شوقي بزيع
(لبنان)

XXXXXXXXXX لا أعرف على وجه التحديد السبب الذي يشدني إلى الأردن منذ أن كنت فتى يافعاً في مقتبل العمر. أظن أن شيئاً في الاسم نفسه يحمل السامع على الإصغاء ملياً إلى تضاعيف زمن غابر تسمح له الراء الساكنة في الوسط بالخروج من أقفاصه قبل أن تتكفل النون الساكنة بلجمه مرة أخرى. ثمة جرس في التسمية يشبه الحمحمة المثخنة بالغصات لخيول مطهمة تعاكسها الريح وتتركها مسمرة كالتماثيل على ضفة النهر الذي تعمَّد المسيح بمياهه قبل ألفي عام ونيف. كأن هذه المسايفة الأبدية بين البحر والصحراء، بين الصخور والكثبان، وبين المقدس ونقيضه الشهواني تمنح المكان سحره الخاص وتجعلانه مع جواره الفلسطيني والسوري واللبناني سرَّة العالم وقبلة أقواسه المرصعة بالأهلة والخواتم. لكن الجمال هنا باهظ التكاليف حيث كان على الدم أن يراق غزيراً على طرف قوسه الشمالي عبر معارك اليرموك وحطين وعين جالوت التي تقاسمت الدفاع عن مجرى النهر، وحيث كان على صخور الجنوب أن تستسقي الدم إياه بدءاً من مملكة الأنباط وليس انتهاء براية مؤتة المرفوعة فوق أشلاء جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة.

ولأن النقيض غالباً ما يستدعي نقيضه الضدي فليس من المستغرب أن تستنبت الصحراء المترامية قصص حبها العطشى إلى أنوثة جارحة الألحاظ والترجيعات، وأن تلتمس الفحولة البدوية في ذروة وحشتها نافذة للطمأنينة مفتوحة على مصراعي الغرام المشبوب ومتصادية مع صور الحب الفروسي الذي صعد به غر العدوان من قلب الأغوار إلى تخوم الأسطورة. كما يتحد الحب مع الموت مرة أخرى في تجربة عرار الفريدة التي رأت في الصعلكة تعبيرها الأمثل عن اصطدام البداوة بأسوار المدن والتي عهدت بوصيتها الأخيرة لأنوثة الأردن المتماهية مع التراب الأم: «يا أردنيات إن أوديت محتضراً/ فانسجنها بأبي أنتن أكفاني/ وقلن للصحب: واروا بعض أعظمه/ في تل إربد أو في سفح شيحان».

* * *

ليست هذه السطور التي سبقت سوى ترجمة أولية لبعض الهواجس والأفكار التي تراودني دائماً كلما فكرت بالأردن أو لبيت دعوة كريمة إلى زيارتها. ومع أن زيارتي الأخيرة للبلد الذي لا تفصله عن الجنوب اللبناني سوى الرقعة الشمالية الضيقة من فلسطين ليست الأولى بأي حال فإن التناظر الجغرافي القائم على ضفتي الأرض المغيبة يحملني دائماً على وصل ما انقطعت عراه الجغرافية بخيوط وجدانية شبيهة بتلك التي تحدث عنها عرار في قصيدته المؤثرة. كأن الشغور القائم بين المكانين يحدث في أعماق الروح ثلماً بالغ الدلالة لا سبيل إلى رتقه بغير اللغة. ولما كانت الدعوة هذه المرة موجهة من الصديق أسعد عبد الرحمن للمشاركة في المؤتمر السنوي لمؤسسة فلسطين الدولية فقد جسدت هذه الدعوة في بعدها الرمزي قدرة فلسطين المتجددة على الجمع بين العرب وعلى تذكير المثقفين بوجه خاص بأن هذه القضية ما تزال الرافد الأهم للقصائد والروايات والفنون والممر الإجباري إلى الثورات كلها كما إلى ثقافة التمرد والاعتراض. وإذا كان المؤتمر المذكور يترافق في العادة مع حفل التخرج السنوي لطلاب «المدارس العصرية» التي أسهم عبد الرحمن في تأسيسها قبل سنوات فإنه أفاد من التجاوز الزمني ليقيم في المناسبتين معاً احتفالين اثنين بالغي الأهمية. إلا أن البصمة الأهم التي ابتكرها في هذا السياق تتمثل في تجنب الرعاية السياسية التقليدية لمثل هذه المناسبات مؤثراً أن تتم كل عام تحت رعاية شاعر أو كاتب أو فنان من ذوي الحضور المتميز في الثقافة العربية المعاصرة. ولم يكن ما حظيت به هذا العام سوى استمرار لذلك التكريم الذي حظي به من قبل شعراء وفنانون عرب من بينهم محمود درويش وسميح القاسم ومرسيل خليفة وزاهي وهبي. ولعل الصديق أسعد قد عبر بذلك وعلى طريقته الخاصة عن انتصاره للثقافة على السياسة، لا بما هي جوهر وفعل رؤيوي بل بوصفها حيلاً وخزعبلات وأداة للفساد والنهب وقبضاً متعسفاً على ناحية الحاضر. ولما كانت للزيارة محطتان اثنتان إحداهما في البتراء بمشاركة من الجامعة الأردنية والأخرى في عمان بإشراف من مؤسسة فلسطين فسأتوقف قليلاً عند كلتا المحطتين.

