اسكندر حبش
(لبنان)

آخين ولاتما بين اللغتين العربية والكردية، تكتب آخين ولات، لكن الضفة الأساسية، التي ترتجيها، هي الشعر، على الرغم من هواجس اللغتين. آخر إصداراتها، «الموسلين الأزرق» الذي يقدم له سليم بركات بالقول:«تتوسل آخين ولات سعة في البيان: نشيدٌ همسٌ ترفعه العاشقةُ على شرفةٍ في بيتٍ لم تكن له شرفةٌُ قبل كتابة نشيدها. وإذ يُستَنْفَدُ البوحُ كلّه، ترتدّ العاشقةُ إلى «إعادة نظر» في المبالغة التي استَغْرَقَتْها: لا شيءَ، بعدُ، سوى خيبةِ العاديِّ».

حول الشعر واللحظة الراهنة، كان هذا الحوار:

* لا بدّ من أن يأخذنا الربيع السوري إلى الكلام عنه، شئنا أم أبينا. ما نظرتك إلى ما يحصل اليوم؟

- بالرغم من الوحشية التي تُمارس ضد المنتفضين؛ وبالرغم من كلّ الدماء التي أريقت وتُراق، أراني أطرب لصوت الشعب ـ يصدح عالياً؛ ولكن بتخوّفٍ وحزنٍ كثيف. ما يحصل اليوم هو ولادةٌ عسيرة جداً لسوريا بملامحَ أجمل. ولادةُ شعبٍ لن يتكرّر.

* وكأنك تعتبرين أن سوريا بدأت تتشكل الآن؟

- نعم، أرى أن سوريا بدأت تأخذ صيغتها المطلوبة لتكون جديرةً بنا نحن أبناءها المُبعدين، ولنكون جديرين بها كوطن. «الشعب السوري ما بينذل» هذا هو السحر الذي بدأ يأخذ أبعاده، لإعادة شعبٍ مغيّبٍ بقوة الإلغاء. اليوم فقط، أرى ملامح سوريا الطبيعية، بالقطبين السالب والموجب. اليوم بدأت صورة سوريا المنغولية تتلاشى في انبهاري بانتفاضات الروح الهابّة كعاصفة غير مشهودة.

* بأي معنى تقولين إنها «منغولية»؟ ألم تكن طبيعية برأيك؟

- الشعب الذي ليس له التعبير عن رغباته، طموحاته، آرائه، هواجسه وأخيراً نفسه لا يمكن أن يكون طبيعياً؛ وسوريا هي الشعب السوري. إذاً هي لم تكن طبيعية بفعل الجرعات الزائدة من المخدرات والمثبّطات الذهنية.

المسافة

* غادرت سوريا منذ فترة ليست بالقليلة، كيف تعيشين هذه المسافة اليوم؟

- أجزم أني اليوم، واليوم بالذات وعلى هامش المسافات، أقرب ما أكون إلى سوريا أكثر من أي وقتٍ مضى. اليوم فقط أستطيع أن أقولها بحبٍ وثقة: أنا سورية.

* ما الذي كان يمنعك قبلا من قول ذلك؟

- لا يمكن لأي مؤمنٍ بحرية المواطن وحق المواطنة، أن يشعر بانتمائه لنظامٍ يلغي كل القيم المدنية والإنسانية، ليُنصب نفسه الدولة والمجتمع والوطن؛ بل الإله على الأرض. بهذه الصيغة فرض النظام الشمولي نفسه علينا؛ فكيف سأشعر بانتمائي لرقعةٍ ما هي إلا البعث الحاكم، والمزرعة المملوكة، بدلا من الوطن الحاضن؟
كيف لي ذلك وأنا التي أمثل صوت أيّ كرديّ لديه الكثير من مسوّغات الرّفض والتمرد على ثقافة القطيع، بحكم ما مورس علينا من حرمان لأبسط الحقوق.

