود من خلال "الغيوم التي في الضواحي": "في شهر تموز/ من عام جرح وألفين بعد المسيح/ وسبعين مجزرة في القرى/ في طريق الإمام الذبيح/ سجّلوا في دفاتركم ما يلي: لقد أزفَّ الوقت/ واكتملت كربلاء/ مثلما شاءها الأقوياء".

ومن هو القوي؟

"حزب الله". لقد انتصر هذا الحزب لأنه قوي وليس لأنه يحمل أيديولوجيا كربلائية أو إلهية. كربلاء التي في ذهننا ليست كما تمَّ تحقيقه في الحرب الأخيرة. هي انتصار معنوي للحق على القوة. وكما يقول ألبرتو مورافيا: "الإنسان يكون أولاً قوياً ثم أخلاقياً". الحرب الأخيرة عكست الآية: لقد انتصر "حزب الله" لا لأنه على حق بل لأنه قوي. أولاً لأنه قوي ثم بعد ذلك يأتي الحق. "الغيوم التي في الضواحي" سيرة حرب بعينها. أما "زيارة الى موقع الغراب"، فأنا أسجّل من خلالها موقفاً وجودياً من الحروب على مرِّ التاريخ.

أهديت قصيدتك "الخناجر تحت العباءات" في الديوان الى السيد عبد المجيد الخوئي "مقتولاً على عتبات النجف". كأنك بدوت منحازاً الى طرف في هذه القصيدة إزاء ما يجري في العراق.

عبد المجيد الخوئي صديق شخصي. أعرف كم هو وطني وبريء. لهذا نهشته أسنان الحرب في العراق.

هل لديك موقف سياسي تجاه ما يجري في العرق؟

طبعاً، أنا ضد أميركا في المطلق وضد صدام حسين (جرى الحوار قبل إعدام الرئيس العراقي السابق).

تلمّح الى فكرة العشائرية ودورها في الاقتتال الداخلي.

بلا شك، بعض العرب لم يخرج من العشائرية والقبلية، وهذا موجود أيضاً في لبنان.

بين محمد والمتنبي

في كتابك الجديد هذا كمعظم كتبك، ثمة الكثير من الأقنعة مثل السيدة مريم والمغني معبد والفارابي والمتنبي وطارق بن زياد وقتيبة بن مسلمة وقيس وليلى. ثم إن قسماً *كبيراً من شعرك لا يمكن أن يُقرأ إلا على خلفية تاريخية. لماذا هذا الهجس بالأقنعة والتواريخ؟

السبب هو أنني منذ الصغر عندي شغف بقراءة التواريخ والسير وقراءة الفلسفة. هذه القراءات أضافت الى حياتي المحدودة تجارب الأمم والشعوب والأفراد.

*ألا تسعى بهذا الى منح نصك الشعري وزناً آخر؟

النص عندي يمتد من الماضي الى المستقبل مروراً بالراهن. لكن لدي ملاحظة: أعتقد أنني بدأت الشعر من حيث أنهيت التواريخ والفلسفات.

*في قصيدة "أبواب الموسيقى" ضمن هذه المجموعة الشعرية ثمة سبعة أبواب: الفتوح، الهواء، الجسد، الفلسفة، ليلى وفاطمة. هي أبواب العظمة والتعالي والفكر والحب والإيمان. هل هذه الأقنعة هي وجوهك في الواقع؟

بالإيجاز حتماً. وأكثر من ذلك: هي أقنعة من أقنعتي. وبالطبع، هناك أقنعة أخرى.

دعنا نخرج من كتابك "الغيوم التي في الضواحي" لنتحدث عن تجربتك عموماً. البعض يعتبر أنك بدأت شاعراً عصبياً وملعوناً في كتابك الأول "قصائد مهرّبة الى حبيبتي آسيا" وانتهيت شاعراً نبياً.

ربما قولي في إحدى قصائدي "ضيعت الحكمة حين غزاني الشيب" يعني حكمة العقلاء. لاحقاً اكتسبت جنون المتصوفة. بدأت شيطاناً وانتهيت شيطاناً مقدساً. لقد فُتحت لي في ديوان "أميرال الطيور"، خصوصاً في قصيدة "يوميات الصمت" وقصيدة "ذكر ما حصل للنبي حين أحب"، ومن بعد ذلك في ديوان "شيرازيات"، فُتحت لي الأبواب على الغيب، فشاهدت ما لا عين رأت، ولا خطر في بال بشر.

