(بدأ بإحراق ثلاثة أرباع مكتبته مع ما تحمله من أصابعه عليها)

اسكندر حبش
(لبنان)

محمد علي شمس الدين"لغيوم التي في الضواحي" عنوان المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين الصادرة حديثا عن «دار النهضة العربية» في بيروت، وفيها يتابع الشاعر رسم مناخاته التي تشكل استمرارا في تجربته الشعرية، بمعنى أن الشاعر «صاحب قصيدة واحدة تكتب على امتداد الأيام والأعوام» مثلما يحدد شمس الدين ذلك، أي أن التجربة تتوسع من كتاب إلى آخر، ليأخذ بها إلى أماكن جديدة لم يكن قد تطرق إليها في الماضي.

"الغيوم التي في الضواحي" عنوان قد يشير للوهلة الأولى إلى هذه المحسوسية (الكونكريتية) بيد ان الشاعر يعرف كيف يقود الكلمات إلى ما يصفه «بعالم الغيب» أي لنقل هذه التجريدية في التعامل مع اللغة الشعرية ليفتح أمامها آفاق الفلسفة والتاريخ، فشعر شمس الدين، هو بالنتيجة ابن هذين المفهومين، اللذين عمل عليهما منذ «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا»، مجموعته الأولى، وحتى المجموعة الراهنة، وإن كان الشاعر يعترف في هذا الحوار انه يريد الانتهاء من هذا الجسد التاريخي ليبحث عن فضاءات أخرى.

مجموعة جديدة تأتي لتضيف طابقا جديدا إلى هذه العمارة التي بنيت بصبر وتأن على امتداد سنين طويلة. عمارة حاضرة بقوة في خارطة الشعر اللبناني والعربي، لتجعل من صاحبها واحدا من أبرز وجوه الكتابة الشعرية الراهنة.

حول المجموعة الجديدة، كما حول بعض التفاصيل الكتابية الأخرى، كان هذا الحوار:

* سنعتبر أنه قد مضى على رحلتك الشعرية اليوم أكثر من 35 عاما. ماذا تقول حين تنظر إلى الوراء، إلى كل هذه السنين التي تركتها في الشعر والكتابة؟

خفف من غلوائك. لم يمض على الكتابة أكثر من ساعة، هي ساعة الكتابة الأخيرة. الشعر لحظة متمادية بالنسبة إليّ. إنها شبيهة بالزمن التاريخي للشعر، حيث نجد في جلجامش، نشيد الأناشيد، وكتابات الكهوف شعرا يستعاد اليوم بالذات. ذلك أن ثمة عصبا أو سلكا من العصب يشد آخر كلمة لأول كلمة. أنت تعلم أن قصيدتي «دخان القرى» هي من القصائد الأوائل التي نشرت في مجموعة «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا» ولها انعطاف على آخر مجموعة شعرية "الغيوم التي في الضواح".

ثمة متغيّر بالتأكيد ولكن أيضا ثمة وتر واحد تمرّ عليه الحياة. ثم أعتقد أن الشاعر هو قصيدة واحدة تكتب على امتداد الأيام والأعوام، كلّ من أعرفهم من الشعراء هم هكذا: من امرئ القيس إلى المتنبي إلى المعري لنيرودا ولوركا والسياب لأمل دنقل، شعر كل منهم قصيدة وأنا لست أكثر من قصيدة، مع ميل ملعون لطرح السؤال المطروح دائما ولكنه اليوم يلح عليّ أكثر عن جدوى الكتابة.

* قبل أن نطرح السؤال حول جدوى الكتابة كما تخلص في جوابك، أريد أن أسأل: كأنك تقول وكأن الشاعر يتعلم الكتابة في كل لحظة، هل تشعر أحيانا بأن كل هذه التجربة وكل هذه الخلفية الثقافية «تضيع» لحظة الكتابة؟

ترعبني فسوخ الزمن. أنا كما تعلم قارئ تاريخ، يرعبني فراغه الممتلئ ومن أول القصائد حتى أواخرها الموت هو جوهر من الجواهر التي ترافق الولادة والحب والسعادة والحياة كلها. أنا أقف متأملا حول الآية «وقهر عباده بالموت». ما هذا القهر؟ قلت إن فسوخ الزمن تسرق كل الولادات والقصائد والأجيال ولم أكتب مرة عن الحب إلا وكان الموت قرينه. من هذه الناحية أنا منحاز إلى "المجنون". أيضا هذه الفكرة المتولدة من ذاتها ومن التفكر الثقافي والتاريخي تشكل موجة قوية في أشعاري، تحمل جميع مراكبها ومغامراتها في اتجاه نقطة لاغية، نقطة عدمية. برغم كل الأناشيد والأعراس والجسد وبرغم أنف المخيلة نفسها فإن ما ينخر في الوجود هو العدم.

