لماذا بوكوفسكي في الثقافة المغربية والعربية الحديثة ؟ ما تأثيره ؟ ما حدود هذا التأثير ؟ إن مقاربة هذه القضايا يقتضي بعض التفصيل عن الشخص ووضعه في الأدب والشعر العالمي المعاصر، ويقتضي بعد ذلك ربط الأسباب هنا بالأسباب هناك، نعني الخوض في ما أصبح يعرف الآن بالشاعر والتجربة.
الدعوة إلى قتل الجد ستأتي عاصفة لدى الجيل الجديد من الشعراء الذين تشبعوا ولو بالواسطة والترجمات غالبا بهاته الثقافة البوكوفسكية رغم إساءة استعمال هذا القتل، إذ سيتم قتل الجد والأب ودفنهما دون أن نعرف أدنى صورة عن تقاسيم وجههما، نقصد التراث الزاخر في جوانبه المضيئة المنتهية إلى الحداثة بامتياز.
في الموجة الجديدة من الاتجاه الشعري المشاغب تمرد لغوي قد يرتبط باللغة ويقف عند حدودها، وقد يتعداها إلى رؤيا الشعر والشاعر، وإلى اليومي العادي، وإلى الخارق، إلى المتباين والمتغير، وإلى الذات خاصة. ثورة على الجد تغوص في أعماق تفاصيل اللغة والجسد. للمسألة مسببات هي ما يسميها النقد الأكاديمي بالتناص الذي ما هو في نهاية المطاف إلا أخذ وتداول للمعاني. قد تتعدى المسألة في بعض النماذج التناص العادي بتعاريفه المعروفة منذ "جوليا كريستيفا" إلى التناص مع تجارب دبية عالمية ترمي إلى جعل القصيدة ذاتا متحركة صادقة حارة عارية من كل مسحوق إلا المسحوق المرتبط بالشعر والمتمثل في الاستعارة والتخييل المستند إلى اليومي .قد يكون هذا السبب مبررا كافيا لإيراد هذا الفصل عن شارل بوكوفسكي ضمن هذه الدراسات ، من هنا سيحتاج الأمر إلى بعض التوضيح بما أن الاتجاه البوكوفسكي الذي تحول إلى شبه أسطورة في الغرب وفي فرنسا خاصة، لا زال طريا في الثقافة العربية بحكم عدم ترجمة أعماله التي تفوق الأربعين إلى العربية في ما أعلم رغم ترجمته إلى أزيد من عشر لغات عالمية فمن هو العم Buk هذا ؟
هنري شارل بوكوفسكي Charles Bukowsky ( 1920– 1994 )
ولد بأدنبرة بألمانيا في 16 غشت 1920 من أب أمريكي كان يشتغل بألمانيا، وبعد سنتين من تاريخ ولادته ستنتقل كل الأسرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1923 ، ستقيم الأسرة في لوس أنجلس حيث سيشتغل الأب بائعا للحليب، سيجد شارل الابن صعوبة في التأقلم داخل المدرسة الأمر الذي يسبب له مصاعب نفسية عميقة ستلازمه طيلة حياته . سنة 1935 تبتدئ موهبة شارل في الكتابة وسيكتشف الشراب: النبيذ والكحول سنة 1937 وسيلازمه نهاية حياته، سيرافق أصدقاء أكبر منه سنا ، سيخرج سنة 1939 عند نهاية المرحلة الثانوية للحياة النشطة، أي سيختار سوق العمل عوض الدراسة، إلا أنه سيعود بعد سنة لمتابعة الدراسة الجامعية ب : los Angeles City collège حيث سيتابع دروسا في الصحافة وفي اللغة الانجليزية وفي التاريخ. سيشتغل في أعمال صغيرة غير مبال بويلات الحرب العالمية الثانية سنة 1941 متجولا بين سان فرانسيسكو وسان لويس وفيلاديلفيا، سيشتغل في غسل القاطرات، وبيع قطع غيار السيارات بالتقسيط، أو في بعض المتاجر نشر أول قصة له بمجلة storyde whit Burnett وسيتوقف عن الكتابة بعدها ليعود إلى لوس أنجلس سنة 1946 حيث سيلتقي بالجميلة Jane cooney Baker التي سترافقه ما يقارب العشر سنوات. سنة 1951 سيشتغل موظفا بالبريد مدة ثلاث سنوات وسيغادرها بسبب نزيف سببه الكحول الذي كان يتناوله بكثرة وسيبتدئ في كتابة الشعر وفي متابعة سباقات الخيول التي تعتبر مهربه وملجأه إلى آخر حياته. سيتزوج سنة 1956 بلاس فيكاس Vergas Barbara Frye المسؤولة عن مجلة Harlequin وفي سنة 1958 سينفصلان. بعد وفاة والديه سيصاب بالإفلاس ويبيع المنزل مما سيضطره للعودة للاشتغال بمكتب البريد حيث سيقضي 12 سنة وخلالها سيكتب بغزارة . سنة 1960 سينشر أول عمل شعري في 14 صفحة، سيعرض عليه المشاركة في قراءات عامة للشعر وسيرفض معتبرا ذلك أمرا تافها .
1 اعتمدنا في هذه السيرة على معظم كتابات بوكوفسكي في مقدمة طبعاتها الفرنسية مثل : L amour est un chien de l enfer ومثل : Apporte moi de l amour وغيرها . كذا المواقع الكثيرة على الإنترنت الخاصة ببوكوفسكي
سنة 1962 سيكتشف كتاب جيل الغضب الأمريكي بسان فرانسيسكو بنيويورك . ستتوالى أعماله تباعا بعد ذلك بحيث سينشر it catches my hear in its hands إنها تقبض قلبي بيديها : أشعار جديدة. ستتوالى معها أزماته المادية. وبين أعمال صغيرة وكتابة عبارة عن سير ذاتية جزئية يواصل بوكوفسكي رحلة حياته . أشعاره ستنشر على أهم الصحف والملاحق الثقافية الأمريكية فعلى صفحات جريدة المهمشين بلوس أنجلس open city لجون براين يكتب عمودا خاصا يتحول إلى كتاب هو journal d'un vieux dégueulasse يوميات عجوز قذر. 1970 أعمال أخرى ونجاح آخر مع فشل مادي وشبه إفلاس للشاعر الكاتب. سينشر في أوربا عبر ألمانيا ويستقيل من مكتب البريد في نفس السنة ومسار جديد في حياته يلتقي خلاله linda King ويقضي معها فترة طويلة نسبيا مليئة بالاضطرابات يصدر brûlez dans l'eau se noyer dans les flammes محترقا في الماء ،غارقا في النار ، أشعار جديدة وقديمة تدون علاقته بليندا وليزا بين 72 و73 في سنة 1977 ستظهر أول ترجمة للفرنسية للعم Buk " مذكرات عجوز قذر" و " البريدي Le postier و"الحب كلب من جهنم" الديوان الشعري المتميز لشارل بوكوفسكي كما سنوضح . سيعود لبعض توازنه، سيكتب بين 20 و30 قصيدة في الأسبوع رفقة Linda التي سيجد معها بعض الاستقرار .
حين ينهي روايتهWomen يكتب ساخرا :" كان عمري خمسون ولم أنم مع امرأة منذ 40 سنة "سيطبع من الرواية السيرة 12 ألف نسخة مع نشر آخر لها في أستراليا، يسافر بوكوفسكي مع ليندا إلى ألمانيا ويستقبل كنجم كبير ، يسافر لفرنسا ويخلق فضيحة " فواصل عليا " Apostrophe يخزج ماركو فريري شريطا سينمائيا لرواية بوكوفسكي : " يوميات الحمق العادي" وفي السنة نفسها سيصدر ديوانا شعريا " مذكرات تافة " أو "مذكرات شخص لا أهمية له" .
وبعد ذلك سيركب العجوز "بوك" الميرسيديس للذهاب إلى سباق الخيل هوايته المفضلة، يشرب خمرا غاليا، ويتخذ مكتبا خاصا به ، وبعدها ستتحول الكثير من أعماله إلى أفلام سينمائية، وستخصص أدوار لشخصية هذا المتمرد. يتزوج بليندا بعد 9 سنوات من التعارف ،وسينريوهات خاصة للسينما يشرف عليها بنفسه ستلاقي نجاحا عالميا. سنة 1989 سيتوقف بوكوفسكي مؤقتا عن الشرب بسبب إصابته بمرض السل وسيقل نشاطه في الإنتاج الأدبي. وفي مارس من سنة 1994 سينطفئ جسد بوكوفسكي عن سن 73 سنة بسان بيدرو بكاليفورنيا تاركا على قبره شاهدا معروفا يقول: " لا تحاول "try D'ont ( N'essaie pas ).