في قصيدة "الفراشة" من كتابك الجديد، والتي تتحدث فيها عن أمك آمنة، تجري علاقة داخلية بينك وبين النبي محمد الذي ولد من أم تُدعى آمنة. هذه العلاقة نفسها تلمّح لها أيضاً في قصيدة "شمس محمد" من ديوانك "يحرث في الآبار".

صحيح. في قاع نفسي أنا شبيه بقبس من شمس محمد. أعتبره حقاً أصل الخليقة وطريقها. وحين أتماهى معه أتماهى مع ما أعتقد. فتوحاته في الذات والبشرية وفي الآفاق. وفتوحاتي في الشعر. ثمة ما يمكن أن يجمعني بالنبي في هذا المجال.

في "كتاب الطواف" تماهيت مع المتنبي.

المتنبي أساس شخصه التاريخي ما يلي: إيمانه بأنه كائن مصفّى وخارق. الكائنات المصفّاة والخارقة هم الأنبياء. حاول المتنبي النبوة فصدّه الواقع. كتب الشعر فوصل الى أن يكون خارقاً في الشعر. أي ما يجمعه بالنبي هو الكلمات. وليس عبثاً أن يسمي المعرّي ما اختاره من شعر المتنبي "معجز أحمد".

وما الذي يجمعك أنت بالمتنبي، النبوة أو الشعر؟

قوة الكلمات.

تقول إنك تنبأت بالحرب الأهلية في لبنان في "قصائد مهرّبة الى حبيبتي آسيا" الذي كتب بداية السبعينات وصدر عام 1975، السنة التي اندلعت فيها الحرب.

ليس بمعنى النبوءة. لكن لمست شيئاً من ذلك الصراع في الهدوء الظاهري للحياة. كنت أقول "من يقتل من؟".

دعني أستعير عنواني ديوانين لك لصوغ سؤال. من "ممالك عالية" الى "يحرث في الآبار" أنت شاعر علو وشاعر عمق، شاعر هواء وشاعر تراب، لا تسير على الأرض، دائماً فوقها أو تحتها. هل أنت شاعر وحي ببساطة؟

هندسياً وإبداعياً هذا كلام صحيح. في داخلي بذرة من الابتكار والحرية تجعلني لا أخضع لإله ولا لشيطان. الشعر عندي مغامرة. لا أحد غيري يستطيع أن يصدر ديواناً يقوم على حافظ الشيرازي والوزن التام.

لا تكفي الظواهر

يبدو التدين جزءاً من شعرك. هذا استنتاج ليس حصيلة إجاباتك الآن بل يتأتى من فحص لقصيدتك.

أنا شاعر ميتافيزيك. وأقول: لا شعر خارج الميتافيزيك.

لكنَّ بعض أبناء جيلك من شعراء قصيدة النثر (عباس بيضون، وديع سعادة، بسام حجّار) والجيل الذي الذي أتى بعدك في الثمانينات (يحيى جابر، جوزيف عيساوي، يوسف بزي، شارل شهوان، فادي أبو خليل) كتبوا قصيدة يومية تعنى بالتفاصيل الحياتية، بلغة فيزيولوجية تشتبك مع الواقع بالأيدي في معظم الوقت. ما رأيك في هذه القصيدة؟

القصيدة اليومية والمنزلية وقصيدة التفاصيل والهوامش والتسكعات، دائماً دائماً لا قيمة لها إذا لم يحرّكها عصب في سؤال خارج إطار الظواهر. لا تكفي الظواهر.

خضت صراعاً مع جيل الثمانينات على خلفية مفهوم الشعر والقصيدة واللغة. هل كانت رؤيتك هذه الى الشعر وراء هذا الصراع؟

لم يكن هذا الصراع أيديولوجياً بل نصي. هناك عدد كبير من المجموعات الشعرية التي صدرت لشعراء مبتدئين (أي أصدروا كتابهم الأول)، أحببت شعرهم وكتبت مزاجي في هذه الأشعار.

ربما كان خلافاً نشأ من صراع بين جيلين، من حساسية مسيطرة وحساسية تتقدم بحدة وإغواء؟

نصف قرن من الحداثة العربية نصياً لا تكفي لصراع أجيال. شعراء النصف الثاني جميعاً من القرن العشرين هم في موقع واحد تقريباً.

كيف؟

أولاً، الفترة التاريخية واحدة مع اختلافات بسيطة. قلت لك إن الحرب كانت شأناً خاصاً للجميع. ثانياً، المصادر الثقافية للتجربة واحدة، أي الشعر الأوروبي والشعر الأميركي. ثالثاً، التآخذ الثقافي بين الشعراء والمفكرين واحد. حتى لو كان عمرك نصف عمري ففي مقدورك أن تقرأ ما قرأت.

ناهيك بأن الشعر الغربي ليس واحداً، ألا يأخذ هذا الكلام الجميع بكلّيته؟

في هذا السديم من النصف الأخير من القرن الفائت تبرز أسماء وتتمايز. وكل اسم له اسم قبله واسم بعده. أنت حين تذكر أنسي الحاج تذكر أنطونون آرتو. وحين تذكر أدونيس تذكر سان جون بيرس. وحين تذكر يحيى جابر تذكر محمد الماغوط.

والبعض يقول إنكم أنتم، أصحاب قصيدة التفعيلة، تتناسلون من عباءة بدر شاكر السياب؟

حين تذكرني شخصياً ستجد أني غير مدرسي. أحب السياب لكني مختلف عنه. أحب الماغوط أيضاً. السياب لم يكن شاعراً وجودياً. أنا وجودي وشاعر ثنائيات. بالطبع هناك نتوءات شعرية، وأنا نتوء شعري في نصف القرن الفائت. لست ظلَّ غيري. كذلك أدونيس والماغوط وصلاح عبد الصبور وحسن عبدالله.

انتهت التسمية بقيت القصيدة

ماذا عن تركة محمود درويش عليكم؟

محمود درويش شاعر حي ومتحرك، وغدا نتوءاً شعرياً، ولا سيما في ديوانه "جدارية"، الذي يرصد تجربته الشخصية مع الموت.

هناك من يقول إنكم أنتم "شعراء الجنوب"، كما درجت التسمية، سعيتم الى خلق أسطورة جنوبية في الشعر موازية للأسطورة الفلسطينية.

هناك لعبة سياسية لتجميع عدد من الشعراء في مكان جنوبي بنيات سياسية.

أنت تنكرت من كونك واحداً من "شعراء الجنوب" بما تعني هذه التسمية من اتجاه شعري يطاول الموضوع واللغة والشكل والثقافة ربما.

لا أتنكر. أقول إنني كشاعر حملت الجنوب وحملني. لكني انتهيت الى أن أكون شاعرَ لغتي. وأنا كذلك منذ البداية، منذ "قصائد مهرّبة الى حبيبتي آسيا". هذا الوصف لا ينفع ولا يضير. إذا فحصت نصوصي ستجد كم أن هذا الكلام صحيح ودقيق.

لكنك صعدت مع "شعراء الجنوب" وكنت أحد نجوم المرحلة التي بدا فيها الجنوب نجماً أيضاً؟

نحن شعراء نجوم لأننا شعراء كبار.قصيدتي أكبر من تلك الاتجاهات السياسية. والنتيجة: قصيدتي استوعبت الاتجاهات السياسية، ولم تستطع هذه الاتجاهات السياسية استيعاب قصيدتي. التسمية انتهت لكن القصيدة بقيت. الجنوب جزء من مكوّناتي. لكن أنا أنتمي الى اللغة. قد يكون هناك من استفاد – لسوء الحظ – من البعد السياسي أو الدعاوى السياسية كالشعراء الفلسطينيين وبعض شعراء الجنوب اللبناني. وهذا الأمر ضدهم في كل حال. الشعر أقوى من الظرف ومن السياسة.

أنت شاعر إيقاعات عالية وإنشاد وغنائية وملحمية. وقد حافظت على هذه الملامح حتى في آخر كتبك "الغيوم التي في الضواحي". لماذا لم تستطع تجاوز هذه الأبعاد؟

عندي ثلاثة كتب هي "رياح حجرية"، "كتاب الطواف" و"حلقات العزلة"، تسرح فيها الكتابة انسراحاً تاماً، وتتنفس القصيدة تنفساً كاملاً.

لكنك تصنّف هذه الكتب في خانة النثر؟

لا، هي سيرة مزدوجة كالشعر. أنا لا أصنّفها. إنما لا أنكر انتماء قصائدي على تنوعها الى نواة إيقاعية هي التفعيلة، لكنني أتعامل معها بكثير من المرونة والتشابك والحرية.

