الشاعر محمد علي شمس الدين موجود بقوة في الصف الشعري الأول في لبنان، ولافتة سمعته الشعرية في العالم العربي، ومنها تكثر دعواته إلى أغلب المهرجانات الشعرية واللقاءات حولها في كافة الأقطار العربية، والأجنبية. من خزين لغوي متميز، وشاعرية عالية، تنقّل شمس الدين في الأساليب كافة، خائضا في تصنيفات وتوصيفات الكتابة الشعرية، من كلاسيكيتها حتى أكثر أشكالها تجريباً، مؤكدا سعة مفردته، وفرادتها في آن. له العديد من المؤلفات ليس تعدادها مجالنا هنا، كما يكتب في النقد، مواكبا ومؤثرا في نتاجات شعراء وشاعرات، تحتاج إصداراتهم إلى مثل حساسية كتابته. مع شمس الدين كان هذا اللقاء عن أمور الشعر، وعن جديده خصوصا: «اليأس من الوردة» الصادر حديثاً عن «دار الآداب»:
السؤال الكلاسيكي هو في العنوان «اليأس من الوردة» هل هو اختيارك الجمالي أم قصدت منه مدخلاً إلى المجموعة؟
العناوين متعبة. وهي كاللقيا الشعرية، تأتي ولا تأتي. «اليأس من الوردة»، هو قبل اليأس، بعد الوردة انبثق من خلال معايشتي لمدة طويلة للطبيعة، والوردة منها بشكل خاص في الريف الجنوبي.
وجدت جمالها (الوردة( أوقعني في حال بين اليأس والندم، في كل الأحوال، العنوان طقس نفسي وتأملي. كنت أصف العناصر من ريح ومطر وبلح.. الخ من رأسي. كتبت «الشوكة البنفسجية» من دون تأمل بصري لما يُسمى الشوكة البنفسجية. كذلك قلت إن الريح رمادية. كانت الألوان والأشكال تصعد من الداخل. بعد معايشتي الطويلة لهذه العناصر، وجدت حكمة أخرى أشد مرارة وواقعية.
استيقظت ذات يوم على حقل بكامله قرب منزلي، من أشواك فارعة، بأزهار بنفسجية. فتذكرت العنوان الذي كنت استعملته. أسأل: هل الواقع هو، أم ما يقع في الرأس؟
في مجموعتك الصغيرة هذه، الصادرة عن «دار الآداب» لفتني حشد أنواع وأساليب في صنوف الكتابة الشعرية. هل تقصدت شمولية معارفك وأساليبك؟
الأشكال التي استعملتها، تبعاً لما ورد في سؤالك، هي استطراد وترسيخ للحاجة الشعرية التي تُملي عليّ صورة ما أكتب. أنا لا أفكر سلفاً بشكل القصيدة. وغالباً ما أبدأ من نقطة وأنتهي بنقطة غير منتظرة، لجهة الصورة واللغة والبناء. صحيح أنه قد يكون في وعيي هيكل ما، افتراضي، لصورة القصيدة، وهناك بعض قصائد قبل «عودة ديك الجن إلى الأرض» وقصيدة «الطوفان» في الأعمال السابقة، و«قصيدة دموع الحلاّج» في العمل الجديد، قمتُ قبل الشروع في كتابتها بقراءات تحتاجها القصائد «كتاب الموتى» و«طواسين الحلاّج».. الخ. لكن كل ذلك، أنساه أو أتناساه عند الشروع في القصيدة.
كل مقطع، يقترح لنفسه أو يقترح عليّ، شكله وصوره وإيقاعاته، وربما سرده. أنا شاعر غير مدرسي. أعتبر كل مُعطى الشعر العالمي والعربي، في خدمة قصيدتي. لا أنحاز سلفا لا لإيقاع، ولا لسرد، لا لوزن ولا لكسر. كل هذا هو ما أسميه «ماغما» القصيدة، أي الكتلة الأولية القابلة للتشكل. في فوران المادة الشعرية، يكون التشكيل بين الوعي واللاوعي. هناك قصائد كتبت نفسها كتابة أولى وأخيرة، وقصائد أخرى تدخلت في إظهار ملامحها كمعلم، بمعنى ان خبرتي هنا، الشعرية تتدخل، كذلك النقدية. فيصبح الشاعر بين الانبثاق التلقائي، والهندسة. مع استدراك هو أن الانبثاق التلقائي، ليس بالضرورة غير هندسي.