* هل كتابة النشيد والجسد هي محاولة للهروب من هذا العدم؟

هو معاقرة العدم بهذا الأسلوب. هكذا أعيشه. مثلا وأنا في ذروة النشوة الجسدية أشعر بما يعطبها.

* لماذا تطرح اليوم هذا التساؤل حول جدوى الكتابة؟

السؤال قديم ولكن بعد أن يتراكم بين يديك كمّ من الكتابة «لي أكثر من عشرين كتابا»، تخاف جدا من الجدوى. بدأت بإحراق ثلاثة أرباع مكتبتي مع ما تحمله الكتب من أصابعي عليها وكان ينتابني في هذه المحرقة شعور بقلق الثقافة العربية بالذات وعجز الراهن منها والمتحقق تاريخيا عن مد يد المساعدة لامرأة مشردة أو عجوز يموت تحت ركام منزله.
النصر الجزئي الذي حصل في تموز على إسرائيل أعاد لي شيئا من الثقة بهذه الثقافة لكنني أخاف أن يضيع في فسوخ الزمن. قلقي تجاه الثقافة يمتد إلى ما أكتبه شخصيا من شعر أو بحث. فالمسألة بالنسبة إليّ مزدوجة، هي واقعية وتأملية في وقت واحد. لا أخفي إعجابي بالتوحيدي صاحب المقابسات وبفرانز كافكا أيضا لكن هذه الفكرة الملعونة أصارعها ولا أجد عمليا ما يمكن أن يخفف منها سوى الانخراط في المشروع القلق نفسه أعني الكتابة، على ما قال جدنا «وداوني بالتي كانت...".

* عنوان متحرك في مجموعتك الأخيرة «الغيوم التي في الضواحي»، محاولة لإعادة كتابة مناخات وجدناها في شعرك السابق، مع العلم أنك تحاول هنا، توسيع فضاءاتها لتشمل نوعا من تجارب جديدة. بأي معنى، يحاول الشاعر أن ينحني فوق تاريخه الخاص، لإعادة مساءلته؟

نعم أنا أنحني ألف عام لأصغي إليها. لكن لا المنحنى نفسه هو نفسه ولا المنحني عليها هي نفسها. تعال ندقق قليلا في الجزءين الرئيسيين من المجموعة أعني «أبواب الموسيقى» و«صواري السفن» لجهة التحول بالقصيدة إلى ما يشبه قتل المعنى والإبقاء على الصورة والصوت. أحسب أن المحاولة هنا منسجمة مع معطيات الزمن المعولم الما بعد حداثوي بتمجيد الصوت والصورة. اختزال التواريخ إلى صوت وصورة في «أبواب الموسيقى» هو بتصوري الجديد في القديم. الناحية الثانية هي «صواري السفن»، حيث الأحداث تخدم الفكرة والفكرة تنتقل أو ترتدي لباسا جديدا ليس الموت بل ما يشبهه في الغياب. هنا الشعر هو الرحيل والرحيل إلى أين؟ إلى لا مكان. أنا أكتب تأسيسا على التاريخ والفلسفة ولكن الشعر ملزم بمغادرة هذا التأسيس نحو فانتازيا الكتابة والخربشات على نقاء الفكرة، إن لم يكن تحطيم الفكرة. التقنيات الشعرية متنوعة وحرة فهذا بعض ما أراه.

