صالح هويدي

صالح هويدي الشاعر عادل خزام إلى جيل شعراء الحداثة في الشعر الإماراتي المعاصر، إذ عكست تجربته الشعرية التي ضمتها مجموعتاه الشعريتان انحيازه لخيار قصيدة النثر التي اختارها وسيلة للتعبير عن منجزه الشعري ورؤيته الفنية.

ولعل أبرز ما يميز تجربة الشاعر على المستوى الشكلي حالة الالتباس الأولى التي فرضها أسلوب التكنيك الذي اختاره الشاعر في مجموعتيه الشعريتين. ففي المجموعة الأولى “تحت لساني”، يشير الفهرست

إلى أنها تضم أربع قصائد مطولة بعض الشيء، في حين تضم المجموعة الثانية “الوريث” خمس قصائد لا تقل عنها طولاً. لكن نظرة بنيوية لواقع هذه النصوص ستكشف لنا تفتت بعضها إلى عدد من النصوص الشذرية. فباستثناء القصيدة الأولى “وحده دون حرب” من مجموعة “تحت لساني”، تضم القصيدة الثانية أحد عشر نصاً، والثالثة ثلاثة نصوص والرابعة تسعة عشر نصاً، هذه النصوص طولاً وقصراً حتى وصلت في إيجازها إلى ثلاثة أسطر أحياناً.

ما قيل عن المجموعة الأولى للشاعر يصدق على مجموعته الشعرية الثانية التي جمعت قصيدتان من قصائدها الخمس تحتها عدداً من النصوص الشعرية الشذرية.

والحق أن إدراج مجموعة من النصوص الشعرية تحت عنوان واحد من شأنه أن يثير سؤالاً إشكالياً حول حقيقة البناء الفني للنصوص، ليس لدى عادل خزام وحده، وإنما لدى عدد من الأجيال الشعرية العربية منذ سبعينات القرن الماضي حتى الآن. فما مسوغ البحث عن مظلة لعنوان جامع لعدد من النصوص الشعرية القصيرة التي لا يجمع في ما بينها سوى مناخ التجربة الشعرية العامة للشاعر؟ والسؤال المطروح هنا، إذن: هل من الأجدى متابعة الشاعر في تقنيته، والنظر إلى عشرات النصوص القصيرة على أنها قصيدة أو نص واحد، أو تجاوز هذا المظهر الخارجي (القشري)، لاعتماد واقع البنية الفنية للنصوص القصيرة وعدها من ثم نصوصاً شعرية مستقلة بذاتها، سواء انضوت تحت عنوان عام واحد أو جاءت مرسلة من دون عنوان؟

واقع التجارب الشعرية للشاعر وسواه من أقرانه يشير إلى أنه يصعب في كثير من الأحيان أن يكون العنوان العام مظلة جامعة لنصوص لا يربط بينها رابط موضوعي ويصعب تجاوز حقيقة استقلال كل نص منها بنفسه.

يؤطر تجربة الشاعر هيمنة بعض المظاهر المعاصرة التي غلبت على رؤية جيل من الشعراء السابقين عليه والمجايلين له على حد سواء. وأقصد بهذه المظاهر الإحساس بغلبة عناصر الظلمة وشيوع مظاهر الموت والفراغ والإحساس بالوحشة والعزلة التي لا تلبث أن تتفاعل لتصل إلى مديات أبعد ونهايات أكثر انغلاقاً وإحكاماً.

فها هي الظلمة التي تلتف حول روح الشاعر تبرز في مظاهر مختلفة، لا تخلو من إيحاءات حادة قاسية:
وتتقافز السمكات من قلبي

إلى سنارة الليل. “الصياد تحت لساني”/ أنطق برعشة الساهر في الظلمة عن البقايا وشهود المسافة والعين

عن الفكرة ومسمارها. (الشهيد تحت لساني)/ الدوي هنا والقرود في شبكات الظلام. (تعتيم تحت لساني)/ مطعوناً بالظلام وأهرب للكهوف. (قصيدة الشرف تحت لساني)

إن النغز والقنص والطعن تبدو صفات تغلب على صفة ليل الشاعر وظلمته المحيطة به. وهي ظلمة من شأنها إثارة قدر من الإحساس بالفراغ الذي بدت له ألوان وروائح وصور شتى:

للصمت أبراج وللفراغ مرايا. (عند انفجار الذاكرة تحت لساني)/
الآن.. أخشى من حرية يدنسها فراغ. (قصيدة في تحت لساني)/
في الأطباق قطرات