الحزن
لعل أغلب حزنك كما لاحظت، مُقطّر في هذه المجموعة. هل الحزن تحريض على شعر أكثر إشراقا وتميزاً؟
الفرح، يحضر كواقع ثم هو سريع. ثم هو أيضا من فرط ما هو محاصر كأنه فسحة مختلسة في حلم. أعتقد أن الفرح الأكبر هو عملية الكتابة ذاتها. أنا لا أعرف سوى الكتابة. جسديا، أعيشها، فضلا عن الكمية الكبيرة من الوهم والحلم.
ثمة معنى قدري لم يفارقني منذ الطفولة حتى اليوم. هو سرعة التغير، والزوال. قبل «بدأ، انتهى». ثم الموت. في المجموعة صور ارتجفت حين أنهيت كتابتها، وترددت في إدراجها في الكتاب. إبني شجعني على إثباتها واعتبرها من أجمل ما كتبت مثل المشهد السينمائي السيريالي المؤسس على الفكرة والصورة والمفاجأة: «هبّ شتاء عاصف ورأيت بأرض حديقتنا شبحاً يمشي فنهضت فلم أبصر إلا نعشي.
ما تُسمينه الحزن، أنا لا أجد له تسمية. هو أشد قد يحيل كل شيء إلى رماد. لا شيء. بكل الأحوال أجمل الأزهار، والنساء، والبحار.. وأجمل الأجمل، كله أسأل إلى أين؟
سيدتي في شعري نكهة مُرّة من العدم.
هل لعدميتك علاقة بطقوس اعتقادية ما؟
له علاقة بطقوس وجودية. لعلها قبل تكوّن المعرفة، قبل القراءة والكتابة، ناجمة عن تآكل كل الحياة وأنت تعيشها.
هناك أيضا مُسحة دينية إنسانية بالمعنى الكبير. تتقرب من الله في بعض قصائدك هنا، وتُكلمه رافعا «الكلفة» كما لو صديق لك؟
علاقتي بالدين، والخالق، مرّت بمراحل لم أصل خلالها في لحظة من اللحظات، الى الفراغ التام. لأن ذلك، يؤدي الى تجويف مطلق للحياة والكائنات. الخالق سرّ استمرار الوجود. المسألة مرهفة جدا في هذا المجال. فأنا بين الاستغراق والتشرد. والخطاب الحميم الذي يكاد يرفع الكلفة بيننا، هو نابع من هذا الأمل، أو الحبل الذي إذا انقطع سأقع في البئر.
حين أقول: أعليت دموعي كي تُبصرها يا ألله قلت أُعيد لك الأمطار فلتنشر غيمكَ حيث تشاء فإن الغوث يعود إليك والحزن يعود إليّ الخ.
كنت أمر في حالات، رصدها مباشرة أحد حضور أمسية شعرية لي، في «جبلة» حيث كان على امتداد المقاطع يردد بحس ديني: نعم.. لا.. نعم.. لا!!
علاقتي بالميتافيزيك، علاقة متعددة الطبقات. أنا مثلا منحاز ومستغرق بالأيروتيك الديني، وقد شكل لي ذلك بعض الارباكات، قبل قولي: «كان العباس كنبي رسمته الصورة جذاباً كالأسطورة وطويلا، أطول من خط الأحلام وجميلا أجمل من نهدين على صدر الإسلام». إثرها، وكنت ألقيها في «دار الأوبرا» في القاهرة، قام أحدهم وصاح في وسط القاعة: إزاي تقول كده..؟ أجبته: الجسد في الإسلام.. جميل.
شعري، جسدي ميتافيزيكي معاً. هو خلطة. يضاف لها بناء صوري وتشكيل إيقاعي واسع. وإذا سألتِ عن المعنى فالمعنى في قلب الشاعر. لست شاعر معنى، حتى ولو وردت المعاني. بل احتمالات المعنى ونقيضه، المعنى واللامعنى، الفراغ حاضر كالامتلاء أو فيه.