* * *

لم تكن قراءة الشعر في البتراء مقررة في أساس الدعوى بل كانت النية معقودة حول لقاء صباحي مع بعض أساتذة الجامعة الأردنية وطلابها من المهتمين وذوي الاختصاص. لكن التعديل اللاحق الذي جاء بمبادرة من الكاتب والأستاذ الجامعي مهند مبيضين وجد لدي صداه الإيجابي لأن فرادة المكان وجماله الأخاذ لا يتركان للمرء فرصة التردد أو الرفض. صحيح أنه سبق لي وزرت البتراء خلال إحدى دورات مهرجان جرش السابقة قبل نيف وعشرين عاماً ولكن زيارة واحدة لا تكفي للارتواء من ذلك المشهد الإعجازي الذي تضافرت الطبيعة مع البشر على صنعه والذي أعلن قبل أعوام واحداً من عجائب العالم السبع. وإذا كانت الطريق بين عمان والبتراء طويلة وباعثة على الملل بسبب التشابه النمطي لجغرافيا الرمال والتلال البركانية المائلة بفعل الشمس إلى السواد فإن الأمور تميل إلى التبدل بعد ذلك بفعل المساحات الخضراء التي تبدأ بالظهور والتي لولا مساقط مياهها الغزيرة لما كان لمملكة الأنباط أن تزدهر وتنمو. ومع نهاية الانحدار الذي يتبع قرية الشوبك المترعة بالخضرة ترتسم عند الأفق الجنوبي رؤوس الجبال التي تسند ظهر المدينة الغاربة وتبدو شبيهة بقافلة من الجمال العابرة للأزمنة.

براءة الشعر

كانت أمسية تلك الليلة أقرب إلى لقاء دافئ وحميم مع ثلة من جمهور مدن الأطراف الذي تتصادى براءته المقيمة مع براءة الشعر ومقاومته الصلبة لفساد العالم وتحلل أحلامه. ولأن التعب كان قد أخذ منا كل مأخذ فقد عدلنا، مهند وأنا، عن التمتع بليل البتراء المضاء بالمصابيح والشموع واستعضنا عن ذلك بسهرة ممتعة في الاستراحة التي أقامها عيد النوافلة على مدخل المدينة السياحي والتي أطلق عليها اسم «مطبخ البتراء». وإذ أخبرنا الشاب الأسمر والبادي الوسامة عن قصصه الطريفة والمشوقة مع بعض رؤساء العالم وقادته ممن وفدوا إلى البتراء من قبل وبخاصة لدى انعقاد المؤتمر الشهير للحائزين جوائز نوبل للسلام راح قريبه الكهل محمد يتلو على مسامعنا الكثير من الأمثال وأبيات الشعر وبعض ما احتفظت به ذاكرته، وهو الدليل السياحي، من وقائع مثيرة للفرح أو الأسى، مستذكراً على وجه الخصوص السيل العارم الذي انحدر قبل خمسين عاماً من أعالي الجبال مطيحاً بالعديد من البيوت ومودياً بالكثير من القتلى. أما الزيارة التي قمنا بها إلى أطلال مملكة الأنباط في اليوم التالي فقد بدت توغلاً روحياً في أحشاء الزمان لا المكان وحده. ورغم مشقة السير ذهاباً وإياباً على الأقدام لساعات عدة فإن الألوف التي عبرت ذلك المضيق النحيل الذي يشطر الصخور الوردية الشاحقة إلى شطرين كانت تتخفف من أجسادها وتتحول إلى أرواح خالصة تتخاطفها صور الأنباط القدماء الذين انتقلوا بقرار خطير وحاسم من رمال البداوة المترحلة إلى كنف الصخر الأصم الذي تم تليينه بالإرادة والأزاميل واقفين بمثل صلابته في وجه روما ومتسيِّدين على طرق التجارة العالمية لأربعة قرون أو أكثر. أما عيد النوافلة الذي مررنا لوداعه في طريق العودة فبدا، وهو يغمرنا باللطف كما بالهدايا، كأنه الحارس الدهري لروح البتراء العصية أبداً على الاضمحلال.