وتاركا على شاهد القبر قفازتي ملاكمة . عنف في الحياة وفي الممات ولا تحاول فالحياة معترك يلزمه قفازات ملاكم صلب . نهاية ألم ولكن ما يتبقى هو هذا الأدب الممتع الذي يخلفه الشعراء مهما اختلفنا أو اتفقنا معهم فيما خلفوه.
هذه باختصار سيرة هذا المتمرد الذي سترتبط الكتابة عنده بالحياة كليا كما سنرى. وهذا باختصار ما يتعلق بالعم بوك سيد المهمشين سيد الضالين، وغاوي النبيذ والجعة والنساء والدعارة، السكير والمجنون الذي لا يصحو إلا ليشرب، المتمرد على كل حرف، والوقح الوسخ القذر الذي قد يعجز كل نعت قبيح عن وصفه. ولكنه شاعر في كل تفاصيل جسده . في كل حمق منه تجد قطرة شعر، مستهوي الشباب المتمرد على الحضارة الغربية، وجد فيه الشباب الفرنسي والأوربي ملاذه لكونه شكل تعويضا عن الخط المستقيم الذي رسمته الآلة بعبث من الذات والوجود والحقيقة. عوض الرقمي بالأهبل، والمنطقي بالجنوني، والسريع جدا في اليومي إلى الأسرع في المتخيل المكتوب والمكبوت أيضا. ويكفي أن نسوق هاته الحادثة المروعة لنبين من هو هذا الشاعر قبل أن نوضح العلاقة بينه وبين شعرنا الحديث ومدى تأثيره على هذا الشعر .
قضية فواصل عليا: Apostrophes
ليس هناك برنامج تلفزي ثقافي فرنسي جاد عمر أكثر من برنامج: Apostrophes ( 1975-1990 ) لصاحبه برنار بيفو المشهور بأشهر البرامج الأدبية على قناة فرانس 2 بدءا ب :افتح المزدوجتين " Ouvrez les guillemets " (1973-1974) مرورا ب Apostrophes وصولا إلى حساء الثقافة Bouillon de culture ( 1990 – إلى 2001 ) .
برنامج فواصل عليا هو برنامج ثقافي تلفزي يشد أنظار الجمهور الفرنسي، جدي يناقش قضايا جادة ترتبط بالأدب، بالمجتمع، بالكتابة، بالسياسة الثقافية، بالشعر ،بالثقافة باختصار. يستضيف شخصا أو أشخاصا يناقش كتابا أو كتبا ترسخ قيم الكتابة والقراءة .
في الثاني والعشرين من شهر شتنبر 1978 سيستضيف " برنار بيفو" للأستوديو من أجل تصوير برنامجه الشهير كاتبا مشهورا في أمريكا الشمالية ، وسريع الانتشار في دول أخرى. ستهيأ الكاميرات الفخمة، ستسلط الأضواء في كل اتجاه، سينزل شارل بوكوفسكي لقاعة المكياج لتلقي المساحيق المضادة للضوء. صعود في مقدمة المدعوين يقول عنه شارل الذي كان يضع آلة للترجمة على أذنيه وهو يتململ لكل جهة: "ها ها ها أوضع دائما في وضع صعب علي تقبله، ولكن يالها من مباهاة، كان كثيرا علي تحمل ذلك، الكثير من المباهاة الأدبية، لا أتحمل هذا، كان علي أن أعرف ذلك، كنت أظن أن حواجز اللغات ستجعل الأمور أكثر سهولة ولكن كان كل شيء مهيأ سلفا، الأسئلة كانت أدبية مصفاة، كان الهواء صعب التنفس ولا تستطيع الشعور بأية طيبوبة، كان هناك فقط أناس يجلسون نشكل دائري يتحدثون فيما بينهم عن كتبهم كان الأمر فظيعا ...صرت مجنونا " .
كعادته وأكثر قليلا يتناول بوكوفسكي الكثير من الخمر قبل الصعود إلى منصة تصوير البرنامج سيدخن بشراهة وسيصعد رفقة قنينته إلى أستوديو "بيفو" يقول رافاييل سوران عن الحدث الفضيحة في مقدمة ترجمة " الحب كلب من جهنم " أثناء دعوته لبرنامج تلفزيوني رفقة مهتمين آخرين مثل: كافانا والدكتور فردير سيشرب بوكوفسكي قنينة من الخمر الأبيض مباشرة في بث مباشر. سيزعج الروائية "كاترين بايزان " حين وضع يده على مؤخرتها ،وسيسب كل الناس . برنار بيفو مستاءا سيخرجه من منطقة التصوير لم يسبق لنا أن شاهدنا مثل هذا في برنامج تلفزي محترم. الحدث سينشر على الصفحات الأولى من الجرائد ويمتد الأمر إلى غاية نيويورك والسينمائي الإيطالي ماركو فريري يصور ذلك من خلال حكايات الحمق العادي مسندا دور شخصية بوكوفسكي ل:Ben Gazzara . الحدث/ الفوضى لن يمنع كتابا كبارا مثل فيليب سوليريس وألفوس بودار من التعرف على عبقرية شخصية لا مثيل لها .
أكثر من هذا لقد تسلل بوكوفسكي من منطقة التصوير متوجها صوب حراس الأستوديو المسلحين برشاشات نارية مخرجا خنجره الذي كان يلازمه دائما متوجها صوب أحدهم، وحين تدخلت ليندا مسرعة لمنعه من ارتكاب حماقة من حماقاته ، رد بوك عليها قائلا: إنني أمزح فقط لدي قلب رهيف فردت ليندا: ولكنهم لا يمزحون. بعد ذلك رمى الحراس ببوكوفسكي خارج الأستوديو، وهنا سيحاول بيرنار بيفو ترميم العطب المباشر الحاصل في البرنامج الجاد قائلا : سيداتي وسادتي ألا ترون أن أمريكا في حالة يرثى لها .
سيتعرف الفرنسيون أكثر على بوكوفسكي من خلال هذا الحدث ، فليس سهلا أن يتقيأ شاعر كبير مباشرة في صالون أدبي راق جاد يناقش قضايا أدبية منظمة .
L’amour est un chien da l’enfer p : 11
حين خرج بوكوفسكي متجها إلى نيس شرب مع شباب متسكعين وحين جلس إلى المقهى حياه الكثير من الناس . شهرة أخرى ستؤدي إلى ترجمات أخرى إلى الفرنسية وتعرف أكثر على الشاعر الكاتب المرتبط في كل قطرة من كتابته بحياته الجزئية في أدق التفاصيل، ومن هنا ارتبطت تجربة الكتابة لديه بتجربة الحياة بلا انفصال.
الشاعر وتجربة الكتابة
لقد ظل الشعر عبر تاريخه مرتبطا بالتجربة من ناحيتين: تجربة الحياة والمعاناة اليومية الجسدية المادية الواقعية التي اكتوى بها الشاعر، وتجربة التجاوز أي تجاوزها بأدوات أهمها اللغة والتخييل والتخيل. فمنذ القديم طرحت مسألة الصدق والصدق الفني والكذب الشعري، وصدق وعدم صدق المعاناة. وفي الشعر كما في كل عملية إبداعية يأتي الخلق اللغوي من شيء مادي ومن معاناة تخص الشخص وحياته . أَلَمٌ يسعى الناس لتجاوزه بالتعبيرعنه كل بطريقته الخاصة قصد التجاوز .تجاوز اللغة بالتخييل، وتجاوز العادي بالتأويل حتى وإن كانت الكتابة تبدو سهلة واضحة كما هو شأن بوكوفسكي. فالشعر الصوفي سيرتبط بالتجربة الصوفية، والشعر السريالي سيرتبط بالتجربة السريالية، والشعر الرومانسي سيرتبط بالرؤية الرومانسية، وكذا شعر الهايكو وهكذا .
في العصر الحديث أصبح الحديث عن الشعر المرتبط بالشاعر كذات وجسد مسألة لها قيمة أكثر من غيرها ومن تم نفهم دفاع الغرب عن شاعر مثل بوكوفسكي ودفاع المثقفين الأمريكيين عن جماعة شعراء الغضب و هي جماعة دخلت الممنوع من بابه الواسع وطبقته على نفسها أولا جسديا ومن هنا اكتسبت قيمتها.
بوكوفسكي وشعراء جيل الغضب الأمريكي :
جماعة نشأت بين سنة 1943 و1944 نتيجة لقاء ثلاثة كتاب أمريكيين هم " Jack Kerouacجاك كيرواك (1922 - 1969 ) ، Allen Ginsbergألن جينسبورك( 1926 -1997 ) ، Willims Burroughsويليام بيروكس( 1914 -1997) . جماعة المهمشين الغاضبين الرافضين المتسكعين حياة وكتابة في مواجهة للعصر وللمجتمع الأمريكي المصنع والمصطنع. الكحول والشرب والخمر والتدخين والمرأة تعويضا عن الإحباط هو شعار الجماعة. وكلمة Beat: تعني في الأصل المسافر سرا دون تذكرة على قطار السلع وقد أصبح يعني العبور غير الآمن للحياة .وأن تكون من جماعة : Les Beat يعني أن تكون غير آمن . ستنتشر الجماعة وتلاقي أنصارا منذ نشر أول عمل لكيرواك : "على الطريق " صاحب الشعر الطويل والأرجل الحافية. ورد فعل آخر ضد العصر سيولد متمردين آخرين مثل ألن جنسبورغ صديق كيرواك شاعر العصر بامتياز جهنمي سيكون ديوان صراخ (Houl ) أو صرخة أو صيحة سنة 1956 جالبا للمتاعب في مجتمع أمريكي يعتبر كل مبالغة أمرا يعود للفوضويين أو للشيوعيين .يعتبر جونسبورغ عراب جماعة كتاب الغضب الأمريكيين المدافع عن حقوق المخنتين والشواذ والمهمشين، والمعارض بشدة لحرب الفيتنام. شاعر يدعو لتعويض الحرب بالحب ويناصر حرية الحق في الاختلاف إلى حدود الفوضى عوض النظام المصطنع .
أما " ويليام بيروكس " فيعرف بكتابه " جوكي" Juky الذي يحكي فيه تجربته في نيويورك بعد مشاركته في حرب إيرلندا والمكسيك. شاعر ينتصر للحشيش والحشاشين بإزعاج وفوضى ويناصر المهمشين أيضا.
من هنا يمكن اعتبار شارل بوكوفسكي واحدا من شعراء جيل الكتابة الجديدة والجيل الغاضب في الأدب الأمريكي وكأنه الجيل الثاني لهم لتشابه كتابته بكتابتهم، وفوضاه بفوضاهم، والتصاق تجربة الحياة عنده بالكتابة كما هو شأنهم .
في التشابه :
من منا لا يحمل قسطا بوكوفسكيا في داخله ؟ من منا – وأقصد الشعراء - لم يفكر يوما أن يخرج عاريا في عراء ما، فارغا في فراغ ما، متحللا من كل المعايير التي وضعها الإنسان فكبلت عقله وقلبه، وضغطت على آلته التي هي لغته، فحولتها إلى أداة عجز عوض أن تكون أداة بيان, اللغة معضلة تحمل ازدواجيتها من ناحيتين : من ناحية اللسان ومن ناحية طبيعية هذا اللسان. وحين تعجز اللغة في طبيعتها عن التعبير والإبلاغ والإفصاح، تصير الترجمة أصعب وتمثل ازدواجية عدم الإبلاغ بشكل أكثر عسرا . حين تعجز اللغة المفعولة عن التواصل فلا مناص من اللجوء إلى اللغة الفاعلة وهذا بالضبط ما استطاع الكثير من الناس القيام به بحكم مؤثرات وتأثيرات قد يستطيع علم الجينات الذي نبشر بفتحه العظيم هذه الأيام أن يكشف عن مقدار الصواب والخطأ فيه إذا كان سيبقى لهاته الثنائية (الصواب/الخطأ) من نصيب فيما يأتي من الأيام.
لغتي لا تشهيني لأنها مفعولة موضوعة من طرف آخرين، أختار منها ما يلائمني، وأقول ببعضها ما ينبغي قوله دون أن أمس بقداستها، دون أن أخدش حياء الناس والعصر والمنبر والبقية أكثر ولذا فهي لا تشبهني بما أنني شاعر بها وبمحدوديتها . في اللغة الفاعلة يتحول النقيض إلى نقيض، وتتم تعرية المستور والدخول في عوالم الممنوع في الذات، في الجسد ، في المتخيل في تفاصيل اليومي والهامش خاصة. حذار أن تبتعد عن الحدود، سيضطر حكام لعبة اللغة - ولعبة اللغة تشبه لعبة كرة القدم- سيضطرون لإخراجك من الملعب، رغم كونهم سيكونون أول من سيقرؤك في مخادع النوم على فراش العشيقات لا الزوجات الشرعيات .
اللغة المفعولة أداة تناقض في الشعر، واللغة الفاعلة أداة للتمرد الذي بدونه لا يمكن لأي تقدم شعري أن يتم. عشني أساعدك على الكتابة. جربني في تفاصيل حياتك اليومية أكن طوع بنانك، تقول اللغة الفاعلة. وهي فاعلة تنتمي إلى فاعل تتفاوت درجة فعله حسب معايير المنع والسماح.
حين يشبه الشاعر لغته يتقدم صفا، ويقود قافلة إذا اتبعت طريقه الخطوات بنفسها حولت لغته من الفاعل إلى المفعول لتبتدئ الحكاية مع آخر وهكذا . في كل عصر يوجد شعراء وكتاب يحولون الاتجاه من المفعول إلى الفاعل، لا حاجة للتأكيد على التاريخ فهو يحمل أسماء عصره بأسماء شعرائه، بتمردهم على الذات واللغة والفكر. نشير إلى الفواعل المعروفين للتمثيل فقط : المتنبي – أبو نواس – عمر بن أبي ربيعة – الحلاج – ابن عربي – السياب – أنسي الحاج – أدونيس -.محمد زفزاف- محمد شكري .. من العرب . القائمة طويلة في الغرب تحتاج إلى تفصيل أكثر قد نعود له في مكان آخر نذكر فقط للتمثيل : اندري بروتون – نيتشه – أنطوان أرتوا – جان جوني - أرتور رامبوا – هاينر ميلر – النمساوي .طوماس برنهارت....) ونذكر خاصة شارل بوكوفسكي .
قدني إلى العراء وخلصني من هذه المباهاة التافهة واملأ كأسا قبل أن تفرغ الأخرى، أشعل سيجارة بعقب أخرى إلى ما لا نهاية ودع القول يقول ما يريد دون رقيب. لا تختر عناوينك ولكن اتركها تختارك. أقرأ وانس ما قرأت قبل أن تبدأ الكتابة فالمهم هو لحظة الفراغ لا لحظة الامتلاء إذ لا امتلاء إلا في الفراغ، وبالفراغ، ومن الفراغ. أنت لا تشبه أحدا إلا ذاتك، ورغم ذلك غير شبيهك باستمرار لتكون أنت. وصايا لا تحتاج إلى تثبيت في القاموس البوكوفسكي وما عليك إلا أن تكون أنت في الواقع بما أنك ستعجز - مهما حاولت - أن تكون أنت هو أنت في الكتابة.
نبتة الجنون التي تشكل نواة أولى لدى كبار الشعراء ستتحول إلى لغتهم، وتنعكس على أسلوبهم في التعامل مع الأشياء داخل هذا الكائن الذي هو اللغة . ولذا لا عجب إذا وجدنا لغة هؤلاء مقلقة مزعجة بما أنها خارجة عن المألوف .
ما هي الحدود الفاصلة بين الشاعر وشعره ؟ ما مقدار الحرية التي يستطيع الشاعر منحها لنفسه في الحياة اليومية ؟ في المتخيل؟ في الشعر ؟ لم يضطر الشاعر الحديث إلى التورية والتقية في تخيله ؟ العصر، الناس، الآخرون: الجحيميون والنعيميون والذاتيون يحيطون بك وأنت تخطط في الذهن، في الذات، في الذاكرة لشيء ما، وتلاحقك صلوات اللعنة لا الغفران الآن. فلم لم يحاصر عصر أبي نواس أبا نواس؟ هذا العالم الفقيه الشاعر. ألأنه كان كذلك عالما متمكنا أم أن السلطة : سلطة المؤسسة الأدبية التي كانت هي نفسها السلطة السياسية، كانت تريده كذلك . فما الذي يحدث الآن ؟ أي سديم ينتظرك أيها الشاعر اللعين المحاط بكل لعنات الأرض وأنت تبحث عن قطرة ضوء في ليل شديد السواد فقل ولو على عتبات العصر الآسن فما قولك إلا الشعر الذي ما هو إلا تخييل في تخييل بما أن العالم كله ليس سوى تخييل.كما يقول الشيخ . هلوسات الشعراء مزعجة أحيانا، مريحة في أحيان أخرى. وكل عصر يفتقد إلى مجانينه يسقط في العادية المؤدية إلى الموت والاندثار والخراب. وحده تخيلك وهروبك من العادي إلى الخارق إلى Fiction سيشكل خلاصا من هذا العصر الإلكتروني البائس. لنصح في وجه العصر الطاغي والنفس الطاغية واللغة المستعصية: إن البحث عن الخارق لا يتم بين الحدس والعقل ولكنه يتم في مكان آخر هو مكان التخيل الذي بدونه سيعم الجفاف وينتصر هذا الرقمي الهائل، هذا الانضباط الخارج عن المألوف فهذا خارق بوسائل تقنية منظمة محوسبة. الخارق أصله شعر وتخيل واستعارة...