* لكن أيضا، ثمة أقاويل كثيرة الآن، حول التخوف من الوضع المستقبلي، وأنه يمكن أن لا يأتي أي الوضع وفق المشتهى؟

- لا أخفيك أني لست متفائلة جداً بما ستؤول إليه الحال. ربما الوضع سيكون صعباً للغاية، خاصة في ظل التعنّت البعثي على مواصلة القتال أو النضال كما يحلو للبعض تسميته، ومعارضةٍ لا تعرف حتى الآن كيف تكون معارضة نظامٍ قائم والسعي لخلق البديل الأفضل... هناك شعبٌ أعزل يسعى لصوته، لحريته؛ لحقيقتة ووجوده؛ وهو الذي دفع ويدفع وسيدفع الثمن غالياً جداً. نعم، لن يكون بوسع سوريا استرجاع كامل عافيتها هكذا بين يومٍ وليلة، إلا أن كلّ هذا لا يبرر بقاء السلطة في أيدي من هم فيها اليوم، لا بدّ من التغيير لأنه ضرورة ملحّة.

* في أيّ حال، نخرج من هنا، لندخل إلى الكتابة، هل أثرت هذه الأحداث في كتابتك الحالية، أم أن «الحدث» لم يدخل بعد في القصيدة؟

- كلّ ما أكتب هو يومياتي التي تؤرقني وتسعدني معاً، هو أنا بكل اختصار؛ وأنا وقعت في غرام الثورة منذ انطلاقتها بعدة أشخاصٍ نادوا بالحرية ـ فقيل عنهم زعران ـ وإلى آخر ما ستبلغه.. وكل الأحداث بهذه الصيغة، تكون في الصميم من معظم ما كتبته منذ الخامس عشر من آذار 2011 .

يقظة الكتابة

* وهل برأيك أن ما يحدث الآن سيؤثر، لا على الأدب السوري وحده، بل على الأدب العربي بشكل عام؟

- بالتأكيد... كلّ ما حدث ويحدث وسيحدث لاحقاً؛ هو يقظةٌ جريئة للشعوب غير المعتادة على صوت الحرية يعلو أكثر من قامة الحاكم؛ هذا الصوت كفيلٌ بتغييراتٍ شاملة كلّ مناحي الحياة؛ ولا بدّ من أن تكون للأدب العربي بشكل عامٍ نقلةٌ نوعية وحقيقية على صعيد الفكرة وكيفية التعامل مع اللغة، وفنيةٍ جديدة في أسلوب تناول الشارع العربي الذي ما عاد يمثل الخواء.

* تكتبين أحيانا باللغتين، العربية أو الكردية، أين تجدين نفسك، على أيّ ضفة شعرية؟ كيف تتنقل قصيدتك بين هاتين اللغتين؟

- الضفة هي ضفة الشعر بكل الأحوال وبأية لغةٍ كانت. هناك التفاصيل فقط تتفاوت درجة الإضاءة على كل زاوية فيها، ويسيطر على قصيدتي ـ باللغتين ـ هاجسا الإحياء والإبداع. أجدني في الكتابة بالكردية، محاصرة بهاجسي الإحياء والإبداع معاً: يعني أن أنجز شيئاً يساهم في إحياء لغةٍ يُراد لها الموت، وأن يكون على درجةٍ عالية من التميز والتحدي، ـ تحدّي الموت ـ وهذا يجعل مسؤوليتي تجاه لغة القصيدة مضاعفة، يجب أن تكون مميزة، سهلة، تتناول فكرةً ذات أبعادٍ متعددة، ورشيقة من حيث التشكيل البصري والإضاءة؛ إضاءة جوانبها المظلمة.
أما وأنا أكتب بالعربية فإنّ مسؤوليتي تتركز أكثر على هاجس الإبداع؛ إذ لا أعتبر الإبداع جانباً في الكتابة، بل هو هاجس؛ ما أكتبه يجب ألا يشبه كتابة الآخرين، يجب أن يكون له وقعه الخاص، طابعه، لغته، نكهته الخاصة... وهذا ليس سهلاً في لغةٍ مخدومة، مُعتنى بها جيداً ويكتب بها ملايين البشر. في هكذا جو أنجز نصي الذي أكون راضية عنه بما يحقق لي توازناً لا بأس به لإتمام ما تبقّى من يومي.