* * *

كانت أمسية عمان في الليلة التي تلت مختلفة إلى حد بعيد عن أمسيات مماثلة سبق وأن استضافها مهرجان جرش قبيل إسدال الستار عليه ولم تعد تستقطب سوى حفنة قليلة من المهتمين. وإذا كانت قراءة الشعر في حفل حاشد لمتخرجي «المدارس العصرية» محفوفة بالعديد من المخاطر والمحاذير فإن الحضور النوعي لمئات المدعوين من الأهالي والنخب السياسية والثقافة، فضلاً عن التنظيم المعد بعناية، قد وفرا للقراءات الشعرية مناخاً فريداً من الإصغاء والتفاعل العميقين. أما في الأمسية الأخرى التي تقيمها «مؤسسة فلسطين الدولية» بشكل سنوي فقد قدم الشاعر المصري الشاب هشام الجخ نفسه بوصفه شاعر اللحظة الطازجة الخارجة من مناخات ميدان التحرير وثورة شباب مصر والمتكئة على الرصيد المرتفع للعامية المصرية التي تتصادى بشكل خاص مع تجربة عبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم. وإذا كان الجخ قد استطاع بصوته الرنان وإلقائه المسرحي أن يلفت انتباه الجمهور وينتزع تصفيقه وبخاصة في قصيدة «التأشيرة» فإن هذه التجربة تحتاج لترسيخ حضورها إلى التخفف من المبالغة الاستعراضية القريبة من أداء المطربين من جهة، والى مجانبة السطحية والشعارات الحماسية المستهلكة من جهة أخرى.

وكما يحدث دائماً في مثل هذه المناسبات فإن الجانب الأجمل من الرحلة يتمثل في لقاء الأصدقاء وفي تلك الكشوفات الإنسانية التي تخرجها المصادفات من مخابئها لتحيي الثقة بالآخرين في زمن العلاقات النفعية والظرفية. هكذا بدا اللقاء بخالد الكركي في منزله العائلي حميماً ودافئاً ومترعاً بالشعر والمودة رغم الانشغالات الوظيفية الكثيرة لصاحب «رجع الصهيل». أما يوسف عبد العزيز الذي التقيته صدفة في الليلة الفلسطينية فلم يشأ أن ينقلب على صورة الذئب التي رسمها لنفسه في سن الأربعين لذلك أصر في نهاية الاحتفال على أن نقتحم معاً ليل عمان الساكن ونستعيد ولو مثخنين بتقادم السنين مناخات الصعلكة التي جمعتنا قبل أكثر من عقدين على هامش مهرجان جرش. وبما يشبه المداهمة اقتحمنا بعيد منتصف الليل عزلة الفنان التشكيلي الأردني عصام الطنطاوي ولم نغادر شقته التي حوَّلها إلى «أتيلييه» للرسم إلا مع خيوط الفجر الأولى. ورغم تعذر اللقاء بطاهر رياض المهموم بالتزاماته العائلية فقد وفَّر الضلع الثالث من مثلث المنادمة المزمن، وأعني به زهير أبو شايب، لصبيحة اليوم التالي ما يلزمها من الألفة وذكريات الزمن الوردي. إضافة إلى لقاء ودي وحميم مع زياد العناتي، أحد أجمل شعراء قصيدة النثر الشبان. وفي مراحل الزيارة كلها أصر اسعـــد عبد الرحمن، رغم انشغالاته الكثيرة، على أن يرعى ضيوفه بعين الحدب والحب وقد أكسبته فلسطين بآلامها الطويلة والمتجددة كل ما يلزمه من مناعة ضد التعب واليأس ونفاد الصبر.

السفير
17 يونيو 2011


أقرأ أيضاً: