حاورها: حكيم عنكر

منى وفيقالشاعرة والقاصة المغربية منى وفيق، من الأسماء الأدبية التي أعلنت عن نفسها بقوة في السنوات الأخيرة، متخطية حواجز الانتماء للمؤسسات، مكتفية بالانتماء إلى جزيرة نصوصها وما تفتحه لها من آفاق ومشارف على عالم الإبداع الرحب وعلى دنيا النشر، هي وإن كانت بمعنى من المعاني تنتمي إلى عالم الكتاب الورقيين، فإن إقامتها في “النيت” وفي العالم الافتراضي مكّناها من نسج علاقات أدبية واسعة في العالم، ولم تكن في حاجة إلى استجداء أي أحد، حتى أن كتبها كلها نشرت في الخارج .

في هذا الحوار ل”الخليج” تتحدث بجرأة عن قضايا الكتابة والحياة وحدود الواقعي والمتخيل في تجربتها الشعرية والقصصية وعن عملها الأخير الذي حمل عنواناً غير مألوف “WWW لعب دوت كوم”، إنها تقول بجرأة عالية إن ما تكتبه يشبهها، وإن الكتابة أنقذتها من الانتحار . . يالهول إحساس كاتبة شابة في مثل سنها .

* في مجموعتك القصصية الجديدة الصادرة عن آفاق المصرية، قدرة كبيرة على الاختزال وإتقان للعبة المشهدية، لماذا هذا التقطير الشديد لنصوصك؟

- أخيراً صدرت هذه المجموعة القصصية، بعد 5 سنوات من الانتظار وجدَت ناشراً وصَدرت “لعب دوت كوم” نصوص راهنتُ فيها على طريقة جديدة في الاشتغال وعلى نَفَس قصصي طويل يجعل نَفَس القارئ يتقطع وهو يركض مع الكاتب .

بعد سنة واحدة من صدور مجموعتي القصصية الأولى “نعناع، شمع وموت” قرّرتُ كتابة قصة تشبهني ولا تتشبّه بي، كنت أفكر في كتابة نص مُمَسرح وسريالي ووجودي، نص يكون فيه حدث القصة داخل شكله نفسِه، لقد عملتُ على أن يكون لكل نص جَوه الخاص ولغته الخاصة وأتوقع أنني نجحت في هذا إلى حدّ ما إنها القصة المُمسرحة، ثمة مسرح وجودي هنا، شيء من لعبة “البازل” التي تستهويني كثيراً، هي شهوة التدمير وإغراءُ إعادةِ البناء .

أردتُ أن أقدّم عملا صافيا، تستطيع أن تقول إنني كنت أستخدم نفسي كمصفاة للشخوص التي تسقط مني، وأنا على ثقة أن المتلقي هو الآخر سيكون مصفاة نفسِه ويخرج بما يحتاج أن يخرج به منها . في النهاية هذه هي القصة القصيرة بقدرتها الكبيرة على الاختزال والتكثيف وحكي ما ينبغي أن يحكى، كأنها وشاية أمينة من دون إضافات جانبية .

عندما أعدتُ مؤخرا قراءة هذه القصص التي انتهت علاقتي بها منذ 5 سنوات، اكتشفت أن الإضاءة كانت موجهة نحو” البطل/الكومبارس” الواحد في كل هذه النصوص مع وجود بعض الديكورات البسيطة التي توحي بوجود شخوص أو كائنات أخرى، كأنه عرض ال “one man show” تماماً .

* أول ما يثير في المجموعة هو لعبة العنوان، حيث تنخرطين منذ الوهلة في العالم الافتراضي، وهو لعب خطر لأنه يؤدي إلى تشقق القيم ونسبيتها، هل هذا اللعب هو شر لا بد منه، كما يرد ذلك على لسان راسم في “شرور ملونة” حين يقول “ثمة شر يدعونا إليه، وآخر ندعوه”؟