أفضنا في الهامش ولكنه ضروري لفهم هاته التحولات،أو بوادرها في الثقافة والشعر العربيين ، تحول قد يعصف بكل شيء ولكنه قد يؤسس لخلاص شديد من هم اليومي الذي لا يمكن أن يعيش إلا بالشعر.
الشعر غواية وغواية الشباب قد تتعدى الشعر إلى فعل الشعر، إلى خلق التمرد، إلى التشبث بهذا التمرد رغم ما يحدثه من تناقضات بين الشعر والشاعر وقد يكون الشعر الأمريكي ممثلا في بوكوفسكي هو الغاوي الأكبر للجيل الجديد من الشعراء العرب ومن بينهم الشعراء المغاربة، فالتناص حاصل - وكذا التفاعل - على مستوى الفضاء العام للنصوص، وعلى مستوى عناوينها، على مستوى أشكال الكتابة من لوحات الأغلفة إلى التداخل بين البياض والسواد في هاته الكتابة .
قراءة في ديوان بوكوفسكي : الحب كلب من جهنم :
L’amour est un chien de l’enfer
Love is a dog from hell
الترجمة خيانة للنص الأصلي حين تنتقل إلى نص مترجم تصير خيانتان، فالمترجم من نص أنجليزي إلى نص فرنسي خائن للنص الأصلي والمترجم للنص الفرنسي إلى العربي خائن مرتين، يخون النص المترجم والنص الأصلي. إذا أضفنا الجنس ونوع النص المترجم صارت المعضلة أكبر حين يتعلق الأمر بالشعر. فالشعر يعتمد أداة أساسية هي اللغة بها ومنها يتم الانطلاق للتحليل .فما العمل مع نص خاص كنص بوكوفسكي ؟ لنخض في مقاربة هذا الديوان استنادا إلى ترجمته الفرنسية، مع الرجوع في نصوص أخرى إلى الأصل الأمريكي الذي توفر لدينا ، مغفلين إلى حد ما التشاكل الصوتي وما يرتبط به من موسيقى وإيقاع وتناغم للحروف ، لكونه غير ذي أهمية في النص المترجم ، ولكن خاصة لكونه يعتبر ثانويا بالنسبة لكتابة بوكوفسكي كلها .
مقاربة لعالم بوكوفسكي من خلال الديوان
سيقربنا هذا الديوان من أجواء بوكوفسكي المنتشرة في سرده رواية وقصة .والديوان صادر عن منشورات : Bernard Grasset بيرنار كراسي بباريس سنة1989، وهو كتاب صدر في الأصل سنة1977 . ترجمه عن الأمريكية Gerard Guégun وقدم له Rafhaél Sorin ، ينقسم الديوان في جزئه الأول إلى قسمين كبيرين :
الأول بعنوان : "مرة أخرى مخلوقة تجعل نفسها مريضة بالحب " والثاني: "أنا وهذه العجوز : الاكتئاب "
يتضمن القسم الأول : 36 نصا ، ويتضمن الثاني: 50 نصا
الجزء الثاني سيضم القسمين الثالث والرابع وهما على التوالي : Scarlet ، و"معزوفات قديمة عالقة بأقصى عقلنا" يشمل القسم الثالث 19 قصيدة ، ويضم الرابع 55 نصا شعريا وبه قصيدة العنوان : الحب كلب من جهنم .
عناوين مثيرة :
الملاحظة البارزة الأولى في كتابة بوكوفسكي هي تركيزه على العنوان كلافتة صادمة، بحيث تكاد هذه العناوين تشكل لوحدها مدخلا للانبهار والاختلاف والإثارة والتمرد . فمن بين 36 عنوانا المشكلة للقسم الأول نلاحظ قاموسا ينتمي ل : المرأة – الجنس – الذات وكل ما يربط بها:من بين العناوين نذكر :ساندرا – أنت – اجعلوا في حالة استيقاظ مؤخرتكم ورأسكم وقلبكم – نكاح- أنا ... بالإضافة إلى : كلب – حظ – جنسي – أفكر في موتي الشخصي – مصيدة ...إلخ.
ومن عناوين الجزء الثاني : قاتلة – العهد – نظارات سوداء – التغوط – آه – لدي أيضا قطعا من الغائط على تباني – حمق – جعة – قلق .
ستشكل بعض العناوين قصائد لوحدها مثل : "كثيرا ما رأيت متسكعين جالسين تحت قنطرة ويعاقرون خمرا رديئا " ( ص 18 ) أو: " قصيدة من أجل امرأة عجوز ذات أسنان متآكلة".( ص 79 ) . صيغة التهكم حاصلة في كل كتابة بوكوفسكي انطلاقا من عناوينه أيضا: كيف تصير كاتبا كبيرا:(ص112) ، شوبان بوكوفسكي (ص 124) ، ذات مرة وضعت امرأة رأسها داخل فرن ( ص 162).
غلاف الديوان أحمر قاني دموي في جزأيه مخطط بإطار أسود ومكتوب بالأبيض صادر عن سلسلة الدفاتر الحمراء وكل السلسلة لها اللون نفسه . تتوسط أسفل الجزء الأول صورة صغيرة لكائن ممسوخ أو بالأحرى لأحد أعضائه إشارة لكائنات الشاعر المريضة بالحب . وتتوسط الجزء الثاني صورة كعب عال لامرأة من كائنات الشاعر ونقرأ منذ القصيدة الأولى في الجزء الثاني والتي تحمل عنوان : scarlet
أنا سعيد حينما يقدمن
أنا سعيد حينما يذهبن
أنا سعيد حينما أسمع وقع حذائهن
يتجرجر أمام بابي
وأنا سعيد حينما تبتعد هذه الأحذية نفسها ( ص 11 )
قراءة العنوان : الحب كلب من جهنم
الحب كلب من جهنم . لم هاته العلاقة الكلبية بين الحب وجهنم؟ هل هو الدفء؟ هل هو النار؟ هل هو الاشتعال؟ بين الحب وجهنم علاقة حميمية مرده الاحتراق في كليهما، إلا أن إضافة كلب ستغير المعادلة. الكلب القادم من جهنم هو غير كلب الدنيا, والكلب رمزيا يختلف حسب كل مجتمع وعرف، وحسب كل عصر. لقد كان الكلب الدنيوي مثال امتعاض ومثار وفاء في الوقت نفسه عبر تاريخه إلى الآن، وهو يختلف حسب لونه فشر الكلاب الأسود، إلا أنه سيتحول إلى أداة تعويض في الزمن الانكساري والانفرادي الغربي والأمريكي. سيصير كما كان في الأصل صديقا للمرأة بدلالة جنسيته، وهو حبها لكونه قادم من جهنم .
كيف يمكن للحب أن يأتي من جهنم ؟ العنوان هو جامع لكل الديوان . فالحب من وجهة نظر الكاتب الشاعر هو الحب الجنسي في أقصى حالته، ولذلك فهو يتخذ لهاث كلب حار قادم من جهنم، وفي تفاصيل العناوين الفرعية للديوان يظهر هذا إذ سنجد عناوين دالة على الحب مثل: (ساندرا – أنت – من أشدهن حرارة – مشاكل خاصة بامرأة - قاتلة - ) كما نجد عناوين تشير إلى الجنس بشكل مباشر مثل : ( نكاح - سرير آخر – ثقبة – أحمر في الأعلى وفي الأسفل ) وعناوين أخرى تدل على الكلب مثل : كلب ، والعنوان الجامع : الحب كلب من جهنم .
الكلب حارس الكهف وحارس جهنم يرتبط بالجسد والجنس، فالرمز المركب والمعقد للكلب منذ الوهلة الأولى يرتبط بالثلاثيةtrilogie ) الثلاثية العناصر: الأرض – الماء – القمر – والتي نعرف دلالتها المرتبطة: بالسر والخفاء والتي تحمل الدلالات المعروفة:: خفي – مستور occulte ، بالأنثى في ارتباطها بالإنبات والخصب والجنس والتنجيم والسحر والعرافة أنثى أساسية ممزوجة بين مفهوم اللاوعي و subconcient جهاز إنباتي végétatif . ويرتبط بالعالم السفلي ومصاحبة الموتى، وبحراسة جهنم .