وسط كمّ الكتابات الشعرية راهنا (وأنت قارئ جيد ومتابع لإصدارات كثيرة) متى تُسمي صاحب مجموعة، شاعرا؟ بمعنى أي منها تستوقفك وتقول عن صاحبها: هذا شاعر او شاعرة؟
أبحث عن قصيدة. بمعنى ندرة الشعر وأهميته. ما القصيدة التي تعجبني؟ ليس لدي جواب جاهز. القصيدة التي تعجبني هي القصيدة التي تُعجبني، من الينابيع القديمة للشعر العربي والجاهلي، الى صعاليك الشعر في المدن اليوم. وبالعربية طبعا، والعامية، والفرنسية التي أجيدها، والترجمات. المروحة واسعة ومتشعبة، ذلك أنه ليس هناك ترسيمة محددة للقصيدة عندي. بإمكانك ان تسأليني عن شاعر ما مثلا، فأقول لكِ أين هو بالنسبة لي. هناك قصائد كثيرة أحببتها، وهي متنوعة الأساليب.
في الكتاب، إصدارك الجديد، قصائد قليلة وشعر كثير.
الصراع الجاد الذي لم ينقطع كان في اللغة ولا يزال. معظم هذه القصائد كُتبت في الصيف الماضي 2008.
وجاء وليدة العزلة والتأمل في الريف الجنوبي الذي أمضيت فيه مدة طويلة. تبين ان اللغة، تخضع بالضرورة لتدخل حركة الأشياء، وليس حركة الأفكار وحدها. وأن بإمكان العناصر والتجارب الحية، والاحتكاك الحسي والجسدي معها أن تبتكر لغة جديدة. المشكلة كما قلت، هي في الكلمات. مثلا: العنوان: ثمة اليأس. ووحدها هذه الكلمة تثبت وتنفي في إطار كونها مفهوما concept وثمة أيضا الوردة وهي ذات أبعاد وأوصاف وتحديدات. لو جمعتِ اليأس من الوردة معا لتشكل طقس نفسي ومفهومي جديد. كيمياء اللغة تنطوي على التجريب كما تنطوي على البداهة. والشعر هو بين الارتجال والتجريب. لا تترك شياه اللغة شاردة بلا إشارة الراعي. ولا يعطى الراعي سلطة ضبط كل شاة في مكان لا تغادره في البرية. ثمة مفهوم آخر، او إشكالية تتعلق بمعنى البلاغة في القصيدة. هل هي كما عرفها العرب القدماء أقصر الطرق للوصول إلى المعنى، أشك. إذ ثمة قصائد طويلة ليس فيها فائض كلام.
المقاطع الصغيرة في المجموعة، محشودة بما يجعلها قابلة لتوليد خصب، تأملي، مثل: «فارغة هذي الشهوة حين امتلأت ماتت. او صورة مثل: «الكلب وصاحبه كلٌ ينبح في وجه الآخر.
معاركة الكلمات معاركة وحشية.
شعر خالص
تتناول بالنقد نتاجات شاعرات. هل تعترف حقا بوجود شعر ناضج بمعنى ما، او شاعرات فعليات؟
هناك شعر خاص، لأن كلمة شعر ناضج أفهم منها حضور الشعر وأنه جوهري وأنه خاص. إذاً، حضور الشعر يدلل على ذاته بذاته. جملة تنفجر في قصيدة، او تجرح او تئن كما في مجموعة «ذكر الورد» لسنية صالح. أما ان الشعر جوهري، فالمسألة يتساوى فيها شعر امرأة وشعر رجل، والأوصاف واحدة.
تأتي الى «خاص». هنا شعر امرأة له علاقة تكوينية بجسدها، وما تشكله الخلايا من نمط تلقٍ حسي، ونفسي للأشياء والحوادث. المرأة لينة، وشرسة في وقت واحد. هي أكثر ليونة وأكثر شراسة، كلماتها تشكل حقل اختبار الحوادث والأشياء والرجال فيها. هذه هي خصوصية شعر امرأة. لا يعني ان المرأة هنا، هي بالضرورة (نوع) ثمة رجل يكتب كأنثى. وأنثى تكتب كرجل. هذا اجتهاد على كل حال، والصراع ليس بين كتابة أنثى وكتابة رجل.
السفير – 20 – 10- 2009