* للوهلة الأولى يحيلنا عنوان المجموعة إلى الراهن، كأنه سيقودنا إلى الحرب الأخيرة، في حين أن بعض القصائد تنطلق من التساؤل الفلسفي. لمَ هذا الخيار الحسي، المناقض لما سيأتي بعد؟

"الغيوم التي في الضواحي" عنوان صوري لكنه أيضا متحرك إلا إذا كانت الغيوم حجرية. والحسي بالنسبة إليّ جزء متحقق وله بصمة وفتوحات إلا أنه في النهاية يذوب ويتلاشى كما تذوب الغيوم التي في الضواحي وتتلاشى. مثلا في «باب المغني» أقول: غير أن الجسد /لم يكن قابلا لأحد/ سوى للمغني/ الذي كان في صوته/ نشوة الفاتحين/... المداخل الحسية للمعاني تنقل مستوى الشعر من "الكونكريه" إلى «الأبستريه»، هذا جزء من الرحيل في الكتابة. على العموم أنا أميل إلى حمل المحسوس نحو الغيب أو كما كانت العرب تفعل في الجاهلية نحو السحر.

* لكن هناك اليوم موجة كبيرة في الكتابة المعاصرة تنحو نحو المحسوس واليومي والتفاصيل والهامشي، كيف توفق بين هذا وذاك؟

أرى أن كل التفاصيل من صغيرها إلى الكبير وكلّ المعاني والأفكار والتخيلات وهي المادة الواسعة للقصيدة مدعوة للاغتسال بماء شعري ما. قبل أن يسمح لها بالدخول في ديوان الشعر. هذا الماء هو شبيه بالكيمياء بما يسمى المحول أو (الكاتاليزور).
ثمة ما يسمى شعرية التفاصيل، معنى ذلك أن التفاصيل بذاتها وكما هي، كما هي الأحداث الكبرى كالكوارث والتراجيديات والحروب بذاتها لا تشكل شعرا. التدخل البشري للشاعر ضروري. هذا التدخل يعني ينطوي على حيل وتقنيات، جمع وتشريد، إزاحة، تشبيه، تفتيت أو بعثرة، الخ... اللمسات هذه أنا أراها هي المحول للتفاصيل والهوامش كما للقضايا الضخمة إلى قصيدة. وإذا أردنا أن نقول إن هذه المحولات يمكن أن يراقبها القارئ أو الناقد فأرى أنه نعم يمكن جزئيا مراقبتها إنما في الجوهر هي لا يمكن أن تخضع لرقيب أو لراصد حتى ولو كان الشاعر نفسه. لذا أربطها بمعنى غيبي فوق الذات والموضوع معا، القدماء كانوا يسمونه الجن، المعاصرون يسمونه الإلهام، أنا أربطه بالغيب. الفرق بين الجريدة والقصيدة هو فارق المحول والمحول من جوهر غيبي. ليس بإرادتك أنت أن تكون شاعرا والدليل أن كل دكاترة الأدب والشعر والدارسين وأصحاب النظريات النقدية يقفون عند العتبة. الشعر معنى إضافي على البشر كما هي الموسيقى والرسم وسائر الفنون...

* ولكن في عملية التحول هذه تتكئ كثيرا على التاريخ. تبدو مجموعتك هذه أكثر مجموعاتك «تاريخانية»، بمعنى استلالك شخصيات وأحداث تاريخية، لإعادة قراءتها؟

لست أدري إذا كنت قد وقعت في ما وقع فيه أدونيس في كتابه «الكتاب». لقد انتقدته يومذاك بسطر أقول فيه «البحث عن إبرة الشعر في قش التاريخ». بكل الأحوال سأعيد قراءة مجموعتي الراهنة وأرى إذا كنت وقعت في ما انتقدته. أعترف بأن جسدي تاريخي إنما روحي أثيرية وهذا جزء من الصراع في النص الذي أكتبه أنا فكرت فيما أنت تقوله وإذا جاز لي أن أتحكم بما سيلي من قول شعري فقد آليت على نفسي الخلاص التام من هذا الجسد التاريخي.

* قصدت في سؤالي أنك تتكئ على بعض الأحداث لتعيد قراءتها بطريقة أخرى، لا لتكتب تاريخا ما عبر الشعر، أي كما فعل أدونيس في الكتاب، على الأقل مثلما فهمت من قراءتي أنا؟

لقد قلبت الوجوه على أكثر من ميل. على سبيل المثال وجه ليلى في «قصائد مهربة لحبيبتي آسيا» في قصيدة "أربعة وجوه في مرآة مكسورة" هو غير وجه ليلى في «الغيوم التي في الضواحي». هناك إلغاء تام لفكرة الحب العذري حيث إلغاء الأسطورة نفسها «لا قيس أحب ولا ليلى عرفت وجها للمجنون». في حين أن باب ليلى في «أبواب الموسيقى» هو باب الخيانة «إن ليلى تخون»، على كل حال قلبت الوجوه والأشخاص على مزاجي والآن أقول انتهت.

