يلفت انتباهك وأنت تستمع إلى الشاعرة سعدية مفرح وهي تلقي قصائدها، ذلك الكم الهائل من الزهو الذي تعيشه. إذ يعتلي قسمات وجهها الفرح والحبور، والافتخار لا ينقطع بما تقول. فتبتسم، وتتمايل طرباً، حتى وهي تكتب عن الغياب، والقبر، وأزمة الجواز!
سعدية امرأة لا تمل وهي تقول إن بضاعتها الأمل، «فهي أجمل الحلول للمشكلات البشرية». لذلك لا تجد في أي نقاش يجمعك معها أي حزن أو سواد، بل هي متفائلة وتزعم أن القادم «دائماً أفضل». هي لا تخاف الموت، «بل أنتظره، فهو شيء جميل»! وتزعم أنه سيكون الختام المناسب لسيرتها الناقصة، التي صدرت في كتاب لها أخيراً، بعنوان «سين.. سيرة ناقصة».
وقالت في حوار مع «الحياة» إن هاجس السؤال يؤرقها، وهذا ما دفعها لأن تكون صانعة له ومتلقيته، «مهما كان شائكاً». ... فإلى التفاصيل
* ما الإشكاليات التي أثيرت حول الأمسية الشعرية، التي كانت معدة لك، ضمن فعاليات الدورة الأخيرة لمعرض الكتاب الدولي في الرياض؟
- وجهت لي الدعوة لحضور فعاليات معرض الكتاب والمشاركة بأمسية شعرية في برنامجه الثقافي، وذلك في زمن محدد، ومكان محدد، وهو قاعة الندوات في مقر المعرض. وعلى هذا الأساس، وافقت ورحبت، وشكرت من وجه لي هذه الدعوة. خصوصاً أنه سبق لي تلبية الدعوة لإقامة أمسية شعرية في مهرجان الجنادرية هذا العام، وخرجت من بعدها بانطباع جيد عن الوضع الثقافي في المملكة. إلا أنني فوجئت قبل ساعتين من إقامة أمسية معرض الكتاب، أنه تم نقلها إلى مكان آخر، وهو قاعة في قبو الفندق الذي يقيم فيه الضيوف، وفي توقيت متأخر. وأنا لم أغضب حينها، ولكني فضلت عدم المشاركة بحكم أن هذه الأمسية ليست الأمسية التي دعيت إليها، بخاصة أن التغيير حدث من دون أن يبلغني أحد بالأسباب الحقيقية.
* ولكن بعد ذلك أقيمت لك أمسية «استثنائية» لوحدك..
- صحيح، تلقيت في اليوم الثاني من رفضي المشاركة، اتصالاً كريماً من وزير الثقافة والإعلام الشاعر عبدالعزيز خوجة، وحرص على أن يفهم مني شخصياً ما الذي حدث، وأصر ألا أغادر السعودية قبل أن ألتقي الجمهور الذي أتيت من أجله، فأقيمت الأمسية في القاعة نفسها التي دعيت لها، وهي القاعة الرئيسية في معرض الكتاب الدولي. وأنا أشكره، كما أشكر وكيل الوزارة للشؤون الثقافية الدكتور ناصر الحجيلان، والمدير العام للمعرض الدكتور صالح الغامدي على ما بذلوه من جهود يشكرون عليها.
* تم الإعلان عن هذه الأمسية الاستثنائية قبل ساعات عدة من إقامتها، ألم تتخوفي من قلة الحضور؟
- أبداً، على رغم تخوف الأصدقاء ومن هم حولي من حدوث ذلك، إلا أن الأمسية شهدت حضوراً جيداً من الجنسين. وأحب هنا أن أوضح أنني كنت بالحماسة نفسها، والفرح، حتى لو كان عدد الحضور فرداً واحداً.
* «سين.. سيرة ناقصة» هذا إنتاجك الأخير، الذي وقعتيه أيضاً في معرض الكتاب بالرياض، تُرى متى ستكون سيرة سعيدة مفرح كاملة؟
- عندما أموت! لأن السير غالباً لا تكتمل إلا بعد موت أصاحبها، فالحياة مستمرة، ومفتوحة. وهذا الإصدار تحديداً سيرة ناقصة لأنه عبارة عن حوارين أجريا معي في موقعين إلكترونيين، وتفصل بينهما مدة زمنية، تقدر بحوالى ستة سنوات. وميزتهما أن من يوجه هذه الأسئلة غالبهم كانوا من المبدعين والأدباء، وأصدقاء، وبالطبع هم قراء عاديون. وكنت أجيب على هذه الأسئلة مباشرة من دون أي تحضير مسبق، ما دفعني للقيام بنقلهما كما هي، ولو بأخطائها المطبعية. ورأيت بعد المشورة أن هذه الأسئلة تحيط بغالب جوانبي الحياتية، والفكرية، والإعلامية والشعرية. لذلك قررت أن أجمع هذين الحوارين وأطبعهما، مع إضافة مقدمة بسيطة للكتاب.
* لماذا لا توجد للأسئلة أجوبة نهائية؟
- لأن الأسئلة تولد المزيد من الأسئلة، وعلاقتي مع الأسئلة شائكة وملتبسة، ومحببة أيضاً، لأنني أحب الأسئلة، سواء كنتُ من يطرحها أو من يجيب عنها. ودائماً ما يعجبني فكرة الابتكار في السؤال، حتى لو كان من صعباً، بحكم أن السؤال هو مفتاح المعرفة، ومن خلاله نستطيع استكشاف ذواتنا واكتشاف الآخرين. وبالتالي، كلما زادت الأسئلة وتعمقت كلما تكثفت معرفتنا على مختلف الأصعدة.
* لا يستطع أحد أن يمر على تجربتك من دون أن يلفت نظره تيمة الغياب التي تسيطر على معظم أشعارك، تُرى ما سبب كل هذا الغياب؟
- القصة بدأت معي بشكل عفوي، ولم أنتبه لها في نصوصي الأولى، وأزعم أن تلك الكلمة استغرقتني كحال، حتى لاحظها الآخرون، من نقاد وأصدقاء وقراء، لذلك فوجئت بالكم الهائل من الأسئلة التي تردني عن هذه الحال. حتى غابت معي تدريجياً في نصوصي الجديدة. وطبعي أنني عندما أتلقى نقداً في شيء ما، فإنني أتوقف عن فعله أو ممارسته، وهذا ما حدث مع «الغياب». إذ لا أحبذ التصنع في أي شيء أقدمه، حتى في حال تلبس حالات معنية للكتابة عنها، فعليك بمهارتك الشعرية أن تجعلها تبدو عفوية لا متصنعة.
* أيضاً نلاحظ أن القبلية في أشعارك موجودة بشكل مكثف، ويقول البعض إن حضورها يأتي في الغالب في معرض الذم، فهل هذا صحيح؟
- لا، هذا غير صحيح، فأنا بنت القبيلة، وحضورها في أشعاري هو أمر طبيعي، بحكم أنها جزء من تكويني الإنساني والفكري والعاطفي، فعندما أمدحها أو أذمها، فحينئذ أنا أمدح نفسي أو أذمها. وهذه الملاحظة التي ذكرت، وهي ذمي للقبيلة، أزعم أن من يتبناها هو من خارج سياق القبيلة. وأود هنا أن أتحدث عن الشعراء والشاعرات الذين يماثلوني في تكويني الإنساني الخارج من رحم القبيلة، كيف أنهم يتعمدون إخفاء ذلك الأثر القبلي في اللغة وصورها وتراكيبها، ويستعيرون من مجتمعات لا أقول إنها لا تليق بهم، بل إنهم أيضاً لا يعرفونها، صور وتراكيب لم يعيشوها حتى يظهر أثرها على إبداعهم.