الرغبة، اللذة ، الخوف، النار، النسيان ، الاشتعال، الظلمة، الجنس، المرأة . دلالات مترابطة فيما بينها. الكلب من فصيلة الذئاب وهو صلة وصل بين عالم وآخر بين الهنا والهناك بين الحاضر والآتي، بين الواقعي والمتخيل بين الحياة والموت وحين يعود من جهنم فكأنما ليصاحب كل فرد من هنا إلى هناك بما أنه حارس دفئ جهنم الحار . وهو بالنسبة للشاعر أكثر من هذا، هو صنو المرأة التي تشبه الملائكة في مفترق طرق يقول بوكوفسكي : الكلاب والملائكة لا يختلفان كثيرا (ص196). الكلب يعير وجهه لسيده ولذا لا يختلف عنه، ومن ثم يزور جهنم, والكلب النباح هو كلب جائع جنسيا حسب الأساطير القديمة وهو يظهر في القمر مع الحيوانات المنتمية للفصيلة النارية والنووية مثل الذئب والثعلب ... هنود أمريكا يرجعون أصل الإنسان لعلاقات سرية بين امرأة وكلب . ثم إن الكلب حسب حضارة النيل العليا قد سرق النار من الثعبان في قوس قزح لينقلبها إلى ذيله وليتلقفها الإنسان حين أحرقت ذيله هذا وهو يفر مذعورا منها .
3 Dictionnaire des s p 197
ويظل ارتباط الكلب بالجنس والنار السمة البارزة عند كل الثقافات والحضارات، ففي بريطانيا الجديدة أن جماعة من الذكور كانت تعرف وحدها سر النار بالمحاكاة، سيلاحظ كلب ذلك وينقل اكتشافه للنساء بالطريقة التالية : سيمشط ذيله الملون بلون مجتمع الرجال ويأتي، سيحك قطعة من الخشب كانت تجلس عليها امرأة إلى أن تشتعل النار، هنا ستجهش المرأة بالبكاء وتقول للكلب : لقد سلبت شرفي، الآن عليك أن تتزوجني الكلب يمثل الشمس السوداء في معتقدات أخرى، ويمثل المنقذ والبطل والحب كلب من جهنم يقود إليها بسلام وبحرارة ترتبط بالكشف الأول عن سر النار من مجتمع الرجال وتقديمه بطريقة خاصة للإنات ، وحين ينكشف المستور يصير الكلب لصيقا بالمرأة والحب ولهذا السبب ربما تتخذ نساء الغرب ونساء أمريكا الشمالية الكلب أنيسا ورفيقا أكثر من الرجال. إنها دلالة الجنس الممتزج برؤية الشاعر للعالم والأشياء في ارتباط باليومي وعبوره باعتبار اليومي هو العابر الذي يعبر الذات ويعبر عنها، وباعتباره إقامة مؤقتة تلتمس خلودها بالتدوين ، بالكتابة، بالشعر الذي سيصير ديوانا وروايته وشريطا سينمائيا ، إنه الحب كلب من جهنم .
الدلالة المزدوجة للعنوان سنجدها متشتتة في كتابة بوكوفسكي في ديوانه : الحب كلب من جهنم بحيث سنجد مجموعة قصائد عن الكلب وتحمل عناوينها لفظ الكلب وسنجد مجموعة أخرى من النصوص وهي الغالبة تحل لفظ حب أو الحب، وسنجد إشارات وإحالات لجهنم والرابط بينهما هو الجنس كما في الأسطورة وهذا يبرز أن شارل بوكوفسكي قارئ جيد قد ينسى ما يقرؤه ليكتبه من جديد .وبما أنه شاعر تجربة تلتصق عنده الكتابة باليومي العابر للذات والمقيم فيها، فيكاد يكون كل ما تقرؤه له شعرا ورواية هو تسجيل للحظات العيش الذاتي بدقة متناهية. فسيختار اللغة العادية ظاهريا، وسيختار المجانية في الخطاب الشعري، وسيختار التعرية والكشف عن المستور في خبايا الذات حسب رأيه للبوح عن محرمات مثل الجنس والشراب والتدخين.
4 ا نفسه
5 نفسه 199
6 نفسه ص 198
اختيار الكلب والحب وجهنم يعود رغم دلك لمتخيل قديم بما أن الكلب هو عدو تحول إلى صديق لتحوله من جوهر السباع . الكلب الحامل لذيل بمشتعل هو كلب ناري لا نوري، حار ، ملتهب يقذف شرره في كل منطقة منها، ولكنه مسكين أيضا يسعى للتخلص من ذيله المحترق هذا بتسليمه للإنسان الذي سيتياد به ذكورته وأنوثته لينشأ الحب .تاريخ الحب هو تاريخ فرار من الاشتعال، من اكتشاف الاشتعال ، من الهروب من سيطرة الرجل إلى مشاركة المرأة في هاته السيطرة. إنه الحب على الطريقة البوكوفسكية الذي هو الكلب المعبر رمزيا في كل الثقافات على الجنس بما أنه واسطة بين امرأة انتهك عرضها كلب مخلص هو الذئب، هو الإنسان حسب الأسطورة ،حسب الشعر، حسب الغواية التابعة الأبدية للشعر . بعض نصوص الديوان تشير إلى الكلب المعاصر العادي، هذا الكائن (المواطن) الذي يتواجد إلى جانب الإنسان، والذي له حقوق في الغرب أهم من حقوق الإنسان في العالم الثالث..
قصيدة كلب (ص 153) من الجزء الأول نص قصير هذه ترجمة نسبية نقترحها له:
كلب
يسير بلا توقف وحيدا على رصيف ملتهب
في شهر غشت
وكأنه تلقى قوة عشرة آلاف إله
لماذا تكون الأمور على هذا الشكل ؟
نص آخر في الديوان يشير إلى الكلب هو : قصيدة شتاء ( ص 97 ،ج 1 )
كلب جريح
صدمته سيارة، يتجرجر
نحو الرصيف
عاو للموت
وأمام دم كثير
يسيل من فمه ومن مؤخرته
ترتعدون
لا أكاد أصدق ما تراه عيني
غير أنني أستمر في الركض
وكما لو أنني سأنزل لأسعفه،
لأسعف هذا المحتضر على أركاديا
على الرصيف
ودمه سيسح في كل مكان
مبللا قميصي
سروالي وتباني
حذائي وجواربي
غير أن هذا مجرد طيف
خصوصا أنني أفكر في الرقم 2
في السباق الأول
وأحاول أن أتخيل ما سيعطيه مركبا مع الرقم 9
في السباق الثاني. إنه يوم
سيجلب لي
140 دولارا
فأترك هذا الكلب المحتضر لوحدته
قبالة
المركز التجاري
حيث السيدات الأنيقات
تتسلين بالتفاوض حول الأسعار
بينما تبدأ حبات الثلج الأولى
تتساقط على سيرا مادري .
هل هناك تشابه بين وضعية الشاعر ووضعية الكلب ؟ ربما . تبدو السخرية واضحة في هذا النوع من الشعر، وهي سمة أساسية من سمات قصيدة النثر والقصيدة الجديدة، ولكن يبدو معها الحزن العميق هنا على كلب مسكين، كان مخلصا وقائدا الإنسان نحو اكتشاف النار فالنور، وهو يتحول ‘إلى كائن مريض محتاج للعناية والاحتضان في لحظات الاختصار.
هي عملية مقصودة يقولها بات بمجانية، ونعمد نحن كمتلقين إلى التأويل. فالكلب الحارس سيتحول إلى محروس، والحب القادم من جهنم سيموت على أرصفة الدنيا باحثا عن مكان دافئ للحضانة ، للحب الذي يعز الحصول عليه في الزمن الرقمي المنظم والمعقد . نماذج بوكوفسكي في هذا الاتجاه كثيرة لا يكاد يخلو منها نص، ولعل نص كيف تصير كاتبا كبيرا (ص 112،ج 1 )- وهو من أطول النصوص - هو قمة السخرية والتمرد، وهو بمثابة بيان حياة، وبيان كتابة، وبيان موقف. هو دعوة لتعويض ماديات الدولار بماديات الجسد .يقول بوكوفسكي في هذا المقطع المثير للانتباه الذي يأتي في منتصف القصيدة :
وتذكروا الكلاب الهرمة
التي صارعت جيدا
هيمنجواى ، سيلين ، دوستويفسكي ، هاسمن
هذا الوصف للكاتب بالكلب ليس سبة بقدر ما هو تركيز لأسطورة الكلب الملاحق للإنسان في حياته ومماته، لتجربة ألمه ومعاناته، خاصة إذا كان كاتبا كبيرا أو مشهورا .