- أولاً، أعلم أنني ومنذ ولوجي إلى عالم الإنترنت، كنت أجرب أن أكتب رابطَ إنترنت باللغة العربية وأنتظر أن ينفتح، ولم يكن هذا يؤدي إلا إلى صفحة غير موجودة على “النت” وكان المتصفح يطلب مني التأكد من صحة العنوان . . إلخ، الأمر الذي تحقق اليوم، فقد أصبحتْ هناك روابط عربية على “الإنترنت” .
ثانياً، اعتبرت دائماً أن قوة متعالية تفتح هذا العنوان الإلكتروني “WWW لعب دوت كوم”، وعند كل GAME OVER” يموت أحدنا أو يخرج من هذه اللعبة الوجودية الكبيرة، لعبة الحياة .
ثالثاً، بالنسبة إليّ لا شيء مطلقاً بالمرّة، كما أنني لا أؤمن بقيم ثابتة، قل إنني لا أؤمن بأي شي بصفة نهائية، فكل ما أتى نفى ما كان قبله وهكذا دواليك، أنا نفسي أنتفي، لستُ إلا ابنة الآن .
بهذا المعنى ليس هذا الكون الواسع إلا كوناً افتراضياً لنا أن نستبق مستقبله أو نتخيل كيف كان قبلنا، فنكتب عن هذا وللمطلعين على أفكارنا تقبل هذا أو عدم تقبله .
رابعاً، لماذا تعتبر الأغلبية أن أجواء “الإنترنت” هي أجواء عالم افتراضي لا أحقية له أو أهمية أو رسميّة في حين أن هذا الأخير أكثر حقيقة، بل يجعل الإنسان يتحقق أكثر لُغةً وكينونةً، ويجعل هذا الصمت المنغلق على نفسه في دواخلنا يتحول إلى كلام نافذ . . إلى فعلٍ قد لا يحتمل إلا أن يُقال، لكنه يبقى نافذاً فعلاً .
خامساً، الحياة شرّ دعينا إليه وهو شرّ جميل على أية حال، ولو أنها كانت حياة طيبة لكانت ممسوخة، هذه الدعوة من الحياة قابلتها دعوة أخرى من الإبداع في مختلف تجلياته،
والذي يتجلى عندي في فعل الكتابة والتي هي ردّ فعل لحظي، وبالتالي كل شر يدعونا إليه، فنحن ندعوه إذ نستجيب إليه بطريقتنا التي فيها دعوة من نوع آخر أيضاً .

* التقطيع السردي الذي تعتمدينه كتقنية في أغلب نصوصك، هل هو خيار جمالي أم “تبئير نفسي” أم هو طريقة في العرض كما هو معروف في السينما الجديدة؟

- عندما كنت أكتب لم أتعمد القيام بأي من هذا، لكنني كنت أقوم بعملية إخراج المشاهد إن كان لي أن أصف الفعل؟ ولك أن تعتبر هذا الفعل يحوي كل ما ذكرته في سؤالك، لكن ماهو مؤكد هو كونه جاء بشكل تلقائي .
كنتُ في الحقيقة كعامل “الكلاكيت” مع فرق أنني لم أحرك تلك الخشبة الصغيرة السوداء، ولم أصرخ “كلاكيت ثاني مرة” لأن اللغة والشخوص أدّيا دورهما كما ينبغي .
في الحقيقة لا أميل إلى ممارسة تكتيك معيّن أثناء الكتابة، أعشق هذا الاندلاق التلقائي بكل ما يفضي إليه من دلالات جمالية ونفسية .

* روح القاصة مليكة مستظرف، تهدينها نصاً يحمل اسم المجموعة القصصية، ألأن الحياة لعبة غير متكافئة وخسارة أخرى في جولة جديدة تتكرر تنال منا في الأخير؟