* ثمة اتكاء آخر إذا جاز التعبير ويكمن في هذه الجسور التي تفردها مع أشخاص آخرين؟

لست أدري إذا كانت تلويحات وداع أو انتباه للصداقة الإبداعية في زمن معتكر جدا وفردي جدا في زمن ذئبي.

* ما كُتب كُتب أنت أيضا قارئ نهم للشعر. كيف تنظر إلى المشهد الشعري الراهن؟

سؤال ضخم ولكنه أيضا بسيط. الشعر اليوم صبي يتيم وخائف. الذين يتعاطفون معه هم الذين يشبهونه. نعم العالم يستجدي ولو لمسة من الشعر، في العالم الشرس حيث البشر إما قتلى حروب أو مجاعات أو قتلى يأس حتى مع الوفرة المادية كما حصل للذين انتحروا في كاليفورنيا بانتظار مركبة السماء تحملهم إلى الأبدية. يصبح السؤال مشروعا حول هل الشعر قشة خلاص أو خشبة أو مركبة السماء؟ وهذا ما يعيدنا إلى أصل السؤال الأول: الجدوى. برأيي وتعديلا لما قلته السؤال حول الجدوى لا يفيد، لا جدوى من السؤال حول الجدوى. أنت فقط تنخرط في الحياة، تكتب الشعر لأنك تكتب الشعر. إذ لا يصح إلا سؤال آخر افتراضي وخرافي هو عالم بلا شعر أي موت الشعر. افتراض فانتازي جدا وفاسد جدا. هل تتصور مثلا أميركا من دون من يصرخ في وجهها كذئب أو "يعوي" مثل الن غينسبيرغ أو تتصور فرنسا اليوم من دون سيرج باي أو عربا بلا ماغوط وهكذا...

* كيف تفهم الذين يروجوا لمقولة موت الشعر؟

مقولة من رواسب تاريخ فوكوياما. فقد قالوا أيضا انتهاء الحروب، بينما أن الحروب تستعر في الخريطة العالمية وقالوا بانتهاء الكتابة أو موتها وانتهاء التاريخ، مسألة الميتات أو النهايات أفهم منها التحول. أهم ما أتت به أفكار ما بعد الحداثة وبخاصة أفكار دريدا هو إعادة النظر بمقولات الحداثة الفاسدة لجهة النهايات. لا شيء ينتهي ولا شيء يبدأ، كل شيء يتحول: الشعر يتحول لا ينتهي ولا يبدأ. إذا كنت ترى إلى التحول جزءا من موت أو جزءا من ولادة فهو صحيح. أما الموت النهائي القطعي بمعنى القيامة الآن، فلم تقم القيامة حتى الآن. أقصد قيامة الشعر، حتى ينصب له ميزان الدينونة. ليس هناك مهدي منتظر للشعر.

* خلال عملي الصحافي أجريت معك عددا كبيرا من الحوارات الصحافية، أي سؤال كنت تتمنى أن اطرحه عليك ولم أفعل؟

سؤال حول وقوفي على ذروة في العمر الشعري حيث تحت قدمي 12 مجموعة شعرية وثلاثة كتب في سيرة القصيدة، سؤال حول إحساسي بها.

* إذا سأطرح عليك هذا السؤال، حول إحساسك تجاه هذه الكتب؟

بصراحة وحقيقة أنا في حيرة من أمري. لست شديد الاغتباط ولا اليأس. ما كتب قد كتب. في قلبي بذرة عجيبة من الخوف والرجاء. نعم يا صديقي إني على قارعة الأرض أنتظر القصيدة. أريد شيئا لم يتحقق لي حتى الآن.

* ما هو؟

قصيدة ما. دعني أعطيك التسمية "تغريدة البجع".

* ما هي تغريدة البجع هذه؟

إذا تأملت البجع فإنه يغرد قبل أن يموت. ربما كانت قصيدة القصائد؟

السفير الثقافي
26/01/2007