ذيل مشتعل :
رحلة الوقت ورحلة المكان يقودها كلب جهنمي قادم من جهنم يقذف النار بذيله المشتعل ويسلمها للإنسان للشاعر الذي يغرسها بكل أعضائه وبأدقها خاصة في جسد المرأة والأشياء، في أمكنة مغلقة، كلما خرج منها الشاعر رجع إلى شرفة بيته أو نوافذه متلذذا ومتألما من نار الأشياء المرتبطة باتصالات هاتفية تقول : ألو : هل هذا رقم الكاتب شارل بوكوفسكي .
الداخل لعالم هذا المارد يصاب بالإرهاق وهو يتتبع حالات نسائه وخمره وجمره وناره الملتصقة بكلبه المريض تارة، البطل أخرى. في ظلمة الأشياء والأحشاء يبوح غاضبا مع جيل الغضب الأمريكي ، بحريته التي لا تعرف للممنوع حدا، وإذا ما عرفت الممنوع، عولمت العالم المادي والافتراضي برؤى لا يسلم من نارها أحد، لأنها كلما اقتربت من نهاية ما خطت بداية جديدة، وما يخلق توازنها هو شعر من قبيل المتمرد الأكبر شارل بوكوفسكي .
اليومي العابر
حين نتحدث عن اليومي يحضر الهامش والعادي، ويحضر المستور والعاري، وتحضر إثارة ما لا ينبغي إثارته. فهل يتعارض اليومي والحديث عنه مع التخيل الذي هو ركيزة من ركائز الشعر ؟ بلاغة اليومي وبلاغة التعبير عنه بلغة تنتمي لهذا اليومي كيف تتم ؟ لن نبحث هنا عن تشاكل بما أننا نخوض في خيانة نص أصلي مرتين مرة بترجمته من الأنجليزية إلى الفرنسة ومرة ثانية بترجمته من الفرنسية إلى العربية. لنخض إذن في مقاربة لفضاءات هاته النصوص من حيث طريقة التعبير عنها ولو بلغة مترجمة. سنخوض في أشكال التعبير المستعملة ثم في ارتباطها بالشخص أي بالتجربة بما أن هذا النوع من الشعر هو شعر التجربة أساسا.
المرأة بصيغة أخرى:
ترتبط المرأة في كتابة بوكوفسكي " بالنارية المبالغة في كل شيء . يقول في قصيدة " ساندرا ":
إنها تفعل كل شيء بإفراط
تنتعل
تتخدر
ترتمي في الهواء ( تفسق ) ( ص 11 )
ويقول في : " موت رجل طوله متر وأكثر من ثمانون سنتمترا " :
إنها متوحشة ولكنها رقيقة " (ص:16)
والمرأة فوق ذلك بالنسبة له أكثر من وسيلة للمتعة والجنس، لأنها هي نفسها تبحث عن ذلك يقول :
" تفكر دائما في الجنس ويتبعها هذا التفكير في كل مكان " ( ص 20) أو " واحدة من أكثرهن حرارة (ص:26) .
الظلمة والبوح
حالات الشرب والجنس والتدخين، أجواء ضبابية لا تحيل بينك وبين رؤيا هذا المتمرد على الذات والآخر للعصر وللآخرين وعلى توقعات عولمة آتية لعل قصيدة توضح بعضا مما نقول فيها يصور الشاعر عوالم المتمرد وهو يتناول شرابا أبيض في الرابعة والنصف صباحا مع سيدة تفعل كل شيء، ويصور هو هذا " الكل شئ" بطريقة لا مجال فيها للممنوع. امرأة وطفلتها وشاشة التلفزيون، ومغادرة البيت على الساعة السادسة وخمسة عشرة دقيقة حتى لا تستيقظ الفتاة وترى الغريب في سرير الأم. كل القصائد هي تجارب صغيرة لحياة كبيرة لمتمرد أكبر لا يهمه من اللغة سوى ما يراه منها مباشرة، ولكن بصدق يلتصق باللحم والعظم .
حالة الشعر هي حالة غربة لا يعوضها سوى الجنس والشرب وعند بوكوفسكي لا يعوضها أكثر سوى البوح بكل التفاصيل ولا يهم المتلقي بما أنه يرى جزءا من ذاته في هذا التعبير.
" الليلة التي ضاجعت فيها ساعة المنبه الصباحي" نص قصير مفعم بسخرية مرة، ولكن بحزن عميق لرجل يراقب من نافذة مطبخه في الطابق الثالث، مطبخ الجيران في الطابق الثاني ورجل وامرأة يتعانقان ويقبل أحدهما الآخر، وتخالهما في حالة عطش دائم والواقف ينظر بتلذذ، وحين يعود إلى فراشه لا يجد سوى ساعة المنبه يضعها معه في السرير وتحدث البقية المعروفة . هل هي مضاجعة للوقت الخائب؟ هل هي سخرية من آلة الوقت المتحكمة صباحا ؟ هل هو تنبيه لتنبيه؟ الوقت ليس هو ما أنت فيه حسب الصوفية ولكن لما هو فيك بوكفسكيا ؟
حين خرج الرجل - الذي هو الشاعر هنا حقيقة - جاب كل الأزقة بحثا عن جواب أو عن سؤال - لكونهما يتشابهان في فلسفته - تعب وعاد إلى البيت، إلى نفس النافذة، ولكن الضوء في المطبخ كان قد انطفأ (ص ج 1 ، 157) .
هل يحتاج شعر من هذا القبيل تأويلا ؟ هل يحتاج لقارئ من نوع خاص بما أنه يتوجه بحريته لكل القراء بلا استثناء وبلا حياء أيضا. لنزعم التأويل لهذا الشيطان الخائض في المنوعات لدى الناس ولنقرأه بطريقتنا توضيحا للملابسات التي قد لا يحتاجها صاحب فضيحة فواصل عليا.
الوقت ما أنت فيه
الوقت ما أنت فيه في تفاصيل اليومي العابر كما يرسمه بوكوفسكي، ستوقفك عدة إشارات دقيقة ترصد قيمة الزمن الوقتية. زمن ليلي في الغالب يتم فيه ما يتم من أحداث داخل غرفة مغلقة ممتدة النوافذ. زمن صغير، زمن التفاصيل " تهاتفك فيه نساء على الساعة 2 أو 3 ، أو 4 صباحا ولا ترد علي المكالمة" (ص146 ) أو"..سأراك بعد ستة أشهر وأغلقت الباب بشدة" (ص29 )ومثل : "هذا المساء " (ص39 )، لقد تحاببنا خلال 16 شهرا " (ص60) ، "هذا الشاعر الذي يشرب منذ يومين أو ثلاثة" (ص)95، "عادت بعد 5 دقائق" (ص 145) ،"الليلة التي ضاجعت فيها ساعة المنبه الصباحي" (ص 157 )، "تخلفت 15 يوما عن ميعاد تسديد واجب الكراء "(ص187) "تناول الغداء على دقات الساعة الثانية والنصف زوالا" (ص 196) "كان شرابا أبيض وكانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف صباحا غادرتها على الساعة السادسة والربع صباحا " من الجزء الأول من الديوان. في الجزء الثاني لن يخلو الكلام من الحديث عن الوقت : " وأنتظر على الساعة 3 والنصف مساء " ( ص 38 ) ، " أقدم أي شيء من أجل يد أنثى توضع علي هذا المساء" ( ص 46 ) ، أقع على الفراش على الساعة 11 " ( ص 85 ) وغيرها .
السخرية الشعرية وتجربة الكتابة عند بوكوفسكي لا تنفصل عن جزئيات الحياة لذلك يصر على تسجيلها بالأرقام الوقتية، وحين يكون وحيدا يضطر لمضاجعتها وكأنه يتهكم على الوقت من ناحية، أو كأنه يلتصق به إلى درجة الالتحام. الوقت ما أتت فيه بوكوفسكيا. والمهم هو تصوير حالات الأشياء والذات في ارتباطها بالزمن الأمريكي الذي يحلم به الآخرون، ويتهكم فيه وبه ومنه الشاعر الروائي الإنسان، وقت رقمي هو ما يجعل العم بوك يسجله رقما أيضا .
هاتف وأرقام و حضارة رقمية
إذا كان الهاتف وسيلة اتصال أساسية لعلها الأهم والمفتاح لدخول الحضارة الرقمية الحالية انطلاقا من بلد العم سام ومعه العم بوك، فإن هذه الوسيلة ،أي الهاتف، تكاد تتوسط كتابة بوكوفسكي على مستوى النصوص. هناك نصوص خاصة بالهاتف تحمل هذا العنوان مثل : "هاتف سلمي" ( ص 71) والهاتف وسيلة أساسية لضبط مواعيد نسائه . "عينك في كل وقت على الهاتف وكأن حياتك ملازمة له قالت " (ص 71) . ولكنها وسيلة للغضب والاحتجاج كذلك كما فعلت إحداهن مع الشاعر حين أغلقت الباب بعنف وهو يرد على هاتف أخرىأمامها ( ص72 ، 73 ). هناك قصيدة تحمل رقم : 4620614 لعله رقم هاتف الشاعر نص كله عن المكالمات النسائية مع هذا الرقم وتذيل في آخر النص يقول: " لهذا السبب يوجد رقم الهاتف بالدليل "، والشيء نفسه سنلاحظه في الجزء الثاني " 11و 58 " ( ص 169 ) " حوالي 5 و 35 مساء " ( ص 147 ) .