- مليكة مستظرف رحمها الله من الكاتبات العربيات المتفوقات في كتابة القصة إن لم تكن أهمهن، وأقربهن على الإطلاق إليّ .. الحياة سقطت على مليكة، لكن مليكة لم تمت إلا عندما قررت أن ترفع عنها هذه الحياة اللئيمة لكي تتنفس .
القصة المهداة إلى روح مليكة مستظرف كُتبت في الأسبوع نفسه الذي توفيت فيه، كنت أيامها متشابكة مع لعبة اسمها “The goldminer” لم أكن أخسر في هذه اللعبة، لكن جولاتها لم تكن تنتهي، كنت في ذلك الوقت أيضاً أدخل كثيراً إلى “الميسنجر” حيث حالة مليكة عليه هي ذاتها لم تتغير، وكانت ذاكرتي تسترجع كل حالاتها السابقة على الميسنجر . . من هنا، جاءت قصة “لعب دوت كوم”؟ في لعبة الحياة لا أحد يفوز، والمتعة في أن تكون خسارتك خسارةً مختلفة، وفيها من التجديد مافيها .

* إمعاناً في اللعب، تنهين نصك بالجملة التالية “وينتهي تحميل روحك، روحك لعبة جديدة من دون رابط”، بين الواقعي والافتراضي، كأنك تريدين القول أن الكتابة لعبة خاسرة من الأساس؟

- أحياناً يغمرني هذا اللاجدوى فأفيض، نمشي بعيداً في الكتابة وتحديداً عندما نقرّر أن نتركها نكتشف استحالة الأمر لأن الأوان يكون قد فات، هو في الحقيقة يكون قد فات منذ أول حرف جرّك إلى أول الصفحة .
أكتب لأتخفف من هذا الوجع ومن ثقل هذا الوجود . . أكتب لكي لا أنتحر . . وكما أقول دائماً، أنا لا أكتب طوال الوقت، إنما أنا أعيش طوال الوقت .
وبخصوص الجملة التي أنهيت بها القصة “روحك لعبة جديدة دون رابط” ما عنيته هو كونها لعبة متاحة في عالم آخر لكنها غير متوفرة هنا لا لي ولا لغيري، وإنما لمن صمّمها .
الشعر حاضر ومبثوث في تفاصيل نصوصك، حتى أنها تتحول إلى حالة شعرية، أكثر منها حدثا في الزمان والمكان، هل أنت واعية بحدود ما يشكله هذا من خطر على النوع الأدبي؟

* - حياة كل واحد منا على حدة حالة شعرية في الأساس، غير أن الشعريّة فيها تتدرج من الحميمية إلى الرسمية ومن الجودة إلى الرداءة .

اللوحة، المسرحية، الأغنية، الرقصة، القصيدة، القصة ة حكاية، الحكي هو الفعل الأصلي في كل إبداع وفي كل فعل حياة ولكل أن يحكي كيفما كانت رنّة صوته المرئي أو المسموع أو المقروء، وفي ما يخصني أنا، صحيح أنني أراهن على الشعرية العالية لنصّي ولطالما فعلتُ هذا دون أن يهمني تصنيفه، لأن الكتابة ترفض الترويض، بمعنى آخر ترفض التصنيف .
أعتقد أنني اليوم عندما أكتب القصيدة فأنا أحكي، الأصناف التي تتحدث عنها متداخلة، المهم في نهاية المطاف أن تكون الكتابة، كتابة حقيقية تقفز عن الكائن والزمكان .

* أيروتيكية شفافة في نصوصك، شظايا من سيرة ذاتية، وتجميع لقطع من حياة الآخرين، كل هذا يتم بحذاقة لافتة، هل أنت شهرزاد اليوم التي تقول حكايتها بطريقتها الموتورة؟

- “مسرور” لم يحالفه الحظ في قطع عنق شهرزاد، ولهذا أفضّل أن أكون “مسرورة”، وعلّي أنجح في القيام بذلك (تقول مازحة) . . الإنسان حكّاء بطبعه، الحكي فعل يومي يتجلى في كل ما نقوم به .
شهرزاد كانت تحكي كي لا تموت وكانت تكسب الوقت حتى تفوز بأشياء أخرى غير حياتها . . حياتها التي كانت تخال أنها في يد شهريار .
أنا لستُ شهرزاد، أميل إلى أن أكون “مسرورة” وأقطع لشهرزاد عنقها . . عنق حكاياتها اللطيفة، لا يهمني أن يكون فيما أكتبه درس أو عبرة لغيري بقدر ما يهمني أن أرمي عنّي هذا العبء الوجودي في حضن أي قارئ مُحتمَل له، لا أصلح لأن أكون شهرزاد، لكنني أطلب من شهريار أن يحكي . . ولو في النّهار .