الذاكرة

* تعيشين بعيدا عن «الشرق»، لكن من يقرأ شعرك، لا بدّ من ان يجد هذه الذاكرة الحاضرة. هل الشعر، أو الكتابة بشكل عام، هي ذاكرة ما؟

- بالرغم من تمنّع الشعر على أي تعريف إلا أنه قريبٌ بالنسبة لي إلى جمرةٍ متّقدة، منذ نارٍ انطفأت من قرون، وهنا يصحّ كونه: خَدِين الماضي، تماماً كما هو وليد الحاضر.
الأدب بشكلٍ عام والشعر بشكلٍ خاص هو لمعاتُ الذاكرة، إضافةً إلى تصقيل هذه اللمعات بما يناسب تشكيلها في صيغةٍ شعرية كانت أم سردية، من الواقع، أو حتى اليومي الذي قد يبدو تافهاً للبعض.
لمعةٌ ما مفاجئة من الذاكرة، كفيلة بإنجاز نصٍ متميز إذا استطعنا استثمارها مباشرةً لصالح الإبداع، وربطها بشبيهٍ لها من الحاضر، أو ربط السبب الذي جعل هذه الذاكرة البعيدة الشبه ميتة، تتقّد في تلك اللحظة بالذات، وقد يكون هذا المسبب واهياً جداً، كأن يذكرني قشر البصل بحبٍ قديم، أو أن تذكرني ضحكةٌ ما بموت أبي، ودرابزين الشرفة مثلاً ببلادٍ تتعرّض للنهب كل لحظة...

* هل لعب المكان الجديد أي دور في قصيدتك؟ في لغتك؟

- بالطبع. للمكان الجديد تأثير كبيرٌ عليّ ككل، وكشاعرة بالدرجة الأولى. أتاحت لي حياتي هنا، عكس ما توقّعت...كنت أعتقد أني لن أعرف كتابة الشعر إذا ابتعدت عن قريتي ـ كفرجنة ـ مثلاً. وكان ذلك فعلاً إذ لم أتمكن من الكتابة لمدةٍ طويلة نسبياً بعد مغادرتي سوريا. شعرت بتصحّرٍ فكري ذهنيٍ حقيقي، لأكثر من ثلاث سنوات، لكني عندما عدت للكتابة بدا واضحاً لي أن كل ما أكتبه لا يشبه ما كتبته في الوطن إلا قليلاً...
تجاوبي مع المكان الطارئ كان بطيئاً نوعاً ما. لم أشعر بالحميمية تجاه محيطي، إلا متأخراً، أو ربما الأصح هو أن الفترة الانتقالية ما بين وطنين مختلفين، كانت فترة اختبار واختمار، لأكتشف من خلالها أن هذا المكان البارد منحني الكثير من الانفتاح على عالمٍ ما زال مفقوداً.
منحني جرأة التمرد على النمطية لصالح الطبيعة؛ جعلني أنحاز إلى طبيعتي الحرة. لماذا سأكتفي بالتأكيد على وجود ثلاثة أبعادٍ للكون إضافةً إلى الرابع ـ الزمن ـ الذي لولا تكرّم أنيشتاين به علينا لكان كل شيءٍ في محله من دون أي نقصان مع الأبعاد الثلاثة وانتهى الأمر.
لا بدّ من أن يكون لهذا الكون عشرة أبعادٍ كأقل تقدير، وإننا حتى هذه اللحظة لم نحقق نصف النجاح من كل إنجازاتنا. هناك ستةُ أبعادٍ لحياتنا مفقودة دون أن نشعر بالنقصان، ولا شيء مستحيلا هنا... وأنا أشك في أن نصف المخ ما زال عاطلاً عن العمل!!!
هذا هو ما منحني إياه المكان الجديد، الذي جعلني أشعر بانتمائي لمجموعةٍ بشرية، ورقعةٍ أستطيع تسميتها وطنا، منحني القدرة على الشك، تماشياً مع الثقة. نعم أدين لهذا المكان بقدرتي على ممارسة الشك، وهذا كله ينعكس في كتابتي باللغتين.

السفير
29-11-2011