والكثير من النصوص تحمل أرقاما في كلب بوكوفسكي" 56-57-58" ( ص23 )و"513 درجة " (ص 68) " 10 دولارات " (ص 72) ، الرقم 2 والرقم 4 (ص 76)، "99 ضد 1 " (ص 200 )،" 265 كتابا "(ص 74 ). لم تكن هذه المسألة معهودة في الكتابة الشعرية باستثناء بعض الكتابات السريالية الفرنسية خاصة . ولعل مرد اهتمام بوكوفسكي بهذا الجانب يعود لعدم تركيزه على اللغة وبلاغتها بالشكل التقليدي ،وإنما الاهتمام الأكبر سيتركز على ما تحمله هذه اللغة لذا سنجده يعبر بعلامات مثل : "M.T " (ص 69) أو" O.K " (ص 84 ) من الجزء الأول مثلا ، أو" ah ! ah ! ah ! ah ! " ( ص 195 ) أو " tap tap tap tap tap " (ص 77 ) وغيرها من الجزء الثاني .
رحلتنا عبر بعض النماذج من ديوان بوكوفسكي هي رحلة تقريبية لا تدعي الإحاطة بكل بكتابة غاوي الشباب الأوربي والذي تأثر به شعراء قصيدة النثر العربية والمغربية خاصة ، لكنها إشارات قد تكون كافية لدخول عالم هذا الشاعر من أجل الدخول لعوالم الشعر الجديد ، للكشف والتساؤل دون تحيز لجهة ما ، وبمنطق حديث شاعر عن آخر .
الموت والحياة
لن يخوض شاعر مثل بوكوفسكي في هذه الثنائية بشكل ثنائي وتقابلي، فهو لا يتأمل ولا يقف بعيدا عن الحياة حتى يفكر في الموت، هو يموت كل يوم من أجل أن يعيش، وحين يفكر في الموت صراحة يكتب عن ذلك نصا جميلا هو : " عندما أفكر في موتي " ( ص 158 ج 1 )نص نسوق ترجمة لأهم مقاطعه للقارئ العربي بهذا الشكل :
عندما أفكر في موتي
أفكر في سيارات واقفة
في مرأب
عندما أفكر في موتي
أفكر أن أحدا ما يضاجعك
في غيابي
عندما أفكر في موتي
أجد صعوبة في التنفس
عندما أفكر في موتي
أفكر في كل الآخرين الذين ينتظرون
بدورهم الموت
عندما أفكر في موتي
أفكر أنني لن أستطيع أبدا
أن أشرب ماءا
عندما أفكر في موتي
يصير الهواء أبيض
والحشرات في المطبخ
ترتعد
وأحد ما يرمي
بملابسي النظيفة أو الوسخة
في سلة المهملات.
طيلة حياة بوكوفسكي ، وهو يمجد الحياة ولكنه يفكر بطريقة أخرى حينما يتعلق الأمر بالموت، ولن تخلو السخرية من كتاباته حول الموت أيضا.
هل كان بوكوفسكي نادما حين كان يتخيل الحشرات الكبيرة تحزن عليه، والعالم يتخلص من كل تركته بما فيها ثيابه النظيفة والوسخة ؟ الشاعر يقول ونحن نقول قولا على قوله . هو يصور اللحظات التي عاشها ويفكر فيما بعدها ولا يهمه كثيرا الندم على ما عاشه، بما أنه في صلب ما عاشه كان صادقا إنه شعر اليومي و التفصيلي.
في نص آخر في الجزء الثاني من الديوان نقرأ لبوكوفسكي من قصيدة ساخرة : في حب النهر الأصفر (ص 63 ) :
امرأة أخبرت رجلا
وهو نازل من الطائرة
بأنني مت
إحدى المجلات أصدرت
خبر موتي
شعر التفاصيل الصغيرة في عالم كبير بين بوكوفسكي وأبي نواس :
قد يذكرنا شعر التجربة المرتبطة بالمعيش واليومي هنا بالتجربة النواسية في مرحلتها الأولى والثانية المحددة للحياة الخاصة، والمصورة لتفاصيل اليومي من طرق الباب إلى آخر فطرة تأتي مع تصوير كل الحالات الداخلية للأنا والآخر المشارك في الإثم والنعيم.يقول أبو نواس في قصيدة "عند سابا ":
وأحور ذمي طرقت فنـاءه بفتيان صدق ما ترى منهم نكرا
فلما قرعنا بابه هب خائفـا وبادر نحو الباب ممتلئا ذعـرا
وقال من الطراق ليلا فناءنا فقلت له افتح فتية طلبوا خمرا
وبعد تفصيل لجزئيات حالة الذمي وصوته ومشيته تستمر التفاصيل المتعلقة بالحوار حول الخمر والثمن إلى أن يقول:
فقلت له خذها وهات نعاطها فقام إليها قد تملى بها بشرا
7 ديوان أـبي نواس ص : 124
وهذا البيت يتكون من ستة أفعال تصور حركة دقيقة ومفصلة، ولكن بكثافة لا يقف العروض ولا الإيقاع في وجهها . ( فقلت – خذها – هات – نعاطها - فقام – تملى ) بحيث لو صورت حركة هذه الأفعال بكاميرا لاستغرقت وقتا أكثر بكثير من الزمن المفترض في هذا التكثيف الهائل.
ويستمر الشاعر في التصوير الدقيق :
وما زال يسقينا ويشرب دائما إلى أن تغنى حين مالت به سكرا
فيا حسنه لحنا بدا من لسانه ويا حسنه لحظا ويا حسنه ثغرا
وتستمر الرحلة إلى أن يقع المحرم فيفصل فيه الشاعر الحديث بدقائق تسند الواقعي بالمتخيل
فقمنا إليه حين نام وأُرعـــدت فرائصه تجري بميدانه ضمـرا
فلما رأى أن ليس عن ذاك مخلص ووافقه لين أجاد لنا العصــرا
هل البوح تقتضيه الظلمة ليقول الشعراء هذا الكلام بهذا الشكل؟ نعتقد ذلك ، ولكن أبا نواس سيفصل الحديث أيضا في المرحلة الثانية من حياته مرحلة الزهد حين ندم على ماضيه وهذا ما لم يحدث مع بوكوفسكي.
لا يحتاج شاعر مثل بوكوفسكي - كما هو شأن أبا نواس - للاطلاع على خصائص قصيدة النثر ليكتب بهذا الشكل . إنه شعر التجربة ، وكل شعر من هذا القبيل يرتبط بالجسد وتقلباته ونداءاته من النقيض إلى النقيض ، من مادية الأشياء ومهيجات الحياة بالسائل والطائر ، بالنار والدخان ، وبتهييج المخ بإشراقات قد تكون مواد تدخل الجسم وتصعد الروحي، أو بكلمات وطقوس تدعو الجسد للجذبة ، للحركة ، للغياب من أجل حضور آخر في وجد صوفي أو صافي رغم تلوثه الظاهر بأعشاب وسوائل رديئة الملمس صعبة الملبس. مهيجات لا تختلف درجة تحريمها لأن الموقف من أبي نواس سيكون نفسه من الحلاج بما أنهما تطاولا على اللغة قبل تطاولهم على أي شيء آخر .
الومضة القصيرة ، والقصيدة الحكاية بمجانية وتوهج دون الحاجة إلى مساحيق ولا استعارات بعيدة . العفوية ، التلقائية هي ما يؤطر هذا الشعر الحكي/ النثر إلى حد الإغراق في التفاصيل يقول الشاعر في قصيدة مثل " وردة تحت المطر" وهو يصور تفاصيل رجل وامرأة بدقة تذكر بأبي نواس مع اختلاف المصوِّر والمصوَّر:
ثم خرجت لأشتري دجاجا
وسمكا crevete وبطاطس مقلية
وخبزا وحليبا
وسلطة ونبيذا
وتحكي لي
وأحكي لها
ونأكل
الدجاج والسمك والبطاطس
والخبز والحليب وعصير الفواكه
لماذا هذا الإغراق في التفاصيل والجزئيات بهذه الطريقة ؟ إنها السخرية والعفوية معا ، تلقائية وعدم اهتمام بالمتلقي، شاعر يكتب ويحكي تفاصيل ما يعيش ، يعي ما يكتب ولماذا رغم صعلكته الظاهرة . ظاهرة بوكوفسكي تنتمي لهذا "المختلف" الذي إذا قلد بدون تجربة أدى إلى الهاوية ، فكما أن هناك أبا نواس واحد في الشعر العربي، فإن هناك بوكوفسكي واحد في الثقافة الغربية الأمريكية ، وكل تقليد لأحدهما سيقود حتما إلى الابتذال كما يحصل في المشهد المغربي بعض الأحيان .