* كيف هي فلسفتك في طرح قضايا كبرى تمس الهاجس الأخروي لدى البشر، عبر ترديدك الدائم لمفردتي الموت والقبر؟
- سأصارحك وأقول إنني لا أنظر إلى الموت على أنه نهاية، ولكني أنظر إليه على أنه حال فقط. فهو ليس حال انقطاع كما يتوهم البعض، فعندما توفيت والدتي لم أشعر بانقطاعي عنها، بل هي تعيش معي وأحاورها بشكل يومي، وهذا لا يعني أنني دائمة الحزن عليها. وبالمناسبة، الموت لا يعني شيئاً للميت، كما قال درويش «لم يعد أحد من الموتى ليخبرنا الحقيقة». ودائماً أتمنى وأنتظر الموت، لاعتقادي بأنه شيء جميل جداً بالنسبة إلى الميت، ويجب أن يكون ختام يليق بهذا الكائن البشري. لذلك أبشرك أنه لا يوجد لدي الخوف التقليدي منه.
* لا تملين من تقليب جواز سفرك بين أبيات شعرك، يا تُرى لماذا كل هذا السفر والترحال؟
- لست من هواة السفر ولم أجربه كثيراً، لذلك لا أستطيع أن أقول بأني أحبه أو لا، وعوضت ذلك بالسفر عبر مخيلتي الواسعة التي تترجمها أشعاري. أما بخصوص تكرار هذه الجمل، فالكل يعلم أنني أواجه مشكلة في الكويت حول الجواز، وهذا أمر معلن. لكن ما يهمني قوله، هو أنني لا أوظف من خلال أشعاري أي شيء، ولا أقصد شيئاً بشيء!
* وكيف يكون ذلك؟
- عليك أن تعلم أن القصيدة لدي تأتي كما تشاء وليس كما أشاء. إذ إنني لست ممن يخترعون القضايا، أو ممن يعتقدون أن القضايا الكبرى تصنع شعراً كبيراً. فالقصيدة قد تولد من أبسط الأشياء. أما حضور أحد هذه القضايا كالسفر والجواز في قصائدي، فهو طبيعي بحكم المكون، لا بسبب أنني أتصنع الحديث عنها متعمدة، فأغرب الأسئلة التي تطرح علي، «هل كتبت في القضية الفلانية؟ أو عن بلد معين؟ أو شخص ما؟» وسبب استغرابي أنني لا أكتب سوى عن سعدية مفرح، وأعبر عن أي شيء من خلال نظرتي لا من خلال نظرة الآخرين. وأعترف أن دواويني الأولى كان بها كثير من الافتعال، والسبب هو، محاولة محاكاة شعراء آخرين عبر وضع قضية كبرى كتيمة للنص، وأكتب عنها فكانت المحصلة قصائد سيئة. ومنذ ذلك اليوم، قررت أن أخلص لنفسي إيماناً بحاجتي إلى اكتشاف ذاتي قبل اكتشاف الآخرين والقضايا الكبرى.
* تقولين: «أنا امرأة بضاعتي الأمل». حدثيني عن هذه البضاعة، على رغم النكسات والحروب والفقر، وكل الأمور الجالبة للحزن والسواد؟
- دعني أولاً أقول لك إنني لا أَملُّ من هذه البضاعة، وأعتقد بأنها أجمل الحلول للمشكلات البشرية، لأن الأمل ليس إبرة مخدر، بل هو يعطينا إنعاش ودافع لمواصلة الحياة، مما يجعلني دائماً في تساؤل في حال أية مصيبة تقع، ترى ما هو أسوأ وأفضل ما قد يحدث خلال هذه المشكلة، إذ أترك الباب مؤارباً لكل الاحتمالات، وسط تفاؤل كبير.
* تعتمدين في مهارتك الكتابية على التفاصيل والسرد، والالتقاطات الصغيرة. ألا يدفعك ذلك إلى الولوج في عالم الرواية؟
- يتكرر هذا السؤال في كل مقابلة تجرى معي، وسيجد من يقتني كتاب «سين.. سيرة ناقصة» الأمر يتكرر كثيراً، وفي كل مرة أرد متهكمة بأن الآخرين يعرفون عن موهبتي أكثر مما أعرفه عن نفسي. لذلك سأقرر البوح من خلال هذا الحوار بشكل نهائي وجازم، أنني لم أكتب الرواية لأنني لا أعرف كتابتها، ألا تكفي هذه الإجابة؟ فأنا امرأة في الكتابة تتبع الشغف، وشغفي لم يقودني إلى عالم الرواية بعد.
الحياة
الثلاثاء, 01 مايو 2012