هل تسعى من وراء هذا البناء الملحمي والإنشاد العالي الى خلق صوت ضخم يرفع شعرك؟

ليس كل شعري ملحمياً وإنشادياً. هناك جانب خافت ديني وتأملي، وهو يشكل نصف شعري تقريباً، وهو المنقلب الثاني للكتابة عندي.

في شعرك صوت فردي خاص وصوت جماعي. هل تطمح لأن تكون شاعر أمة؟

لا أعتقد أنني أتقصّد ذلك. لكن بالتأكيد أنا شاعر ذاتية. الجماعة تتبنى أو لا تتبنى ما أكتب.

أنت شاعر شعراء أيضاً. في كتابك الجديد وكتبك السابقة عشرات الشعراء من العرب والأجانب.

أنا شاعر شعراء وأشخاص تاريخيين وغير تاريخيين. في نفسي شيء من كل شيء. من يوحنا المعمدان الى غوغان، ومن محمد والمسيح الى رامبو والسياب والماغوط. السبب هو نشوتي بالتواريخ.

درست ثلاث دراسات، الحقوق، الأدب والتاريخ الذي نلت فيه الدكتوراه. هل دفعتك دراسة التاريخ الى استعارة شخصياته؟

دفعتني نشوتي الى هذه الدراسة وليس العكس.

أصل الشعر

تقول إن "الفلسفة أساس الشعر"، وإنك الوحيد مع صلاح عبد الصبور من كتب قصيدة ذات أبعاد فلسفية.

وجودت فخر الدين في الفترة الأخيرة. هناك مدارس أخرى، لكني ميّال في هذا الموضوع الى بعض محطات ثقافية وحياتية. أبو نواس والمعري والمتنبي يرتكز شعرهم على هذه المقولة. إليوت أيضاً. لكن أكبر سند ثقافي هو في الشعر الألماني.

أنت تعتبر أن غوته مؤسس الفلسفة الألمانية.

نعم، أشعار غوته وهولدرلين وشيلر في أساس الفلاسفة الألمان الكبار من نيتشه الى أنغلز وماركس. إن التفكر في التاريخ والفلسفة يمنح الشعر عموداً فقرياً. من دون ذلك سيكون الشعر هلامياً ورخواً. لكن لا بدَّ من التدقيق في العلاقة بين القصيدة كلغة وتقنية وموسيقى وبين الفلسفة والتاريخ. هذا يحتاج الى دراسة على حدة. لأن بعض من أسرفوا في تحميل القصيدة حمولة فلسفية قوية ظلموا القصيدة. كتبت مقالاً عن أدونيس في عمله "الكتاب" بالعنوان الآتي: "البحث عن إبرة الشعر تحت قش التاريخ". كان رأيي أن أدونيس أرهق الشعر بحمولة تاريخية فائقة. هناك شعراء حين تسطع السياسة أو الأفكار في نصوصهم يهددون القصيدة. ثمة توازنات سرية في القصيدة يعرفها الخبير بها.

أنت تعتبر أن جيلكم، جيل السبعينات، نضجت عنده القصيدة الحديثة أكثر مما نضجت عند الروّاد.

ربما استفاد جيلنا من ينابيع الحداثة كما استفاد منها الروّاد. نحن استفدنا من إضافة الرواد. أنا قرأت بيرس بالفرنسية ومن خلال ترجمة أدونيس. لذا أعتبر أننا أبناء مرحلة واحدة، مع الرواد ومع من جاء بعدنا. لقد لمعت أسماء بالطبع ذات أساليب شعرية متباينة، وإن أحياناً هي متداخلة.

حتى قصيدة النثر تقول إنها نضجت عند جيل السبعينات أمثال عباس بيضون، بول شاوول، وديع سعادة، بسام حجّار.

هؤلاء أعطوا حساسيات شعرية لا تجعلني أنسى محمد الماغوط وأنسي الحاج، ولا تجعلني أنسى أصل الأصل أمثال لوتريامون وآرتو وجبران خليل جبران وأمين نخلة.

كذلك تقول إن خليل حاوي ليس مؤسساً بل أنتم المؤسسون.