التفاصيل الذاتية تصل إلى حدود غير معقولة وغير مقبولة حتى من قبل أكبر الشعراء حداثة هنا وهناك ، ولكنه الغضب في جيل الغضب سيزدهر مع الحرية التي أعطاها الحلم الأمريكي لهؤلاء الشعراء.
نشير في ختام هذا الكلام إلى أن السمات الشكلية في الكتابة البوكوفسكبة لا تختلف عما يحمله هذا الشكل ، كتابة مفتوحة منسابة، مجانية قصيرة، عبارة عن لقطات وطلقات في وجه العصر الإلكتروني الطاغي، في وجه الحروب النووية ومخلفات الدمار النفسي لحرب الفيتنام وكل ما شابهها على الفرد والذات الأمريكية، وامتدادات ذلك عبر العالم .كتابة يقول جان جوني عن صاحبها " إنه أفضل شاعر في أمريكا " شهادة لكاتب كبير قلما يعطيك شهادة عن الغير .
القصر . المباشرة. الصور الحية . كثرة الحوارات . اللغة العادية وغير العادية. التشابيه المرتبطة بمادية الأرض . الإثارة والسخرية والإزعاج سمة هذا الشعر الفضائحي البسيط ظاهريا المركب والمعقد في العمق كتعقيد المجتمع الأمريكي، وعناوين هي برنامج عمل كما يقول مقدم الديوان في طبعته الفرنسية رافائيل سوران : وهي حياة بما أن القصيدة هي مدينة يقول بوكوفسكي :
القصيدة حياة مملوءة بالشوارع وبقنوات الواد الحار
مملوءة بالقديسين ، بالأبطال ، بالمساكين ، بالمجانين
ملأى بالتفاهات ، وبالخمور
ملأى بالأمطار بالعواصف والرياح
القصيدة مدينة في حالة حرب
القصيدة مدينة تحترق
القصيدة مدينة مملوءة بالبنادق
حيث الكلاب تنبح ليلا
القصيدة مدينة ملأى بشعراء
يتشابهون كلهم تقريبا
نختم هذه الرحلة بنصين من الديوان يمثلان خير تمثيل مذهب ورؤية الشاعر الكاتب الروائي للعالم والناس والأشياء الأول هو : "الحب كلب من جهنم " ص: 99 من الجزء الثاني ثم قصيدة : " وهذا النص الأخير لماسح الأحدية " ص : 205 من الجزء الثاني وهي آخر قصيدة في الديوان .
في الترجمة ، قصيدة : الحب كلب من جهنم
أرجل جد متعبة
روح لولبية
أياد تنثر السكر فوق الفراولة
عيون مثل أصداف سروال قصير
أفضل النبيذ الأحمر
وسئمت من السفر عبر الطائرة
أنا صلب مرمري وقت الزلزال
أنام أثناء مراسيم الدفن
أتقيأ أثناء الاستعراضات
وأنا دائما الضحية في لعبة الشطرنج
في لعبة المغفل والحياة
أشم رائحة البول في الكنائس
لم أعد أعرف القراءة
لم أ عد أعرف النوم
عيون مثل أصداف سروال قصير
عيناي الخضراوتان الجميلتان
أفضل أخيرا النبيذ الأبيض
لي علبة غشاءات وقائية قديمة
أتناول منها ثلاثة من النوع المزيت
لأحس أكثر بمفعولها
ثم أدخلها متتابعة
واحدة بعد أخرى
جدران غرفتي زرق
إلى أين ذهبت يا ليندا ؟
وأنت يا كاترين ؟
( نينا بالتأكيد انسلت إلى أنجلترا )
قلمت أظافر رجلي
ونظفت الزجاج
العيون خضر
الغرفة زرقاء
والبندقية الرشاشة
اللامعة للشمس
مغلف كما هو أيري يشبه
سمك قرش
بتشبت بصخور ملساء
وهو محاط بضجيج الشاطئ الممتد
في 3 و 36 دقيقة صباحا
صوت تيك تاك يسمع خلفي
لكنه ليس صوت البندول
أحس بشيء يقرقر
على امتداد ثقبة أنفي اليسرى
إنها مخلفات السفر عبر الطائرة
أمي كانت ذات أسنان اصطناعية
أبي كان ذا أسنان اصطناعية
وكل سبت طيلة حياتهم
كانا يطويان الزرابي
ثم يلمعان الخشب
ويعيدان تغطيته بالزرابي
ونينا في أنجلترا
وإيرين تحت تأثير المخدر
وآخذ عيوني الخضر
وأتمدد في غرفتي الزرقاء
قصيدة : وهذا النص الأخير لماسح الأحذية
الاتزان، هو حين يصعد الحلزون
الشاطئ الصخري لسانتا مونيكا
الحظ ، هو حين ننزل شارع ويسترن
مارين أمام قاعة فتيات التدليك
إحداهن تصيح في وجهك بصوت رنان
أهلا أيها الجميل
المعجزة هي أن تغرم بك
خمس نساء وأنت في سن 55
والهبة الإلهية هو حين
تبقى قادرا على إسعاد إحداهن
السعادة هي حين تكون ابنتك أكثر
نعومة منك وضحكتها
أكثر طراوة من ضحكتك
سلامة الروح هي حين تقود
سيارتك من نوع الفولسفاكن الزرقاء
عبر الشوارع مثل عنكبوت
والمذياع يصيح : the host
Who loves you
Most مستحما بأشعة الشمس
وصوت المحرك الرتيب
المركب من جديد
وأن تندس داخل حركة السير
النعمة ، هي حين تستطيع أن تعشق
في وقت واحد الروك والكلاسيك والجاز ...
كل ما يطرب قوى الفرح الداخلية
ولكن ما ينتظرنك في الواقع
هو الكرب
والعزلة
وأنت مسجون بين أربعة جدران
وأنت منتفض كالمجنون
حين يرن جرس الهاتف
أو حين يمر أحد ما
ولكن يمكن أيضا ـ كما تشرق الشمس بعد المطر ـ
أن تشبه قابضة السوق الممتاز
مارلين أو جاكلين
قبل أن يقتل زوجها
أو تشبه تلميذة الثانوي التي سرنا خلفها كلنا
مرة واحدة على الأقل
هناك من يساعدك على الاعتقاد
أن الموت ليس كل شيء:
في شارع ضيق
أحدهم يقود سيارته باتجاهك
يترك لك الأسبقية
أو حينما الملاكم العجوز Beau Jacks
الذي أصبح ماسح أحذية
بعد أن أضاع كل ثروته
في اللهو والنساء
والتفاهة
ينفخ ويبصق على جلد الحذاء
ويلمعه
ينظر إليك ويقول :
" أذكر أنني وصلت فيما مضى إلى القمة
غير أنني الآن أتهكم من كل هذا، ثم
لا أحد باستطاعته أن يقول مثل هذا "
يحدث أن أكون مُرًّا أحيانا
ولكن طعم الحياة بالرغم من ذلك
جيد للغاية. كنت دائما
أخاف من البوح بهذا. إنه مثلما
يحدث حين تطلب منك امرأة قائلة :
" قل لي بأنك تحبني "
ولكن ذلك لا يحدث أبدا
حين تراني أبتسم
وأنا أقود سيارتي الفولسفاكن الزرقاء
في أشعة الغروب الصفراء
باتجاه الشمس
فذلك يعني أن الحياة قد احتضنتني
بين ذراعيها
بموكبها المشكل من بهلوانات
بأقزامها المدخنين سيكارات
بأحد شتاءاتها الوسية في الأربعينيات
من هذا القرن
بشوبان وحفنة تراب من بولونيا
بنادلة عجوز تناولني كوبا
أخرى من القهوة
والتي تضحك
وهي تفعل ذلك
أحسنكم ، لا يبدو لي ذلك
ولكنني احبهم
الآخرون لا يشكلون شيئا
باستثناء أنهم يملكون
رؤوسا وأفخاذا
و أيد أيضا
أو أخيرا أيضا
أحلاما جميلة أو مزعجة
والذين يعرفون أية وجهة
يتجهون
القانون يشتغل بشكل جيد في كل مكان
مثل المدرس
الرشاشات الأوتوماتيكية والضفادع
والرهان على الخيول.