من عطر الفراغ. (محكمة تحت لساني)/ الفستان الغامق كعبارة تتبختر بامتلائها أمام فراغنا. (السلحفاة تموت مقلوبة الوريث)

وهو فراغ لا بد من أن يسلم إلى حالة من الوحشة والعزلة التي بدت الثيمة التي لا تخطئها عين القارئ في نصوص الشاعر:

لماذا يركض الناس إلى ماسة العزلة؟
ماذا أفجر وحدي؟ (ديمومة تحت لساني)/
في صحراء من فزع العزلة والروح. (لافتات تحت لساني)/
أنا الوحيد قرب كل ساقية. (لحظات تحت لساني)

حيل دفاعية

لقد قادت سيادة مظاهر الظلمة وما أثارته من مشاعر الوحشة والعزلة والفراغ الشخصية في النص الشعري إلى الرغبة في إيقاف جريان الزمن المتصاعد، أو العودة به إلى بداياته المبكرة، حيث الماضي المتمثل في زمن الطفولة المؤنس الرخي يبدو المعادل الموضوعي للرغبة في الارتداد إلى زمن المضي والهروب من زمن الحاضر القاسي:

نرتخي، وندخل داراً لاختفاء الطفولة. (الأوائل تحت لساني)/
واختفى بيت في الجوار
تسكنه طفولتي التي انقرضت. (قصيدة الشرف تحت لساني)/
نسقي شظايا طفولتنا بحليب الكلام. (أبواب هيكلنا تحت لساني)/
أدرك أنني كبرت... أكبر من طفولتي صرت. (أبي وأمي الوريث)

وإذا كانت العودة إلى زمن الطفولة وسيلة الشاعر الدفاعية بإزاء ما وصل إليه الواقع من ظلمة ومفارقات وتشويه أسهمت في دفع الشخصية إلى حالة من الوحشة والعزلة، فإن من بين الخيارات الأخرى التي تجلت في نصوص الشاعر، اتساع حجم الحلم وتردد مظاهره عبر أكثر من ملمح تارة، وحضور صورة الطير وفعل الطيران بوصفهما وسيلتين من وسائل الخلاص من ربقة الواقع ومجاوزته:

ماذا لو صرت نقيض الطير
وصار جناحا. (قصيدة الشرف تحت لساني)

إن الحلم هنا يبدو كأنه حيلة دفاعية غير واعية للهروب من سطوة الواقع المؤسي، بعكس مظهر الطيران الذي يبدو وسيلة رمزية، تكشف عن الرغبة الواعية للذات اليقظة في مجاوزة الواقع الممض.
إن العودة إلى الطفولة أو التحليق في الفضاء إنما يمثلان وجهين لرغبة واحدة، هي الانعتاق من ربقة هذا الواقع الفجائعي الذي بلغ من المفارقة والتناقض حداً، استطاع الشاعر التعبير عنه، من خلال عدد من المظاهر والصور السريالية، على هذا النحو:

والمرأة التي انتشلت بأسنانها يدي
سترسم عاشقاً يوزع الأماكن بين العصور. (نوح تحت لساني)/
الترحاب مجاعة منهوكة بالكلمة
لا رأس يداوي سراحها
وللبكاء على الضاحكين من دم مضيء. (قصيدة الشرف تحت لساني)/ أبرز لهروب صرخاتي
مرتدياً ملح قبيلة قصفت
برماد شمعة يطفئها احتراق. (لافتات تحت لساني)

الترميز الفني

إن أبرز ما يميز تجربة الشاعر عادل خزام عن مجايليه من الشعراء أنه بدا في نصوصه لا يني عن البحث عن مخرج مما بدا واقعاً منكفئاً، تارة بالرمز وأخرى بالحلم النكوصي وثالثة بالتمسك بتلابيب زمن الطفولة الآفل. وهي محاولات ستتجاوز هذه الأساليب لتعانق أفق الرمز الأرحب، في هيئة علامات وإشارات مضيئة، كما في ثنائية (النار والنور) التي لم تكن لتخلو من دلالة إيحائية على فسحة الأمل المخبوء في رحم الزمن الآتي:

في لهاثي وراء فراشة النار الشاردة
والنار ستحمل بلبل القرى
للشجرة. (نبلة تحت لساني).

مندفعاً بدسائس أحلامي
لا أدري في أي نور سأختفي. (قصيدة الشرف تحت لساني)/ قبّلت الضوء وقبّلني
كان الليل بناء
والهزيع فضاء لا يذوب. (قصيدة الشرف تحت لساني)
من الذي توضأ بالضوء وجلس ليكتب. (أنا الوريث)

بل إن ثنائية (النار والنور)تتجاوز هنا الدلالة الرمزية على محض الأمل، لتنفتح من خلال اكتنازها الدلالي وإيحاءاتها المشعة على تخوم لغة إشراقية تومض أكثر مما تصرح.

وإذا كانت الأنوار والنيران التي تتلألأ في عيني الشخصية قد حكم عليها بعباءة الليل وفضاء الهزيع المحكم، فإن رؤية الشاعر لم تكف عن البحث في طاقة الفكر وزوايا الإشراق الروحي، فتتعلق بعلامات الوعد والإشارة التي لا تخيب لدى مريديها، وعبر لغة ازدادت صفاء وشفافية:

ويظل المفتاح الرمز الأكثر تردداً وحضوراً في تجربة الشاعر، ولا سيما في مجموعة(تحت لساني). ولعل من الطبيعي أن تقترن مفاتيح الشاعر بأسئلته وحيرته:
ارفعوا عن وجه أسئلتي المفاتيح. (ديمومة تحت لساني)/

مثلما من الطبيعي أن تكون الصناديق الدالة على الأسرار قرينة المفاتيح:
أبي كان صندوقاً لأسرار المفاتيح. (الأوائل تحت لساني).

وقد تتجاوز المفاتيح دلالتها للتعبير عما هو معنوي من أحاسيس ومشاعر:
وهذه المفاتيح والعذارى وخاصرتي
دوائر لا تدور/ (قصيدة الشرف تحت لساني)

بل ربما تعدت دلالة المفتاح لتطال مساحة الواقع العريض:
على ساحل تسكنه المفاتيح. (لافتات تحت لساني)

اللغة الشعرية

لقد حرص الشاعر على استخدام لغة مقتصدة بعيدة عن الفضفضة والترهل، متماشية في ذلك مع طبيعة البناء الفني لنصوص الشاعر التي بدت في مجموعته الأولى وكأن المعاني جاءت على قدر الأسطر الشعرية، دونما زيادة أو نقصان، لتبدو هذه الأسطر وكأنها مكتفية بنفسها، مذكرة إيانا بالبناء الكلاسيكي للقصيدة العربية. وهو ملمح لم نعد نجده في المجموعة الثانية للشاعر، بعدما تجاوزت الفكرة حدود السطر وقيده، لتنداح إلى سائر جسد النسيج الشعري، مكسبة نصوصه نمواً وامتداده فكرياً، ومضفية على تقنية القصيدة عنده طابعاً سردياً، يضطر المتلقي إلى متابعة امتداداته.

إلى جانب هذا فإن لغة الشاعر في عمومها، لغة ذات طبيعة إيحائية، تشف عن المعاني الكامنة فيها، دونما عناء كبير، خلا تلك المقاطع التي خرجت إلى تصوير مظاهر الواقع الغرائبية التي اقتربت من حدود الفانتازيا. بل إن الصفاء اللغوي الذي كشفت عنه بعض نصوص الشاعر والتي تقترب من معجم اللغة الإشراقية، من شأنها اجتراح إمكانات شعرية طيبة لو تنبه الشاعر لها، وعمق مساره فيها.

وإذا كنا أحسسنا بآثار اللغة الإشراقية ذات المعجم الإيحائي الخاص في موضع أو أكثر من مجموعة الشاعر الأولى، فإن هذا النهج سيتعمق في شكل مظاهر متكررة أكثر تعبيراً ونجاحاً عن الفيوض الروحية التي ارتقت إليها الروح:

أين وجوهنا التي أطاعت الأمر وخانت
لماذا لم تنته البلوى من القلب ولم تستقر
كرامة الوجوه، لماذا والأذى شوكة. (الوريث الوريث)/ ما أنا بغريب عن النطق كي أفسر الوجود بحرف
وما أنا سوى لطف يقسو

على هذا النحو تبدو تجربة الشاعر عادل خزام في اندفاعها صوب التعبير عن نفسها ضد عالم ضاغط قاس شديد الوطأة، يدفع بالشخصيات إلى النكوص نحو زمن آفل جميل تارة، وإلى الحلم بالتحليق فوقه ومجاوزته أخرى، أو ممارسة ضروب المكر الحلمية ثالثة، أو الاختباء وراء لغة وجدٍ، من شأنها أن تحقق له حالة الرضا في رؤياه الكاشفة.

الخليج
السبت ,10/01/2009