نحن استفدنا من خليل حاوي وأضفنا. لا أميل كثيراً الى شعره في كل حال. اختياراتي بين جيله: صلاح عبد الصبور، السياب، جزء من البياتي، أمل دنقل، أحمد عبد المعطي حجازي والماغوط "الأول". ثم الجيل الآخر: حسن عبدالله، عباس بيضون، سركون بولص، وديع سعادة وأمجد ناصر. وهو يعرف ذلك (يقصد هذا الأخير)، وصولاً الى جيلكم. أحب كتابتك أنت شخصياً على سبيل المثال لا الحصر (صديقتي نصحتني بحذف هذه الجملة). كرة الحداثة تتدحرج على أرض مفتوحة لحسن حظ القصيدة.

لكن ألم ترث أنت الشعر الميثولوجي لديك عن الروّاد أمثال السياب وعبد الصبور وأدونيس وخليل حاوي خصوصاً؟

هذه الميثولوجيا مفتوحة للجميع. إنها إرث بشري. إليوت شاعر ميثولوجي. مأخذي على خليل حاوي رتابته الإيقاعية. لم أستفد من حاوي. أنا وهو استفدنا من الميثولوجيا.

وقفت في البداية ضد قصيدة النثر، فلم تعترف بها. ماذا عن هذا الموضوع؟

قرأت قبل فترة قصائد ونصوصاً نثرية وأحببتها. أنا من الأساس أقول بإمكانية اشتقاق شعرية ما من النثر كمبدأ. وهنا لست نظرياً. القصائد هي التي تفرض نفسها وتقنعني. هذه اللحظة من الشعر تجاوزت هذا التمييز. أمامك اليوم النص الشعري بذاته، فإما أن يكون مقنعاً وإما لا يكون.
أذكر أنك كتبت قصيدة هزلية وهجومية ضد كتاب شوقي أبي شقرا "تاج فتى الهيكل"، تقول فيها "خذ تاء التاج/ واصنع منها لغة الأبراج".

كانت مداعبة. هذا شعر يهدف الى نوع من التواصل.

لكنه لم يفهمها مداعبة.
لا أعرف.

ذكرت لي أثناء الحوار ديوانك "شيرازيات". وضعت على غلاف هذا الكتاب اسم حافظ الشيرازي واسمك متقابلين. ربما لتوحي بالتأليف لا الترجمة؟

لست مترجماً. لكن كما قلت عني أنا شاعر شعراء وترجمان ضمائر. ضميري الفردي هو جماعي في اللحظة نفسها. حين تقرأ النص الآتي من "شيرازيات" وتقرأ أصله في حافظ الشيرازي ستجد التناسب والافتراق: "رأسي يدور على ما رقَّ من جسدي/ حتى كأنَّ به مسَّ الأساطيرِ/ أو أنني كرة في كفِّ حاملها/ ألقى بها الله في كفِّ المقاديرِ/ لا تشرب الراحَ من دنٍّ بلا شغف/ ولا تسلّم عليه غيرَ مخمورِ/ فالله أودع في ما كان من خبر/ سرَّ الخليقة في كأس من النورِ/ حتى إذا مسّها موسى على عجل/ والبرق خاطبه من جانب الطورِ/ وصبَّ عيسى على الموتى سُلافته/ كأنما صبَّ فيهم نفحة الصورِ/ جاءت إلينا على ساقين حاملة/ ماءَ الحياة بأحشاء القواريرِ".

هذا يذكر بترجمات ما قبل النصف الثاني من القرن العشرين، ترجمة نقولا فياض لبحيرة لامارتين أو ترجمات الطهطاوي.

أنا لا أترجم بل أنشىء نصاً على نص. في كل حال، هذه تجربة من تجاربي، وهي قريبة من ذاتي.

لماذا اخترت الشيرازي بالضبط؟

اكتشفته في زيارة الى إيران بدعوة من وزارة الثقافة. هناك لاحظت تقديساً جماهيرياً له. الشعب يستفتح بديوانه كما يستفتح بالقرآن. كما أنهم يسمونه لسان الغيب. حتى إن شكل طباعة ديوانه كشكل القرآن. الآيات مطبوعة كطباعة الآيات القرآنية. هذا ما دفعني الى قراءته، فاكتشفت له أبعاداً عميقة أعرفها جزئياً في نفسي. وفي المناسبة، كنت قرأت "منطق الطير" لفريد الدين العطّار، وكانت له بصمة على ديواني "أميرال الطيور" وعلى قصيدة "ذكر ما حصل للنبي حين أحب".

القدس العربي-