* تحضرين نفسك لكتابة الرواية، هل تعتقدين أنك استوفيت إقامتك في القصة، أم أن معركتك الكبيرة هناك؟

- بالنسبة إليّ، كل ما أفعله في حياتي اليومية يتسع لمحكياتي من الدندنة إلى الطبخ إلى الكتابة إلى الشخبطة إلى التأفف . . كل هذا حكي .
ومن جهة أخرى، ما “النوفيلا” والرواية إلا قصص يتفاوت طولها، ومن هنا لا أعتقد أنني بِمُغادرة للقصة، ومادام النقاد والمتلقون يعتمدون تصنيفات ومسميات للحكايات، فنعم، سأتجه للرواية .
ويبدو أنني سأقيم فيها طويلاً وإلى ذلك الحين، فأنا منشغلة بديواني شعر جديدين أرجو أن يكونا مختلفين عن ديواني الأخير “نيون أحمر”

* لو طلبت منك أن تقدمي للقارئ العربي “بروفايل” عنك، بأي ألوان سترسمينه؟

- بالأسود الذي أعشق قوته، وقدرته على أن يَزى دون أن يُرى تماماً، بالتركواز الذي تثيرني حرائقه الصغيرة والمقيمة، بالأخضر الذي حلمت به دوماً مَدّاً من بشرٍ يتعبون لي وبي، وبالأحمر . . الذي يتقاطر مني وأنا أعيش . . وأنا أكتب، سأرسم شاعرة تعيش الشعر أكثر مما تكتبه، وقاصة تقصّ الورق على شكل حفرة ليقع فيها من أخذه فضول العبور إلى السقوط . . كاتبة يحرّكها شغفها في الكتابة والحياة .

* تكتبين في قصة “حوض مستأجر” ما يلي “لست نباتية، لن أحب البازلاء، وسوف أتجاهل الماء مستقبلا”، كأنك تقولين أنك كاتبة خارج السياق، ما ثمن ذلك في وطن عربي تحكمه بنية التقليد أكثر من بنية الإبداع؟

- هذه المقابلة اللطيفة والذكية منك وبيني وبين الجملة القصصية تلك، حقيقية فعلاً، وأتفق معك في أن وطننا العربي معني بالتقليد أكثر من الإبداع، لكن المبدع محكوم بالاختلاف وبالإضافة والتجديد وبإحداث الدهشة وهذا ما أراهن عليه في تجربتي الخاصة .
لا أريد أن يأتي قارئ بعد أن يقرأ نصا ويقول هذا لمنى وفيق، ما أريد أنا هو أن يسأل القارئ في كل مرة عن صاحب هذا النص من دون أن يحزر أنه لي .
طبيعي أن يجد هذا الإبداع “الجديد”، كما يحلو لهم أن يسموه، معارضة شديدة أو خفيفة، لأن تاريخنا مبني على ثقافة الرفض ثم التبرير ثم التماهي، أذكرك بالشعر الحديث الذي عرف رفضاً مطلقاً، ثم بدأت الناس تبرر، لتنتهي دعوات الرافضين وتخفت، لنفاجأ بوليد جديد اسمه قصيدة النثر، والحركة مستمرة لا يمكن لأي فرد أو مؤسسة أن تمنعها من التطور، وهكذا هي حالنا نرفض ثم سرعان ما يتراجع رفضنا .
أنا متفائلة بجيلنا الأدبي الجديد ومقدرته على التجديد والإجادة والارتفاع بمستوى الأدب العربي .

وأما عن ثمن الاختلاف في الوطن العربي، فأنت تعرف أنه يبدأ بالحروب الصغيرة والمناوشات والإقصاء والتقليل من أهمية التجربة، وينتهي بالاعتراف والتقدير وووو، المهم في كل هذا هو الإخلاص للكتابة والنأي بالنفس بعيداً .

الخليج
05/03/2012